تفسير سورة إبراهيم 5

العلامة محمود مشّوح

تفسير سورة إبراهيم

14 / 6 / 1985

العلامة محمود مشّوح

(أبو طريف)

(5)

 إن الله مـع الذين اتقوا والذين هـم محسـنون.. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :

 أريد أن أقول كلاماً كنت أتمنى ومن صميم قلبي ألا اضطر إلى قوله ، أنا في هذا المكان وفي غيره من منابر الإسلام منذ عام 1945 ، أربعون سنة مرّت بالتمام والكمال ، وأنا على المنابر وفي المساجد ، في الخطب والأحاديث ، أربعون سنة من عمر الإنسان ليست شيئاً هيناً ، فمنذ الولادة إلى أن يبلغ الإنسان أربعين سنة ، هذا هو أمر الأنبياء أمر النبوات ، أي أن الإنسان كبر فاستقرت قواعد سلوكه وأخلاقه ، ولم يعد هناك إمكان لإدخال تغيرات جوهرية على سلوك وعلى حياة الإنسان . والأربعون زمن الوعي وزمن المراجعة ، ويرحم الله شيخ المعرة كان يقول :

فما بعد مر الخمسة عشرة من صبا .... ولا بعد مر الأربعين صبا

 لم يبقَ مجال بعد أن يبلغ الإنسان أربعين سنة لكي يصبو ولكي يكبو ولكي يتدهور ، فكيف إذا كانت الأربعون كلها عملاً موصولاً على المنابر وفي صحون المساجد ، ذلك أحرى أن يجعل الإنسان كتاباً مفتوحاً ومقروئاً ومعروفاً ، لأنه يجوز أن يلفلف الإنسان كل شيء وأن يصبغ وأن يطلي كل شيء ، أما كذبة المنبر فبلقاء مشهورة ، وأنتم تدرون وتسمعون عن خطباء وقفوا على المنابر يمدحون اليوم زيداً ويذمونه غداً ، ويتحدثون اليوم بلسان وغداً بلسان آخر ، فهؤلاء مكشوفون ومُعرّون وعورتهم بادية ، أما إذا كانت أربعون سنة من العمل الموصول على وتيرة واحدة وعلى قاعدة واحدة وعلى سلوكية واحدة ومن دون مجاملة لأحد وبخصومة أتشرف بها منذ عام ألف وتسعمائة وخمس وأربعين إلى اليوم مع جميع الأنظمة الحاكمة التي مرت على هذا البلد ومرت على العالم العربي فإذا كان الأمر كذلك فإن من الخطأ تماماً أن يتصور إنسان تصورات ما أنزل الله بها من سلطان .

 يا أحبابنا اسمعوا مني ، أقسم لكم بالله العلي الأعلى لو كنت أدري من نفسي ولو مجرد إحساس ، أنني أستطيع أو يمكن أن أتراجع عن قول الحق أمام أي ضغط من أي جهة كانت فوالله لا أسمح لنفسي أن أرقى درجة واحدةً من درجات هذا المنبر ، لكني والحمد لله أعرف نفسي رجلاً ، وأعرف نفسي شريفاً ، وأعرف نفسي مستقيماً ، وأعرف أكثر أنني منذ عقلت ما حنيت هذه الهامة إلا لله تبارك وتعالى ، ولن أحنيَها إن شاء الله ، وأسأله تعالى أن يحفظني ما بقي من عمري . لماذا أقول لكم هذا الكلام ؟ في الناس ناس خُلقوا وجُبلوا على الأذى ، جِبلة وخلقة وفطرة عجينة مخلوطة خلطاً سيئاً ، يوجد بين الناس أناس من هذا القبيل ، يلتمسون للبُرَآء العيب ويبغون للناس العنت ويتسقطون الأخطاء ويسجلونها لكي يتقربوا بها إلى السلطان ، سلفاً أريد أن أقول أمرين : الأول بأني أعرف هؤلاء بأسمائهم وأعيانهم وأرجو بعد اليوم أن لا يضطروني إلى أن أسميهم وبعدئذٍ لن يكون الحال جيداً أبداً على الإطلاق ، لأنني أعرفهم وإذا اضطررت فسأقول : قم يا فلان وقم يا فلان ، وحينئذٍ لن يكون الأمر طيباً ، هذه واحدة .

