تفسير سورة الأعلى (1)

العلامة محمود مشّوح

الحلقة الأولى من تفسير سورة الأعلى

الحلقة (35) الجمعة 1 / 10 / 1976

العلامة محمود مشّوح

(أبو طريف)

إن الله مـع الذين اتقوا والذين هـم محسـنون .. أما بعـد أيها الإخوة المؤمنون :

فبفضل الله تعالى وتوفيقه فرغنا من السورة السابعة في ترتيب نزول المصحف وهي سورة التكوير ، وإن شئت أن أستدرك فنحن قد فرغنا ولما نكد ، ولقد بقيت في السورة الشيء الكثير مما يستحق الوقوف والعناية والدرس ، ولكنا نؤثر أن نقفل باب الحديث في السورة الكريمة ، اعتماداً منا على أن كل القضايا التي أثارتها السورة الكريمة سترد مفصلة ومستوفاة في مواضع متعددة من القرآن المكي ومن المرحلة المكية التي اخترنا الحديث عنها بشكل أساسي ، ونواجه اليوم السورة الثامنة حسب الترتيب الذي يذهب إليه معظم علماء القرآن وهي سورة الأعلى .

وأحسب أن الكثيرين جداً من المسلمين يحفظون هذه السورة عن ظهر قلب ، فموسيقاها ومقاطعها وتناسقها يجعلها ميسرة للحفظ ، يقول الله تعالى مفتتحاً السورة الكريمة بخطابه إلى نبيه صلوات الله عليه وآله ( سبح اسم ربك الأعلى ، الذي خلق فسوى ، والذي قدّر فهدى ، والذي أخرج المرعى ، فجعله غثاءً أحوى ) ولكي لا يطول الشوط للتكرار الذي لا ضرورة لها فنحن نسير مع السورة مقطعاً مقطعاً من أجل توضيح المعنى العام ثم نعود بعد إلى شيء من التفصيل الذي يقتضيه المقام ويوجبه مكان السورة من سياق الدعوة النبوية .

فالتسبيح في اللغة التي نزل بها القرآن هو التنزيه ، تنزيه الله تعالى عما لا يليق بجلاله وبكماله ، وتنزيهه جل وعلا عن مشابهة المخلوقين ومجانسة ما عدا الله جل وعلا ، وستتضح إن شاء الله تعالى لكم حكمة الأمر بهذا إذا عرفتم أن الأمر بالتسبيح والتنزيه تكرر في القرآن وفي مناسبات كثيرة حتى ليخال قارئ القرآن وليس ذلك خطأ أن القرآن كله دعوة إلى هذا التنزيه والتقديس والتسبيح.

الأمر يتضح بغير التباس إذا نحن أقررنا بأذهاننا صورة الواقع الجاهلي باتجاهاته المختلفة ، فلا شك أن قطب الرحى في الدعوات الدينية وعلى ألسنة الأنبياء جميعاً هو التوحيد والتنزيه ، والله جل وعلا نبّه في القرآن الكريم إلى أنه ما أرسل من رسول إلا بهذا النداء ( لا إله إلا أنا فاعبدون ) وحين تنزّلت دعوة الإسلام على محمد عليه الصلاة والسلام كان الواقع الديني على أشنع ما يكون من الفوضى والاضطراب وضياع المفاهيم الصحيحة ، بعد أن عدت عليها عوادي الزمن ، مما تتطاول على الناس من الأمد ، فقست من أجل ذلك القلوب ، وتفلتت تبعاً لذلك من الأخذ بأوامر الله تبارك وتعالى . وبسبب مما سولت لكبراء الناس والقيّمين على الديانات ، الذين يُفترض فيهم حفظ معالم الرسالة والسهر على عدم ضياع شيء منها ، والحرص على أن لا يدخلها تحريف ولا تأويل ولا إبطال ولا أي شيء من هذا القبيل ، مما يؤثر تأثيراً بيّناً على مسار الدعوة الدينية ، أقول تورّطُ هؤلاء من رؤساء الدنيا وكهان الدين في تحريف كلام الله جل وعلا أضاع علـى الناس معالم الرسالات وحقائق الدين .

