تفسير سورة إبراهيم 4

العلامة محمود مشّوح

تفسير سورة إبراهيم

7 / 6 / 1985

( 4 )

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

إن الله مع الذين اتقوا والذين هـم محسـنون ، أما بعـد أيها الإخوة المؤمنون :

 اليوم نقف عند مقطع جديد من السورة التي أخذنا على أنفسنا أن نعرضها عليكم في شهر رمضان شهر القرآن ، والتي نشعر أن رمضان لن يكون كافياً لكي نتم استعراض هذه السورة الكريمة ، ومع ذلك فما دمنا قد بدأنا باستعراضها فلنمضِ في ذلك حتى النهاية والخير فيما اختار الله .

 فرغنا فيما مضى من الكلام على أوائل السورة ، ورأينا كم هي غنية هذه الإيمئات والإشارات التي صُدرت بها سورة إبراهيم ، ونقف اليوم عند مقطع يتعاون مع غيره من مقاطع السورة على إبراز الوظيفة الكاملة للسورة الكريمة ، يقول الله تعالى بعد الذي تلوناه واستعرضناه ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن فـي ذلك لآيات لكل صبار شكور ، وقال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم ، وإذ تأذن ربكم ) والكلام ما يزال لموسى عليه السلام ( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ، وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد ) وهنا يأتي مقطع آخر يحتمل أنه من تتم كلام موسى عليه السلام مخاطباً به قومه ، ويحتمل ـ وأنا إلى هذا أميل ـ أن يكون كلاماً مستأنفاً لقّن الله جلّ وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم هذا الكلام ليقوله لقومه وليكون في ذلك الوقت تثبيتاً له صلى الله عليه وسلم ، وعلى كل حال من أجل ربط الأول بالآخر ومن أجل استكمال عبرة القصص القرآني لا بأس بأن نقرن بين المقطعين وأن ندرسهما معاً ، يقول الله جلّ وعلا بعد هذا الكلام على سبيل الاستفهام الذي يلفت النظر ويضع الإنسان أمام العبرة ( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ، قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين ، قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمنّ على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ، وما لنا إلا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرنّ على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون ، وقال الذين كفروا لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودون في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ، ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ، واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ، من ورائه ويسقى من ماء صديد ، يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ ) هذا هو المقطع بتمامه ، أو قل هذان هما المقطعان اللذان يتعاوران على إبراز العبرة التي سيقت الآيات الكريمة لكي تبرزها للناس وتثبتها في أذهانهم ، لا من حيث هي موعظة وحسب ، ولكن من حيث هي قانون من قوانين الله الكونية لا يتخلف . ولكي يكون الكلام مرتباً ومفهوماً أود أن أرتبه ترتيباً منطقياً وأبدأ به من البداية ، فآمل أن تكونوا معي حين تقرير الحقائق الأساسية التي يجب أن نقولها بين يدي الحديث عن جوانب من القصص القرآني الذي ما جاء تسلية وإنما جاء ذكرى وموعظة .

 لنتذكر أيها الإخوة أن ما أخبرنا الله جل وعلا به عن خلق الإنسان وعن حقيقته وعما يتصل بفطرة الكون .. مسألة لا تحتمل النقاش عندنا نحن المسلمين ، فأن يقول الله شيئاً ثم يقول الناس شيئاً آخر ، فهذا هو الكفر البواح الذي لا يغفره الله جلّ وعلا إلا أن يتوب منه الإنسان ويتقبل الله منه هذه التوبة ، ولا مؤاخذة يعني معذرة من الإخوة الذين تثقفوا ثقافة علمية بحتة بالمفهوم العصري ، أرجو ألا يؤاخذوني إذا قلت لهم : إن من العلم أن يعترف العقل بحدوثه وأن يعرف الإنسان حجمه الحقيقي ، ومن الجهل أن يحاول الإنسان تجاوز هذه الحقيقة ، ومن قبل كان شيخ المعرة رحمة الله عليه يقول :

وبحثك عما خط الله علمه ..... يعد جنوناً أو شبيه جنونِ

 والله جلّ وعلا يذكر الإنسان بحقيقة مبدئية كي يطامن من كبرياءٍ وكي يكفكف من غروره فيقول ( ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً ) فباعتراف العلماء أن الكون ينتمي إلى مئات الملايين من السنين ، ولم تكن هنالك حياة ، ولم يكن هنالك أحياء ، ولم يكن هنالك آدميون ، فالكلام على مبدأ الخلقة كلام يعد من الرجم بالغيب ومن الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً . وفي هذا الباب نحن كمسلمين لا نتردد في أن نعتبر خبر الله جلّ وعلا عن هذه الحقائق مسألة مقطوعاً بها ومسلماً بها ولا تحتمل عندنا أي نقاش . إن الله جلّ وعلا يذكر لنا أنه خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وكما جمّل صورته ومظهره جمّل أيضاً مقبره بأن أودعه هذه الفطرة السليمة المستقيمة السوية ، والتي وصف بها هذا الإسلام فقال عنه ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) .

 ويخبرنا في الكتاب الكريم أيضاً عن هذه الحقيقة ، عن خلق الإنسان على فطرة الإسلام ، وعن خلق الإنسان على إدراك الخير والتزام الخير والدفاع عن الخير ، وعما حصل بعد ، فيقول جلّ وعلا ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ) وبالطبيعة الحال فالذين يعرفون كلام العرب يعرفون أن من أساليبهم المعتمدة في مخاطباتهم بينهم ما يسمى بأسلوب الحذف ، فليس ضرورياً عند الناس الأذكياء اللمّاحين الذين يستطيعون أن يُدركوا الكلام وما وراء الكلام ليس ضرورياً أن تسهب وأن تتوسع في القول ، بل إن هذا ليُعدّ من العي والفهاهة والعجز الذي يُعاب به القائل ، فإذا كان الذي يُنصت إليك ويستمع منك ممن يفهم الكلام ورمز الكلام وإشارة الكلام وإشعاع الكلام الذي هو وراء الكلام فمن الخطأ ومن العي ومن العجز أن تحاول التوسع في القول .. من هنا كان أسلوب الحذف ، وهو حذف ما لا داعي له لكي يذكر اعتماداً على قدرة السامع على الفهم أحد الأساليب البلاغية المعروفة في لغات العرب .