 وأخرى هي أنني وقطعاً لكل التباس وإعطاءً للآخرين من السلطات المسؤولة الدليل من عندي على ما قلت ، إنني في كل جمعة أقدم شريطاً مسجلاً إلى أجهزة الأمن ، فإذا كنت أقدم الشريط المسجل الذي أقول إلى أجهزة الأمن فليوفر هؤلاء الجهلة والفاسدون على أنفسهم العناء ، عار وعيب ، يكفي هذا ، بعد هذا سوف اضطر إلى سلوك آخر ، أنا لست من الرجال الذين يُصانعون ، ولست من الرجال الذين يجاملون ، ولعنة الله علـى الذي يحتاج إليه إلا الله ، فليوفر هؤلاء الإخوة على أنفسهم العناء .. ماذا ؟ عما نتحدث ؟ في الجمعة الماضية عما تحدثنا ؟ عن إبراهيم وسورة إبراهيم أم عن الفرن والمؤسسة الاستهلاكية ؟ من أين يأتي هؤلاء الناس بهؤلاء التصورات ؟ كيف يسمحون لأنفسهم بأن يزوروا القول بهذا الشكل ؟ والله لولا مخافة الله ولولا الحياء لأمرت بأن يُجرُ أحدهم كما يجر الكلب الأجرب فيلقى في النهر ، عار عار ، نحن في الأصل مرفوض عندنا أن يراقب المسجد ، لأن مساجد المسلمين لا تآمر فيها ، فيها الخير وفيها الوطنية وفيها الكرامة وفيها الشـرف وفيها كلمة الله فقط ، ونحن في المساجد ما عندنا تآمر ، لأن الولاء عندنا لله وللأرض وللوطن وللأمة وغير ذلك لا شيء ، من أجل ذلك نحن في الأصل نرفض أن تراقب المساجد ، ولكن إذا كان بعض الناس يريدون أن يفعلوا ذلك فلا بأس ، عليهم أن يفعلوا ما يريدون ومن منطق السيادة يستطيعون أن يفعلوا ما يريدون ، أما نحن فلماذا يزوّر بعضنا على بعض ؟ ولماذا يكذب بعضنا على بعض ؟ ولماذا يفتري بعضنا على بعض ؟ ما الذي أجنيه وتجنيه إذا رميتك في السجن أو رميتني في السجن ؟ ما الذي أجنيه وتجنيه ؟ نحن يا إخوة ليست غريبة عنا هذه الحالات ، لكني كإنسان في هذا البلد أتأسف والله وأخجل حينما أواجَه وأجابَه وأُعلم بأنه يوجد بيننا أناس من هذا القبيل ، كثيراً أخجل والله أذوب في ثيابي حينما أعلم أن فلاناً من الناس وفلاناً من الناس ، الناس تأتي إلى المساجد وفي رمضان لتعبد الله ولتخطى من ذنوبها شيئاً ولتستغفر الله ولتقرأ القرآن وأنت يا محترم تأتي لتتجسس مع أن الله قال ( ولا تجسسوا ) وتأتي لتنمّ مع أن محمد عليه الصلاة والسلام قال : من نمّ لم يشم رائحة الجنة . هذا عمل مسلم ؟ هذا سلوك إنسان يعبد الله ويوحد الله ؟ وفروا على أنفسكم يا إخوة هذا العناء فأنا الذي أقدم كلامي إلى أجهزة الأمن ، وأقدمه مسجلاً بصوتي ولا أخاف منه ، أنا أتحمل مسؤولية كل شيء ، وأتمنى أن يناقشني الناس كلهم في هذا الكلام ، وأعتبر أن هـذه هي الحالة المثالية ، أما اللحد في الظلام والتآمر فهذا عار ، قلت لكم فـي البداية إني ترددت جداً قبل أن أقول هذا الكلام ، لأنني أستحي منه ، أستحي منه لأنه اضطرني إلى أن أستعيد ذكرى حياة كاملة وحياة حافلة عشتها كلها فـي عمق مشاكل العالم العربي ، وعمق مشاكل العالم الإسلامي ، ولاقيت مـن أجلها ضغوطاً ولقيت ضغوطاً في حالاتٍ يزل فيها القوي ، ولكن الله تعالى عصم وحفظ ، فالحمد لله على ذلك كثيراً وأنا في ذلك لا أزعل ، قلت لا أريد أن أقلب من هذه الصفحة حرفاً واحداً ، لكني رأيت الناس يتمادون وكأنهم ربما كان عذرهم أنهم لا يدرون أنني أقدم أشرطةً مسجلة عن أحاديثي إلى كل من يريدها ، ثم لماذا الإخفاء لماذا الكتمان ؟ هذا الشريط الذي يُسجّل الآن ، هل تدرون كم يوزع منه في كل جمعة ؟ إنه يذهب في سورية وخارج سورية وخارج العالم العربي ، إلى أوروبا وإلى أمريكا ، يجوز لو أردت أن أنكر منه شيئاً ما جاز بذلك ، لا يمكن لأنه بصوتي وأنا الذي سجلته ، ولذلك فأنا أرجو يا أحبابي أن يوفّر من يهتمون بهذا الأمر على أنفسهم هذا العناء كله ، أنا أكفيهم كل شيء ، كلامي مدون بصوتي لا مجال للتنصل ولا مجال للتراجع ، ومن كانت له مآرب أخرى فيكفيه أنني قمت عنه بهذا الدور والله يعطيه العافية ، لن يكررها مرةً أخرى ، لأنه قلت بأنه مرةً ثانية إذا تكرر هذا الشيء فلن يكون الأمر طيباً بالنسبة إلي في حال من الأحوال .

 نعود إلى حديثنا وآسف فعلاً آسف لأنني اضطررت أن أتكلم بهذا الشيء في بداية هذه الكلمة .

 ونعود إلى سورة إبراهيم ونحن في آخر جمعة من رمضان ، كنت في الحقيقة أتمنى أن نفرغ من استعراض السورة الكريمة خلال أيام هذا الشهر المبارك ، إلا أنه تبيّن أن الجمع التي مرت في هذا الشهر لا تكفي ، من أجل ذلك نحن لن نقطع إن شاء الله سلسلة هذه الأحاديث ، أعتقد تبقى معنا جمعة أو جمعتان بعد العيد لا أكثر نكون قد فرغنا من السورة ، لنتابع حتى ننتهي من هذه السورة الكريمة .

 علينا أن نسأل أولاً : لماذا تعمّدت اختيار سورة من القرآن الكريم للحديث عنها في شهر رمضان ، أظن أنني قلت لكم أنه حسن من الحسن إن شاء الله أن نعيش مع القرآن في شهر القرآن ، وهو شهر رمضان ، ولم أكن قد تعمّدت وصممت اختيار هذه السورة بالذات ، إنما جاء الاختيار هكذا ، لأن سور القرآن يحكمها قانون واحد من حيث النظم والأداء ، ومن حيث بناء السورة ، فأي سورةٍ أخذتها تستطيع أن تدلل بواسطتها على عظمة القرآن وعلى إعجازه .