ويوم تنزّل هذا القرآن في مكة على محمد صلى الله عليه وسلم كان معقولاً إن شاء الله تعالى أن تكون البداية في التحرك الإسلامي آخذةً من نقطة العقيدة ، وما لم تصحح عقائد الناس ، وما لم تقوّم نظرتهم إلى الرب جل وعلا ، وبعد ذلك نظرتهم إلى مقام الإنسان في هذا الوجود وحجم هذا الإنسان وإمكانيات هذا الإنسان ، فإنه من الصعب بل من المستحيل قطعاً أن يكون التحرك سليماً ، لأن مبناه سيكون دون ريب على تصورات البشر وتخيلاتهم واجتهاداتهم ، وأنت واجد بعد ذلك إن احتجتَ إلى دليل في صفحات التاريخ الإنساني ، وما تعاقب على الدنيا من أفانين النظم وألوان الاجتهادات ما يغنيك عن تصيد الأسباب الداعية للقناعة ، لأن البشر أفشل مخلوقات الله تعالى في القوامة على شوؤن الدنيا .

حين نزلت هذه الرسالة على رسول الله صلوات الله عليه كان الواقع الديني على النحو الذي سبق أن شرحته لكم قبل عدد من الأسابيع ، دين إبرهيم عليه السلام وهو الحنيفية السمحة ضاع ، وعدت عليه العوادي ، ودين موسى ضاع وضاع توراته ، وما جاء به عيسى ضاع كذلك ، وضاعت حقائق الإنجيل الذي أنزله الله تعالى على عيسى عليه السلام ، نوراً وهدى للعالمين . وبقيت بقايا ، بقايا وخلائف تسمي نفسها يهوداً ، وتسمي نفسها نصارى ، زوراً وبهتاناً . ويقيناً لو أن الله تعالى ابتعث موسى لأنكر اليهودية الموجودة ، ولو أنه جلّ وعلا ابتعث عيسى لتبرأ مما عليه المسيحيون اليوم . ولقد أذكر ولعل بعض الإخوة من المثقفين يذكرون قصة من روائع قصص الروسي ديوستوفستي يتحدث فيها عن محاكم التفتيش التي أرهقت المسلمين من قبل ، ثم التفتت إلى المسيحين تذيقهم ألواناً من المتاعب والمصاعب وأفانين من القهر والقمع ، لمجرد أية مخالفة يبديها أحد الناس ، أو تأخذ بها جماعة من الجماعات ، تخالف ما استقر عليه رأي البابا أو المجامع الكنيسية .

وفي التصوير الجيد الذي عرضه الكاتب يبين أن عيسى عليه السلام بُعث حياً ، وأنه حضر هذه المحاكمة ، وأنه رأى فأنكر ما رأى ، واحتج ، وكانت النتيجة أن جُرجر ليقدم إلى محاكم التفتيش ، إله المسيحيين ، حامل الإنجيل . فما نراه اليوم نسخة مهذبة عن اليهودية التي كانت في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما نراه اليوم من النصرانية فنسخة مهذبة أيضاً عن خرافات نصرانية وأباطيلها التي كانت حين تنزلت هذه الآيات . وأي معنى لرسالة إلهية تسوي بين الله ومخلوقاته ؟ وأي معنى لرسالة إلهية تمنح بشراً من الناس بلا سند وبلا الحجة ولا منطق وبلا دعم من الواقع الحق في أن يكون للناس إلهاً يأمر فيطاع ، ويشرع فينتهى إلى شرعه . والله جلّ وعلا أبان بواضح القول في القرآن الكريم أن الأنبياء لا يأمرون الناس أن يتخذوهم أرباباً من دون الله ، وكيف ؟ أيأمرونكم بالكفر بعد أن أصبحوا مسلمين ؟ كذلك ففي الرقعة ما كان عند العرب مما يؤذي النفس ويؤذي المشاعر ويهين العقل الإنساني ، من هذه الصمنية الغليظة الكثيفة التي كان العرب عندها لاطئين لا يتزكون . في وجه هذا لا بد أن تكون البداية وعلى نحو مكرور وموصول في مناسبات لا تنقطع أن ي،ضرب على وتر التوحيد ، فالناس قبل أن يصححوا مكانهم عبيد لله جلّ وعلا لا ينازعونه الخلق والأمر ، ولا يجاذبونه أطراف التشريع والحكم بين الناس ، وقبل أن يصححوا معتقدهم بالله ، رباً واحداً أحداً لا شريك له ، ولا نديد ، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً ، وليس به عجز يدعوه إلى أن يستظهر على أمر الكون بالشركاء وبالأنداد ، الناس قبل أن يصححوا هذا المفهوم الجوهري حريون بأن يضربوا في تيه له بداية ولكن ليست له نهاية بحال من الأحوال .