 في هذه الآية التي تلوناها عليكم ( كان الناس أمة واحدة ) أي جماعة واحدة وطريقة واحدة ، لأن كلمة الأمة تتصرف في لغة العرب على معاني شتى ، قد تكون بمعنى المجموعة من الناس تنتمي إلى عرق واحد أولا تنتمي ليس مهماً ، قد تكون بمعنى الطريقة ، قد تكون بمعنى الدين ، قد تكون بمعنى الرجل الفذ الذي يجمع من شمائل الأخلاق ما تفرّق في غيره من الناس ، ومن هنا قال الله ( إن إبراهيم كان أمةً قانتاً لله ) وها هنا كان الناس أمة واحدة ، كانوا طريقة واحدة ، على ملة الإسلام ، ثم ـ وهنا الحذف ـ ثم كفروا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، والله جلّ وعلا استعمل أسلوب الحذف هنا لأن أي سامع للكلام يدرك أن النبيين والمرسلين لا يبعثون إلى الناس إلا إذا كان ثمة ما يدعو إلى إرسالهم ، أما إذا كانت الحاجة إلى إرسالهم منتفية وغير واردة فإرسال الرسل فضول وتزيّد لا معنى له . فاعتماداً على هذا حذف الله جلّ وعلا كلمة ( فكفروا ) التي هي ضرورية هنا لكي يستقيم معنى الكلام بقرينة ذكره لإرسال الرسل ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ) تأويل ذلك والله أعلم : كان الناس أمة واحدة على ملة الإسلام أو على فطرة الإسلام فكفروا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين .

 ( وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) والكتاب معروف هو جملة المواعظ والأوامر والنواهي التي تشكل الإطار العام للهداية الإلهية المهداة إلى البشر . والميزان هو التعبير عن المعدلة ، عن العدل ، الذي لولاه لأكل الناس بعضهم بعضاً ولتخرّبت كل معالم الحياة . وإنزال الحديد والإشارة إلى أن فيه بأساً شديداً ومنافع للناس يعقبه ( وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ) إيحاءً إلى الناس على مر الدهور أن ما وضع الله جلّ وعلا بين يدي البشر من أسباب القوة فإنما يجب استثمارها واستخدامها لصالح الحق الذي أنزله الله جلّ وعلا ( وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ) وأن الذين يستعملونها لتدعيم الظلم والجور ولإرهاب الناس وإرهاقهم ولإذلالهم وإعناتهم إنما يستخدمون نعمة الله جلّ وعلا فيما يغضبه تبارك وتعالى .

 في الأصل إذاً كان الناس مسلمين ، لكن المؤثرات البيئية جعلت الناس ينحرفون بهذا الشكل ، كذلك النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن هذه الحقيقة ببيانٍ ناصع وبتمثيل حي فقال عليه الصلاة والسلام : يقول الله جلّ وعلا في الحديث القدسي : إني خلقت عبادي كلهم حنفاء ، ثم اجتالتهم الشياطين ـ ومعنى اجتالتهم هجهجت بهم وحركتهم من اليمين ومن الشمال ومن أمام ومن خلف ـ فمرج عليهم أمرهم ولم يعودوا يستطيعون التمييز بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال . ويقول أيضاً : كل مولود يولد على فطرة الإسلام فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كأنما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ـ أي تامة الخلقة والأعضاء ـ هل تحسون فيها من جدعاء ـ وهي مقطوعة الأذن ـ حتى تكونوا أنتم الذين تجدعونها . من هنا ومن الكلام الإلهي ومن الكلام النبوي ندرك أن الله جل وعلا فطر الخلق في البداية على ملة الإسلام ، وليس كما يقول علم مقارنة الأديان الذي يسيطر عليه الصهاينة في الآكاديميات العلمية في العالم أن الأصل هو الشرك والتعدد وأن سنة الرقي والتطور مشت بالإنسان من التعدد إلى التوحيد كأنما عليه اليهود والنصارى هو التوحيد .

 فالإسلام يقرر عكس النظرية المعروفة في علم مقارنة الأديان والتي تروج لها الدوائر الصهيونية ، يقرر أن الأصل أن الناس جميعاً خُلقوا على ملة الإسلام وعلى فطرة الإسلام ، لكن الإنسان ليس معنى مجرداً ، وقوة الله التي أنزلت إليه الهدى والنور وفطرته على ملة الإسلام ليس القوة المنظورة التي يرهبها كما يرهب سوط الشرطي وسجن السجان ، لا ، إنما هي القوة التي لا تشكل قيداً على الإرادة البشرية على الإطلاق . ثم إن الإنسان يتعامل مع وقائع في حياته الدنيا ، منها ما يرضيه ومنها ما يغضبه ، منها ما يوفر له المتاع ومنها ما يحرمه هذا المتاع .. وإذاً فهو على نزاع مع ما يرغب ومع ما يريد ، وهذا النزاع ينعكس على الحقيقة الفطرية التي هي الإسلام . لذلك فنحن نجد في تعريفات الدين أن الدين وضع إلهي ، ومعنى أنه وضع إلهي أن الجهد البشري بمعزل عنه تماماً ، وأنه لا يجوز لبشر من البشر أ يغير أو يبدل أو يضيف إلى الحقيقة التي أنزلها الله تبارك وتعالى ، فهذا هو معنى الوضع الإلهي . ثم هو على الضد من الرغبات البشرية ، فالدين ـ أي دين ـ لم يأتِ لكي يدغدغ العواطف البشرية ، ولا ليستجدي رضى الإنسان ، وإنما جاء صارحة وابتداءاً ومن غير لبس ولا غموض ولا لف ولا دوران .. جاء ليكفكف من غلواء الشهوة البشرية ، وليقمع الأهواء البشرية ، وجاء على الضد مما يرغب فيه الإنسان ، ومن هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : حُفّت الجنة بالشهوات وحُفت النار بالمكاره . ومن نا قال الله تبارك وتعالى ( وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ) .

 فالدين لا يتعامل مع الناس بما يرضيهم وإنما بالذي يرضي القواعد التي أرساها الله جل وعلا ، بقطع النظر عن كونها تريح الإنسان أو لا تريحه ، لكن الإنسان كما قال الله ( وخُلق الإنسان ضعيفاً ) ( وخُلق الإنسان من عجل ) ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً ) لا يمكن ان يتمالك أو يتماسك وهو في معمعة الحياة واصطراع الشهوات والرغبات وبين المغريات التي تعرض نفسها عليه في كل حين كالمومس التي تتزي في ألف زي وزي لتجلب إليها الأنظار . والله جل وعلا قضت حكمته أن يهبط الإنسان على النحو الذي خلقه ، أن يخلقه إنساناً حراً مختاراً مريداً لكي يكون أهلاً لتحمل التبعات والمسؤوليات ، ولو أراد له غير ذلك لما كان ثمة حاجة إلى رسل ولا إلى أنبياء ولا إلى كتب ، لأن أمر الله بين الكاف والنون . ولهذا قال الله جل وعلا ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً ) أي في لحظة واحدة ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) إن الله جل وعلا خلق الإنسان لغاية هو أعلم بها بيّنها له في الكتاب وعلى ألسنة الأنبياء والمرسلين ، لكنه عموماً إنسان يملك أن يقول : لا ، يملك أن يقول الحرية ، يملك الإرادة ، لأن التبعة والمسؤولية والحساب لا معنى لها جميعاً إن لم تكون الحرية كاملة موفورة غير منقوصة .