 الحقيقة أنني تعمدت أن أقضي رمضان معكم في سورة من سور القرآن لغاية أساسية هي أن نتعلم كيف نقرأ القرآن ؟ ربما بدا الأمر مستغرباً ، لكن الحقيقة أيها الإخوة إننا في المعظم لا نعرف كيف نقرأ القرآن ، لماذا ؟ القرآن كما تدرون كلام الله جل وعلا الموحى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، والمبلّغ إلينا من قِبله عليه الصلاة والسلام ، المحفوظ بين الدفتين في المصحف ، المحفوظ في الصدور ، المتلو في الصلوات وخارج الصلوات ، هذا هو القرآن الكريم . ولكنه نمط من الكلام والبناء أعجز الأولين والآخرين ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ) وحين أقول : إننا لا نحسـن قراءة القرآن فيجب أن لا يستاء أحد من ذلك ، القرآن نزل على قوم عرب ذوي لسان ، ونزل بلسانهم ، وكانت لهم في الفصاحة والبلاغة قدم راسخة ، كانوا يفهمون الكلام ويفهمون فحوى الكلام ويفهمون إشعاعات الكلام ويفهمون ما وراء الكلام ، زد على ذلك أن هؤلاء العرب الأميين الذين نزل عليهم هذا الكتاب كانوا من رحمة الله بهم ومن تهيئته لهم لحمل هذه الرسالة يمتازون بفطرة سليمة مستقيمة لم تتغير ولم تتلوث بفعل الإذلال والقهر الذي جرى على الأمم غير الأمة العربية ، فالأمة العربية أمة لم تعرف القهر والإذلال قبل الإسلام ، فبقيت فطرتها صافية ونقية مستقيمة ، فإذا اجتمع لك سلامة الفطرة ونقاؤها ، وبلاغة اللسان وصحته ، فأنت في هذه الحالة تستطيع أن تقرأ القرآن وأن تفهمه على أعلى وأرفع وأصح وأتم ما يمكن أن يُقرأ عليه القرآن . لكن الآن يا إخوة ، ألسنتنا استعجمت وأصبح لواحد منا إذا سمع قصيدة من الشعر أو آية من القرآن أو حديثاً من الأحاديث يحتاج إلى أن يرجع إلى القواميس والمعاجم عدة مرات ، لماذا ؟ لأننا بعدنا عن سليقة اللغة ، ودخل لساننا شيء كثير من العجمة لمخالطة الأعاجم الذين لا يملكون ذوق اللغة العربية التي نزل بها القرآن ، فهذه واحدة .

 وأخرى هي أننا نحن العرب المسلمين مررنا بمآسي وكوارث عبر القرون والسنين ، وجرى علينا من قوانين الاجتماع البشري ما جرى على الأمم من قبلنا تحقيقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم وتصديقاً : لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه . فنحن جرى علينا نفس الشـيء ، دخلتنا الأهواء ودخلتنا الشـهوات وانغمسنا في الدنيا وأخلدنا إلى الأرض ، ونسينا القيم العالية الرفيعة . من هنا تلوثت فطرتنا ، لم نعد نملك الفطرة التي كان يملكها آباؤنا على زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، لذلك نلاحظ أن العرب الذين خاطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن أول مرة كان قد حرّكهم بهذا القرآن وخلق منهم أمة جديدة . وعرب اليوم اقرأ عليهم القرآن في اليوم ألف مرة ، فأنت لن تأخذ من أرضهم شعرة ً واحدة ، لأنهم لا يستطيعون التجاوب مع القرآن ، لأنهم فقدوا أداة التجاوب وهـي صحة الفطرة وسلامة اللسان . لذلك أقول : نحن في الحقيقة لا نستفيد من القرآن ، لأننا لا نعرف كيف نقرأ القرآن ، لهذا السبب وضعت في حسابي أن آخذ سورةً ليست من السور الطوال وليست من قصار السور ، أقرأها وأحاول أن أرسم لها إطارها الذي جاءت به ، كي أدل أن لقراءة القرآن منهجيةً خاصة .

 أيها الإخوة كل سورة من سور القرآن لها شخصية كاملة ، جاءت لتؤدي للناس غرضاً أو عدة أغراض ، جميع الجزئيات ، جميع التفاصيل الواردة في الآيات ضمن السورة تخدم هذه الأغراض التي تحددت السورة من أجلها ، ولأضرب المثل الآن من السورة التي تحدثنا عنها وهي سورة إبراهيم ، انتبهوا إلي جيداً ، السورة كما رأيتم بدأت ببيان وظيفة القرآن الذي أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا وبين الناس ( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) وهو بيان ـ أي القرآن ـ وتذكير وموعظة واعتبار ودعوة إلى نمط من الإنسانية الرفيعة المهذبة المحضرة ، لنبذ كل أساليب الإقناع غير الإنساني ، واعتماد الأسلوب الوحيد المقبول إنسانياً وحضارياً وهو لغة الحوار ولغة العقل ولغة الإقناع ، وهذا هو الذي يؤديه معنى الكتاب .

 وكنت قارنت لكم في أول كلمة قلتها حول هذه النقطة بين هذا الموضوع وبين مثيله لدى الأنبياء السابقين ، بإيراد حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه : ما من نبي من الأنبياء قبلي إلا أُوتي ما مثله آمن عليه البشر ـ آيات باهرات ، إحياء الموتى ، تكليم الموتى ، فلق البحر ، وما أشبه ذلك . آيات تجبر الإنسان على أن يذعن وعلى أن يصدق ، لكن بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم كان الأمر مختلفاً تماماً ـ وإنما كان الذي أوتيته وحياً من الله ، فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة . فالكتاب الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو وسيلة العقل وأداة العقل وطريق الحوار المؤدي إلى القناعة الإنسانية المهذبة المتحضرة البعيدة عن الوحشية وأساليب العنف والقهر والإكراه .

 وبيّن الله جلّ وعلا في فواتح السور أن هذا الكتاب يهدي إلى صراط الله العزيز الحميد ، الذي لا تضره معصية العاصين ولا تزيده طاعة الطائعين ، ثم قارن أيضاً بما ذكر من شـأن موسى عليه السلام ، فذكر ما كان من إرسال موسى ، وأن موسى أُرسل بآيات الله وبسلطان الله ، لنفس الغرض ( أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله ) لنفس الغرض ، أن يأخذ بزمام البشرية من ظلمة الجاهلية إلى نور الإيمان ونور الإسلام ، وكما قلنا فسواء على لسان موسى أو على لسان عيسى أو على لسان إبراهيم أو على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، فدعوة الأنبياء طريقها واحد .