من أجل ذلك نسمع هنا وفي مواطن متفرقات من كتاب الله تعالى ، منه الذي مر علينا من قبل فقرأناه واستمعنا له ، وأخذنا منه ما يسر الله أن نأخذ من عبرة ، ومنه ما سيأتي بعد ، نركز على هذه القضية ، قضية التوحيد ، قضية التنزيه ، لو رجعنا مرة أخرى ولا يمكن أن نملّ الرجوع لذلك الواقع الأليم المهين ، الذي كان في الجاهلية ، لأن القرآن برمته ، ولأن الإسلام كله ، ردّ على ذلك الواقع على اعتباره يصور خلاصة ما تحلّب عبر القرون من مفاسد الجنس البشري ، بحيث أصبحت الجاهلية الأولى تعكس أبشع أن ما يصل إليه الإنسان في كدحه غير المبارك نحو المفاسد والسوآت ، وجاء القرآن رداً على كل هذا يجتث من الجذور كل ما يمكن أن يطرأ على المسار الإنساني في مقبلات الزمان ، مما يؤثر على استقامة السير واعتدال السلوك .

لو رجعنا هناك وتساءلنا : فيما هذا الإصرار الغريب ؟ الإصرار المتكرر على قضية التوحيد ؟  لجاءنا الجواب بفضل تأمل : العرب في جاهليتها ـ وهذا من صنع الله طبعاً ـ كانت قبائلها تتصل بالروم وتتصل بالحبشة وتتصل بفارس في إيلافها وتجارتها ، وقبائل من قبائل العرب وأفراد من أفراد العرب تأثروا على مرّ الأزمان بما رأوا وبما سمعوا ، ولكنك حري بأن تنتبه إلى قضية جوهرية ، إن تأثر القبائل العربية البادية ، أي التي ترحل وتنزل ، بما شهدت من مآثر الروم ومآثر فارس ، وبما عرفت من عقائد اليهودية والنصرانية والمجوسية وما أشبه ذلك ، تأثراً عامي ، وأؤكد أنه عامي وساذج ، ساذج للغاية ، كيف تتصور لو أن بدوياً من أعماق الصحراء ذهب الآن إلى إحدى عواصم الدنيا المتقدمة ، فرأى منها ما رأى ، وعاش فيها يوماً أو أياماً ، أية صورة يمكن أن تنعكس لهذه العاصمة ولسكان هذه العاصمة في عقل هذا العربي أو البدوي الذي لم يكن قبلُ يعرف شيئاً عن المدنية ؟ لا شك أنها صورة باهتة وخارجية وسطحية تماماً ، ثم هي صورة مضللة ، قد يرى بعض الظواهر التي تطفو على السطح ، لكنه لا يحسن ولا يطيق أن يسبر غور الأعماق التي تقوم عليها حياة الناس في العاصمة التي يزورها . فهو خليق إذا حدثك عنها أن يعطيك صورة مضللة للغاية ، وأن يعطيك عنها أفكاراً منحرفة جداً ، فكذلك إن العرب لم ينزل بينهم دين عيسى ، ولم ينزل عليهم دين موسى ، ولكنهم رأوا وسمعوا عن هذه الدينين في تجاراتهم وانتجاعاتهم ورحلاتهم ، فلما رأوا استقر في أذهانهم ما استقر ، وبالفعل اعتنق ناس منهم اليهودية ، واعتنق ناس منهم النصرانية ، وتأثر بعض منهم بعقائد الفرس ، ولكن كما قال عمر رضوان الله تعالى عليه : إن العرب لم يعرفوا من النصرانية إلا شرب الخمور وأكل لحم الخنزير ، أما ما وراء العقائد من ثقافات وما هنالك من تيارات عملت على تكوين هذه العقائد ، بالشكل الذي تكونت عليه ، فهذا شيء لم يعرفه العرب ، هذا واحد .