 في هذا المعترك بين الإنسان المزوّد بالفطرة المستقيمة وبين شمول الدنيا وأشيائها نشأت الانحرافات وكفر ناس بالله ، وابن عباس يروى عنه أنه حينما أوّل الآية الكريمة ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ) يقول : مضت عشرة أجيال كان الناس فيها على فطرة الإسلام ثم حصل الانحراف ، ونحن نرى إن شاء الله تعالى أن المسألة ليس مسألة عشرة أجيال ولا عشرين جيلاً ولا مائة جيل ، فعمر الإنسانية مديد ، والعلماء يقدرون أول ظهور للحياة الإنسانية على الأرض قبل أربعمائة مليون عام ، فليست المسألة تعدّ بالأجيال التي يكون فيها الجيل خمساً وعشرين سنة أو ثلاثين سنة ، المسألة أكبر من ذلك بكثير ، المهم أن الله جل وعلا برحمته وبمنّه تدارك الإنسان حين كفر ، فألاسل النبين مبشرين ومنذرين ، وهكذا مضت قاعدة النبوات أنه لا يُرسَل رسول ولا نبي إلا بعد أن تنطفئ فيها أنوار النبوة السابقة ، بعد ان تنطمس معالم الإيمان الذي جاء به النبي السابق ، حينئذٍ تمس الحاجة إلى الإنقاذ ويكون إرسال الرسول مبرراً تبريراً كاملاً ، هكذا توالت الرسل ، جاؤوا إلى أقوامهم بالبينات وبالهدى وبالزبر وبالكتاب المنير ، مضت النبوات لا يعلم عددها إلا الله تبارك وتعالى ، وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم : كم النبيون يا رسول الله ؟ قال : مائة وعشرون ألفاً . جم غفير ، فإذا حسبتم أن الله أرسل مائة وعشرين ألف نبي إلى الناس تجدون أن التقدير العلمي مقبول ، إذا حسبنا الفترات بين النبي والنبي ، لأن أربعمائة مليون عام مضت على عمر البشرية رقم ممكن أن يُنظر إليه باحترام .

 هذه الفترة الهائلة التي لا نعرفها علينا أن نتتبع أخبارها وأن نلتمسها مما صح عن الله جل وعلا وعن نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأنا أريد هنا إلى أن أنبه الإخوة الذين يدرسوا التاريخ البشري بصورة خاصة ، أريد أن أقول لهم ثمة خلل في مكانيين ، وعلى الدارس أن يحذر ، في التاريخ وفي القوانين الحضارية التي يدرسها الناس ويرتبون عليها مناهج ومدارس وأفكاراً ومبادئ تنشأ على أساسها أحزاب تحمل الناس على الخطأ وعلى النقص ، نحن بالنسبة إلى التاريخ نعرف على وجه جلي وإن لم يكن غير مغلوط قبل ميلاد السيد المسيح ببعض مئات من القرون ، يعني يمكن أن نعتبر التاريخ الجلي في حدود أربعة آلاف سنة على أبعد تقدير ، ما بعد ذلك صعوداً إلى الخلف يمكن للإنسان أن يتحدث في الإطار التاريخي في حدود عشرين ألف سنة قبل الميلاد ، بمجموع اثنين وعشرين الف عام منذ الآن ، لكن هذا الكسر بين الأربعة آلاف والعشرين ألفاً علينا أن نعرف أنه يعتمد على الآثار والحفريات ، وأنه يستند على تفسيرات هي في أفضل الأحوال ظنون قد تكون راجعة أو تكون بين بين ، إذاً فمعرفتنا التاريخية فوق أنها قليلة مهزوزة أيضاً . وحين يأتينا الخبر عن الماضين فمن الخطأ أن نعتمد على قطع من الفخار من حضارة عاد أو حضارة إرم أو من حضارة ثمود ، قد تفسر شيئاً أو قد لا تفسر شيئاً ، هذا من ناحية .

 من ناحية القوانين الحضارة أيضاً فكثير من الإخوة مأخوذون في القوانين الحضارية التي نشأت عن الدراسات التاريخية في ديار الغرب . أحب أن اقول لكم أني أحترم القوانين الحضارية ، لكن هذا لا يمنع من القول من أنها تحتاجإلى تطوير وتحتاج على تعديل ، لسبب بسيط ، القواعد الحضارية الإنسانية حصيلة الدراسة التاريخية ، ونحن كما رأيتم لا نملك المعرفة التاريخية الكاملة إلا لزمن محدود ، فمعرفتنا من هذه الناحية جزئية . كذلك فتاريخ الإنسان في آزاله وفي آباده أمر مجهول لا ريب ، فكل دراسة وكل استنتاج للقوانين الحضارية سيكون ناقصاً ومجزوءاً ، وفي دراساتنا المقبلة سنرى أن القواعد الحضارية والقوانين الحضارية التي جاءت في القرآن الكريم لا تتطابق تماماً مع ما ينقله علماء الحضارة ، لهذا السبب فنحن ينظر إلى القصص القرآني نظرة الوثوق المطلق ، لأنه ليس لدينا حقائق تاريخية ولا أثرية مستندة إلى الحقائق تثبت عكس ما قاله القرآن الكريم ، فنحن في هذه الحالة كمسلمين ومؤمنين بصحة النص القرآني الذي بين أيدينا مضطرون إلى أن نعطي للقصص القرآني صفة الوثوق المطلق ، هذه واحدة .