 وأحسب أنني في الجمعة الماضية والتي قبلها وفي كل مرةٍ ذكرت وأذكر وكررت وأكرر أنني في الحقيقة معنيّ عنايةً تامةً وفائقة بتربية جيلٍ إسلامي رصينٍ مهذبٍ عاقلٍ مدرك ملتزم بطريق الأنبياء في الدعوة إلى الله تعالى ، بعيد عن الحماقة والغباء والتدهور والطيش ، التزام كامل ومطلق بطريق الأنبياء . لكن طريق الأنبياء قد يغمض خاصة على المستعجلين ، خاصة على الذين لا يملكون سعة الصبر وطول البال وانتظار رحمة الله ، خاصة على أولئك الذين لا يدرون أن إبراهيم أبا الأنبياء قال مخاطباً ( ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم ) واستجاب له ربه بعد ألفي سنة من إرسـال محمد صلى الله عليه وسلم . عمر البشرية لا يقع وفقاً لأمزجتنا وإرادتنا ، وقوانين الله جلّ وعلا لا تتكيّف ولـن تتكيف وفقاً لما نريد ، وإنما تجري على ما نزلت عليه من عند الله ، وأما إرادتنا فلا شأن لها في الموضوع . لهذا السبب يغمض طريق الأنبياء على الناس ، لكنا كما رأينا في الجمعة الماضية رأينا موسى عليه السلام يدعو الناس إلى الصراط المستقيم ويذكرهم بأيام الله ويعلمهم أن الله جلّت قدرته ( تأذن ) أي حكم وقدّر بأن الناس إن شكروا زادهم من نعمته ، وإن كفروا فإن الله غني حميد ( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) وبيّن لهم أن الله جلّ وعلا لا يضره ذلك شيئاً على الإطلاق ( وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً إن الله لغني حميد ) وبالرغم من هذه اللغة المهذبة ، وبالرغم من هذا الحب الغامر للناس ، وبالرغم من هذه الرغبة العارمة في إيصال الناس إلى بر النجاة إلى عتبة السلامة ، فإن القرآن عرض لنا لكيلا نتعجل ولكيلا نفاجأ بمنعرجات السلوك البشري ، عرض علينا لوحة في القرآن ، لوحة الأنبياء عليهم السلام وهم يدعون أقوامهم إلى الله بالحب وبالطيبة وبالمسالمة وبالوداعة التي لا نهاية لها ، ولوحة الأقوام المكذبين ، رأينا الوداعة والطيبة في اللوحة الأولى ، ورأينا الشراسة والغلظة في اللوحة الثانية . وبيّن الله جلّ وعلا أن الأنبياء جاءت إلى أقوامهم وعرضوا عليهم الإيمان بالله تبارك وتعالى بمنتهى الطيب ، أسمعنا الله جلّ وعلا الرد البشري ، لكن أي بشري ؟ البشرية الجافة الغليظة غير المتحضرة ( وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ) لا يكفي هذا ( ولنسكننكم الأرض من بعدهم ) أي أن الظلم لا دوام له ، وأن الباطل لا بقاء له ، وأن الذي يبقى هو الحق والعدل فقط ( فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ولهذا ففي كل المعارك التي خاضها الأنبياء والمرسلون ضد أقوامهم الذين أشركوا وحبطت أعمالهم كانت عاقبتها أن الله أسكن المؤمنين ديار الظالمين وديار الكافرين ، وهذا معنى قوله تعالى ( ولنسكننكم الأرض من بعدهم ) أي لا يكفينا إهلاكنا إياهم ، وإنما سنجعلكم أنتم الوارثين لأرضهم وديارهم وأموالهم ، ذلك لمن ؟ ( ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد )

 بعد ذلك نسمع القرآن يقول ( واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ، من ورائه جهنم ويُسقى من ماء صديد ، يتجرأه ولا يكاد يُسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ ) لاحظوا أيها الإخوة أن الله سبحانه وتعالى ذكر في هذه الآيات نتائج الصراع باختصار ، جماعة أو نبي مؤمن مسالم وديع يلزم الناس الخير ويريهم طريق الصواب ، يُجابَه هو والذين آمنوا معه بالجفوة وبالغلظة وبالعدوان الذي لا مبرر له ولا معنى له على الإطلاق ، تكون العاقبة ماذا ؟ كما نص الكتاب الكريم هنا ، تكون العاقبة أمرين : الأول انتصار الباطل على الحق ، والثاني مآل الظالمين عند الله جلّ وعلا يوم القيامة ، كي يتجرعون غصص العذاب الأليم ، هذه الناحية يجب أن تقفوا عندها .

 في الذهن ، ربما يطرأ الإشكال ، إذا كنا قلنا أيها الإخوة أن الدعوة في طريق الانبياء وفي منهج الأنبياء دعوة حب وسلام ووئام واجتماع ، وليس فيها رفع سيف ولا تصويب بندقية ، ورأينا أن الكافرين يقابلون النبوات والداعين إلى منهج النبوات بالغلظة والجفوة والقسوة .. فكيف يستقيم في ذهننا أن تكون العاقبة بهذا الشكل كيف ؟ هنا أيها الإخوة أذكركم بأمرين : الأول أنني قلت لكم في الجمعة الماضية إنني معني فعلاً بتربية جيل مسلم رصينٍ عاقل ، ولكنه مستمسك بدينه لا يساوم ولا يجامل ولا يتنازل عن حرف واحد مما أنزل الله تبارك وتعالى ، والثاني الذي أريد أن أذكركم به أن الله سبحانه وتعالى وضّح هذا الموضوع باعتباره أحد المعضلات الهامة في طريق الدعوات ، فالدعوة حينما تتقدم ويشتد عودها يخطب ودّها في العادة ويُحسب حسابها في العادة ، وأقرب الوسائل لاغتيال الدعوة أن ترشو رجالها وأن تغمسهم معك في طيبات الحياة ، فهذا هو أقرب طريق لقتل الدعوات واغتيال الدعوات ، ولهذا قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك في سورة الإسراء ( وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً ، ولولا أن ثبّتناك لقد كدتَ تركن إليهم شيئاً قليلاً ، إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا وكيلاً ) فالنبي صلى الله عليه وسلم كان في معرض المساومة والإغراء ومحاولة الرشوة ، لكي يهادن ولكي يساوم ولكي يجامل ، لكن الله جلّ وعلا عصمه ، ولو أنه هادن ولو أنه لاين لاتخذوه خليلاً ، ما الذي بين المشركين وبين محمد صلى الله عليه وسلم ؟ هذا القرآن أليس كذلك ؟ ما الذي بيننا وبين كل أعداء الله الآن ؟ هذا القرآن ، لا شيء بيننا وبينهم غيره ، حينما يؤمن الناس ، لا شيء بيننا نحن جميعاً ، إخوة متعارفون على طريق الله جلّ وعلا .