والشيء الأهم من هذا بأن الذين تأثروا بالنصرانية واليهودية والمجوسية هم القبائل التي كانت تسكن على أطراف الجزيرة العربية ، والجزيرة العربية ليست جغرافيتها في السابق كما هي عليها اليوم ، الجزيرة العربية تمتد حتى تصل أبواب دمشق ، وتنفرج حتى تصل قريباً من بغداد أو ما هو بعد بغداد ، وجزيرة العرب في الماضي واسعة لأنها مجمل الصحراء التي تفصل بين الرومان وبين الحبشة وبين الفرس .

النصرانية واليهودية والمجوسية كانت في الأطراف ، وحين نزل القرآن لم يكن يتوجه بالخطاب أساساً إلى هؤلاء ، لكنه كان يتوجه إلى الجمهور الذي يصابحه ويماسيه ، إلى الناس الذين تنطبع حياتهم الدينية بطابع الوثنية ، إلى أناس آخرين وُجدوا كما يوجدون في كل أنحاء الدنيا ، في زمان وفي مكان ، هؤلاء الذين يصابون بآفة العقلية شبيهة في كثير من الوجوه بآفات الجسمية التي تصيب الإنسان ، هؤلاء الذين يقال عنهم الدهريون ، الذين يُنكرون أن وراء الحس شيئاً ، وأن وراء الدنيا آخرة ، وأن وراء الوجود موجداً وخالقاً ، مكابرين بذلك شهادة الحس ودليل العقل وهداية الفطرة .

هؤلاء أيضاً كانوا موجودين ، كانوا يقولون ( ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ) أرأيت هذا النبات تنصب قطرات المطر عليه وهو جنين في بطن الأرض ، فتتمخّض البذور عن نبتة تبسق شيئاً فشيئاً ، حتى إذا آتت أُكلها وقذفت للناس ثمارها المطلوبة منها والمرجوة منها صوّحتها حرارة الصيف واقتلعتها أعاصير الخريف . كذلك الإنسان ينبت كما ينبت النبات ويذهب كما يذهب النبات ، إزاء هذا نتساءل : أبلغت العرب وهم أصحاب الفصاحة واللسن ، وفيهم الأذكياء وفيهم المفكرون وفيهم أصحاب الأناة الطويلة اذين يصبرون على المعاناة ويصبرون على النظر ، فيهم أولئك الذين استطاعوا في السنين المتطاولة أن يرصدوا السماء وأن يرصدوا الأرض ويعرفوا إذا طلع النجم الفلاني أن النوء سيكون كذا ، ويعرفوا حتى إذا شمّوا شيئاً من تراب الأرض أنهم في المكان الفلاني ، قوم هذا مبلغهم في النباهة والذكاء ودقة الملاحظة يبلغ بهم الهوان على أنفسهم وانحطاط العقل إلى الدرجة التي يتصورون معها أن هذا الصنم الذي ينحتونه من الحجر ثم يطوفون به رجالاً ونساء عرايا وكاسين ، هو هذا الإله الذي خلق ، وهو الإله الذي يرزق ، وهو الإله الذي يميت ، كيف نستطيع أن نتصور أن رجلاً مثل عمر بن الخطاب ، ما تزال الدنيا تتعجب أن تنتج جزيرة العرب مثل هذه العبقرية الباذخة ؟ كيف يمكن لنا أن نتصور عمر هذا بعقليته المستنيرة يجيز لنفسه أيها الإخوة أن يصنع لنفسه ذات يوم صنماً من التمر ، يلصق بعضه على بعض حتى يسويه على صورة البشر أو على أية صورة شاء ، ويسجد لهذا الصنم ، عمر يفعل هذا ، ولكن غرائز الحياة أقوى من عمر وأقوى من كل الناس . ذات يوم يجوع عمر في ذلك المكان الذي يتعرض الناس فيه للجوع ، فـي كل آناة السنة ، يجوع عمر فلا يجد إلا صنمه هذا فيعدو عليه ويأكله .

هل نستطيع أن نتصور أن السخف وقلة العقل وقصور الإدراك يبلغ من شخص كعمر بن الخطاب أن يعمل صنماً من طعام ثم يأكل الإله الذي يعبده ؟ ذلك مستحيل . وكيف نتصور أن رجلاً على أريحية عمر بن الجموح رضي الله عنه ، حينما يدخل الإسلام بيوت الأنصار ، وكما سبق أن قلت لكم من قبل فإن العرب درجت على أن يكون لكل قبيلة صنم ، واستكثرت من الأصنام ، فأصبح لكل بيت صنم ، ثم استكثرت فأصبح لكل راكب يسافر من مكان إلى مكان يأخذ معه حجارة من حجارة الحرم إن أمكن ، وإلا فمن أي البقاع شاء ليجعلها له إلهاً يستخيره ويستشيره ويسجد له ويطوف من حوله كطوافه حول بيت الله المعظم . عمرو بن الجموح سيد من سادات الأنصار ، رجل يتمتع بالإدراك الكامل ، له صنم نحته من الخشب في بيته ، يتقرب إليه في الصباح وفي المساء وفيما بين ذلك . حينما دخل الإسلام بيوت الأنصار عدا فتية من الأنصار على بيت عمرو بن الجموح ، فأخذوا الصنم وألقوه في مكان تتجمع فيه القاذورات ، فلما أصبح وافتقد صنمه فلم يجده ، فذهب يفتش عنه ، فوجده في هذا المكان الذي لا يليق بالناس ، ولا يليق بالحيوانات الحية ، فكيف يليق بالآلهة ؟ فأخذه وغسله وطيّبه وأعاده إلى مكانه . وما زال يفعل هذا والفتية المسلمون يفعلون ما فعلوه من قبل ، حتى انتهوا إلى أن ألقوه بين القاذورات بعد أن ربطوا به كلباً ميتاً ، حين ذلك تفكّر الرجل أن هذا الصنم لو كان إلهاً لدفع عن نفسه ، ولكن عدم قدرته في أن يدفع عن نفسه عدوان العادين يدل على أنه ليس صنماً .

فالأمة العربية كما يجب أن يستقرّ في أذهاننا ونحن نواجه دراسة علمية لوقائع السيرة وحقائق التاريخ العربي في ذلك الزمان الغابر ، يجب أن لا نتصورها بهذه الدرجة من السذاجة والانحطاط العقلي .

لكن هناك قضية ، ما زلنا حتى الآن نلمس آثارها ونعرف خطرها بالتمام والكمال ، إن الإنسان بما هو إنسان محدود الطاقات والمجالات ، وسائل المعرفة لها حدود تنتهي عندها ، ثم تقف من بعد ذلك مستحسرة عاجزة ، هذا الإنسان ما لم يكن نقي القلب ، صاحي الوجدان ، لا يمكن أن يصيخ إلى سماع صوت الفطرة الذي ينادي أن هذا الكائن الإنساني مخلوق ، وهذا الإنسان على الجملة ما لم تتداركه من الله عناية فلا يمكن أن يعرف أن لهذا الخلق خالقاً ولهذا الوجود موجداً ، وحتى لو هدته نوازع الفطرة وموحياتها إلى أن هذا الكون موجود عن موجد ، ومستحيل في قضية العقل أن يوجد من غير موجد ، فإن الصفات التي تنبغي لهذا الموجد لا يمكن أن يدرها العقل ، مستقلة , وإنما ينبغي لهذا الموجد من التعظيم والإجلال لا يمكن أن يصل العقل مستقلاً إلى إدراكه ، فلا بد من الرسالات التي تخبّر عن الله جل وعلا عن ذاته الكريمة وما يريده للناس وما يريده من الناس ، ومن هنا كانت الرسلات الإلهية مجلى ومظهر رحمة الله بهذا الإنسان الضعيف العاجز الذي لا يستطيع أن يستقلّ بشئونه بنفسه .

الإنسان وهو ينظر مجرداً من رسالات الله ، وأحب لكل الإخوة أن يصيخوا بعقل ، ويصيخوا بأمانة ، وأن يسمعوا بإنصاف ، وأن يفكروا بحريو ، مفصولين عن كل الضغوط التي توجدها الشهوات ، وتوجدها ضغوط المجتمع من خارج . الإنسان يستحيل إن لم يتعرف من واقع الرسالات ومن الوحي على ما يصلحه ، يستحيل عليه أن يصلح حاله . وهذه الإنسانية منذ أن بدأت أن تدوّن آثارها على قطع الطين قبل عشرات الألوف من السنين وإلى اليوم ، تاريخها صفحة منشورة أمام الناس لمن يريد أن يقرأ وأن يعرف ولمن يريد أن ينصف . لو شئنا أن نلخص تارخ الدنيا منذ أو وجدت إلى الآن لقلنا إنه الصراع ، الصراع على الضرورات وعلى التفاهات وعلى الشهوات . أما الهدف الإنساني الكريم ، أما الغاية الإنسانية النبيلة ، أما المستقبل المضيء الباسم الذي ينبغي أن يهطع الإنسان إليه فذلك غير موجود إلا في فترات لامعة مضيئة هي فترات النبوات إبان ازدهارها وإبان نمائها .

هذا الإنسان حينما يرى نفسه وحيداً في الكون ، ويرى نفسه صغيراً غاية الصغر ، لنفترض أنه آمن باستحالة أن يوجد من غير موجد ، وقرر أن الله أوجده ، او أن أية قوة من القوى أوجدته ، فالإنسان عنده انطباع ، انطباع ناتج عن العجز الجبلي والفطري في الإنسان بأن القوة العليا لا يمكن أن تتقبل مباشرة الشيء الدنيء ، وأن القوي القوي لا يصلح أن يقابل الضعيف الضعيف ، من هذا المنطلق الإنساني البسيط انطلقت أفهام العرب وغير العرب في اتخاذ الأصنام .

هم قالوا إن الله في عليائه وفي سماواته وفي كمالاته وفي جلاله أعلى أجل وأمنع وأعز وأرفع من أن نخاطبه نحن المخلوقين مباشرة ، ولو شئنا تحليلاً مجتمعياً لوجدنا أن الناس قاسوا المسألة على ما يشهدون في الدنيا . فالإنسان إذا ذهب ليخاطب رئيس الدولة ، فبينه وبين رئيس الدولة عدد من الحجاب وعدد من الأبواب ، لا بد له لكي يوصل حاجته من أن يوسط هؤلاء الحجاب ، ومن أن يطرق هذه الأبواب . كذلك قالوا إن الله أجلّ من أن نرفع حوائجنا إليه مباشرة ، فلا بد من أن نتخذ الأصنام والأوثان لكي تقربنا إلى الله ، ولكي تكون واسطتنا ووسيلتنا إلى الله تعالى . ولا تعجبوا ، فما من أحد منكم لم يسمع بأفلاطون ، وجرى مجرى المثل حينما يراد أن يُمتدح إنسان بالذكاء والقدرة العقلية يقال : فلان أفلاطون زمانه . حتى هذا العقل الكبير الذي ما تزال الإنسانية تحني رأسها إجلالاً للمواهب التي كان يتكتع به ، وللقدرات الخاقة التي كانت تتمثل به ، كان يرى أن الله صدر عنه الكون أيضاً ، وبعد أن صدر عنه لم ينظر إليه ولم يكترث به ، لأنه أعلى وأجل من أن يكترث بهذه المخلوقات الصغيرة .

فالعرب إذاً حينما عكفت على الأصنام تعبدها وتقرب لها القرابين وتريق عندها دماء الأضاحي ، فعلت ذلك لا إنكاراً لله جل وعلا ، ولكن ذهاباً للتنزيه من طريق مغلوط . مرة أخرى ، العرب ما أنكرت الله ، ولكنها أرادت أن تنزه الله تعالى فسلكت الطريق الخطأ ، أرادت أن تنزه الله فتصورت أن الله بعيد عن الإنسان ، والله أقرب للإنسان من حبل الوريد . وأرادت أن تنزه الله فرفعته عن أن يقبل مقام الجلال والكمال أن يخاطبه المخلوق مباشرة ، والله تعالى قال ( ادعوني أستجب لكم ) فهذا الانحراف الذي واجهه محمد صلى الله عليه وسلم في تصور الإلوهية هو الذي انصبت عليه الآيات التي نتلوها الآن ( سبح بسم ربك الأعلى ، الذي خلق فسوى ، والذي قدّر فهدى ، والذي أخرج المرعى ، فجعله غثاءً أحوى ) أرادت هذه الآيات وما شاكلها أن يعمل رسول الله صلى الله عليه وتعمل المجموعة التي آمنت معه بحقائق هذا الدين وبآيات الله جل وعلا على أن تقتلع كل هذه الجذور والأشواك والنباتات الضارة التي وُجدت حول مسألة التوحيد ، إن الله جل وعلا قريب من عباده ويسمع دعاءهم ويستجيب لشكاتهم ويرحمهم ، وإن الله تعالى لا يحتاج إلى وسائط ، ، والوسائط خطأ ، وإن من تسبيح الله تعالى أن تمكّن الصلة بين الإنسان وبين الله جل وعلا ، وما سبّح الله وما نزّه الله من أشرك معه آلهة أخرى على أي نحو من الإشراك ، ولهذا نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الوطأة على الذين يشرّكون ولو من طرف خفي ، جاءه رجل ذات يوم : ما شاء الله وما شئت . فقال النبي صلى الله عليه وسلك مستنكراً غاضباً : ويحك أجعلتنب لله نداً . وما مشيئة الإنسان إلى جانب مشيئة الله تعالى ، إن مشيئة الله طليقة لا يحدها حد ولا يقف في وجهها سد والله تعالى يفعل ما يشاء ويختار . والنبي صلى الله عليه وسلم حين أخذه الكرب ودخل في النزع في مرض وفاته كان يسمح عن وجهه برحاء النزع ويقول : اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، اللهم لا تجعل قبري من بعدي وثناً يُعبد . وهؤلاء الناس يترامون على القبور يتمسحون بها ، ويترامون على دعاء الأموات والأحياء يظنون فيهم نفحة من قدرة الله .

وأن هؤلاء الذين تدعونهم كشركاء وكشفعاء يبتغون إلى ربهم الوسيلة كما تبتغون أنتم الوسيلة ، ما عبد الله حق عبادته وما نزّهه حق تنزيهه مَن رأى لمخلوق في هذا الكون قدرة لها أي تأثير في مسار هذا الكون . كذلك ما عبد الله وما نزّه الله أبداً وما سبحه مَن جعل لحياته وحياة الناس نمطاً لا يستمدّ أصوله وقواعده وتشريعاته وقيمه وتصوراته من حقائق هذا الوحي الكريم ، فالناس الذين خاطبهم رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بهذا القرآن قبل أربعة عشر قرناً كانوا يضعون لأنفسهم قُطُر الحياة التي يريدونها ، ويضعون لأنفسهم الأنموذجات التي يريدون أن يحيوا عليها فجاءهم القرآن ينبههم إلى أن تقاليد القبيلة وأحكام العشيرة وتصورات البشر لا توصل إلا إلى الدمار ، وأن الخلاص في إسلام الوجه لله تبارك وتعالى ، ما لم تسلم وجهك لله حق الإسلام فأنت ضائع وهالك ، وإن البشرية التي تسير ولا تسير على هدى من هذا الكتاب المنير قد تنعم بالرخاء والبحبوحة سنوات قصاراً ، ولكنها تدمر نفسها ، أفأنتم محتاجون إلى دليل وقد عاصرتم الدليل الذي لا يُنقض والشهادة التي لا تخفى . في عام 1914 بلغ التكالب البشري وبلغ العداء البشري أوجه ، فانفجرت الحرب العالمية الأولى ، وقيل بعد عصبة الأمم إن الدنيا أقبلت على عهد رخاء وعلى عهد إخوة وسلام ، وجاءت مبادئ ويلسون الأربعة عشر ، فإذا هي هراء ، وإذ الكلام الذي يُكتب على الورق غير حقائق الحياة التي تتحرك بها نوازع الناس ورغبات البشر .

وجاء عام 1939 فانفجرت الكارثة أعنف من الأولى وأشد فتكاً وأعظم هولاً ، وأخذت من جملة البشرية ما لا يقلّ عن ستين مليوناً من الناس قضوا بلا جريرة وبلا ذنب إلا أنهم ذهبوا ضحايا المطامع وضحايا الشهوات وضحايا الاصطراع بين الأغنياء والكبراء وزعماء العالم ، وها نحن نعيش في عام 1976 على حافة رعب يعيش معنا في ليلنا وفي نهارنا ، لئن كان الناس في الحرب العالمية الأولى يخرجون ليتفرجوا على الحروب كيف تكون وعلى القتال كيف يحدث ، إن حروب اليوم المنتظرة لا تبقي ولا تذر ، إنها تصلك وأنت في عقر دارك ، قد لا تكون قنبلة تلقى عليك ، قد تكون نسمة طائرة في الهواء تستنشقها فتموت ، وإذا لم تمت فتستنشقها  فإذا أنت مستودع للتشوه العقلي والبدني يتسلسل منك إلى الأبناء والأحفاد ، إن هذا دليل ـ لا يمكن لأحد أن يدفعه ـ على فشل الإنسان في تفكيره وفي تقريره وفي تدبيره ، فلا بد للإنسانية كي تسبح الله وكي تنزه الله وكي توحد الله من أن تستمد منه فقط تصوراتها وقيمها وأخلاقها وتشريعاتها .

وفي ذلك الوقت كان الناس يتحركون على أرضية بشرية صرفة ، ولكن سُحقوا سحقاً ، والبشـرية اليوم محتاجة إلـى أن تعرف معنى ( سبح اسم ربك الأعلى ) . أترون هذه الدنيا التي تنادي بالأباطيل التي لا تريد أن تنتهي إلى التسبيح لله ؟ أترون هذه الدول التي تعمر شرق الأرض وغربها وشمال الأرض وجنوبها تجلس في مؤتمراتها ومنتدياتها تفكر وتخطط وتضع الخطط وتصدر من بعد البيانات تمجد هذا النتاج العقلي المتقدم جداً جداً جداً ، فإذا هي بعد سنة أو أقلّ تذهب لتقول : إن هذا النتاج بالذات دسيسة استعمارية بغيضة ، ثم يُعلق الذين قرروه على المشانق ، ذلك تسبيح ؟ ذلك تنزيه ؟ لا ، إنكم تريدون الخبال للدنيا ، وتريدون الدمار للعالم ، والله تعالى يريد لكم أن تحيوا إخوة ، يريد لكم أن تحيوا بشراً كاملين مكملين ، بشراً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن لكم غاية فانتهوا إلى غايتكم . غايتكم أن ترضوا الله جل وعلا في جعل أنفسكم عبيداً مستسلمين لإرادة الله ، إرادة الله تجلت في هذا القرآن ، تمثلت في هذا الإسلام ، فلتكونوا أنتم روّاد هذا الإسلام ودعاة هذا الإسلام . وسيمر معنا في الأسابيع القادمة إن شاء الله تعال مزيد من الأضواء التي تلقى على هذه القضية الأساسية الجوهرية التي صرف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم جانباً من زهرة شبابه ومن أحلى أيام عمره كي يُقرّ هذه الحقيقة في الأرض ، لكي تتحرك من بعد نماذج ، نماذج ما تزال الدنيا تسير نحوها لكي تحتذيها ولكن برجل عرجاء ، ما تزال الدنيا عقيمة عن أن تلد مثل أبي بكر ومثل عمر ومثل عثمان ومثل علي وأن تلد خالداً وغيرهم من الصفوة المختارة الذين حكموا فعدلوا ، وملكوا فرضخوا ، وسووا بين الناس ، وعاملوا الناس بالحسـنى ، فكانوا لفاقد الأب أباً ، ولفاقد الأخ أخاً ، ولفاقد العائل عائلاً ، وللناس جميعاً أمثلة على العدالة التي لا تحيد ولا تجنح مع قرابة ولا مع مودة ولا مع هوى .

هذه النماذج وهذه الأيدي النظيفة هي التي تحتاجها البشري اليوم ، لا أيدي الاخرين ولا أسمي ، فلقد أصبحت الأمور كلها مكشوفة ، والإنسانسة اليوم تعيش فضيحة ما بعدها فضيحة ، لا أسمي ، الأيدي التي تنقذ البشر وتنتشلهم من هاوية الدمار التي يركضون نحوها ركضاً هي الأيدي التي يصنعها القرآن ، وهي الأيدي التي يصوغها الإسلام ، فاعملوا على أن تكونوا كذلك ، أنتم أمل البشرية ، أمة محمد ورجال الإسلام ، غيركم لا يمكن أن يزيد الإنسانية إلا خبالاً ، ولا يمكن أن يزيد النار إلا اشتعالاً ، ولا يمكن أن يزيد المرض إلا بلاءً . فاعملوا واعزموا عزمتم المستمدة من الله كي تنقذوا أنفسكم وتنقذوا هذا العالم الحائر المتخبط .

والله تعالى يتولى هدانا وهداكم ويوفقنا إلى طريق الحق والصواب ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين .