تتمة سورة المزمل

تتمة سورة المزمل

الحلقة (12) الجمعة 6 شوال 1395 – 10 تشرين الأول 1975

العلامة محمود مشّوح

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد أيها الإخوة المؤمنون.

فلقد سبق لنا أن نظرنا في مطالع سورة المزمل ثالثة السور التي أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مطالع الدعوة، وتكلمنا عن هذه المطالع جمعتين أو أكثر لا أذكر، وأحسب أننا بحاجة إلى أن نعيد استذكار بعضه الحقائق التي تتعلق بأوائل هذه السورة لكي يأخذ الكلام بعض برقاب بعض، ولكي تنسجم وتتناغم حلقاته كي يكون الغرض العام من السورة الكريمة واضحاً في أذهاننا جميعاً.

إن السورة الكريمة تبدأ بقول الله تبارك وتعالى خطاباً لرسوله عليه السلام:

)يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً. نصفه أو انقص منه قليلاً. أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا(

ومضى الكلام على هذا بما لا أطمع بزيادة عليه، ثم يقول الله تعالى:

)إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلا(

ومضى الكلام على هذه الآية بالذات بما لم أكن راضياً عنه لأنني في حينها كنت منحرف الصحة سيء المزاج ولكني لا أنتوي بتاتاً أن أعيد الكلام حول ظاهرة ثقل القرآن إلا بالإشارة التي تهيئ لفهم ما بعد ذلك بل وما قبله أيضاً.

فهذا القرآن وصف بأنه ثقيل؛ وصف بذلك في الآيات، ووصف بذلك في الأحاديث المشتهرة عن الصحابة الذين نقلوا إلينا كلام نبينا صلى الله عليه وسلم وأحواله العامة والخاصة، ومن جملة هذه الأحوال ما كان يعتريه عليه السلام أثناء نزول الوحي قلنا: إن هذا الثقل ظاهرة من ظواهر القرآن ونضيف إنها ظاهرة يشعر بها الإنسان المكلف فقط، وأظن أنني استشهدت سابقاً بقول الله جل وعلا:

)لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله(

ثم أعقب الله جل وعلا ذلك؛ بأن قال:

)وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون(

فدلّ عجز الآية على ضرورة الاستبصار والتفكر بما سبقها، وقلنا إن هذا الذي وصف القرآن به ليس مراداً به ظاهر الكلام لأننا نرى بالمشاهدة أننا نضع القرآن على جبل فلا ينصدع ولا يتفكك ولا يتبعثر، وفي هذا ما يلزم بالقول أن ظاهر الكلام غير مراد وأن المراد معنى آخر، ورجعنا معكم في تحليل هذا الكلام إلى أصل الخلق، فوجدنا بالمضاهاة وبالمقارنة أن الإنسان هو المخلوق الوحيد من بين خلق الله عز وجل الذي هو مكلف، والذي نتج عن تكليفه تمتعه بالإرادة وبحرية الاختيار، فيصبح معنى الكلام أننا لو فرضنا في الجبال حسّاً وعقلاً وإرادة ثم كلفناها بالقرآن لتفتتتْ وما أطاقت حمل هذا القرآن؛ من الذي أطاقه؟ الإنسان بما هو مكلف، وبما هو حر، ومريد ومختار..

وهذا يمنحنا الحق في أن نقرر أن الإنسان أقوى مخلوقات الله عز وجل؛ من حيث هو قادر على تحقيق الحرية والإرادة والاختيار وأنه أضعف مخلوقات الله عزوجل حين يعطل عمل هذه المواهب التي أعطاه الله جل وعلا إياها.

هذا الثقل إذاً يحس به الإنسان من المعالجة بين الأمر الإلهي، وبين الرغبة والاختيار هذا الألم الدائم، القلق الذي يصحب الإنسان، الثقل الذي يعيش معه ما عاش هو الذي أراد القرآن أن يشير إليه بقوله:

)إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلا(

 وضربت لكم مثلاً قلت لكم فكروا بأنكم أخذتم لائحة بمجموعة الواجبات والأوامر والنواهي التي جاءت في هذا القرآن وحاولتم أن تطبقوها في ذات نفوسكم على صعيد العقل والإحساس والشعور وفي عقائدكم ومسالك تفكيركم وفي السلوك الشخصي الذاتي، وفيما يتعلق بصميم وظائفكم من حيث إنكم مسؤولون عن أسركم وعن جيرانكم وعن بلدكم وعن أوطانكم وعن الإنسانية جميعاً ثم ارجعوا بعد ذلك إلى أنفسكم كم يكلف القيام بأداء هذه الواجبات من مشقات ومجهودات كبيرة.