 فالكافرون .. لو أن محمداً صلى الله عليه وسلم افتتن عن شيء مما أنزل الله إليه لاتخذوه خليلاً وحميماً وآخاً وصاحباً ، لكن الله جلّ وعلا عصمه ، ولذلك قال له ( واحذرهم أن يفتنونك عن بعض ما أنزل الله إليك ) فلهذا قلت في الجمعة الماضية أنني أريد لهذا الجيل أن يكون جيلاً مهذباً عاقلاً غير متورط في الحماقة والطيش ، منتمياً إلى بلده لا يمد يده هنا وهناك ، لكنه في الوقت نفسه الجيل الذي لا يضيع بالدنيا كلها حرفاً واحداً من كلمات الله جلّ وعلا ، فهذا هو الطريق الصحيح الذي يضمن لنا النصر في معركة الإيمان والكفر ، اسألوني لماذا ؟

 أيها الإخوة عندنا مفهومان ، واسمحوا لي أن أتحدث بعض الشيء في أمور قد يصعب إدراكها على البعض ، عندنا مفهومان ، الحق والباطل ، من التسميتين نفهم حقيقة المفهومين ، فالحق هو الوقوع ، يُقال : حق عليهم البلاء ، إذا وقع وثبت واستقر ، والباطل هو الذهاب والانتهاء والزوال ، يُقال : بطل العمل إذا ذهب وانتهى وزال . فالحق من صفته البقاء والدوام والاستمرار ، والباطل ليس له وجود ، لا تستغربوا .. الباطل لا وجود له ، إن المشركين الذين أشركوا بالله جلّ وعلا في الماضي قالوا هذا الكلام عن أنفسهم ( قالوا بل لم نك ندعو من قبل شيئاً ) يعني حتى الآلهة والأصنام التي كانوا يعبدونها تبيّن أنها لا شيء لأنها باطل ، فالباطل في الحقيقة لا يمكن أن يوجد بصورة مجردة ، الباطل لا يمكن أن يوجد بصورة مجردة ومستقلة ، الباطل يعيش إذا تلبّس بالحق ، افهموا وأدركوا .. الباطل يعيش تحت رداء الحق ، تحت جناح الحق ، الباطل لوحده لا يعيش لأنه لا يوجد ، ولهذا كان من منهج الأنبياء عليهم السلام أن المؤمنين يمتازون عن الكافرين .

 ولهذا السبب كانت الهجرة من مكة إلى المدينة ، لكي يمتاز الصف ، لكي يبقى المؤمنون صفاً على حدة ، ويبقى المشركون صفاً على حدة ، الجهاز هذا الجهاز الذي سمعتموه الآن يقرقع ، وهو جهاز يعمل إذا لم تعطه زيتاً وشحماً يقف ويدمر ، الباطل إذا لم يشترك معه ولم يعاونه أصحاب الحق يدمر بعضه بعضاً ، لهذا السبب كان عدم التعاون مع المبطلين أساساً من أسس الطريق إلى الله تبارك وتعالى في منهج النبوات ، وما عاش الباطل يوماً إلا لأن أصحاب الحق كانوا هم الوقود الذين مدوا في عمره وأطالوا في بقائه ، لذلك حينما نسمع أن الله جلّ وعلا وبلمحة مختصرة حينما ذكر شأن موسى عليه السلام مع قومه حين دعاهم وبيّن لهم وذكرهم بأيام الله ونعمه عندهم ، وبيّن لهم أنهم إن شكروا سيزيدهم عزاً إلى عزهم ورفعةً إلى رفعتهم وسمواً إلى سموهم ، وسيورثهم الأرض بعد الظالمين ، ذكر بلمحة خاطفة مآل الكافرين بكلمتين ، ذكر أن الله جلّ وعلا جعل المؤمنين يتغلبون عليهم ، وأسكن المؤمنين ديار الكافرين ، ثم عرض بعد ذلك مآلهم يوم القيامة .

 أترون لو رجعنا إلى التاريخ وسألنا أنفسنا : كم مضى على ذلك من عمر بني إسرائيل حتى تحقق ؟ مضت سبعمائة أو ثمانمائة سنة بين يوسف عليه السلام الذي مكّن لبني إسرائيل في مصر ، وبين موسى عليه السلام ، فقريب من ألف سنة تقريباً مضت ، ثم مضى من بعد موسى قرون وقرون ، مئات السنين والأعوام ، حتى استطاع بنو إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة بعد محنٍ وبعد خطوب . فالمهم أن ندرك أنه في طريق النبوات لا معنى لأن تجامل أمة على حساب أمم أخرى ، إنما هناك قواعد إذا استمسك بها الناس ووفوا لها فإن الله سبحانه وتعالى سيحقق لهم مواعيدهم لهم بالكامل ، وإذا هم لم يفوا لها فلا شيء لهم عند الله جلّ وعلا . وإنني قلت لكم قبل اليوم : إن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب ولا نسب ، وإنما يتفاضل الناس عنده يوم القيامة بالتقوى والعافية ، من هذا المدخل نستطيع الآن أن ندخل إلى المقطع الذي أريد أن أتحدث عنه اليوم باختصار .

