الحلقة (2) من سورة المسد

العلامة محمود مشّوح

الحلقة (2) من سورة المسد

الحلقة (30) الجمعة 11 شعبان 1496 هـ-6 آب 1976

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

بسم الله الرحمن الرحيم

(إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون).

أما بعد أيها الإخوة المؤمنون.

ففي الجمعة الماضية وعلى سبيل التمهيد لفهم السورة الكريمة التي نحن بصددها سورة المسد عرضنا لكم صورة حياة أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم، والذي شذ عن قومه جميعاً بالعداوة والبغضاء والحرب لابن أخيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وكان لا بد من هذا العرض لكي يستقيم فهمنا لمدلولات السورة الكريمة، ورأيتم كيف كانت البداية، ثم كيف كانت النهاية على غرار ما اقتص الله جل وعلا من عواقب المكذبين والضالين والمحادّين والمحاربين لأنبياء الله وللذين يأمرون بالقسط من المؤمنين.

ونريد اليوم أن نواجه السورة وأن نحاول ما أمكن التعرف على الدوافع التي حملت عَمَّ النبي صلى الله عليه وسلم على أن يقف منه هذا الموقف النابي، هذا الموقف الشرس، كما نريد أن نتعرف على مدلولات السورة ومغازيها بصورة عامة، وأما التفاصيل؛ ففي ظني أن الوقت لا يأذن بالتوسع في بحث هذه التفاصيل ويحسن قبل كل شيء قبل أن نعرف دوافع موقف أبي لهب؛ وقبل أن نتعرف على مدلولات السورة أن ننظر في السورة باعتبارها صِيَاغَةً وشيئاً يتلوه الناس، ونريد أن نتعرف على هذا؛ لكي يقرأها القارئ حين يقرأها وهو على بَيِّنَةٍ مما ترمي إليه فالله جل وعلا يقول:

(تبت يدا أبي لهب وتب).

وأبو لهب كنية عَمِّ النبي صلى الله عليه وسلم، -واسمه عبد العزى بن عبد المطلب- ومع أن معظم الروايات تقول إنه أخذ هذا اللقب –أبا لهب- في الجاهلية قبل الإسلام، لأنه كان أشقر فكان يستحق هذا اللقب من تقارب لون بشرته مع لون النار؛ إلا أننا نرجح أن هذا اللقب لزمه في الإسلام ولم يكن معروفاً بذلك في الجاهلية؛ ففي كل تسميات الجاهليين، وفي كل كناهم لا نعرف اسماً ولا كنية لأحد الناس بهذا المعنى؛ فما يدعو إلى الغرابة أن يكنى أبو لهب بهذه الكنية في الجاهلية لا لشيء إلا لأنه كان يميل إلى الشقرة؛ فجزيرة العرب قديماً وحديثاً عرفت أنَاسيّ كثيرين بهذا اللون فما دعا ذلك إلى أن يطلق عليهم لقب أبي لهب وأبي جهل وما أشبه ذلك.. وكما لزمت كنية أبي جهل لزمت كنية أبي لهب. وآية ذلك أن السورة هي التي سمته أبا لهب ونبزته بهذا اللقب وكل من نبز بلقب كهذا في الإسلام لزمه إلى آخر الزمان، فأبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم تقول عنه السورة تبت يدا أبي لهب وتبّ. ما معنى التباب؟ التباب يقول عنه المفسرون إنه البوار والخسار والهلاك وأصابوا في ذلك من حيث هم نظروا إلى المآل -لا إلى جذر اللغة ولا إلى حقيقة الوضع- فالحقيقة أن كلمة تب في كتب اللغة العربية معناها القطع؛ فالخسار يلحق، والبوار والهلاك يلحق من دُعِيَ بهذا الكلام، من حيث أن الإنسان؛ إذا قطعت له يد واحدة فقد تكون اليد الأخرى صَنَاعَةً ولا يلزم من ذلك أن يكون خاسراً، لأنه قد يستعين على حوائجه وعلى مهماته باليد الباقية. وأما إذا تَبّتْ يداه جميعاً فقد خسر وبار عنده كل شيء؛ لأن الإنسان إذا قطعت يداه الاثنتان، فلا يمكن له أن يجلب لنفسه خيراً، ولا أن يدفع عن نفسه ضراً، ومن هنا قلنا إن المفسرين -رحمهم الله- حينما قالوا إن التباب هو الهلاك وهو البوار وهو الخسران فذلك باعتبار المآل؛ وإلا فمعنى التباب هو القطع؛ والصياغة تقول: تبت يدا أبي لهب. فتبت الأولى؛ هي صيغة دعاء؛ أي أن الله جل وعلا يدعو عليه بأن يكون من الهالكين الخاسرين؛ وتبت الثانية تقرير لحصول ما هو مدعو به؛ يعني أن الله جل وعلا يخبر أن الهلاك لاحق وحاصل لأبي لهب لا ريب في ذلك - ويأتي كما ينبغي أن لا يغيب عن بالكم- يأتي الفعل – تبَّ - سواء في الأول وهو على بابه في الأولى، أي أنه دعاء؛ والدعاء يكون بهذه الصيغة. ولكنه في الصيغة الثانية.. تبّ الثانية؛ يأتي بصيغة الماضي. الله يحكم عليه بأنه خاسر، متى؟ في الوقت الذي كان أبو لهب رجلاً حياً بين الناس، يسعى كما يسعون ويضطرب كما يضطربون ويكتسب كما يكتسبون ويعادي ويوالي ويصادق ويبغض؛ فهو قائم بين الناس، والكلام بهذا الشكل؛ إخبار بالماضي فمعنى ذلك حين يؤخذ الأمر على الحقيقة - أنه يجب أن يكون قد خسر بمجرد نزول الآية - لكن العرب في كلامها وقواعد بيانها ومنطقها؛ حين تريد أن تشير إلى شيء له صفة التحقق والوقوع - كشيء لا ريب فيه- تأتي به بصيغة الماضي، مع أن الهلاك الذي قرره الله جل وعلا لأبي لهب ليس في هذه الدنيا، والذي كان في الدنيا لم يقع بعد؛ فإن الله جل وعلا جاء به بصيغة الماضي على اعتباره شيئاً مفروغاً منه - لا بد أن يتحقق - هنا دقيقة لا بد من أن تستحضروها في أذهانكم.. لو كان الكلام كلام آدميين؛ لقلنا بلا تردد إن كلاماً من هذا النوع يحمل هذه الصيغة القاطعة في الإخبار يُعَدُّ من المجازفات؛ فمن ذا الذي يجرؤ على الإخبار عن المستقبل؛ أنت ترى الإنسان كافراً بالله العظيم، لكن هل تملك أن تقول إن هذا الإنسان الكافر سيكون كافراً أبداً؟ هل تملك أن تقول: إن هذا الإنسان الكافر سيدخل النار لا ريب؟ من يدريك؟ قد تُدْرِكُ هذا الإنسانَ رحمةُ الله التي وسعت كل شيء؛ فيدخل الإسلام ثم يدخل الجنة فلا يستطيع الإنسان أن يجازف باخبارات من هذا النوع؛ لكننا أمام كلام العلي القدير؛ أمام كلام الذي أنزل القرآن - نحن الآن كمسلمين نقرأ القرآن بعد مضي الحادثة وبعد أن تبين لنا أن أبا لهب خسر بالفعل- مات أشنع ميتة ومات كافراً واستحق النار بحربه لله وبتكذيبه لرسول الله وبإعانته قريشاً على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم - فهو خاسر عندنا - لكن ضعوا أنفسكم في تلك الأجواء البعيدة، حينما كان القرآن يتنزل، وحينما كان يواجه قوماً يُكَذِبُونَ محمداً صلى الله عليه وسلم، كان يخاطبهم بهذه اللهجة القاطعة بكلام الواقع قال لهم إن أبا لهب قد خسر - فمعنى ذلك أنه قد خسر - لكنها ريبة تبقى في قلوب الذين لا يؤمنون بالله ولا يؤمنون باليوم الآخر ولا يصدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فحين تمضي الأيام وفي نفوس المشركين هذه الريبة ولا يكاد يمضي كبير زمن حتى تكون الهجرة العامة، وحتى يأذن الله بأن - يلتقي على عينه - معسكر الشرك ومعسكر الإيمان وتنجلي المعركة عن الفوز المبين في صف المسلمين، وعن الخسران الكبير في صف المشركين؛ ويأخذ الهمُّ من أبي لهب مأخذه الذي لا مأخذ بعده؛ فيموت على كفره وعلى جحوده وفي صفحته السوداء مع الله ومع رسوله ومع المؤمنين؛ يتحقق هذا الإخبار على نحو يلفت نظر الذين ارتابوا والذين حين سمعوا هذا الكلام قالوا: ما يدري محمداً أن يموت أبو لهب كهذه الميتة. نحن الآن لا نرى غرابة طبعاً عرفنا الحادثة ومضى وتحقق ما وقع كما أخبر الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، إلا أنها آية بينة على صدق النبي عليه الصلاة والسلام، وآية بينة على مصدر هذا القرآن. أنه أُنْزِلَ من عند الله وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله تبارك وتعالى؛ فإذا مشيتم مع السورة فالله يقول: (ما أغنى عنه ماله وما كسب) دعونا من المال ومما كسب فسننظر في الاثنين حينما ننظر في أسباب الموقف الذي وقفه أبو لهب؛ لكن هل أغنى عن أبي لهب مَالُهُ الذي جمعه فأربى به في الجاهلية؟ هل أغنى عنه أولاده...؟ أما ماله فقد استأجر بجانب منه رجلاً يجزئ عنه - في حرب نبي الله - فما أفلح، ومات أبو لهب قبل أن ينقلب إليه الأجير؛ فلا الأجير أجزى ولا المال عاد، وذهب وكذلك الولد ابنا أبي لهب اللذان كان يمكن أن يتشرفا بمصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم لولا شقاوة الأب وشقاوة الأم وما كتب الله لهما في الأزل حينما مات أبوهما لم يدفناه كما يدفن سائر الناس ولم يحتفلا بموته كما يحتفل بموت سائر الناس ألقي في حفرته دفعاً بالعصي وتُرك في بيته ليلتين أو ثلاثاً حتى أنتن؛ ويقال إنه حُمل فألقي إلى جدار ثم قُذفتْ عليه الحجارة قذفاً من بعيد حتى غطته؛ فأية نهاية وأي غنائم كان لأبي لهب من المال الذي جمعه، ومن الأولاد الذين كان يعتز بهم ويستطيل بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أَنْ لَمْ يَكُنْ له من ولده ذكر يتعزز به كما يتعزز أبناء الجاهلية، ثم يقول (سيصلى ناراً ذات لهب) ما كان في الأول - في الآيتين الأوليين - فقد رآه الناس عياناً كيف خسر أبو لهب، وكيف كانت العاقبة المهينة الأليمة، وكيف بطل فعل المال، وكيف بطلت معونة الولد؛ رآه الناس عياناً؛ لكن الذي لم يروه: المآل الذي يخبر الله عنه أنه أعدَّ له ولكل المكذبين الضالين من طبقته ومن أمثاله، ناراً يصلاها ذات لهب تتسعر وتتلظى، وامرأته، ليس فقط هو - وإنما أيضاً امرأته - شريكة له في هذه النار كما كانت شريكة له في نار العداوة والبغضاء التي أوقداها في الدنيا. وقوله تعالى: حَمَّالةَ الحطب فلا أدري أيفيدكم شيئاً أن أقول لكم إن إفراد هذه الكلمة، بالنصب (حمالةَ الحطب) جاءت على المعهود من طرائق العرب في البيان حينما تهتم بإبراز أمر وتريد أن تُبِيْنَه عن كل ما حوله؛ تعطيه النصب فالله جل وعلا حينما يقول وامرأتُه بالرفع، ثم يقول حمالةَ الحطب بالنصب؛ يريد أن يشير إلى معنى يعنى الله جل وعلا بإبرازه في أذهان الناس؛ هذه المرأة الكريمة في قومها أخت أبي سفيان - سيد البطحاء بلا منازع وبلا مدافع - ماذا كانت تفعل كانت تحمل الحطب؛ وسواء لدنيا إن كان المراد ظاهر اللفظ أو كان المراد هو المجاز؛ إن كان المراد أن أمَّ جميل زوجة أبي لهب كانت تحمل الشوك والحسك فعلاً وحقيقة، فتنثره في الطريق الذي يمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصد الإيذاء، أو كان المراد أنَّ حَماَّلةَ الحطب كناية عن السعي بالدسائس والفتن وتأريث العداوات والأحقاد فذلك غير مهم المهم أن الله جل وعلا أبرزها بهذا الشكل، ليبرز شناعة الأمر الذي قامت به، في ظني أننا غير محتاجين إلى المجاز وأننا يمكن بل الأدعى إلى الاطمئنان أن نصير إلى الحقيقة، وأن نقرر أن أمَّ جميل كانت تحمل الحطب فعلاً، وكان تلقيه شوكاً وحسكاً في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس في الجاهلية ما عندهم هذه الأحذية التي تحول بين أقدام الناس وبين الشك؛ فَجُلُّ الناس كانوا يمشون حفاة، وعليٌّ رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين في الكوفة كان يحضر صلاة العيدين حافياً، يخوض في الطين. والذي يحملنا على أن نرجح جانب الحقيقة هو ما لهذا الأمر من الإيذاء؛ ولكي تكتمل الصورة عندكم فينبغي أن تعلموا أن بيت أبي لهب، كان مجاوراً لبيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ وتصوروا الإيذاء الذي يتعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم من قارص القول وبذيء الكلام؛ يسمعه من وراء الجدران، من هذا الجار النبيل والعم الكريم، وتصوروا أن هذا النبي الكريم يخرج من بيته فإذا زوجة عمه قد هيأت له حسكاً يدوسه، فلا يكاد يستقار على الأرض، تصوروا هذه الجيرة لقد أذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في استعاذته: "اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة فإن جار البادية يتحول". في البادية -لا قصور ولا غرف ولا أبنية ولا طوابق- خيمة تقوم على عدد من الأعمدة، حينما لا يعجبك جارك تحمل خيمتك على راحلتك وترحل إلى حيث تأمن بوائق هذا الجار؛ ولكن ماذا تفعل إذا كانت الجيرة مبناها على الاستقرار فأنت مضطر إلى أن تسمع الأذى، وإلى أن تشهد النكر في الصباح وفي المساء وفيما بين ذلك، تصوروا هذه العيشة وتصوروا هذا الألم الذي كان يلحقه هذا العم الفاسق بابن أخيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصوروا هذا الأذى الذي كانت تلحقه هذه الفاجرة امرأة عمه برسول الله صلى الله عليه وسلم شوك - في الآذان على هيئة كلام لا يليق، وشوك في الأرجل يُنْثَرُ له في الطريق - إن هذا لعذاب لا يكاد يطيقه إلا أولو العزم من الناس؛ فالله جل وعلا أبرزها بهذا الشكل ليبرز سوء الملكة التي عليها حمالة الحطب، وليبرز سوء الجيرة التي كانت مفروضة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ويقيناً لو ملك النبي صلى الله عليه وسلم ما يرحل به لرحل ولكن أنى له ذلك وهو لا يملك أن يبني له داراً غير الدار التي خلفها له أبوه الذي مات منذ زمن بعيد، وصُبَابة المال التي كانت بين يديه عليه السلام مما ورثه عن أبيه ومما حصل عليه في التجارة ومما جاءه من طريق زوجه أمَّ المؤمنين خديجة رضي الله عنها وأرضاها، أنفقه عليه الصلاة والسلام على مصالح الدعوة وفي سبيل الله تبارك وتعالى، فهذه هي السورة بإيحاءاتها وبإشعاعاتها - عَلَمٌ من أعلام النبوة - ثم هي تكشف عن الحالة الأليمة التي كان يتعرض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا العم العجيب.

نرجع الآن لنتساءل لماذا وقف أبو لهب من رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا النحو؟ ألم يكن أبو لهب جديراً بأن يكون ساعد رسول الله الأيمن؟ ألم يكن حقيقاً بأن يكون معيناً له على أمر الله تبارك وتعالى؟ هل كان هناك ما يبرر مثل هذا الموقف؟ إن الناس اضطربت آراؤهم في هذا المجال. ولعل أعجب ما قيل أن أبا لهب كان متأثراً بزوجته أمّ جميل، وأمُّ جميل من بني أمية، وبين هاشم وأمية عداء معروف في الجاهلية كانت بينهما منافرة على عادة الجاهليين، أدت إلى أن يخسر أمية الرهان وأن يرحل فيسكن الشام عشر سنين؛ ولكنّا لا نستطيع أن نقبل تفسيرات ساذجة سطحية فجة من هذا القبيل - لعدة أسباب – أولاً: فإننا نعرف من تتبع خلائق بني هاشم أنهم قوم يغلبون نساءهم ولا تغلبهم نساؤهم، هذه خليقة معروفة، وحينما ترى رجلاً يذل لزوجه فاحكم سلفاً أنه لا يمت إلى بني هاشم بصلة. هذا عبد نساء وليس عبداً لله فبنو هاشم لا في جاهلية ولا في إسلام كانوا مطايا لزوجاتهم منفذين لرغبات هؤلاء الزوجات، هذا من جهة من جهة أخرى فإن من أكبر الأخطاء حينما ندرس واقعة تاريخية أن نحاول تفسيرها إلى عامل وحيد، هذا خطأ، الواقعة التاريخية نسيجٌ متشابك من عدد لا يكاد يتناهى من العوامل فحين نحاول أن نفسر الواقعة التاريخية بجانب واحد بسبب واحد؛ فنحن نسقط في سذاجة لا يبررها شيء من قواعد منهج البحث التاريخي بحال من الأحوال. هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن العداء جاء من ناس كثيرين من قريش؛ وقريش كانت تحملها على الموقف هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم عوامل متعددة فليس معقولاً أن نصرف النظر عن العوامل التي حركت بالعداء معظم قريش فلا نحاول أن نسحبها على موقف أبي لهب، ولا داعي لأن نذهب بعيداً أبداً، لو أننا فتحنا القرآن واستشرناه في هذه الدوافع والمحرّكات، التي حركت القرشيين، فوقفتهم موقف العداء من هذه الدعوى ومن نبيها الكريم عليه الصلاة والسلام لوجدنا عدداً كبيراً من الأسباب.. في رأس هذه الأسباب، أن العرب بمفاهيمهم الجاهلية لم يكونوا يستوعبون أن تكون الزعامة للأحداث وللشباب. فمن المعروف وحتى الآن عند القبائل البادية توجد هذه الخصلة حتى الآن، فمن المعروف أن شيخ القبيلة أن زعيم القبيلة يجب أن يكون ذا سن، أما الأحداث وأما الشباب فهم تبع، فمسألة طاعة الكبير للصغير في العرف الجاهلي مسألة مرفوضة؛ فحين قام النبي صلى الله عليه وسلم يدعو قام وهو على رأس الأربعين من عمره، صحيح الأربعون ليست شيئاً هيناً ولكنه بالنسبة للشيوخ من قريش ما يزال يُعَّدُ حدثاً لأن قريشاً فيها من قارب المئة، وهم بحكم المفاهيم الجاهلية، هم أهل الرياسة وهم أهل الزعامة، وهؤلاء الشباب من أمثال محمد عليه السلام؛ عليهم أن يفيئوا إلى حكمة الشيوخ وأن ينصاعوا إلى رأي الشيوخ هذه واحدة. والثانية أن عوامل أخرى كثيرة كانت تحرك الأمر فالقرآن يقص علينا أن التحاسد عمل عمله في إبراز هذه المواقف، التحاسد جعل كثيراً من الناس لا يقبل الدعوة ولا ينصاع لها - وهذا داء في الإنسانية قديم مع الأسف الشديد- فما زلنا نرى ونسمع أناساً كثيرين يرفضون السير في طريق الهدى وعلى الصراط المستقيم، لا لحجة ناهضة ولا لقضية صحيحة من قضايا العقل أبداً، ولكن لأن فلاناً من الناس هو الذي يدعو إلى هذه الطريقة؛ فمن أجل أن فلاناً هو الذي يدعو فأنا أكفر بالطريقة وأكفر برب الطريقة أيضاً - هذا مع الأسف داء في الإنسانية قديم - وهذا هو الذي ينتج الحسد ونحن نقرأ في القرآن الكريم إشارات عديدة جداً تشير إلى هذا، فالمشركون يتساءلون كما يقص الله عنهم في سورة "ص" فيقولون: (أأنزل الذكر عليه من بيننا) ترك الله كل الناس ولم يختر إلا محمداً صلى الله علي وسلم (أأنزل الذكر عليه من بيننا بل هم في شك من ذكري) إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، (أأنزل الذكر عليه من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب) هذا الكلام أو هذا التفكير لا يمكن أن ينتجه عقل يؤمن الله واليوم الآخر، لو أن قائل هذا القول يؤمن بالله لعرف، أن الله لا مستكره له ولا قيد على إرادته، وأنه يهب الخير لمن يشاء ويمنعه ممن يشاء وكذلك قص الله علينا كما جاء في سورة الأحقاف:

(وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه وإذا لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم).

وكذلك قالوا:

(لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم).

كانوا يتصورون حين تكون الأمور أمور اختصاص وأمور تشريف وتكريم وأمور قيادة يجب أن ينزل على شيخ من الشيوخ في مكة أو شيخ من الشيوخ في الطائف، فنحن لا نستطيع حينما ننظر في قضية العداء بين أبي لهب وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعزل هذه الظاهرة عن أسبابها الواضحة في المجتمع الجاهلي، هنالك أناس وقفوا من الدعوة في مراحلها الأولى وحتى في مراحلها الأخيرة، لا بدافع الحسد، ولا بدافع استعظام أن يختص الله شاباً من شباب قريش للدعوة، ولكن بدافع آخر هو الخوف على المركز والخوف على المال والخوف على المنصب والله جل وعلا في هذه السورة وكما جاء في الروايات التي عرضناها في الجمعة الماضية جاءت الإشارات إلى هذه الناحية قال لله تعالى: (ما أغنى عنه ماله وما كسب) ففي الحقيقة فإن كثيرين من الجاهليين ما كان يصدّهم عن الدعوة شكُّهم برسول الله، فهم يعرفون صدقه، ولا كان يصدهم عن الدعوة عدم اقتناعهم بصحة ما دعا إليه رسول الله فهم مقتنعون بذلك، ولكنهم تصوروا أنهم لو آمنوا ودخلوا فيما دخل فيه الناس فأين سوف تذهب المكاسب والمغانم والرفاهية التي هم عليها؛ حتى في المراحل الأخيرة من الدعوة نسمع هذه الشنشنة (وقالوا إن نتبع الهدى معك نُتَخَطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرماً آمناً يجبي إليه ثمرات كل شيء) فالناس - في العادة لا يقدمون إلا من عصم ربك - على اقتحام العقبة وعلى تحمل نتائج المغامرة خوفاً على ما هم فيه خوفاً على المال أن يتبدد، خوفاً على الأولاد أن يتعرضوا إلى للمهالك، خوفاً على جملة المكاسب، والمطامع المتحققة لهم، فأبو لهب إنسان من الناس الذين عاشوا تلك الفترة وخضعوا لكل العوامل التي كانت، وقد أزيد كما ذكرت ذلك منذ زمن حينما كنت أتحدث إليكم حول هجرة الحبشة منذ عدة أشهر قد أزيد أن أبا لهب خاضع لدافع لا يمكن أن نحذفه ونحن نعلل لهذا الموقف، دافع العصبية - ولا غرابة - فأبو لهب حين دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى ما دعا إليه من الحق والنور والهدى؛ تصور كَلَبَ قريش وصور لنفسه ماذا سيكون عليه الحال حينما تجتمع قريش كلها على عداوة بني هاشم حينئذ. فالعشيرة سوف تغدو بدداً ومزقاً، ولا يمكن أن تقوم لها قائمة، فهو بدافع العصبية والحرص على العشيرة وقف من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا نجد الروايات تنص أن أبا لهب حينما خاطب قومه بالدعوة قال يا معشر بني هاشم؛ خذوا على يديه قبل أن ترميكم العرب عن قوس واحدة، فهو كان يدافع عن مصالح العشيرة وبهذا بقي ثابتاً على هذا الموقف حتى النهاية، حتى في أشد المواقف حراجة وضيقاً، حينما تعاقدت قريش وتعاهدت على أن تقاطع بني هاشم المقاطعة العامة وحصرتهم في شِعْب أبي طالب سنتين ونصفاً أو ثلاث سنوات  كلُّ بني هاشم دخلوا الشِعْب مع رسول الله ومع المسلمين مسلمهم وكافرهم، إلا ما كان من أبي لهب فإنه بقي في عَقْد قريش وعهد قريش؛ حريصاً على أن يظل هناك - كي يمكن له في المستقبل إذا أُطْبِقَ على العشيرة- أن يدافع عنها بعض الشيء فعامل العصبية ليس بعيداً. نحن كما قلنا لا يمكن أن نأخذ سبباً واحداً من الأسباب لنفسر به الواقعة التاريخية؛ لأن الواقع التاريخي بكل بساطة مجموعة متشابكة لجملة من الأسباب لا تكاد تتناهى - هذه هي الأسباب - فما مغازي السورة.

أول ما يخطر على البال هذه الحملة القاسية، استعرضوا القرآن من أوله إلى آخره واستعرضوا الأسماء التي وقفت من رسول الله صلى الله عليه وسلم موقف العداء والبغضاء والشراسة والحرب والقتال لم يُذْكَرْ أحدٌ منهم باسمه إلا أبو لهب، كلهم ذكروا بالجملة وبأوصافهم، لكن أبا لهب ذكر بالاسم، هل كانت عداوة أبي لهب أشد من عداوة الآخرين؟ لا، الآخرون كان منهم من هو أكثر عداء وأشد شراسة من أبي لهب بكثير، لكن المسألة لها جانبها الذي يجب أن لا يخفى على أحد؛ حينما ينظر في هذه الأمور متحرياً أن يعرف قواعد هذه الدعوة وخطوطها في العمل والحركة، فهذه الدعوة كما فهمتها العرب منذ البداية منذ أن قال الله (لا إله إلا أنا فاعبدون) ومنذ أن قال لهم رسول الله "يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" منذ ذلك التاريخ ومنذ اللحظات الأولى أدركت العرب بحسها السليم وبسليقتها اللغوية المستقيمة، أن معنى لا إله إلا الله: تساوي العباد، فإذا كان الله واحداً وهو خالق الكل فالكل تحت لوائه، سواء لا يمكن أن يمتاز واحد على واحد ولا يمكن أن يفترق زيد من عمرو، من حيث القيمة البشرية ومن حيث الاعتبار الإنساني، هذه القضية البسيطة ككل القضايا الهامة والحاسمة في التاريخ البشري بسيطة جداً لا تحتاج إلى تعقيد، ولكنها تثير ردود فعل عنيفة للغاية، حين يقال هذا الكلام في مجتمع جاهلي يفكر على النمط الذي تعرفون، من ضمن منطلقات القبلية، من ضمن منطلقات العشائرية، من هذا التمايز في كثرة الأولاد وكثرة الأموال وتوارث المناصب والقيم الجاهلية في مجتمع كهذا حينما تنطلق الدعوة إلى الأخوّة العامة في الله تبارك وتعالى، وإلى إسقاط الامتيازات وإلى إسقاط المزايا التي لا يسندها أي مبرر من القيمة الذاتية للإنسان؛ فلا بد لكل إنسان ذي ميزة في المجتمع القديم أن يثور، ومن هنا فقد رأينا أن المشركين ثاروا على النبي صلى الله عليه وسلم منذ بداية الطريق. ولكنهم حينما قام بينهم شعراء وحكماء وحنفاء يعيبون عليهم عبادة الأصنام، دون أن يقدموا المنظور الصحيح لقضية الألوهية وللقضية الاجتماعية ما أبهوا بهم ولا اكترثوا لهم؛ تركوهم ماتوا كما ماتت آلاف الناس وملايين الناس لم يأبه بهم أحد؛ أما حينما طُرحت عليهم هذه القضية بهذا الشكل، فإن الأمر اختلف، إننا نقول هذا الكلام بين أمة تعتقد أن قريشاً بمكانها من البيت لها الميزة على العرب عامة، وبين أمة تعتقد أنها كأمة عربية لا يمكن أن تساميها أمة من الأمم على الإطلاق، وحرب ذي قار التي وقعت في أواخر العصر الجاهلي كان سببها أن كسرى أراد أن يُصْهِرَ - أن يتزوج - بعض النساء العربيات، ومع أن الأمة العربية كانت ضمن سيطرة الفرس وتحت قهرهم، فإن العرب بما أنهم عرب وباحتقارهم لغيرهم من الناس رفضوا أن يزوجوا كسرى ملك الفرس، وثاني رجلين هما اللذان كانا يسودان العالم القديم؛ فقامت الحرب بينهما.. بين العرب وبين الفرس لهذا السبب.. أمة ترى أنها هي خير الأمم يقال لها أنتم وسائر الناس سواء وقبيلة ترى أنها خير القبائل يقال لهم أنتم وسائر الناس سواء، أكثر من ذلك أمة هذا شأنها تنظر إلى ساحة الدعوة، فترى التطبيق العملي أمام عينيها ترى أن الدعوة تضم محمد بن عبد الله في الذؤابة من بني هاشم، ترى أن الدعوة تضم أبا بكر سيد بني تيم، ترى أن الدعوة تضم عمر سيد بن عدي، ترى فلاناً وفلاناً من الأسياد إلى جانبهم.. مَنْ؟ بلال، عمار، صهيب، سلمان، زنّيرة هؤلاء الأعبد الذين ينتمون إلى الأمم الأخرى عرقياً، وينتمون إلى الفئات الدنيا اجتماعياً، هل يمكن لهؤلاء الناس أن يستوعبوا شيئاً كهذا؟ لا. ولهذا فالله جل وعلا حين يختار من كل المعادين للنبي وكل المجترئين على الدعوة إبراز اسم أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم، الذي هو في الذؤابة من بني هاشم، وبنو هاشم في الذؤابة من قريش، وقريش ذؤابة العرب. يعني تختار الخيار من الخيار من الخيار لتجعله بلا قيمة ولتجعله سُبّة إلى آخر الدهر؛ طالما بقي في هذه الدنيا ناس، فهم يقرؤون مذمة أبي لهب عم محمد صلى الله عليه وسلم فإن هذا العمل لا يكون بلا معنى ولا يكون بلا فائدة ولكنه يكون لإقرار هذه الحقيقة الضخمة، وهي أن هذا الدين دين الله، وأن الله رب العالمين، وأن الناس كلهم إخوة وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني شهيد أن العباد كلهم إخوة" فهذه المزية التي يمتاز بها الدين، هي التي عبّرت عنها هذه السورة الكريمة وما من شك في أنها أعجوبة.. أعجوبة في زمانها، وأعجوبة حتى الآن ولعمري إن هذا الدين الذي أكرمنا الله بالانتماء إليه ونرجو أن يكرمنا بالدعوة إليه، ونرجو أن يكتب لنا الشهادة في سبيله إن شاء الله.. لعمري إن هذا الدين فيه خصيصة من النظام الكوني العام، ولئن ذهبتَ إلى القرآن تتقرّاه لتجدن الله تعالى يقول لك في سورة المؤمنون:

(فإذا نُفِخَ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين).

فماذا تفهمون من هذا الكلام؟ إذاً بطل كل ما يشقشق به الناس وانقلب الناس إلى ربهم حين يعمل قانون الكون ومطلق العدالة الإلهية، فأين التمايز بالأنساب والأحساب والألقاب، هنالك ميزان ثقيل راجح، وميزان طائش، فالذي يُثْقِلُ الميزان هو العمل الصالح، لا الانتماء للعرب ولا الانتماء لبني هاشم ولا الانتماء إلى محمد بالذات والذي يجعل الميزان يطيش ويخف ويلقي بصاحبه إلى نار جهنم العمل الباطل العملُ السيئ الذي يوبق الإنسان، هذا الدين فيه خصيصه من هذا النظام الكوني الذي لا يتخلف أرأيت الناس أمام الله جل وعلا كيف يقفون لا يقدم ولا يؤخر إلا العمل فكذلك في ساحة هذا الدين حينما يأتيه الناس يهطعون للدخول فيه، فإنما يقدم المتقدم عَمَلُهُ ويؤخر المُتَأَخرَ عَمَلُه هذا الإسلام من حيث هو كذلك كان جميع الضالين والمضلين وجميع الفاسدين والمفسدين وجميع أعداء الحياة وجميع أعداء الإنسانية يحاربونه في القديم وفي الحديث.

يا إخوة ارجوا إلى صغائر الأمور حينما نقول عن فلان إنه إنسان لا يفكر إلا بنفسه لا يفكر بأولاده ولا يفكر بأسرته فهذا إنسان سيء بلا ريب.. الإنسان الذي يفكر بأسرته وأولاده خير منه حينما نقول هذا الإنسان يفكر بأسرته فقط ولكنه لا يلتفت إلى جيرانه ولا إلى حيه فلا شك أن الذي يهتم بجيرانه أفضل وأطيب وأكرم عنصراً وأكثر فائدة للإنسانية من الذي يَقْصرُ اهتمامه على أهل بيته حينما يهتم الرجل بجيرانه ولا يكترث بأهل مدينته فهو إنسان قاصر الهمة حينما يكترث بمدينته ولا يكترث بقضايا أمته فلا شك أن الذي يكترث ويهتم بقضايا الأمة خير من الذي لا يكترث بهذه القضايا ويكتفي بدائرة أضيق.. إلى هنا تقف الإنسانية في القديم وتقف اليوم تقف عند حدود الأمة لا أدري لماذا ينكسر المنطق عند هذه النقطة لماذا لا نقول إن الإنسان الذي تتراحب تصوراته وتتسع مداركه وتتراحب أيضاً اهتمامه حتى تشمل الإنسانية جمعياً. أفضل بما لا يقاس من الإنسان الذي يقف باهتماماته عند حدود أمته.

إن المسألة قريبة وهي بعد فطرية وواقعية فلا شك أن الأمر أمر منطق صارم للغاية ولكن الأغراض والأطماع والشهوات والمصالح القريبة تعمي الناس عن الحقيقة التي يجب أن يكون عليها الإنسان هذا الإسلام لم يأت لأمة من الأمم بعينها بذاتها وإنما جاء للناس عامة والنبي صلى الله عليه وسلم قال كما قال له ربك:

(يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض).

ولم يقل كما قال عيسى عليه السلام: "إنما بعث إلى خراف بني إسرائيل الضالة". لا؛ محمد عليه الصلاة والسلام رسول الله إلى الإنسانية جميعاً وهذه حقيقة لا تنتطح فيها عنزان ولا يختلف فيها اثنان ومع ذلك فإن الضالين والمضلين من أبنائنا يريدون منا أن يقتصروا بالإسلام على هذه الأمة وأن يجعلوه خادماً لمصالح الأمة فقط وأعداء الإسلام من الضالين والمضلين أيضاً من مشتركين ومستعمرين ويهود وما أشبه ذلك أعدلهم قولاً وأعدلهم طريقة هو الذي يقول إن الإسلام حق ولكنه دين إلى العرب خاصة لا يتجاوزه إلى غيرهم. نقول:

لئن كان الكلام الذي عُرض، ولئن كانت الحقيقية التي طرحها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرناً حقيقة لازمة في ذلك الزمان لهي اليوم أشدُّ لزوماً وأكثر حساسية بالنسبة للعالم انظروا إلى الساحة الإنسانية فالناس كلهم الآن على ظهر هذا الكوكب المنكوب بهذا الإنسان الكنود، الجحود يتصارعون على أي شيء على قيم ومبادئ وأخلاق؟ لا؛ انه لا أحد يقول لك إن السياسة فيها أخلاق، هذا كلام لا يجرؤ عليه الناس، لكنهم يتصارعون على مصالح، طيب نحن معهم إن المصالح يجب أن ترعى، لكن أية مصالح - نحن عرباً - نقول إننا لا نعتبر المصلحة مصلحة حتى تتساوق مع ما نحتاج إليه لا بأس، لكن غيرنا من الأمم تقول الشيء نفسه تقول ذات الكلام ما نتائج هذا التفكير المفسد، هذا التفكير المفزع هذا التفكير المدمر، ما نتائجه؟ نتائجه أن تصطدم الأمم بعضها ببعض وهذا هو الذي حصل.. كل الحروب الني نشأت في الإنسانية سببها الأول والأخير المباشر وغير المباشر، اصطدام المصالح القومية من هنا نجد أن الإسلام حل المشكلة بتجاوز الإطار القومي الضيق واعتبار الدعوة دعوة إنسانية واعتبر استقامة الناس على هذا المنهج هو المنقذ وهو الضمانة الوحيدة التي تضمن للإنسانية سلامة المآل.

لعلكم تعجبون سأعرض عليكم لوحة، ارجعوا مثلاً إلى سورة النحل تجدون الله جل وعلا يقول لكم هذا لآية التي تسمعونها مع كل خطيب في كل جمعة:

(إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون).

ماذا بعد ذلك يقول:

(ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم –لا بأس- سأفسر لكم الكلام- تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة).

ليست مشكلة على الحقيقة مشكلة العجمة التي لفت الأمة مع الأسف وإلا فهذا الكلام حينما كان يقع على قلب العربي وسمعه كان يحركه من أعمق الأعماق ولكنا اليوم نعيش في عُجْمَة لسان وعُجْمَة تفكير وعُجْمَة تصرفات - والله المستعان- ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون.

هنا ينقطع الكلام على الشريط المسجل – بكل أسف -  ونضطر إلى إكمال المعنى الذي أراده الشيخ – رحمه الله تعالى – وذلك من ظلال الشهيد المرحوم سيد قطب عليه من الله الرضوان، حيث يذكر حول الآية ما يلي: فَمَثَلُ من ينقض العهد، مثل امرأة حمقاء ملتاثة، ضعيفة العزم والرأي، تفتل غزلها ثم تنقضه؛ وتتركه مرة أخرى قطعاً منكوثة ومحلولة..! وكل جزيئة من جزيئات التشبيه تشي بالتحقير والترذيل والتعجيب، وتشويه الأمر في النفوس، وتقبحه في القلوب، وهو المقصود، وما يرضى إنسان كريم لنفسه أن يكون مثله كمثل هذه المرأة الضعيفة الإرادة، الملتاثة العقل، التي تقضي حياتها فيما لا غناء فيه..

وكان بعضهم يبرر لنفسه نقض عهده مع الرسول صلى الله عليه وسلم بأن محمداً ومن معه قلة ضعيفة، بينما قريش كثرة قوية، فنبههم إلى أن هذا ليس مبرراً لأن يتخذوا أقسامهم، غشاً وخديعة، فيتخلوا عنها: (تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة). أي بسبب كون أمة أكثر عدداً من أمة، وطلباً للمصلحة مع الأمة الأربى.

ويدخل في مدلول النص أن يكون نقض العهد تحقيقاً لما يسمى "مصلحة الدولة" فتعقد دولة معاهدة مع دولة أخرى أو مجموعة دول، ثم تنقضها بسبب أن هناك دولة أربى، أو مجموعة دول أربى في الصف الآخر، تحقيقاً "لمصلحة الدولة".. الإسلام لا يقر مثل هذا المبرر، ويجزم بالوفاء بالعهد، وعدم اتخاذ الاَيْمان ذريعة للغش والدخل.. ذلك في مقابل أنه لا يُقِرُ تعاهداً ولا تعاوناً على غير البر والتقوى... إلى أن يقول السيد الشهيد رحمه الله:

والنص هنا يحذر من مثل هذا المبرر، وينبه إلى أن قيام مثل هذه الحالة (أن تكون أمة هي أربى من أمة) هو ابتلاء لهم ليمتحن إرادتهم ووفاءهم وكرامتهم على أنفسهم، وتحرجهم في نقض العهد الذي أشهدوا الله عليه (إنما يبلوكم به الله)، ثم يكل أمر الخلافات التي تنشب بين الجماعات والأقوام إلى الله في يوم القيامة للفصل فيه: (وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون).

يمهد بهذا لترضية النفوس بالوفاء بالعهد حتى لمخالفيهم في الرأي والعقيدة (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء، ولتسألن عما كنتم تعملون)...

ولو شاء الله لخلق الناس باستعداد واحد، ولكنه خلقهم باستعدادات متفاوتة، نسخاً غير مكررة ولا معادة... فلا يكون الاختلاف في العقيدة سبباً في نقض العهود، فالاختلاف له أسبابه المتعلقة بمشيئة الله، والعهد مكفول مهما اختلفت المعتقدات.. وهذه قمة في نظافة التعامل والسماحة الدينية، لم يحققها في واقع الحياة إلا الإسلام في كل هذا القرآن..

ويخلص السيد الشهيد إلى خلاصة جامعة بقوله: "لقد جاء هذا الكتاب لينشئ أمة، وينظم مجتمعاً، ثم لينشئ عالماً ويقيم نظاماً؛ جاء دعوة عالمية إنسانية، لا تعصب فيها لقبيلة أو أمة أو جنس، إنما العقيدة فيها وحدها الآصرة والرابطة والقومية والعصبية".

انتهى كلام السيد –بَرَدَّ الله مضجعه ورضي عنه-ولعل هذا المعنى الذي فصله في ظلاله، هو الذي أراده الشيخ المفتي في "اللوحة" التي ترسمها الآية الكريمة التي ختم بها الخطبة جزاه الله خيراً وغفر له.. وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.