فالقرآن إذاً ثقيل بذاته، ثقيل بواجباته، ثقيل بتكاليفه، ولا يقوم لهذا الثقل ولا يستقل به إلا هذا الإنسان الذي رشحه الله جل وعلا للخلافة في الأرض، فلا يحقرن أحد الطاقة التي وهبه الله إياها فإنما هو كائن عظيم وكبير استخلفه الله جل وعلا على أمانة عظيمة وكبيرة كلما أحس الإنسان وأيقن بقيمته الحقة استطاع أن يهيئ الأجواء الصالحة للبلوغ بهذه الأمانة والرسالة إلى قرارها وإلى مبلغها، وإذا حقر نفسه وأزال من إمكانياته، وقلل من قيمته قضى على مبرر وجوده باعتباره مسلماً بل قضى على أخص خصائصه الإنسانية وهي العقل والإرادة والحرية. فالله جل وعلا يقول:

)إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلا(

ثقل القول كما شرحت لكم الآن في إيجاز وباختصار وكما شرحت لكم سابقاً بإسهاب وتفصيل مما لم أكن راضياً عنه ومما أرجو الله جل وعلا أن يعين على بيانه في مناسبة أخرى.

نسير الآن مع الآيات سيراً هيناً يقول الله جل وعلا:

)إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلا(

وشرحنا لكم أن ناشئة الليل على القول الذي نختاره هي ساعاته المتجددة لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة، وقوله جل وعلا (أشد وطئاً) أي أكثر موافقة وملاءمة لما يريد الإنسان أن يفعله في تلك الساعات من طاعة وتقرب وزلفى إلى الله جل وعلا، (وأقوم قيلا) يحتمل معنيين الأول هو الذي نرجحه إن شاء الله (أقوم قيلا) أي أن أولى هذه الساعات أدعى إلى أن يكون ذكر الإنسان وقراءة الإنسان ودعاء الإنسان وتفكر الإنسان أصوب وأقوم لفراغ الذهن من الشواغل ولسكون الدنيا من حول الإنسان.

والقول الثاني: أن الله جل وعلا أقرب إلى أن يتقبل دعاء الداعين وقراءة القارئين واستغفار المستغفرين في تلك الساعات الليلية وعليه يحمل ما جاء من قول يعقوب لبنيه:

)سوف أستغفر لكم ربي(

أي أنه كان ينتظر إذا حل السحر الثلث الأخير من الليل أن يستغفر لأبنائه الخاطئين لأن الله جل وعلا قريب من الداعين في تلك الساعات.

ثم يقول الله جل وعلا:

)إن لك في النهار سبحاً طويلاً(

وقلنا إن السبح هو الحركة والاضطراب المتصرف في شؤون المعاش أو التصرف في واجبات الدعوة ورجحنا هذا من قبل، لأن الخطاب خطاب إلى النبي، والنبي في تلك الساعات التي تنزل عليها الخطاب لم يكن مشغولاً بتجارة ولا بزراعة ولا بصناعة ولا معنياً بأي شأن من شؤون الحياة ، فقد كفاه الله مؤونته بعد أن تزوج بخديجة رضي الله عنها، واستكفى بمالها بل أنفق مالها من أجل الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، فحين يُخَاطَبُ بقول الله (إن لك في النهار سبحاً طويلاً) يوحي ذلك إلى الذهن المستبصر المستنير أن الله قسم أوقات نبيه قسمين: قسماً يسلخه في الليل بالتعبد والقيام الطويل بين يدي الرحمن والقراءة والتفكر في آيات الله والتبصر في آلائه وعظمته جل وعلا.

وقسم آخر هو ما يكون في النهار من اتصال بالناس ودعوة لهم إلى الخير الذي أنزله الله تعالى إليه ومحاولته صلى الله عليه وسلم أن يقود الناس إلى هذا الهدى الذي أنزله الله تعالى إليه ثم يقول الله جل وعلا بعد ذلك.

)واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا(

ذكر اسم الله معروف لكن ما معنى تبتل إليه تبتيلا.

معنى البتل الباء والتاء واللام في لغة العرب القصد، وأظن أنكم ما زلتم تقولون في العامية "قطعة بتلة" يعني شيء مبتول ومقطوع والبتل معناه في لغة العرب القطع والمتبتل هو المنقطع، المتبتل إلى الشيء هو المنقطع إلى هذا الشيء، سميت مريم عليها السلام بتولاً لأنها انقطعت عن الرجال، والمتبتل إلى الله هو المنقطع عن الخلق إلى الخالق والله جل وعلا يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتبتل إليه أي أن ينقطع إليه.

أصبحت لدينا الآن جملة حقائق نستطيع الآن أن ننظر إليها بتناسق:

أولاً نداء من الرحمن إلى رسوله صلى الله عليه وسلم )يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً(

واحد. كان النبي عليه السلام قبل ذلك يأخذ لنفسه حظها من النوم والراحة وكان يتدثر بثيابه أو بفراشه التماساً للهدوء والراحة، فلما جاءه الأمر أخرجه مما كان فيه. قال له (يا أيها المزمل قم الليل) ذكر الليل كله ثم استل منه شيئاً قليلاً هذا القليل خذ حظك فسه من النوم فقط؛ أما بقية الليل معظم الليل أكثر الليل فليس لك؛ وإنما هو لله تبارك وتعالى؛ قُمْهُ قائماً خاشعاً متعبداً متبتلاً، ثم قال له بعد ذلك:

)إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً(

لماذا طلب القيام إن لم يكن وراء هذا الطلب الجازم والطلب المقلق الثقيل وقد مر معنا في الأحاديث أن النبي عليه الصلاة والسلام كان حينما يتعب وينصب تقول له زوجه الوفية خديجة رضي الله عنها

"ألا تنام قليلاً يا رسول الله".

فيقول:

"مضى عهد النوم يا خديجة".

خرجنا من حالة الجاهلية الأولى ودعنا حالة التسيب الماضية، رُسمتْ لنا أهداف، حُدِّدَتْ لها مفاهيم وضعت أمامنا غايات، يجب أن يتخلى الإنسان عن الراحة ويجب بعد أن ينصرف الإنسان عن حياة اللاوعي وحياة اللامسؤولية ويأخذ نفسه بحياة واعية منظمة مشدودة إلى هدف بعيد مكشوف، وقد مر معنا في الأحاديث أن النبي عليه السلام ومعه صحبه الكرام رضي الله عنهم الرعيل الأول الذين استجابوا لربهم، وفهموا عنه معنى ما أراد. قاموا الليل، قاموه حولاً كاملاً لا يذوقون النوم إلا حسو الطائر، قاموه حتى انتفخت أقدامهم، وتقرحت أرجلهم. قاموه حتى إن أحدهم ليضع الحبل أو يأخذ بيده العصا يستعين بها كي لا يسقط من الإعياء والتعب والإجهاد.

كل ذلك في ذات الله وفي مرضاة الله إن لم يكن هذا لغاية فهو طلب عابث والله جل وعلا منزّه عن العبث حين يقول له (قم الليل إلا قليلاً) وبطبيعة الحال فما كان مطلوباً من رسول الله صلوات الله عليه وآله فمطلوب من المؤمنين معه أيضاً لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح هو يتحرك بالقرآن ولكنه أيضاً يتحرك بجماعة المؤمنين الذين هم معه فلذلك كانت الوجائب والتكاليف والمهمات المطلوبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلوبة من الذين آمنوا مع رسول الله وستظل مطلوبة من الذين يؤمنون بالله إلى آخر الزمان.

إذاً هناك وراء هذا الطلب غاية، وراء هذا الإيقاظ حكمة ما وراءها. قال له الله:

)إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً(

جرب أن تأتي بإنسان يستطيع أن يحمل على ظهره مئة كيلو ضع على ظهره مئة كيلو وعشرة سوف يبرك لا يستطيع أن يستقل بذلك ولا يقوم بالثقل ولا يمكن أن تطيقه إلا عزائم دربت على تحمله، والإنسان كما نعلم يخلق مولوداً صغيراً ضعيفاً ما يزال أبواه يدرجانه ويدربانه على الوقوف وعلى الحركة حتى تصلب سيقانه، وحتى يستطيع أن يتحرك ثم يخلق الله فيه داعية الحركة فبالحركة الدائبة وبالاضطراب إلى أمام وإلى الخلف، وبالتحرك إلى شمال وإلى يمين تكتسب عضلاته القوة التي تساعده على تحمل ما يريد وما يراد منه، فإذا استوى فهو إنسان وسط عادي من أوساط الناس لكن العاديين وأوساط الناس ليسوا رجال الدعوات وليسوا رجال الصعاب، وليسوا الذين يخوضون المشقات.

حينما ينهض الشاب منكم إلى الجندية يتعرض لتدريبات شاقة يحرم من النوم، يطلب إليه أن يركض مسافات طويلة يحمل ما لا يطيقه في الحالة العادية أذلك عبث لا، وإنما هو تدريب على الحصول على القوة، وتدريب على الطاعة والانضباط والنظام.

الإنسان حينما نريد أن نضعه في وجه غاية كبيرة من العبث أن نقول للناس قوموا هذا كلام يلجأ إليه المتاجرون في السياسة والاقتصاد والاجتماع وفي مستقبل الأمم ومصائر الشعوب يقول للناس قوموا تحركوا يقودونهم من أي مكان لا من مكامن القوة، ولكن من مواطن الضعف من الشهوة من الغرائز، من الأحقاد، من الأطماع، من سائر هذه الدوافع التي لا يمكن أن تعد عناوين على القوة في الذات الإنسانية، يقادون من هنا في صعيد الباطل ومعسكر الضلال لكن في صعيد الحق الأمر يختلف أنا حينما أكون في طريق الحق أراك وأكرهك لسبب ما ولكني مطالب بالحق الذي أحمله أن أقيم معك معدلة.

جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال له: والله لا أحبك عمر يقول لذلك الرجل: لا أحبك. لماذا لأن هذا الرجل قتل ضرار بن الخطاب أخا عمر رضي الله عنه.

قال له: يا أمير المؤمنين: أينقص ذلك من حقي شيئاً إن لم تحبني؟ أتظلمني وتجور علي؟

قال: لا.

قال: إذاً لا أبالي إنما يأسى -يعني يحزن- على الحب النساء أما الرجال فلا يحزنون على الحب، لا تحب.

عمر يكره هذا الإنسان لأنه قتل أخاه ولكن عمر مطالب بالحق الذي يحمله والذي طلب إليه أن يقوم عليه وأن ينفذه في الناس، في الصغير والكبير، وفي العدو والصديق، وفي القريب والبعيد، أن يقيم المعدلة في مواجهة ماذا في مواجهة دوافعه وفي مواجهة غرائزه وفي مواجهة حوافز الإنسان العادي.

أوساط الناس أحد رجلين إما رجل أرعن يجابهك في هذه الحالة بالصد والإبعاد وبالعداء، وإما رجل اكتسب شيئاً من الكياسة وحسن التصرف فيبتسم في وجهك ويقول لك لا عليك سأفعل لك كذا وسأقضي لك كذا، ثم إذا انصرفت عنه فعل ضد ما وعدك به؛ هؤلاء هم الناس العاديون، وهم الأوساط لكن الرجال المدربون الرجال أرباب الحق طلاب الحقيقة ماذا يفعلون إنهم يرون رقابة الله، فالله من وراء كل شيء يرونها أولاً ويرونها آخراً ويعلمون إن أطاعوا حوافزهم ومشوا وراء دوافعهم فاستجابوا وفعلوا ضد ما طلبه الشارع الحكيم منهم فقد يمضي يوم ويومان وعام وعامان تستر فيها هذه المسألة وتروج هذه البضاعة لكن الله تكفل بفضيحة المتمردين. لم يخرج فاسق من هذه الدنيا إلا وهو مهتوك الستر فضحه الله جل وعلا في الدنيا ويوم القيامة يفضحه على رؤوس الأشهاد.

هذا الإنسان المستقيم المؤمن يعلم هذا حق العلم من أجل ذلك لا تخفى عنه ولا تغيب مراقبة الله تبارك وتعالى إياه فيقيم ما يريد الله جل وعلا منه على النحو الذي أراده الله تعالى من الذي يستطيع؟ ذلك الرجل المدرب، كما ندرب أنفسنا على الشيء، كما ندرب أنفسنا على الكلام، كما ندرب أنفسنا على حمل الأثقال، كذلك ندرب أنفسنا على اكتساب عزيمة الصبر، ليس موضوع الصبر شيئاً يشترى من السوق ويوضع في الجيب إنما هو رهق النهار وسهر الليل والتعرض للصعوبات ومواجهة الملمات ثم هو قبل ذلك وفي أثناء ذلك، وبعد ذلك قمع لكل رغبة تبدر في داخل النفس تحاول أن تقود الإنسان في غير الطريق الذي أراده الله تعالى.

إذاً فقول الله عز وجل (قم الليل إلا قليلاً) قول يراد منه كما لا يخفى على اللبيب الفطن تدريب الرسول صلى الله عليه وسلم وتدريب الأصحاب معه ثم تدريب المؤمنين جميعاً إلى آخر الدهر على أن يأخذوا بحظهم ونصيبهم من هذه الأسباب التي تعود وتضمن اكتساب عزيمة الصبر، بغير الصبر لا شيء يمكن أن ينتج في هذه الحياة، بغير الصبر لا يمكن للفرد أن ينجح، ولا يمكن للأمة أن تنجح، ولا يمكن للرسالة أن تسود وقد صبر النبي صلى الله عليه وسلم صبر على العبادة طويلاً، وظل يصبر عليها إلى آخر عمره، والله جل وعلا يخاطبه ويقول:

)وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها(

لاحظوا لم يقل وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليهم، لكي لا ينصرف الصبر إلى الأهل مع نسيان حظ النفس وإنما خصه بأمر الأهل بالصلاة وحضّه على أن يصبر على هذه الصلاة، لاحظوا الدقيقة التي يجب أن لا تغيب عن البال الأمر لمن؟ موجّه للنبي عليه الصلاة والسلام؛ النبي ماذا؟ إنسان يعايش الملأ الأعلى ينزل عليه الأمر من السماء في الصباح والمساء وفي الليل وفي النهار هو طبعاً ذخيرته من الإيمان، حصيلته من اليقين أكبر وأكثر وأعلى وأعظم من أي إنسان آخر؛ بل نحن نقرأ الأحاديث الواردة بالطريق الصحيح جداً أن الملائكة الذين جاؤوا ليزنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وزنوه بعشرة من أمته فرجحهم. وزنوه بألف فرجحهم قال أحدهم للآخر دعه فلو وزن بأمته جميعاً لرجحهم.

النبي عليه الصلاة والسلام من حيث حقيقة التقوى والورع والمعرفة بالله تبارك اسمه، في حالة لا نستطيع تصورها مع ذلك جاءه الخطاب يقول: (واصطبر عليها) أي اصبر على الصلاة فإذا كان محمد سيد الخلق وخاتم النبيين والمخاطب من السماء يقال له اصبر على الصلاة فما هو مقدار ثقل هذه الصلاة؟

إذا أردنا أن نعرف الأمر حقيقة يجب أن لا نتصور صلاتنا نحن الخلائق التي تعيش اليوم يجب أن نتصور الصلاة التي يدخلها الإنسان المسلم، فإذا أحرم وقال الله أكبر خرج من الدنيا، عروة بن الزبير رضي الله عنه أصابته الأكلة في رجله.. نوع من المرض الذي يسري في العظام، وأجمع الأطباء على أنه لا فائدة من المعالجة في حال من الأحوال وأنه لابد من تدخل مبضع الجراح، ولابد من قطع رجله؛ في ذلك الزمان لم تكن مخدرات ولم تكن مسكنات وكان الجراح يعمل على الطبيعة في الجسم الحي مهما كلف ذلك من آلام، قال لهم عروة لا بأس عليكم إذا أنا دخلت في الصلاة فشأنكم برجلي؛ فلما أحرم وكبّر أخذ الجراحون المناشير ونشروا رجله وهو لا يدري إن كانت رجله تقطع، أين كان يعيش هذا المخلوق؟ مع الله تبارك وتعالى لو كان يصلي كما نصلي نحن لضج وسمع من في السماوات والأرض ضجيجه من الألم، فالصلاة التي تراد والتي هي ثقيلة وشاقة فعلاً، هي هذه الصلاة التي تنقل المؤمن مع تكبيرة الإحرام من كل أشياء الدنيا ومن جميع أحياء الدنيا لتضعه مباشرة بين يدي الخالق العليم الحكيم.

هذه الصلاة ليس فقط في تكبيرة الإحرام، وإنما هي استدامة لهذه الحالة الواعية والحالة الموصولة بالله إلى آخرها ولهذا نسمع نبينا عليه الصلاة والسلام يقول:

للعبد من صلاته ما وعى منها.

فما لم يعِ من الصلاة فليس لهذا العبد بل ربما كان عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر ويقول:

إن العبد إذا صلى الصلاة فأحسن قراءتها وتكبيرها وقيامها وخشوعها عرجت إلى الله جل وعلا بيضاء مسفرة كما يسفر الصبح تقول: حفظك الله كما حفظتني، وإذا صلى الصلاة فلم يحفظها على هذا الشكل الذي نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرجت إلى السماء سوداء مظلمة تقول: ضيعك الله كما ضيعتني، ثم تلف في ثوب خلق أي قديم بالٍ فإذا كان يوم القيامة ضرب بها وجهه.

فالصلاة غير المتقنة إذاً قد تكون بلاءً على صاحبها، هذا في الصلاة حين يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على الصلاة يقال له: أأمر أهلك بالصلاة وينتهي الأمر ثم يقال له اصطبر عليها أنت لا تنسَ أنك مطالب مع أمر غيرك بأن تصطبر على الصلاة، لا تنس ولا يغب عن بالك أن أمرك للغير يلغي حظ نفسك من وجوب تحصيل عزيمة الصبر على هذه الصلاة، إذا كان رسول الله يخاطب بهذا فاسألوا أنفسكم أي صبر يجب أن تكتسبه لكي تحقق هذه الحالة الرائعة العجيبة التي تتحصل من الصلاة ثم سلسلوا الأمر بعد للصيام والزكاة والجهاد والحج والصدق والعفاف وسائر الخلائق العالية التي ندب إليها الإسلام.

إذاً فحين يقول ربنا:

)إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً(

يكون قبل ذلك قد هيأ نبيه والمؤمنين معه لاحتمال تكاليف وثقل هذا القول؛ هيأهم بماذا؟ بالكلام؟ لا.. بالشعارات؟ لا.. بالتنفج والكذب؟ لا.. وإنما بعمل حقيقي مباشر؛ هذه النقطة سلوني لماذا أقف عندها؟ أقف عندها تذكرة وتبصرة للذين يريدون أن يتذكروا ويتبصروا أولاً هذا بصورة عامة لكني من حيث الأساس وللأمانة أقف عندها لغرض آخر أقف عندها لأقرر أن الإسلام ليست هو بالأعمال التي يكون لها الضجيج ويحمد عليها الإنسان بين الناس فقد ينبغي أن نعلم أن حمد الناس ربما كان مقتلة للإنسان المسلم، وأن هذه الدعوة ليس باقتحام المخاطر قبل فحص النوايا والدوافع فقد تكون المخاطر بلاءً على أصحابها وعلى آخرين وإنما هو بالدرجة الأولى اهتمام بالأمور المباشرة اليومية لم يقل الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم قم فاخترط سيفك ثم اجر في طرقات مكة وأزقتها وفي الشِّعاب التي حولها وأينما وجدت مشركاً فاقطع رأسه ما قال له:

)هذا قال له قم الليل إلا قليلا(.

فقال له:)إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً(.

وقال له: )وتبتل إليه تبتيلا(.

ومن عجب أن هذا يكون في أول الدعوة ولا نشم رائحة الدعوة إلى المقاومة لماذا؟ لأن الذي يقاوم ينبغي أن تتحقق فيه صفتان انتبهوا صفتان.

أولى الصفتين: قدرة لا تنتهي على الصمود في وجه الصعاب من مغريات ومن مرهبات وصعوبات.

وثانية الصفتين: إسقاط حظ النفس فالإنسان الذي يكون جلداً صبوراً شجاعاً لا يعني ذلك إلا عند أصحاب النظر السطحي أنه حتماً سوف يرضي الله بجلده وبشجاعته، كلكم أظن أو معظمكم على الأقل سمع حكاية "قُزمان: قُزمان حليف للأنصار خرج الناس إلى غزوة أحد وانخذل المنافقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحلت الواقعة وابتلي المسلمون البلاء الشديد وظهر الشجعان وكان الناس يأتون في الآن بعد الآن يقولون لرسول الله يا رسول الله ألا ترى إلى ما فعل قزمان فيقول قزمان من أهل النار. يقولون له يا رسول الله قد قتل فلاناً وفلاناً من المشركين فيقول قزمان من أهل النار، وهكذا حتى قتل سبعة أو ثمانية من صناديد قريش وأبطالها ورؤوسها كل ذلك والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: قزمان من أهل النار.

وجرح الرجل فحمل إلى محل يمرّض فيه المرضى وتردد عليه الناس فقالوا له هنيئاً لك الجنة فتربد وجه الرجل وأظلم ولم يطق الصبر على ألم الجراحة فأخذ حديدة فقطع بها رواهشه وهي الأوردة الموجودة في الرسغ ونزف حتى مات. ومعلوم أن المنتحر عندنا في الإسلام من أهل النار فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام فقال قزمان من أهل النار لا إله إلا الله أشهد أني رسول الله.

إذاً فالقوة والجلد لا يكفي تحصيلهما وإنما ينبغي أن يكون صاحب القوة قادراً على وقف نفسه مع حدود المنهج الذي يقف معه، بماذا يتحصل ذلك بتنفيذ أوامر الله، بتنفيذ الأشياء المباشرة التي قلت لكم عنها الوجائب اليومية التي لا ينتج عنها ضجيج ولا تبهر الناظرين والسامعين فيأتيك اليوم الذي تجد نفسك فيه تقوم لله، وتقعد لله، وتتكلم لله وتسكت لله وتفعل كل شيء لله.

في نظرنا نحن المسلمين ووفقاً لشريعة الإسلام ومنهجه في الحركة والعمل أن الرواد الذين ينشئون المجتمعات ليسوا هم الرعناء، وليسوا هم المندفعين، ولكنهم الذين يأخذون لأنفسهم حظها من التربية والتهذيب وتحصيل عزيمة الصبر بالقيام الطويل في الليل، بالارتباط المطلق مع الله، بالتفكر الطويل في آلاء الله جل وعلا، وفي آياته المبثوثة في الأنفس وفي الآفاق، بالصلاة الموصولة، بالصوم المتصل، بإتقان ما لدى الإنسان، بتهذيب النفس وتطهيرها من شوائب الأخلاق ورذيل العادات، بكل ذلك يصل الإنسان المسلم إلى المرحلة التي وصل إليها عباد الله المتقون الذين عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

بعد قطع مرحلة التهذيب والتصفية هذه خرجوا إلى الدنيا يوم خرجوا وهم أناس أقوياء فعلاً ومع ذلك في نفس الوقت الذي يحكمون ويسيطرون فيه هم أمناء على الإنسانية الصديق عندهم آمن والعدو عندهم آمن والقريب عندهم موفور الكرامة والبعيد عندهم موفور الكرامة لا يتمايز الناس عندهم أبداً وإنما يتساوون أمامهم بالحقوق وفي الوجائب هذا الشيء هو الذي أراد ربنا جل وعلا أن يلفت نظر رسوله صلى الله عليه وسلم إليه.