 وأخرى ، سؤال يطرأ على الذهن ، لمَ هذا الحشد الهائل من قصص الماضين في القرآن الكريم ؟ إن الله جل وعلا لا يكد يخلي سورة من سور القرآن الكريم من قصة عن قوم أو قصص عن أقوام ، فلماذا هذا الحشد الهائل ؟ لأسباب لم يتركها الله خافية وإنما ذكرها في كتابه ، إن الله جل وعلا يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول ( وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ) ويقول أيضاً ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يُفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء ) فأنتم ترون أن الله جل وعلا يحدد وظائف محدودة للقصص القرآني ( وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ) وكل واحد فيكم جرّب كثيراً وإن كان على مستوى صغير ، لكن الزعازع التي تذهب بالألباب والتي يتعرض لها الأنبياء حين يرون أن الجو مدلهم ومظلم ظلاماً متراكباً بعضه فوق بعض من حولهم وهم يدعون الناس إلى الهدى ، والناس يدعونهم إلى الضلال ، وهم ياخذون بركب البشرية إلى الجنة ، والبشرية تجر سلاسلها إلى النار ، هذا الموقف رهيب رهيب رهيب ، لقد جرّبه الأنبياء جميعاً ، وكان لنبينا صلى الله عليه وسلم أوفى نصيب ، في وسط هذه الزعازع والآلام والمخاوف تمتد يد الله جل وعلا بهذا القرآن الكريم وبهذه الآيات المتتابعات لتمارس عملية تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم ( وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ) كيف يكون التثبيت وتحت أي مبرر؟ أن تحدث قصة شبيهة من بعض الوجوه بالذي يحدث لي لا يعني ذلك بالقطع أن كل قصة من هذا النوع لها شبيه من النوع ، لا ، لكننا نحن هنا حينما نرجع إلى مقررات القرآن ونعرف أن إيراد القصص عن الأمم الماضية وعن سيرها مع أنبيائها وعن مواقف المرسلين ومسالك المرسلين في الدعوة والإرشاد نردك أن البشرية جبلة واحدة تقبل القياس بعضها على بعض ، ولو لم يكن الأمر بهذا الشكل لمَا كان للتثبيت أي معنى ، ليس طبعاً أن يكون ما كان لموسى كما يكون لمحمد صلى الله عليه وسلم أو لعيسى أو لإبراهيم لو لم تكن الجبلة الإنسانية واحدة ولو لم تكن التأثيرات واحدة أو متقاربة ، ولو لم تكن ردود الأفعال متشابهات ، ولذلم نحن نسمع الله جل وعلا يقول تطميناً لنبيه عليه الصلاة والسلام وتثبيتاً له ( ما يُقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ) فالحقيقة الإلهية حينما تصافح الإنسان تنتج ردود فعل متشابهة ، لقد جاءت قبل محمد رسل وأنبياء ، وبلغوا أقوامهم ما كلفهم الله جل وعلا أن يبلغوه إياه ، وكانت هناك ردود أفعال ، فصبر المرسلون على ذلك ، والله فوق أنه قال للنبي عليه السلام ( ما يُقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ) أخبره انه أرسل من قبله رسلاً وأنبياء فكذبتهم أقوامهم فصبروا على ما كُذّبوا وأُتوا نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ( ولقد جاءك من نبأ المرسلين ) . كل قرية خلا فيها نذير ، وكل نذير واجه الصعوبات ، وكل نذير عالجها بالمسلك النبوي ، وهنا أحب أن يكون الانتباه تاماً لأنني أُعنى بتربية الجيل الرصين الذي يسلك في الدعوة إلى الله طريق الأنبياء ولا يخضع للرعونة البشرية ، لا يساوم ولا يهادن ولا يتنازل عن حرف واحد مما أنزل الله جل وعلا ولو أطبق عليه من أقطارها ، ولكنه في نفس الوقت ليس ذلك الأرعن الطائش الجهول ، إنما هو يدعو الناس كما قال الله على بصيرة وبينة ، ويدعو وليس في ذهنه أن يجني نتائج ، لأن ذلك موكول إلى الله ، يدعو لأن الله تعالى أراد له أن يدعو ، وكلفه بها ، أما ماذا يحصل بعد ذلك ؟ أيستجيب الناس أم لا يستجيبون ، علم ذلك عند الله ، ومسؤولية هذا ليست على الدعاة ، لا . لقد أرسل الله أنبياء فما آمن لهم أحد ، لقد أرسل إبراهيم ابا الأنبياء فما آمن له إلا لوط عليه السلام ( وقال إني مهاجر إلى ربي ) ولم ينقص هذا من قدر الأنبياء ولا من قدر إبراهيم عليه السلام ، المهم أن يؤدي الإنسان الوظيفة المطلوبة منه ، فالقصص القرآني إذاً رأينا وظيفته تماماً ، هي التثبيت وتفصيل ما هو مجهول على الناس ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يُفترى ) أي ليس اختلاقاً ولا تخيلاً ( ولكن تصديق الذي بين يديه ) أي الكتب السابقة ( وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) .

 من هذا القصص القرآني أيها الإخوة ، وإن كنت أطلت عليكم ولكنها ضرورية ، هذه القصة عن بني إسرائيل وذكرت لكم من قبل أن قصص بني إسرائيل أغزر القصص التي وردت في القرآن الكريم ، لأن تجربة بني إسرائيل في ميدان النبوة والأنبياء أغنى تجربة بشرية على الإطلاق ، من أجل ذلك عرضها القرآن كاملة لكي يفيد عبرتها باستمرار . وهذا المقطع الذي نحن في صدده جزء من قصص بني إسرائيل سترون أنه جاء ليخدم المعاني التي وردت في أوائل السورة الكريمة .

 ......................... يوجد حذف في الشريط ...............

 والآيات هــي الحجج والدلالات الواضحة الدالة علـى صدق المرسـلين ( وسلطان مبين ) والسلطان في عرف اللغة التي نزل بها القرآن هو الحجة القاهرة ، وكذلك الآية بهذا المعنى ، لكن السلطان أدخل في هذا المعنى من أي لفظة أخرى ( وسلطان مبين ) وأنتم تقرأون في سورة طه وفي سورة الأنبياء وفي غيرهما من السور ماذا آتى الله موسى عليه السلام لكي يواجه فرعون وملأه ، قلب له العصا حية وقال له ( اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ) وقال له ( اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناسٍ مشربهم ) وقال له ( اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فلق كالطود العظيم ) وقال له : وأمر قومك أن يضربوا القتيل ببعض البقرة التي ذبحوها فحيا ، ثم نطق فأخبر بقاتله ، إلى الآيات التي جاء بها موسى والتي كانت فعلاً سلطاناً مبيناً ، لأنها دلائل مادية توجب على الإنسان أن يطأطئ رأسه وأن يخضع للحق .

 ( لقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله ) لاحظوا الارتباط ، في الأول سورة قال الله جلّ وعلا لمحمد صلى الله عليه وسلم ( الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ) وهنا يخبر الله جلّ وعلا أنه أرسل موسى بآياته وسلطان مبين إلى فرعون وملأه ، لأي شيء ؟ أيضاً ليخرجهم من الظلمات إلى النور . فوظيفة النبوات واضحة من هذه النصوص القاطعة أن تخرج الناس من العماية والظلمة إلى الهدى والنور ، وليست لها وظيفة أخرى . وبالمقابل فكل محاولة يحاولها البشر لكي يحجبوا أنوار النبوات عن الناس إنما هي انتكاسة شنيعة في الجاهلية من جديد .

 ( لقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله ) وأيام الله هي نعمه على بني إسرائيل وبلائه عندهم وفضله عليهم من إنجائهم من آل فرعون ، ومن جعل الملوك والأنبياء فيهم ، ومن فسح المدة لهم ، ومن تسليطهم على أرض الجبارين ، ومن إدخالهم الأرض المقدسة .. إلى آخر هذه الأيام التي هي نعم من نعم الله جلّ وعلا . فهذه التي أشار إليها القرآن بقوله ( وذكرهم بأيام الله ) وقائق من وقائع تاريخ بني إسرائيل كلها كانت يد الله جلّ وعلا وعناية الله جلّ وعلا وتوفيق الله جلّ وعلا واضحةً فيها منتهى الوضوح . على العكس مما كانت استعدادات بني إسرائيل ، في كل موقف كانوا كأنما يُدفعون إلى المجد قهراً ورغماً عنهم ، لا يريدون أن يؤدوا أي عمل خضوعاً لطبيعتهم النكدة من أجل أن يتقدموا ويزدهروا ، لكن الله جلّ وعلا جعل بهم ذلك تفضل منه ونعمة ومنة . فحين يذكرهم موسى بآيات الله وبأفضاله عليهم وبأيامه عندهم فذلك سبب من الأسباب التي ترقق القلوب وتجعلها قريبة من الخالق تبارك وتعالى ، ( إن في ذلك ) يعني إن في الإرسال ومحاولة الإخراج من الظلمات إلى النور ، لاحظوا ، والتذكير بأيام الله والصبر على النتائج ( لآيات لكل صبار شكور ) لم يقل القرآن : لكل صابر ، مع أنه يؤدي جزءاً من المعنى ، ولم يقل : لكل صبور ، مع أنه يؤدي أيضاً جزءاً من المعنى ، ولكنه قال ( لكل صبّار ) وصبّار صيغة مبالغة المبالغة ، ليس صيغة المبالغة فقط ، وإنما صيغة مبالغة المبالغة ، ذلك بأن عملاً من هذا النوع ، عمل النبوات عمل الأنبياء عمل الذين يسيرون على أقدام الأنبياء ليس تمراً يتفكه به الإنسان ، ولا ماءً بارداً يشربه الإنسان ويتلذذ به ، ولكنه تجرع الصبر والمر والعلقم ، إنه المشي على الشوك بل المشي على الجمر ، إنه العمل الذي يحتاج إلى الصبر الذي لا ينتهي ، الصبر بغير حدود . ولذلك عدل القرآن من الصيغة المعتادة للصبر إلى صيغة مبالغة المبالغة فقال ( إن فـي ذلك لآيات ) أي مواعظ وعبر ( لكل صبار شـكور ) .

 ( وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم ) في سياق التذكير بآيات الله ( إذ أنجاكم من آل فرعون ) كان بنو إسرائيل أو العبرانيون كما كانوا يسمون في ذلك الوقت ، لأنهم عبروا النهر في اتجاه مصر ، كانوا في مصر على هيئة زرية ، خدم وخول وعبيد ، فجاءهم موسى عليه السلام فاستنقذهم الله جلّ وعلا من الذل ومن الظلم ومن العبودية ( إذ أنجاكم من آل فرعون ) ماذا كان يفعل فرعون وآله في بني إسرائيل ، كانوا يذبحون أبناءهم ، ويستحيون نساءهم ، الذكور يُذبحون ، لأنهم لا يريدون لبني إسرائيل أن ينموا وأن يتكاثروا لا سيما وقد جربوا أنه بعد يوسف عليه السلام تكاثر بنو إسرائيل وأصبحت لهم السطوة والسيطرة والسلطان في مصر . ابتداءً من تلك الأيام السحيقة الموغلة في القدم وُضعت سياسة ثابتة لدى فراعنة مصر ألا يسمحوا لبني إسرائيل بالتكاثر ، فلذلك كان الذكور يُعدمون ، وكانت النساء الإناث يُتركن على قيد الحياة للخدمة في البيوت ولقضاء الشهوة والوطر ، وهذه حالة من أبشع وأشنع ما يتصوره العقل ، هذا الحال من الذل خلصهم الله جلّ وعلا منهم بفضله بواسطة موسى عليه السلام وأخيه هارون وهجرتهم من مصر واتجاهم باتجاه الأرض المقدسة ( إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) هذا الفعل ، التفضل والمن التفضل الإلهي ، قابل للزيادة وقابل للنقصان وقابل للحجر ، والمسألة تتوقف على الإنسان ، ولهذا قال موسى لقومه ( وإذ تأذن ربكم ) أي أعلن وأعلم وقضى وحكم وقدر ( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ) ولئن شكرتم أفضالي وقمتم بالذي عليكم لأزيدنكم من نعمي ، ولهذا جاء في القرآن الكريم ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ) ولا غرض لله في تعذيب الناس ، والله يقول في سورة النساء ( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكراً عليماً ) فاستدامة النعم الإلهية لا تكون بالجحود والنكران ، لا تكون بالكفران ، وإنما تكون بالشـكر ، وبالشـكر تدوم النعم ( لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) الله جلّ وعلا ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب ولا نسب ، وليس في قانونه مجاملة ولا محاباة ( من كفر فعليه كفره ) والعقاب مرصد له إلا أن يعفو الله جلّ وعلا ، ومن شـكر فإن الله قد أعد له المزيد من النعمة والفضل والطول ( وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد ) هل يضر الله عصيان العاصين ؟ هل يضره كفر الكافرين ؟ هل تنفعه عبادة العابدين ؟ هل تزيد في ملكه شيئاً طاعة الطائعين ؟ لا هذا ولا ذاك ، الله جلّ وعلا غني بذاته ، وفي الحديث الذي رواه الأئمة وهو في صحيح البخاري الحديث الذي يذكر شأن موسى مع الخضر عليه السلام ، جاء في هذا الحديث أن موسى حين كان يحاور الخضر جاء طائر فوقع على سيق البحر فنقر بمنقاره شيئاً من الماء ، وقال الخضر لموسى : يا موسى أترى هذا نقص من هذا البحر شيئاً ؟ قال : لا ، قال : فإن الناس كلهم لا ينقصون من ملك الله شـيئاً . الله جلّ وعلا غني على العالمين ( ومن كفر فإن عذابي لشديد ) .

 تأتي الفقرة الأخرى والمقطع الآخر وهو المقطع الذي أحب أن يتأمل فيه الإخوة المسلمون الذين يقرأون القرآن ، إن المقطع أمامنا واضح ، قد يكون من تتمة كلام موسى ، قد يكون كلاماً مستأنفاً ، هذا لا يضر ، لكن نحن أمام لوحة ذات جانبين ، جانب فيه الأنبياء بلطفهم وتهذيبهم وحبهم للناس ، وجانب فيه الأقوام المدعوة بعنفها وعنفوانها وعنجهيتها ، وبين السلوكين فرق بين السماء والأرض ، ( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات ) وهذا قانون الله جل وعلا أن لا يعذب أمة إلا بعد أن يُعذر إليها ( وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث فـي أمها رسولاً ) لا بد من الإنذار حتى تقوم الحجة على الناس ( جاءتهم رسلهم بالبينات ) ما هو الموقف الذي وقفه هؤلاء الناس ؟ ( فردوا أيديهم في أفواههم ) قلت لهم وأنا أستعرض مجمل السـورة أول مرة أنها كنايةٌ في لغة العرب ، قد تحمل معنيين ، إما أن تحمل معنى إغلاق الفم كي لا أرد عليك بقليل ولا كثير ، أو تحمل معنى أن يعض الإنسان على أصابعه تحرقاً وغيظاً وألماً من الذي يقابله بالكلام . وفي مطلق الأحوال ( فردوا أيديهم في أفواههم ) تحمل معنى الرفض الفج الغليظ من الأمم التي دعاها الأنبياء من الإيمان بالله ورسله ( وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به ) انظروا إلى هذه البجاحة ، انظروا إلى هذه الوقاحة ، لم يكلفوا أنفسهم عناء النظر والتفكير فـي هـذا الذي جاءهـم به الأنبياء ، وإنما مباشـرةً ( وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ) وعجيب ، الأنبياء إلى ما يدعون ؟ يدعون إلى الإيمان بالله واليوم الآخر ولا شيء أكثر ، فإذا كانت حقيقة الحقائق وهي الله جلّ وعلا موضع الشك فأي شيء لا يقع تحت الشك بعد ذلك ؟ ولذلك كان استنكار الأنبياء واضحاً ( قالت لهم رسلهم أفي الله شك ) سؤال إنكاري ، كل شيء يمكن أن يوضع تحت الشك ، لكن الله كيف يكون موضع الشك ؟ والله جلّ وعلا أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد ، والله جلّ وعلا يتجلى في ذات الإنسان ، والله جلّ وعلا تعرّف إلى خلقه بكل ما خلقهم من الوجود ( أفي الله شك فاطر السموات والأرض ) إذا كنتم تشكون في الله جلّ وعلا فأخبروني مَن خلق السموات والأرض ؟ ومعنى فاطر السموات والأرض خالقهن على غير مثال سبق ، أو خالقهن ابتداءً ، وفي أخبار اللغويين أنه لم يكن ابن عباس أو غيره من الصحابة يعرف معنى كلمة ( فطر ) حتى تنازع عنده أعرابيان على بئر ، فقال أحدهما : يا ابن عباس والذي لا إله غيره أنا فطرتها ، يعني أنا حفرتها لأول مرة ، لم يحفرها أحد قبلي ، فعرف أن الفطرة ومادة فطر هي الخلقة لأول مرة وعلى غير مثال سبق ، فهنا سماوات وأرض . جادل في نفس ، لكن ما تقول في السموات والأرض ؟ أأنت خلقت السموات والأرض ؟ طبعاً لا ، إذاً الذي يخلق السموات والأرض على هذا النظام العجيب البديع منذ وُجد هذا الكون لم يتخلف لا لحظة ولا دقيقة ولا أقل ولا أكثر ، وإنما مشى على هذا النسق بكل انتظام ، هذا الخالق أو يمكن لأحد أن ينكره ؟ كلا ، لذلك كانت صدمة بالنسبة للأنبياء أن يقول هؤلاء الأقوام الذين دُعوا للإيمان بالله ( إنا كفرنا بما أرسلتم به وإننا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ، قالت لهم رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ) واسمعوا الله كيف يتحبب إلى خلقه ( ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى ) ليس معنى التأخير إلى أجل مسمى إطالة عمر الإنسـان ، لا تفهموا هذا الفهم ، لكن التأخير إلى أجل مسمى إطالة عمر الأمم ، أي أن الأمم طالما تمسكت بالقواعد الحضارية التي نص عليها دين الله جلّ وعلا فإنها تظل باقية وفي مكان الصدارة ولها العز ولها السؤدد وتدوم حتى تبدأ قبضتها تتراخى عن الحق المبين الذي أنزله الله ، حينئذٍ يتخلى الله جلّ وعلا عنها بمقدار ما تتخلى عنه . لذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام : فوالله لا يمل الله حتى تملوا . طالما أنت مقبل على ربك اعلم أن الله معك ، واعلم أنه عونه في خدمتك وتحت تصرفك ، وحينما تتراخى وتتهاون وتعجز وتكسل يتخلى الله جلّ وعلا عنك .

 فالزيادة في الأجل هي خطاب إلى الأمم كمجموع ، إلى الحضارة الإيمانية ككل ، أما للأفراد فلا ، قضى الله أن كل نفس لا تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً ، يعني له أجل معروف الأول ومعروف الآخر ( يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا ) يعني الأمم المدعوة ( إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبدون آباؤنا فأتونا بسلطان مبين ) ومصيبة الإنسان في الحقيقة أنه يستكثر أن يكون لله من بين خلقه من البشر رسل وأنبياء ، مع أن الأمر لو كان على خلاف ذلك لكن مستحيلاً ، فالله جلّ وعلا يقول ( ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون ) لو كان النبي ملكاً لخلقه الله جلّ وعلا بصورة رجل تحقيقاً لإمكانية التفاهم ، تفاهم العناصر المختلفة مستحيل ، لا بد من أن يكون الرسول من جنس المرسل إليهم ، ويقول ( قل لو كان في الأرض ملائكة يخلفون ) يعني يتوالدون ( لأنزلنا إليهم من السماء ملكاً رسولاً ) لا بد أن يكون الرسول من جنس المرسل إليهم تحقيقاً لوظيفة التفاهم ، ومع ذلك فالناس كبر عليهم أن يصطفي الله جلّ وعلا من البشر رسلاً إلى الناس ، لذلك قالوا في إنكارهم ( إن أنتم إلا بشر مثلنا وتريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا ) تمسكاً منهم بالجمود على القديم والتقليد الذي لا حجة معه ( فأتونا بسلطان مبين ) هاتوا حجة باهرة ، لكن الحجج بيد الله ( قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم وإن نحن ) ( إن ) هـذه المجزومة المخففة إذا جاء بعدها ( إلا ) فتعني النفي ، فقوله ( إن نحن إلا بشر مثلكم ) ما نحن إلا بشر مثلكم . الرسل أجابوا أنه بالفعل نحن لسنا إلا بشراً مثلكم ، ( ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ) هل يمنع كوني رجلاً من البشر أن يختصني الله جلّ وعلا من بين عباده بشيء من العلم أو الصلاح أو الجاه أو الثروة أو ما أشبه ؟ لا شيء يمنع ، لأن فضل الله لا حدود عليه ، ولا يستطيع أحد أن يمنعني شيئاً ، يؤتي الفضل من يشاء .

 ( وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله ) فالآيات ليست كالكرامات التي يعملها الدراويش من الشعوذة وما أشبه ذلك ، كلما خطر في باله عمل شيئاً من هذا القبيل ، وإنما آيات الأنبياء لا تأتي إلا بإذن الله جلّ وعلا منزلةً على وفاق الحاجة ( وما كان لنا أن نأتيكم إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون وما لنا ) وهذا كلام الأنبياء ( ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ) يا أحبابنا هذه الكلمة الوجيزة صدقوني لو وقفت معكم عندها يوماً كاملاً ، أربعاً وعشرين ساعة ما فرغت منها ، إذا كان الله جلّ وعلا قد هداك سبلك ، وبيّن لك طرائق الخلاص ، فلمَ يا مسكين لا تتوكل على الله ؟ ماذا بقي لك بعد ؟ أي شيء تريد من حياتك غير أن تكون مهدياً وهادياً ؟ فإذا كان الله جلّ وعلا قد ضمن لك ذلك ، قد كفله لك وقد هداك سبلك فلماذا لا تتوكل على الله ؟ لماذا تتكل على عاجز ؟ لماذا تتكل على غيرك من البشر وهم يدعون الله كما تدعوه ويحتاجون إليه كما تحتاج إليه؟ فأنتم يا أمة الإسلام ، أنتم يا معشر المسلمين بعد أن هداكم الله سبله قولوا لي ما الداعي إلى أن نتكل على أمريكا أو نتكل على روسيا أو نتكل على هذا الجانب أو على ذلك الجانب ، قولوا لي كأمة لماذا نتكأ على هذه القوى التي هي بشر ممن خلق يجري عليها من تقادير الله ما يجري على سائر البشر ، إذا كان الله قد هدانا سبلنا ومن جملة ما هدانا إليه من سبلنا أسباب القوة التي تكسبنا العزة والمناعة والزيادة والسؤدد ، لماذا نفعل ذلك إن لم يكن ذلك تمرداً على الله وجراءة عليه ، إذا لم يكن كفراً صريحاً بالله تبارك وتعالى . ونحن أيضاً كأفراد ، لماذا يخشى بعضنا بعضاً ؟ ولماذا يرجو بعضنا بعضاً ؟ ولماذا يتكل بعضنا لبعض ؟ ما الذي أملك لك ؟ وما الذي تملك لي ؟ أنا وأنت جميعاً كالهباءة بين يدي الله جلّ وعلا ، كلنا محتاجون إلى الله وكلنا نستمد أسباب وجودنا من الله جلّ وعلا . وأنا لا أستطيع أن أعطيك شيئاً وأنت لا تستطيع أن تعطيني شيئاً ، فما معنى أن أخافك وما معنى أن أهابك وما معنى أن أحسب حسابك ؟ بل ما معنى أن أضحي بالحق من أجلك ؟ ما معنى ذلك ؟ معنى ذلك أن اليقين مهزوز وأن الإيمان مختل وأن الدعوة التي يظهر المسلمون بها أكبر منهم بكثير دعوى عريضة لا يسلبها شيء مـن الواقع ، لذلك ترون أن كلمـة الأنبياء جاءت بمنتهى اللطف وبمنتهى الحب ( وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ) هل نجرد عليكم السلاح ؟ هنا أذكركم بأنني يا إخوة أرغب في أن أربي الجيل المسلم الرصين العاقل الحكيم المدرك الذي يعرف الفرصة ، أما الرعونة والجهل والطيش والغرور وعدم الحساب فهذه أمور يجب أن تحذف من ساحة العمل الإسلامي كله .. هؤلاء الأنبياء والمرسلون مكلفون فعلاً من الله وبصورة مباشرة بأن يؤدوا رسالة معينة إلى أقوام معينين ، وهؤلاء الأقوام يتمردون ويعصون ويدخلون مع أنبيائهم في صراع مرير ، ومع ذلك فالأنبياء لا يرون من وظيفتهم أن يكرهوا الناس على الإيمان ، ولا أن يستعملوا وسائل القوة ، إن القوة حين تستعمل في سياق الدعوة تدمر مقومات الشخصية الإنسانية ، ونحن في بحثنا عن الإيمان والثقة والهدى ليس لنا ضمانة إلا هذه الشخصية الإسلامية التي هي مؤسسة على الفطرة ، فحين نتعامل معها بأساليب القوة والإكراه والإرهاب ندمرها ونجعلها جهازاً معطلاً لا يصلح لشيء . إن الكف والإعراض وترك الأمر لله جلّ وعلا مع موالات الدعوة وعدم التنازل وعدم المساوة وعدم التهاون هو المسلك الوحيد ، ذلك بأن الحقائق الإلهية لها أكبر طاقة من شـحنة الحياة ، لا يستطيع الإنسان أن يتأبى أمامها طويلاً ، بل لا بد أن يخضع ، ولهذا فأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما دعا علـى أقوام بأعيانهم علـى أثر غزوة أحد نهاهم الله جلّ وعلا مـن ذلك وقال له ( ليس لك من الأمر شيء ) وفي سورة أخرى قال له ( عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة ) وبالفعل لم يستطع هؤلاء الأعداء الشرسون أن يقفوا طويلاً مع العناد ومع الرفض فانصاعوا لهذه الحقيقة .

 لهذا رأيتم كيف رسم الله جلّ وعلا هنا مسلك الأنبياء ( وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ) نحن على بينة من أمرنا ومتكلون على الله جلّ وعلا في كل شيء يوادعون الأمر كله بين يديه ( ولنصبرن على ما آذيتمونا ) وأنتم تقرأون في القرآن كما أمر الله محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر الجميل وبالصفح الجميل وبالهجر الجميل ( وعلى الله فليتوكل المتوكلون ) هذا الوقف اللطيف الرائع الأخلاقي الإنساني الذي هو في ذروة الإنسانية يقابله الموقف الثاني موقف الأقوام الذين أُرسـلت إليهم الأنبياء ( وقال الذين كفروا لرسلهم ) نفس المقالة ، لم يتغير في الإنسانية شيء ، ملايين السنين مرة وهذا الطبع البشري الكنود على حاله لم يتغير ( وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا ) نفس مقالة السفهاء التي يقولونها اليوم والتي قالوها بالأمس والتي قالها العتاة من أسلافهم من فرعون وهامان وقارون وغيرهم ، هذا الموقف الكريم يقابله هذا الموقف اللئيم ، هذا الموقف المفعم بالحب يقابله هذا الموقف المشحون بالكراهية ( وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا ) يعني إما أن تكون معنا أو تكون علينا أو تطلع من أرضنا ، هكذا كان الكفرة يفعلون ، وما زال قليل العقل يفعل كذلك ، علماً بأن نتائج هذا المسح محددة تاريخياً ومحددة واقعياً ، إن المجتمعات التي تسير على هذا النمط سوف تتفجر عند نقطة معلومة ، الطبيعة البشرية لا يمكن التلاعب عليها ، وكل إنسان يحاول أن يعتدي على قواعد الحياة البشرية فإن هذه القواعد هي التي تعاقبه ، ولذلك لم يسجل التاريخ أبداً ولا في وجه من الوجوه ولا عند أمة من الأمم ولا في عصر من العصور ، مجتمعاً استطاع أن يستمر بهذا الشكل ، إن التنوع والاختلاف أمر فطري ، وما دمنا نملك عقولاً وما دمنا نملك إدراكاً وما دمنا نستطيع أن نستخدم أساليب المنطق ، فلماذا يُكرِه بعضنا بعضاً ؟ أومن الضروري أن يكون عبداً لك ؟ أومن الضروري أن تكون عبداً لي ؟ أليس من الأكرم لنا كآدميين أن نكون جميعاً عباداً لله تبارك وتعالى ؟ أليس هذا هو الكلام الذي دعا إليه محمد صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقل اشهدوا بأنا مسلمون ) الأمم التي كذبت رسلها وأنبياءها وقفت هذا الموقف ( وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لا تعودن في ملتنا ) والإنسان بالواقع يا إخوة من غير تشفٍ بأحد أو تعريض بأحد لا يملك إلا أن يأسف ويأسى ويحزن للإنسانية التي لم تستطع أن تستفيد الإفادة الكاملة من الظروف التاريخية المستمرة منذ وُجدت الدنيا وإلى اليوم ( لنخرجنكم من أرضنا ولتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم ) أي أعلم الله جلّ وعلا هؤلاء المرسلين ( لنهلكن الظالمين ) لا ، ليس فقط يهلك الظالمين بل ( ولنسكننكم الأرض من بعدهم ) أي نجعلكم أنتم الوارثين بمســاكنهم ودورهم وآثارهم ( ذلك ) يعني هـذه العاقبة المريحة الكريمة لمن ؟ ( لمن خاف مقامي وخاف وعيد ، واستفتحوا ) يعني حينما بلغ اللجاج أقصاه وجاؤوا جميعاً اللهم انصر الصادق واخذل الكاذب ، فهـذا هـو الاسـتفتاح حينئذٍ ( وخاب كل جبار عنيد ) هذا الجبار العنيد ( من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد ، يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ ) هذا في الآخرة ، في الدنيا هلاك وبوار وتوريث أرضه للذين ناصبهم العداء ، وفي الآخرة عذاب شديد لا يقوم له خلق من خلق الله تبارك وتعالى .

 أيها الإخوة الأحباب صدقوني أنه لم يكن في نيتي أن أطيل الحديث بهذا الشكل ، لكني رغبت أن يكون الحديث مرتباً ترتيباً منطقياً يجعل قضايا القرآن الكريم مفهومة بسهولة ويسر ، وعندنا في القرآن الكريم دروس وعظات وعبر ، نحن كمسلمين مطالبون بأن نتمعن فيها وأن نعيها وأن ندرسها ، وأتصور أيها الإخوة أننا في زمن الانكسار والتراجع والتخلف ، محتاجون فعلاً إلى أن نطيل الوقوف مع كلمات ربنا تبارك وتعالى ، لنرى أين تكون مرضاته من العالم ؟ وأين هي مساخطه ؟ لنتجنبها ، ذلك بأن رضوان الله يترتب عليه العز وأن سخط الله يترتب عليه الهلاك والبوار ، ونحن ندعو الله جلّ وعلا ونرجوه ألا يحرمنا من شرف الوراثة النبوية ، وأن يكتب لنا شرف الجندية تحت لوائه ولواء رسوله صلى الله عليه وسلم ..

 وكما قلت لكم من قبل لو كانت المسألة مرتبطةً بأمة تريد أن تنتحر يا أخي بلاها ، لكن الواقع أن استمساك المسلمين بدينهم لمصلحة الجنس البشري كله ، فإذا فُقد الخير والكمال والصلاح بين المسلمين تأكدوا أنه ليس على الأرض صلاح ولا خير ولا كمال ، والإنسانية اليوم تعيش لحظات عصيبة رهيبة لا يمكن أن يأتيها الخير والهدى والنور والحق والمعدلة والقسط إلا من عند المسلمين ، فإذا كنتم لا تريدون أنفسكم كونوا غيورين ، آثروا الإنسانية على أنفسكم ، أحيوا من درس من سنن نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وأحيوا ما أحيا كتاب ربكم ، وأميتوا ما أمات كتاب ربكم ، لكي تخدموا الإنسانية إن لم تريدوا أن تخدموا أنفسكم ، لكننا على العموم لا نتصور أن إخواننا من الأمة الإسلامية لا يريدون لأنفسهم الخير ، أولا يريدون لأنفسهم العز ، نحن نعيش أياماً عصيبة بالفعل ، لا يعين عليها إلا الله تبارك وتعالى ، فما لم نزدد التصاقاً بحقائق التاب وبحقائق سنن النبي صلى الله عليه وسلم وحقائق الإسلام فلا أمل لنا ، لا أمل لنا في التخلص من الأشراك المنصوبة لنا ، والتخلص من الأوهاق التي نُحاط بها ، والتخلص من المصاعب التي تنتظر في المستقبل ، لا أمل لنا بتاتاً .

 فيا أحبابنا ويا أبناءنا ويا إخواننا ، زيدوا التصاقاً بحقائق الإيمان ، واعلموا أنكم تملكون ديناً يرفع الرأس ، فيه كل خير ، وفيه كل صلاح ، وفيه كل فلاح ، وأنتم ترون يا إخوة أرباب الباطل وأحلاس الباطل كيف يقتتلون من أجله ، كي يستمسكون به ، كيف يدافعون عنه ، وهـو الباطل الصرف ، فلمَ تتخلون عن الحق ، ولمَ ترضون أن يقبى هذا الحق مطارداً ، يرحم الله شوقي ، لقد كان يتساءل في شعره عن هذه الأمة فيقول مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم :

شعوبك في شرق البلاد وغربها .... كأصحاب كهف في عميق سباتِ

بأيمانهم نـوران ذكـر وسـنة .... فما بالهم فــي حالك الظلماتِ

 إن أمر هذه الأمة بالفعل لعجيب ، إنه للعجيب ، لأنها وحدها تملك الدواء ولكنها وحدها التي ترفض تناول الدواء ، فاسألوا الله جلّ وعلا أن يخلصنا من هذا المرتع الوبيل ، وأن يُخرجنا إلى حالة من الصحو والمعرفة والنور بإذنه ، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين .