تتمة سورة المزمل

العلامة محمود مشّوح

تتمة سورة المزمل

الحلقة (13) 13 من شوال 1395هـ -17 تشرين الأول 1975م

العلامة محمود مشّوح

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد أيها الإخوة المؤمنون فلقد طالت رحلتنا مع أوائل سورة المزمل، وعمداً أطلت الشوط فقد ينبغي أن يكون أكثر تدقيقاً، وأعمق تأملاً ونحن بصدد التعرف على الخطوات الأولى من مسيرة الدعوة الإسلامية، ولقد كنت قادراً على أن أجتاز هذه الرحلة بحديث واحد. ولكن قدرت -ومن واقع التجربة- قدرت أن كثيراً من الخلل والارتباك في مسيرة الدعوة الإسلامية المعاصرة يرد إلى عدم إتقان الخطوات الأولى وإيلائها ما ينبغي لها من عناية واهتمام سواء كان ذلك بالكشف عنها أو بوضعها موضع التطبيق.

كنا في الأسبوع الفائت نتحدث إليكم عن بعض ما يوحيه قول الله تبارك وتعالى خطاباً لنبيه عليه الصلاة والسلام:

)إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً(.

وما بالنية أن أزيد على الذي قلت شيئاً وإنما نمر مع الآيات.

يقول الله تعالى بَعْدُ؛ خطاباً لنبيه عليه الصلاة والسلام:

)واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً إن لدينا أنكالاً وجحيماً وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيباً مهيلاً إن أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً وبيلاً فكيف تتقون إن كفرتم يوم يجعل الولدان شيباً السماء منفطر به كان وعده مفعولاً إن هذه تذكر فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً(.

ذرونا ننظر بما ينبغي من الأناة في هؤلاء الآيات؛ يقول الله تعالى موجهاً رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الطريقة المثلى التي يجب أن يعامل بها المخالفين:

)واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً(.

والصبر على ما يقول المخالفون واجب لظاهرة يعرفها الخاص والعام؛ وهي أنك في كل الأحوال لا تستطيع أن تضع قفلاً على أفواه الناس، فالناس إذا لم يكن لهم عاصم من التقوى فهم يتكلمون بما شاؤوا بالحق والباطل هذا شأن، وشأن آخر يتعلق بالنبي والمؤمنين وبالدعاة عموماً إن كلام المخالفين يجب أن لا يشكل عقبة تحول دون اطراد السير؛ فالصبر عليه هنا واجب إن لم يكن واجباً في شريعة الأخلاق فهو واجب وفقاً لقوانين الحركة والسير. والله جل وعلا في مواطن عدة من كتابه المُنْزَلِ على نبيه صلى الله عليه وآله ينبه إلى ما سيكون من تفنيد وتكذيب وأذىً في مواجهة الدعوة يقول الله تعالى:

)لتبلوُنَّ في أموالكم وأنفسكم ولتسمعُنَّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور(.

أي إن عزائم الرجال ينبغي أن لا تحول دون مضيها، أقَاويلُ المخالفين، فالمخالف من شأنه أن يتحدث كيف شاء وفي الوقت الذي يشاء دعه فالكلام لا يزال يشكل تشميتاً ويشكل أذى هذا أمر واقع من الممكن أن يستمر هذا التشميت وقتاً طويلاً لأنه ليس من شأن بسطاء الناس وعامة الناس أن تعرض كل ما تسمع على قضية العقل فهي تأخذ غالباً بهذا الذي تسمع بقطع النظر عن إمكان معقوليته.

وعدم إمكانيتها وبقطع النظر عن نوعية القائل أهو إنسان يوثق بما يقول أو هو إنسان لا يبالي بما يقول بل يلقي الكلام على عواهنه وكيفما اتفق من هنا لا يجوز أن نُهَوِّنَ من قيمة الشائعات ولكن عدم التهوين من هذه القيمة ليس بالتقوقع وليس بإيلاء هذا الأمر أكثر مما يستحق كيف الزيف يتحقق بمجرد عرض الحقيقة حينما تعرض الحقيقة عارية من أي لبوس فإن الزيف يبدو هناك زيفاً لا يقوم على ساق صحيحة ولا على ساق عرجاء فالواجب إذاً هذا الاستمرار والسير أبداً مع الصبر على ما يقول المخالفون، (واصبر على ما يقولون) ثم ليس فقط (واصبر على ما يقولون) دائماً بل.. (واهجرهم هجراً جميلاً) هذه النقطة يجب أن ننتبه لها ماذا تعني:

الهجر في لغة العرب هو الترك هذا شيء يعرفه الخاص والعام؛ والجميل هو الأنيق المحب، غير المؤذي، الأنيق المحب غير المؤذي؛ واضح أن الجملة (واهجرهم هجراً جميلاً) حوت معنيين يكادان في الظاهر أن يتناصرا وأن يتدافعا فكيف يكون الترك جميلاً ومحبباً إلى الأنفس وغير مؤذ؟ كيف يكون.. هنا موضع الإعجاز في الأداء الرباني في الكلام الإلهي بهذا اللفظ الوجيز أوجز الله جل وعلا أرفع نماذج السلوك التي تحقق الانسجام والتأثير مع المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، في الوقت الذي تستند فيه قضية الحقيقة دون أن تتلوث بأوشاب هذا المجتمع. كيف، الغفلة عن هذه المسألة سبب أحد أمرين في واقع السلوك الإسلامي:

الأمر الأول: هم الذين أخذوا الهجر بمعناه العام والأولى والبسيط وعندهم أنه لمجرد أن تسلم لله وجهك وتسير معه في الطريق الذي اختطه لك فعليك أن تقطع العلائق بينك وبين الآخرين ضربة لازب.

والأمر الثاني الذي تبلور في السلوك: الغفلة عن كل شيء والاندماج المطلق في المجتمع وقبوله على ما فيه من خير ومن شر وكلا السلوكين خطأ، الهجر الجميل يعني أن لا تلابس من حولك في ما يغضب الله تبارك وتعالى، وأن لا تعين من حولك على ما يغضب الله تبارك وتعالى وأن لا تساعد هذا المجتمع في شيء يتنافى مع أهدافك ومع قضايا دعوتك التي تحملها، ولكن مع الحفاظ على الرابطة الإنسانية التي تشد الناس جميعاً بعضهم إلى بعض مسلمهم وكافرهم على سواء لأية غاية؟ هل إلى غاية المداراة والمجاملة والمصانعة؟ لا.. سلوك المسلم أبعد ما يمكن عن هذه الرجرجة الموقوتة ولكن لإبقاء النافذة الوحيدة التي يمكن أن تنفذ منها إلى قلوب الناس وإلى عقول الناس وإلى مشاعر الناس أي الإبقاء على الوسيلة التي لا غيرها والتي يمكن أن تكون في مجتمعك بواسطتها عنصراً فعالاً ومؤثراً.

الهجر الجميل هو أن لا تعين غيرك ممن يخالفك في الاتجاه والمعتقد في شيء مما يغضب الله ولكن مع الإبقاء على علائق المودة وعلائق المحبة وعلائق التضامن القائم بين أعضاء المجتمع أن لا تلقى الناس بهذه النفسية المظلمة العابسة ولا تلقاهم بهذا القلب الأسود الذي يتنزَّى حقداً ويأكله هذا الحقد من جميع جوانبه بل تتقدم لإصلاح هذا المجتمع بالقلب المغمور بالمودة والمحبة والرغبة في إيصال الخير إلى الناس وتحفظ كل العلائق التي يمكن حفظها دون مساس بجوهر رسالتك وأسس عقيدتك أن تكون مسلماً هذا لا يعني بتاتاً أن تكون سيئ الطبع شرس الخلق هذا شيء وذاك شيء آخر وهجرك للمخالفين مع إبدائهم للتسويف المستمر وأخذهم بهذا النهج غير الأخلاقي لا يعني كذلك تقطيع العلائق بينك وبينهم.

أرأيتم كيف كان سلوك النبي صلى الله عليه وسلم مع المخالفين؟ جهر بالدعوة دون مداورة ودون لجلجة ودون خوف وعلناً وتحت وهج الشمس وإبقاء على كل العلاقات التي يمكن أن تبقى كان يغشى مجالس الناس، وكان يزور الناس، وكان يلقاهم بالبشر، وكان يلقاهم بالمودة، ذات يوم مر النبي صلى الله عليه وسلم طائفاً بالكعبة وهذا في أوليات الدعوة فلما مر تغامز القوم وسخروا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسمعوه قارص القول فأعرض فطاف فسمع مثل ذلك عدداً من المرات ثم التفت إليهم وقال:

"يا معشر قريش تسمعون والله لقد جئتك بالذبح"

وأشار إلى حلقه فكان أشد الناس عداوة له صلى الله عليه وسلم، يحاول أن يرفأه بأحسن ما يجد من القول، قاموا إليه يهدئونه ويقولون له:

"يا محمد والله ما كنتَ جهولاً".

كلمة واحدة: (لقد جئتكم بالذبح) ذلك أقصى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فكانت غريبة غريبة هذه اللفظة القاسية من إنسان عُرف كُلَّ حياته بأنه على غاية ما يمكن أن يكون الإنسان من السماحة والطيب والتهيين فالنبي عليه الصلاة والسلام عنوان الهاجرين للمجتمع ولكن بالهجر الجميل والهجر الجميل هو أن تبدي ما عندك وأن تدعو إلى هذا الشيء الذي أنت مكلف بالدعوة إليه دون تحطيم كل علاقة بينك وبين الناس.

انظر إليها في ضوء القانون الأخلاقي تجد أن العنف والشراسة وبذاءة القول وسوء الطوية شيء يتنافى مع أوليات القانون الأخلاقي، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول لعائشة رضي الله عنها إثر كلام سمعته من بعض الناس.. يقول لها:

"يا عائشة لو كان العنف رجلاً لكان رجل سوء".

فالنبي عليه الصلاة والسلام ما خُيرَ بين أمرين، وما وقف في مفترق طريقين إلا اختار أيسرهما وأرفقهما ما لم يكن فيه إثم أو مغضبة لله تبارك وتعالى فإن يكن ذلك كان أبعد الناس منه.

هذا هو معنى الهجر الجميل أن لا تلابس المبطلين في باطلهم ولكن هذا لا يمنع من أن يبقى بينك وبينهم حبل الود موصولاً فلو أنك وضعت الأمر تحت قانون الحركة والسير لوجدت أن العنف والعنفوان يعطلان الحركة ويقضيان على السير من أول الطريق فالرجل الذي تلقاه وأنت غاضب وأنت مشمئز، وأنت تحمل له في صدرك الضغينة التي لا تنتهي لا يمكن أن تتفتح لك مغاليق قلبه بحال من الأحوال، فحين نسمع الله جل علا يوجه نبيه صلى الله عليه وسلم هذا التوجيه الحكيم:

)واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً(.

نلحظ أمرين:

نلحظ أن الله جل وعلا يقيم نبيه عليه الصلاة والسلام والمؤمنين معه على القاعدة الأخلاقية المثلى ويوجههم نحو الطريق التي تضمن انفتاح الأسماع والأبصار والعقول والقلوب لهذه الدعوة فهي توجيه حكيم (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً) لكن الكلام هنا في عمومه يبقى ناقصاً إن نحن حذفنا النظر فيما يأتي من الآية الأخرى يقول: (وذرني والمكذِّبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً).

تصوروا لو تصورنا أن الله تعالى قال: (وذرني والمكذبين) ماذا يكون الأمر؟ نكون قد وقعنا في شيء من الخلف في الكلام، التناقض في القول عدم انسجام أجزاء الحقيقة التي نعرضها.. هناك؛ قلنا إننا لا نلابس المجتمع المبطل الجاهلي في باطله وفي جاهليته ولكننا نحمل للناس من حيث هم ناس المودة والمحبة ونرغب في أن نشترك وإياهم في حمل أعباء الدعوة، من أجل أن تبقى قلوبهم معنا.

وهنا يقول الله: (وذرني والمكذبين) لو وقفنا عند هذا الحد المكذبون كما تعلمون كانوا عامة قريش بل عامة العرب بل عامة الدنيا فحين يقول الله (وذرني والمكذبين) أي اتركني وهؤلاء المكذبين أنا أدبر شؤونهم وأنا أنتقم منهم وأنا أذيقهم العذاب والأنكال فأين ذهب جمال الخلق وأين ذهبت هذه العلاقة التي ركزنا على ضرورة المحافظة عليها ينحل الأشكال حين نلحظ القلب الذي جاء في الكلام المكذبون في الكلام كذبوا لأنهم أولو النعمة وأولو النعمة هم المتنعمون.

هنا انسحبوا من ذلك الجو التاريخي البعيد وتعالوا إلى أي جو معاصر وانظروا في المجتمع المعاصر وفي كل مجتمع المكذبون أولاً ليسوا بسطاء الناس وليسوا حتى أوساطهم وإنما هم القمة في المجتمع هم المنعمون هم المترفون هم كبار أصحاب الامتيازات التي تهدد الدعوة مراكزهم وامتيازاتهم هؤلاء دائماً قلة في المجتمعات، هؤلاء لا يمكن أن ينقادوا إلى الحق، ولا يمكن أن ينصاعوا للحجة إلا بعد أن تفلس كل امتيازاتهم وتذهب أدراج الرياح.

نحن لا نستطيع بالنسبة لمسار الدعوة الإسلامية وليكن هذا مفهوماً وواضحاً لا نستطيع وفقاً لقوانين الدعوة أبداً أن نحفظ للجاهلين امتيازاتهم، هذا غير معقول فالدعوة الإسلامية بما هي دعوة عامة وشاملة تنسجم مع كل الحياة البشرية لتؤثر فيها وتغيرها ولا يمكن أن تبقي على الأوضاع على النحو الذي هي عليه؛ سوف تنظم المجتمعات البشرية في ضوء قوانينها وفي ضوء شرائعها وتوجيهاتها وآدابها.

ومن المعقول بل من الحق في مجتمع كهذا أن يكون العالي نازلاً والنازل عالياً، أي أن تغييراً جوهرياً لا بد أن يدخل في المجتمع من جراء تطبيق شرائع الإسلام، هؤلاء الناس الذين لهم امتيازات سابقة نشأت في ظل مجتمعات جاهلية وأوضاع جاهلية ينبغي أن يكون مقرراً أن الإسلام لا يدغدغ غرائزهم ولا يشتري ولاءهم بالحفاظ على امتيازات تصطدم مبدئياً وأساسياً مع قوانين المجتمع المسلم.

هؤلاء إذاً سيظلون مكذبين لو جئتهم بالحجج صباح مساء فسوف يردون عليك حججك كائنة ما كانت، وصدق الله العظيم:

)ولو أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعتَ أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير(.

إذاً فالقلة التي تعيش على مأساة البشرية فقط هي التي يتهددها الله جل وعلا:

)وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً(.

دع الدعوة تسير بإذن الله جل وعلا وانتظر ماذا سيحل بهم، وبالفعل مضت الدعوة في طريقها غير آبهة بهرير الكلاب التي كانت تنبح من حواليها حتى إذا كان يوم بدر ألقي أولو النعمة مجرورين بأرجلهم في القليب، قليب بدر ووقعت الواقعة في صف المشركين وتساءل المتسائلون أفلان وفلان يقتلون ويلقون في القليب شيء يفوق التصديق، ولكن الله جل وعلا حقق لنبيه عليه الصلاة والسلام موعوده وألقى هؤلاء في القليب وفقاً لمصارعهم التي صرعوا عليها بتكذيبهم وبعنادهم وبتأبيهم على دعوة الحق النازلة من عند الله تعالى.

هذا كان في الدنيا وذلك قانون محفوظ كما تشرق الشمس من المشرق لتسقط في المغرب، كذلك فإن الباطل مصيره إلى التدمير لأنه في نسيجه يحمل جراثيم الفناء والموت، كذلك فالله جل وعلا موقع هذا بالمبطلين بلا ريب.

أما في الآخرة فالله جل وعلا يقول:

)إن لدينا أنكالاً وجحيماً وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً(.

في الآخرة الأنكال جمع نكل وهو ما يربط به الإنسان قيداً أو ما يشبه القيد، والجحيم هي النار الجاحمة الشديدة التلهب والوهج والمحرقة (وطعاماً ذا غصة) الطعام هو عصارة أهل النار، وما يشبه ذلك وذو الغصة هو الذي يعلق في أصل الحلق لا يتزحزح لا يخرج فيريح ولا يبتلع فيريح، (وعذاباً أليماً) ذلك في الآخرة وعد غير مكذوب ينال المجرمين من الله تبارك وتعالى.

متى يكون ذلك، يقول الله (يوم ترجف الأرض والجبال) (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) متى ذلك؟ يوم القيامة، (يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيباً مهيلاً) هذا يكون يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيباً مهيلاً، انظر إلى هذا الحائط انظر إلى الجبل الأصمّ، انظر إلى الصخر الأصم ألست تجده قاسياً شديد القساوة بلى ماذا يكون شأنه يوم القيامة (كثيباً مهيلاً...) هو الصخر الذي فتت حتى أصبح كذرات الرمل وأزيل بعضه (أُهِيْل) على بعض هذه الأعلام الشوامخ هذه الجبال المنصوبة، إذا جاء وعد ربك جعلها الله تعالى كرمال، كالرمال تتفتت وتصبح ككثبان الرمال في ذلك الوقت ينال المكذبين ما ينالهم يقول الله:

)إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً وبيلاً(.

لاحظوا أيها الإخوة وأنتم تقرؤون القرآن جاء في القرآن من قصص الماضين الشيء الكثير قصص الأنبياء قصص الأمم التي كذبت الأنبياء، العبر المستقاة والمستفادة من سياق هذه القصص؛ جاء الشيء الكثير لكن الناظر في القرآن يلاحظ أن قصة موسى وفرعون ترددت في القرآن عدداً أكبر من المرات، لا بد من سبب ومن علة، لماذا يردد الله باستمرار ما حصل من فرعون تجاه موسى؟

لاحظوا مواقف فرعون مع موسى تجدوها تتشابه إلى حد بعيد مع مواقف المشركين بل زعماء المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن فرعون أعرض ونأى بجانبه جاءته الدعوة فَمَنَّ على موسى:

)ألم نرِّبك فينا وليداً ولبثتَ فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت(.

مِنَّةٌ على موسى عليه السلام بأنْ رُبِّيَ في بيت فرعون وكذلك مُنَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم عُيِّرَ بأنه اليتيم الذي آذته قريش وعيشته قريش، وأطعمته قريش، كذلك فرعون يتأبى ويرى أنه خير من موسى:

)أم أنا خير أم هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين(.

كذلك فأبو جهل وأضراب أبي جهل من عتاة قريش ومن صناديد المشركين كانوا يرون أنفسهم خيراً، من محمد صلى الله عليه وسلم بل يصرحون بهذا بلا تحرج وبلا حياء، وكذلك فِرْعونُ يرى أن موسى لا مجال لأن يسمع له أليس هو، أي فرعون الحاكم والمتصرف، والذي يملك كل الخيرات والذي يملك أن يعطي ويمنع وأن يفيد:

)يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون(.

كذلك قالت قريش، رأت محمداً عليه الصلاة والسلام رجلاً فقيراً قليل ذات اليد وهم هم الذين يملكون الثروة ويجوبون أطراف البلاد بالتجارة ويسوقون العير إلى كل مكان ومحمد لا يملك من هذا شروى نقير.

وكذلك الغيرة ففرعون كان يغار من موسى كيف يختصه الله جل وعلا بهذا الخير الذي فتح له من الله ويترك فرعون كذلك ما كان يقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون ألم يجد الله رجلاً يرسله غيرك:

)وقالوا لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمه ربك(

هم كانوا يتصورون أن يتنزل القرآن على زعيم من زعماء مكة أو على زعيم من زعماء الطائف، ناسين أن القيمة للمعنى الإنساني أولاً وللاختصاص الإلهي أولاً وآخراً، والغيرة ذاتها هي التي دفعت أبا جهل إلى أن يتمسك بهذا الموقف العنيد الذي أورده مورد الهلاك.

ذات يوم جاءه رجل من خلصائه قال له: يا أبا الحكم - وكذلك كان اسمه، قبل أن يسميه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل ثم تلبسته هذا التسمية إلى آخر الدهر، قال له: يا أبا الحكم ألا تسمع ما يقول محمد إنه والله لقول جميل وطريقة مستقيمة ثم هو ابن عمك عزه عزك وشرفه شرفك فلماذا هذه الخصومة؟

ماذا تتصورون كان جواب الرجل الأرعن؟ قال:

"إنا تزاحمنا نحن وبني هاشم فأطعموا وأطعمنا وسقوا وسقينا وحملوا وحملنا حتى قالوا منا نبي يوحى إليه من السماء فمن أين نأتي بمثل ذلك".

الغيرة إذاً هي التي كانت تحمل أبا جهل وكثيراً من المعاندين من العرب على أن يقفوا المواقف السيئة من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا التشابه الملحوظ والذي لا تخطئه عين الدارس للقرآن الكريم بين موقف المشركين من محمد صلى الله عليه وسلم وموقف فرعون وقومه من موسى عليه السلام هو الذي سوغ أن تردد قصة موسى مع فرعون على أسماع العرب.

ماذا كانت عاقبة فرعون بعد كل العناد مع ما هو عليه من العظمة والجبروت والملك والثروة، نبذه الله جل وعلا في اليم فأغرقه وجعله نكال الآخرة والأولى، كذلك كانت عاقبة أبي جهل نبذه الله تبارك وتعالى في القليب قليب بدر وجعله الله جل وعلا نكال الآخرة والأولى هناك قانون واحد في مجال الدعوات يتحكم في مسارها في القديم وفي الحديث على سواء إن الله جل وعلا لا يجامل المكذبين ولا يحابيهم ثم هم أولاً وآخراً بعض خلق الله جل وعلا وخلق الله يتفاضلون عنده بالتقوى بالعافية..... ثرواتهم أموالهم أولادهم لا تغني عنهم شيئاً.

)وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن(.

فالإيمان هو الذي يحدد مجال النجاة فقط أما الذين يصرون على العناد ويركبون رؤوسهم في طريق خطأ ومعاندة الحقيقة فمصيرهم في القديم وفي زمن النبي عليه الصلاة والسلام وإلى أن تقوم الساعة مقرر ومحتوم سوف يدمرون لكن تحت شرط ينبغي أن لا يغفل لكي يدمَرَ الباطل لا بد أن تكون جبهة الحق سليمة فإذا كانت جبهة الحق سليمة فمصير الباطل محتوم، أما حين تكون جبهة الحق غائمة الرؤيا مشوشة الأهداف سيئة الانضباط في السلوك، فلا يمكن للباطل أن يدمر إلا على المدى البعيد وبعد أن يوجد الله جل وعلا جبهة للحق هي خير وأهدى سبيلاً من هؤلاء المتخاذلين الذين يدعون ذلك زوراً وبهتاناً.

وإذاً فالباطل مصيره مقرر وفقاً لقوانين الله التي لا تتخلف لكن ذلك مرتبط بمدى استقامة المؤمنين على الجادة التي وضعهم عليها ربهم تبارك وتعالى. هذا ما يوحيه قول الله:

إننا أرسلنا إليكم رسولاً كما -وهنا أداة المشابهة- كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً -فما كان من فرعون- فعصى فرعون الرسول -وما كان من الله- فأخذناه أخذاً وبيلاً.

تمت المشابهة وينبغي ولا شك أن ذهن العربي في ذلك الزمان وعى معنى الكلام وأن فحواه، أنكم يا معاشر قريش، يا معاشر العرب المكذبين لمحمد إن بقيتم على ضلالكم فسوف تلقون مثل الذي لقي فرعون. ثم يخاطبهم الله:

( فكيف تتقون ) .

أي كيف تخشون من الله وترعوون إن كفرتكم؟ بماذا كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً، كيف يمكن لك أن تتقيه وهنا قضية ذات أهمية بالغة، بالنسبة لدعوة الإسلام، كيف يستقيم سلوك سالك؟ كيف يستقيم السير لسائر؟ إذا هو أعرض عن الإيمان بمصيره إلى الله تبارك وتعالى، دعوة الإسلام من أولها إلى آخرها، مرتبطة بماذا..؟ باليقين المستكن في القلب، بأن الإنسان صائر إلى الله سبحانه وتعالى، فمحاسب على ما قدمت يداه، فمجزي على الإحسان إحساناً، وعلى السوء سوءاً، الإيمان بالرجعة إلى الله هو الذي يعصم الإنسان غالباً، وفي غالب الأحيان من الوقوع في الخطأ، وهؤلاء العرب كانوا لا يرجون لله وقاراً، ولا ينتظرون معاداً إلى الله فكيف يتقون الله، هذا معنى قوله:

)فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً، السماء منفطر به، كان وعده مفعولاً(.

أي قيام الساعة ووقوفكم جميعاً بين يدي الله، إن هذه تذكره، كل هذا الذي قصصناه عليكم تذكرة، ما هي وظيفة هذا الكلام، أن يقرع الأسماع، وأن يقرع القلوب، وأن يوقظ النيام، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً، ما عندنا سوط إرهاب نسوق الناس به إلى طريق الإيمان، نحن لا نفتتح السجون والمعتقلات لنضع الناس في السجون والمعتقلات حتى يؤمنوا بالله العزيز الحميد، قطعاً لا..

الإنسانية استوت على ساقها، والإنسانية بلغت رشدها، والإنسان بما هو إنسان رُكب له عقل، وأوتي القدرة على أن يميز بين الخير والشرّ، ولا يمكن أن يقبل في قانون الإيمان، إيمان المكره على ما لا يعتقد، تذكرة وحسب.. من شاء بعد؛ اتخذ إلى ربه سبيلاً، أنت واختيارك، وهديناه النجدين، إن كتب الله لك النجاة أخذت في طريق السعادة، وإن كان غير ذلك فالله جلَّ وعلا، سيجزيك بما تستحق، أما نحن –المسلمين-فثق أننا لا نمسّ ظهرك بعذاب، ولا نقبل منك إيمان تقليد، ولا نقبل منك إيمان إكراه؛ وإنما هي الحجة فقط، إن اقتنعت وآمنت بمحض اختيارك وامتلاء قلبك فأنت من المؤمنين لك ما لهم وعليك ما عليهم، وإن كنت مكرهاً في هذا الإيمان، جئتنا فحكمنا بأن إيمانك باطل، وأنك بهذا الإكراه خارج نطاق جماعة المسلمين، فنحن، هذا قانون مقرر بالنسبة لنا، في ظل الإسلام يتفيأ الناس جميعاً ظلال الحرية، ما عندنا مال نشتري به إيمان الناس، وما عندنا عذاب نمس به الناس. إن لم يؤمنوا، وما عندنا مطامع، طريقنا مليء بالدماء والدموع. ما عندنا درهم ولا دينار. عندنا قلب الإنسان. وعندنا إرادة الإنسان؛ فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً، وأظن أن كل عاقل حصيف الرأي، يدرك تماماً، أن هذا غاية التكريم للإنسان بما هو إنسان وأن كل إكراه، أو إغراء، أو تدخل في إرادة الإنسان، هو امتحان لكرامة هذا الإنسان.

وهنا يقف الشريط –بكل أسف- ويصمت الشيخ رحمه الله، ولعله أنهى السورة بهذا المعنى البديع.

الأستاذ عبد الله الطنطاوي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تحية طيبة عطرة وشكرا على جهودكم المميزة في خدمة هذا الموقع الرائع
وخدمة الأدب الإسلامي
لقد أعجبت أيما إعجاب بخطب الشيخ محمود مشوح رحمه الله والتي تنشرونها
تباعا على موقعكم المبارك.. إن هذا العالم الفذ لا أدري لماذا لم تعرفوا
به منذ زمن طويل أو لماذا لم نسمع عنه أبدا خلال الفترة الماضية حتى
تعرفنا إليه عن طريق موقعكم المبارك.. أتمنى أن تنشروا أكثر عن هذا
العالم وكذلك لو تنزلون خطبه صوتيا عبر الموقع حتى يتسنى لنا الإستماع
إليها..
وبوركتم
أبو مسلمة - مصر
[email protected]