 سـورة إبراهيم نزلت على محمد عليه السلام ، خاطب به العرب والمشركين ، عالجت وضعاً راهناً قائماً في مفتتح الدعوة الإسلامية ، الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنون معه يرون لقريش الحزب والمناعة والثروة والسلطان والجاه ، والإنسان إنسان يتأثر ، لا بد من أن يُشد الناس شداً عنيفاً إلى حقائق الطريق الإلهي وطريق الأنبياء ، هنا يذكر الله جلّ وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم بعد الآيات التي تلوناها في الجمعة الماضية وشرحناها ، يذكر حقيقةً جوهرية ( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد ) تصوروا دقة التعبير القرآني ، كان يمكن أن يقول القرآن : مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كتراب اشتدت به الريح في يوم عاصف . لكن التراب هو ما يوجد على ظهر الأرض أليس كذلك ؟ أما الرماد فهو ما يتخلف عن الاحتراق ، احتراق الحطب ، من حيث الوزن ومن حيث الكثافة ومن حيث التلاصق ، التراب أثقل وزناً وأكثر التصاقاً وأشد كثافة من الرماد ، فربما مرت النسمة من الهواء لم تحرك شيئاً من التراب ، لكن الرماد خفيف ، أية نسمة هواء تمر تجعله يتطاير في الفضاء . القرآن لم يستخدم كلمة التراب ، واستخدم كلمة الرماد ليدل على أن أعمال الكافرين جميعاً ليست شيئاً ، وليس لها قرار ، وليس لها ثبات ، ولكي يزيد الصورة وضوحاً فلم يجعل الـذي يمر عليها ويشــتد بها هواءً عادياً ، وإنما قال ( اشتدت به الريح في يوم عاصف ) فأعمالهم كرماد اشتدت به الريح ، أين هي ؟ لا تدري ، تشعر بان هناك شيئاً في الوجود ما حقيقته ؟ لا حقيقة لها ، وهذا هو معنى ما قلته لكم أن الباطل بلا حقيقة ، أن الباطل بلا وجود ، أن الباطل لا يمكن أن يتحيّز على الأرض كشيء مادي ملموس إلا إذا تلبّس بالحق ، وأما بحاله وأما بمجرده فشيء لا وجود له على الإطلاق .

 ( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد ) ضياع لا يمكن أن يجد الإنسان بعده ، هذا الكلام جاء ليكشف للنبي صلى الله عليه وسلم ، وليكشف للمؤمنين أيضاً حقيقة جوهرية أنه مهما بدا من عنفه وعنفوانه وهيلمانه ، الباطل لا شيء ، يجب أن لا تهتز في جسد المؤمنين شعرة واحدة إن رأوا الدولة والسـلطان لأهل الباطل ، يجب أن لا يفعلوا شيئاً من هذا ، لأن الباطل لا وجود له ، ولأن الكافرين أعمالهم كالذي ذكر الله ، لا حقيقة له وولا ثبات لها وأنها غثاء كغثاء السيل .

 ثم يعقب الله جل وعلا تعقيباً رائعاً ودالاً ، ربما مَن لم يمارس قراءة القرآن يجده شيئاً نشازاً لا علاقة له بالأول ولا علاقة له بالآخر ( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد ، ألم ترَ أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يُذهبكم ويأتي بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ) ما علاقة هذا الكلام بالذي قبله وما علاقته بالذي بعده ؟ الحقيقة أن العلاقة وطيدة ، العلاقة تُردّ إلى المعنى الذي شرحناه ، أنه هناك حق ، والحق ثابت ومستقر في هذا الكون ، وهناك باطل ، والباطل هباء ولا وجود له في هذا الكون ، ويجب ألا نغتر عن هذه الحقيقة بتاتاً ، فحينما يعرض الله جلّ وعلا مآل أعمال الكافرين ، عاقبة أعمال الكافرين ، يأتي ليقول لنا لافتاً أنظارنا ( ألم تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق ) والحق هنا أمر عجيب ، لو كان المجال يتسع لأضفنا فيه ، سماء هي سقف مرفوع ، وأرض هي دار موضوعة للناس يعيشون عليها ، وبين ذلك وذلك أفلاك تدور وتدور وتسبح في أجواء الفضاء منذ وجد الكون وإلى الآن وفقاً لقوانين ثابتة ولحركات ثابتة ، لو أنها انحرفت شيئاً قليلاً من الزاوية لدُمّر الكون كله ، هذا الخلق هو الخلق بالحق . الحق الذي أنزله الله على ألسنة الأنبياء والمرسلين له من الثبات والبقاء والرسوخ قوة القانون الذي يدير الكون كله لا مجال للاعتداء عليه ، ولا مجال لأن يؤثر الناس عليه ، فكلمة الله جاءت لتبقى وجاءت لتنشر ظل السلام والإيمان والاطمئنان على البشرية ، فهذا هو مراد الله جلّ وعلا لهذا الكلام ( ألم تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأتي بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ) كم من أمة وُجدت على الأرض ؟ سلوا بطون التاريخ ما يعي منها وما لا يعي ، مئات الأمم وآلاف الأمم وعشرات آلاف الأمم ، الأمة التي اسـتطاعت أن تنسجم مع قوانين الحق والعدل والخير عاشت وتركت حضارة ، الأمم التي التزمت الباطل ودافعت عن الباطل بادت ولم تخلف ذكراً ولا حضارة .

 والله جلّ وعلا حين يربط أمر الإسلام وأمر الإيمان بالحق ، ويربط هذا الحق من حيث الثبوات والرسوخ ، بقوانين الكون المطلقة النهائية .. يُبيّن لنا أنك أيها الإنسان بين خيارين : إما أن تنسجم مع الحق فتبقى ، وإما أن تشذ على قوانين الله فتبيد ، ولهذا قال الله ( إن يشأ يذهبكم ويأتي بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ) ما ذلك على الله بصعب .

 ثم مرّت الآيات تعرض للذكرى ولإيقاذ القلب ولتنشيط الإيمان ، تعرض لموقف ، صحيح أنه عُرض علينا بصورة حوار يكون أمام الله يوم القيامة ، ولكنه الواقع المعاش ( وبرزوا لله جميعاً ) رأساً ينتقل السياق القرآني هذه النقلة الواسعة من معالجة شؤون ومن معالجة مشكلات راهنة ، ليعرض علينا هذا المشهد أمام الله ، مشهد الناس وهـم يُحاسبون ( وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا ) وللأسف نسيج الحياة غالباً بهذا الشكل ، مستكبرون في أرض بغير الحق ، ومستضعفون ومُذَلّون ، لأسف غالب نتيجة الحياة بهذا الشكل ( وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا ) يعني فـي دار الدنيا ( لكم تبعاً ) كنا نتبعكم ( فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ) كما تبعناكم في الدنيا وناصرناكم وصفقنا لكم وعيّشناكم وتركنا لكم كل شيء .. هل تستطيعون الآن أن تخدمونا خدمة صغيرة فتحملوا عنا من عذاب الله شيئاً ما ؟ ( قالوا لو هدانا الله لهديناكم ) يعني من ؟ المستكبرون السادة الأكابر الذوات ( قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ) انتهى كل شيء ، ذهبت الدنيا بأكاذيبها وذهبت الدنيا بأباطيلها وذهبت الدنيا بأراجيفها وذهبت الدنيا بأحيائها وأشيائها ، وحُق الحق وجاءت ساعة الحساب ( ولو هدانا الله لهديناكم ) والجزع الآن والخوف والتضعضع لا ينفع ، والصبر أيضاً سواء ، كله سواء ، الإنسان في ساعة الحساب سيتعرض للجزاء ( سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ) لا بد من مواجهة النتائج ، ولا بد من مواجهة الخطأ .

 بقي عنصر آخر غير السـابق ، غير الأكابر ، غير الذوات ، بقي الشيطان ، هو النفس الذي يتلعب بالإنسان تلعباً مخيفاً ، هذا الشيطان ( وقال الشيطان لما قُضي الأمر ) يعني انتهى الحساب ( وحقت كلمة العذاب على الكافرين ) ( وقال الشيطان لما قُضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم ) لم يقل لهم : وعدتكم بالحق ، وإنما ( وعدتكم ) . ( إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان ) يعني لم تكن لي عليكم قوة قاهرة لأرغمكم ، إنما وسوست لكم ، زينت لكم ، تصور أنني قلت لك : انظر ما أجمل هذا ، مددتَ يدك فسرقت ، فأوقفتك وبهدلتك ، كل ما في الأمر أن الشيطان زين للإنسان الشهوات وزين له معصية الله جلّ وعلا ، ولهذا قال ( وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أن بمصرخكم ) يعني لن أغيثكم ( وما أنتم بمصرخي ) يعني أنتم لن تغيثوني ولن تنصروني ( إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم ، وأُدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام ) انتهى المشهد بتمام .

 بعد هذا المشهد أيها الإخوة يأتينا مقطع يحمل مثلين يخدم الحقيقة التي مضت كلها ، نحن في الدنيا نسمع ، نسمع أكبر وأصفر ، نسمع الحسن نسمع القبيح ، نسمع الحق ونسمع الباطل ، إن الرسول عليه الصلاة والسلام جاء بالإسلام ، والإسلام كما تعلمون حق كله وعدل كله ومصلحة الإنسانية كلها ، الله جلّ وعلا مثّل للمسلمين كتعقيب على هذا المقطع الإسلام وغير الإسلام بمثل مشهود مرئي يستطيع الإنسان أن يُلاحظ ويستطيع أن يأخذ منه العبرة والدرس قال وأيضاً على سبيل الاستفهام الموقظ ( ألم ترَ كيف ضرب الله مثلاً ) ما هو المثل ؟ ( كلمةً طيبة كشجرةٍ طيبة ) هذا هو المثل ، المثل دائماً تمثيل وتشبيه يتألف عادةً من ركنين ، مثل ومُمثّل به ، فهذا هو قوام المثل ( ألم ترَ كيف ضرب الله مثلاً ) ما هو هذا المثل ؟ ( كلمةً طيبة كشجرةٍ طيبة ) مُثّلت الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة ، لكن هذه الشجرة ما وصفها ما شأنها ؟ قال ( أصلها ثابت وفرعها في السماء تُؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ) لاحظوا المثل وشرّحوه الإسلام مثل هنا وهو هنا بشجرةٍ طيبة ، أي ذات ثمر طيب وطعم طيب وريح طيب ، ليست شجرةً خبيثةً كشجرة الزقوم التي طلعها كأنه رؤوس الشياطين ، وإنما هي شجرة طيبة ، هذه الشجرة ( أصلها ثابت ) جذرها راسخ في بطن الأرض يُمتص لها الغذاء من مكمن الغذاء ومن منبع الغذاء ( وفرعها فـي السـماء ) باسقة سامقة ( تُؤتي أكلها ) تعطي ثمارها ( كل حين ) دائماً ( بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ) لو نقلتم المثل إلى الواقع مباشرةً ومن غير تمهيدات ومن غير مقدمات ، لعرفتم أيها الإخوة صحة هذا المثل صحةً مطلقة لا غبار عليها ، هذا الإسلام الذي مُثل بالكلمة الطيبة ومُثل بالشجرة الطيبة ، كم تآمر المتآمرون منذ نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ؟ ألم يُكسر رجاله ؟ ألم يُشتت دعاته ؟ ألم تجري الدماء أنهاراً فداءً لكلمة الإسلام ؟ ألم تحاك المؤامرات ؟ ألم تدبر التدابير لكي يُقضى على الإسلام ؟ ماذا استطاع الأعداء أن يفعلوا بهذا الإسلام ؟ كلما قضوا على جيل وظنوا أن الأرض استتبت لهم قامت الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء بإيتاء أكلها مرةً أخرى ، وبأن تقذف على الأرض جيلاً تقياً نقياً مؤمناً صادقاً وفياً مع الله تبارك وتعالى ، دائماً وأبداً هذا شأن الإسلام .

 من هنا ترون مطابقة المثل للواقع تماماً ، فالإسلام من حيث هو الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة ، إذا أنت جذبت ثمارها أعطتك ثماراً أخرى ، وهكذا من غير امتناع أو انتهاء لأنها شجرة راسخة في صميم الأرض تتغذى من منبع الغذاء لتعطي الثمر الشهي الطيب للناس .

 في المقابل ( ومثل كلمةٍ خبيثة ) والكلمة الخبيثة هي الباطل بكل صنوفه وبكل صوره وبكل أشكاله وبكل ألوانه ( ومثل كلمةٍ خبيثة كشجرةٍ خبيثة ) والشجرة الخبيثة هي الشـجرة ذات الشوك وذات الطعم المر وذات الرائحة الكريهة ، هذه هي الشجرة الخبيثة ( ومثل كلمةٍ خبيثة كشجرةٍ خبيثة اجتثت من فوق الأرض ) قُطعت جذورها ليس لها جذور ( ما لها من قرار ) لا تستطيع أن تقف ولا أن تقر ، فالأمر كما قلنا لكم أن الباطل لا قرار له ولا وجود له ، إنما يُوجد إذا استطاع أن يتلبس مع أهل الحق .

 ( ومثل كلمة خبيثة كشـجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ) تأتي عبر المثلين تماماً فيقول الله جل وعلا ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ) هذا هو المقطع الذي أردت أن أتحدث عنه إليكم بإسهاب ، لكن المسالة خارجة عن إرادتي فأخذت من وقتكم الشيء الكثير .

 بعد هذا المقطع ينقل القرآن المسلمين المخاطبين بهذا الكلام في المرة الأولى إلى الواقع الذي يعيشون فيه ، إلى التطبيق العملي للعقليات والمجردات التي حكاه في القرآن ، ينقلهم إلــى المعركة التي يقودونها ويطلعهم على نتائجها ( ألم ترَ إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً ) وهـم كفار قريش ( وأحلوا قومهم دار البوار ، جهنم يصلونها وبئس القرار ، وجعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار ، قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع ولا خلال ) إلى آخر هذا المقطع الكريم الذي حكى قصة الصراع بين رسول الله والمؤمنين من جهة وبين كفار قريش من جهة أخرى .

 الذي أريد أن أكثفه في النهاية أن السورة كما رأيتم تتساوق ، دعوة على صراط الله العزيز الحميد ، ودعوة بالحب والود بعيداً عن العنف وبعيداً عن الإكراه وبعيداً عن أية وسيلة أخرى ، ودعوة موجهة إلى العرب ليحملوها بأنها شرفهم وبأنها عزهم ، ومثل المساق من الأنبياء والمرسلين هو مثل موسى مع قومه ، وبيان لمآل الصراع بين الحق والباطل ، وبيان أن هذا الإسلام مقامه من الكون مقامه الحق الذي تحكم قوانينه الكون كله ، فلا مجال للعدوان عليه ولا مجال لأن ينتهي ، وبيان للباطل بأن الباطل لا شـيء وأنه لا يمكن أن يقرّ له قرار ، وأنه مهما بدا للناس من عظمة الباطل ومن هيبة الباطل وهيلمانه فهو شيء لا قوام له ، وإنما يحتاج الأمر إلى أن يسلك المؤمن سبيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لكي يتغلب الحق على الباطل .

 عند هذه النقطة أقف معكم وسأحاول إن شاء الله .. في الجمعة التي بعد العيد أن أنتهي من السورة كلها ، لأنني أرغب أن أريح من التعب ، أنا محتاج الى الراحة ، أنا لست صغيراً ، بلغت من العمر حداً لا بأس به ، ولست من الذين منّ الله عليهم بالراحة في حياتهم ، تعبت ، ولست من الذين يتحدثون إلى الناس حديثاً من اللسان ، أنا كل كلمة تأخذ من خلايا جسمي ، تأخذ من حياتي ، كأنما تقطع قطعاً ألقيها إلى الناس حينما أتحدث ، المرحلة التي مضت تحدثت فيها بداية عن ملامح أو بعض ملامح الشخصية الإسلامية ، والمرحلة التي تلت في شهر رمضان تحدثت فيها عن سورة إبراهيم ، صدقوني يا إخوة أنها أتعبتني ، أصبحت محتاجاً إلى راحة ، لا تقل عن شهرين او ثلاث ، سأكمل لكم إن شاء الله بعد العيد سورة ابراهيم ، وبعدها أستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم ، وأسأله لنا ولكم وللمسلمين جميعاً ونحن في آخر جمعة من رمضان أن يكون هذا الشهر المبارك شاهداً لنا بما قدمنا من صالح العمل وبما نطقنا بين يدي الله خاشعين متضرعين ومتذللين ، وبما أظمأنا الهواجر وبما أجعنا أنفسنا ، وكل ذلك في سبيل رضوان الله تبارك وتعالى ، وأسأله جلت قدرته أن يعيد علينا رمضان في كل عام ونحن نرفل في ثياب العز والمنعة والكرامة إن شاء الله ، وهذا رمضان انتهى أو كاد ، وهو شاهد عدل عند الله تعالى ، وباب واسع من أبواب الرحمة وبالمغفرة ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال فيما رويته لكم من قبل : من أدركه رمضان فلم يُغفل له فأبعده الله . لماذا ؟ لأن الشياطين تصفد وتغل في رمضان ، ويخلو الجو لنوازع الخير ولعوامل الخير ، ولأن أبواب الرحمة تفتح في رمضان ، والله جل وعلا وصف هذه الرحمة وقال ( ورحمتي وسعت كل شيء ) فالذي تضيق عنه رحمة الله الذي وسعت كل شيء هو خاسر بالتأكيد ، فنسأل الله جل وعلا أن لا تضيق عنا ولا عنكم رحمة الله تعالى ، وأن يقبلنا فيمن قبل فـي هذا الشهر الكريم ، وأن يزكي أعمالنا يطهر قلوبنا ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.