حركة التاريخ بين النسبي والمطلق "في رسائل النور"(4)

أديب إبراهيم الدباغ

حركة التاريخ بين النسبي والمطلق

"في رسائل النور"(4)

بقلم: أديب الدباغ

من أسرار الهزيمة والانتصار!

إن "الإيمان" هو "الحق" المطلق الذي لا حق دونه، ولا حق بعده...

وإن "الكفر" هو "الباطل" المطلق الذي يهون كل باطل قبله ولا يعظم باطل بعده.

والاثنان في صراع رهيب دائم دوام السماوات والأرض.

وكل "حق" إنما يستمد قوة أحقيته، وعمق مصداقيته، على قدر صلته بالإيمان قرباً وبعداً، وامتثالاً وإعراضاً.

وكذلك فكل "باطل" إنما يستمد جرثومة باطله، وقبيح منكره، على قدر صلته بالكفر قرباً وبعداً، وامتثالاُ وإعراضاً.

ونسارع فنقرر:

إن "الإيمان" و "الكفر" – رغم تناقضهما الحاد واختلافهما في كل شيء – ما كثان جنباً إلى جنب على هذه الأرض مكوث الإنسان.

(فالإيمان يحيا على هذه الأرض ومن حقه أن يحيا... والكفر يحيا على هذه الأرض وله أن يحيا).

هكذا شاءت حكمة الله تعالى، لأن الأشياء والمعاني لا تتميز – في هذا العالم – إلا بأضدادها.

لذا فلو حشد "الكفر" كل طاقاته وإمكاناته للقضاء على "الإيمان" واجتثاث أصوله من الأرض لفشل وخاب وانكسر، ولم يستطع إلى ذلك سبيلاً لأن "حق الحياة" للإيمان مسألة مقررة في علم الله، وله الغلبة والنفاذ.

والعكس صحيح أيضاً، فإن "الإيمان" مهما قوي واشتد ساعده، وتعاظمت طاقاته وإمكاناته، فإنه يستطيع اجتثاث شأفة "الكفر" من الأرض أو القضاء على جرثومته، لأن "حق تشبثه بالبقاء" له الغلبة والنفاذ أيضاً.

هذه مسألة مفروغ منها ليست في حاجة إلى مزيد بيان... وتاريخ البشرية مليء بالشواهد عليها.

ومنذ عرف المسلمون الاستعمار، وذاقوا مرارته وعاشوا مذلته، وهم يتساءلون عن سر انكسار "الإيمان" وهزائمه في معظم معاركه في ميادين الصراعات جميعاً رغم أنه "حق" صراح، إزاء باطل الاستعمار والمستعمرين.

ولا نزعم أن "الإيمان" كان دائماً في موضع الهزيمة والانكسار. وأنه لم ينتصر في أي من معاركه ولا شك أن الحرب كانت سجالاً بينهما، ولكن ربما كانت هزائم "أهل الإيمان" وانكساراته خلال القرون الماضية أكثر من انتصاراته، فلماذا يا ترى...؟! وأين نذهب بالحكمة التي تقول: "الحق يعلو ولا يعلى عليه"...؟

هذا السؤال قد حير المؤمنين والحكماء والأخلاقيين.. وقد أجاب كل منهم – من وجهة نظره – الجواب الذي يراه مناسباً... ومع كثرة الأجوبة فما زالت غالبية المؤمنين لم يروا في هذه الإجابات الجواب الشافي والوافي الذي يطمئنون إليه.

وسبب ذلك يعود إلى افتقار هذه الإجابات إلى الشمول والإحاطة، واقتصارها على أجزاء من الحقيقة مبعثرة هنا وهناك من دون الوقوع على كلية الحقيقة التي تكفي وتغني.

ولكن النظرة الشمولية الجامعة – كما هي عند النورسي – ترى في دساتير الكون ونواميس الوجود، شريعة إلهية أخرى لا تقل أهمية عن شريعة الإيمان والإسلام، فكما أن المسلم الذي يخالف شريعة قرآنه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتهاون فيها، ويخرق دساتيرها ينال عقابه الأليم على ذلك في الآخرة، فكذلك مخالفة الشريعة الكونية، والنواميس الوجودية، وخرقها وعدم فهمها، والالتزام بها، والتجاوب معها، يُعاقب عليها "المسلم" في الدنيا بالهزيمة والانكسار وربما الانسحاق، ولو كان يملك إيماناً راسخاً كالجبال.

فالوقوف عند واحدة من الشريعتين، وإغفال الأخرى، هو واحد من أسباب الإحباط والانكسار الذي عرفته جماعة المؤمنين.

فـ "الحق يعلو" وله الغلبة والانتصار أمر لا غبار عليه، ولكن انطواء "الحق" على "جزئية باطلة" واحدة، ربما تسبب له الكوارث والدمار والهزيمة، أمام باطل ينطوي على "جزئية حق" واحدة.

فـ "الباطل" – هنا – منتصر... ولكن على ماذا منتصر...؟ أهو منتصر على "كلية الحق"؟

كلا... بل هو منتصر على هذه الجزئية من الباطل الذي يضم "الحق" جوانبه عليها خطأ – ربما – ومن غير عمد.

فـ "الحق" صرح معنوي عظيم البناء، ينبغي أن تتماسك لبناته وتتماثل شكلاً "أسلوباً" ومعنى "غايةً"... ووجود لبنة فاسدة واحدة في هذا الصرح – لأي سبب – قد تهيء الصرح كله للانهيار والدمار، وتغدو الثغرة القاتلة التي ينفذ منها "الباطل" إلى قلب "الحق" بكل سهولة ويسر.

ولا يعجبن أحد من هذا الذي نقوله فربَّ سد عظيم كان وراء تخريبه وانهياره فأر صغير – كما تقول الأسطورة – لم يكن أحد ليصدق عظم التخريب الذي يمكن أن يحدثه.

وربَّ قصر باذخ لمعماري عظيم يقوم بناؤه كله على حجر واحد في مكان ما من بنائه، لو سُحب هذا الحجر من مكانه لانهار القصر برمته كما تقول الأسطورة الأخرى.

فالقوة – الفكرية أو المادية – "بيد الباطل" هي "جزئية الحق" التي ينطوي عليها، وهي التي تسبب له الانتصار على أهل "الحق" إذا كانوا عُزلاً منها...

فما هو حظ "القوة" من الحق...؟ وكيف تكتسب "القوة" شيئاً من خاصيته في العلو والانتصار.؟

وكل قوة – مهما كان نوعها ووسائل استخداماتها – إنما هي نتاج العلم... فلا قوة من غير علم... ولا يبلغ العلم أقصى عطائه إلا في اتباع " الشريعة التكوينية" واحترامها والتنقيب عن دساتيرها وسننها، ثم تسخيرها في حيازة ناصية العلم، وامتلاك جبروته، وهو بالتالي يؤدي إلى الاستحواذ على "القوة" التي يغزو بها "الباطل" الحق وأهله الذين لا يملكون منها شيئاً...

فلكون "القوى" جميعاً ترجع في أصولها وجذورها الأولى إلى "الشريعة التكوينية" التي تنظم العالم وتخضعه لها، وهي بالتأكيد "حقٌ محض" كأحقية شريعة "الوحي" النازل على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، لذا فقد اكتسبت "القوة" بهذا النسب خاصية "الحق" في العلو والانتصار، ولو كانت بيد "الباطل".

*    *    *

ثم إن التحدي والاستفزاز يخرج المخبوء، ويكشف عن المستور، ولا شيء يخز "الحق" وخزاً مؤلماً، ويخضه خضاً عنيفاً، ويوقظه من حال السبات والسكون مثلما يفعل "الباطل"... فالباطل اكتسب حق الحياة ليكون عامل تنبيه، وجرس إنذار ينذر "الحق" بالخطر، ويستدعيه متحدياً ليقوم قومة واحدة، ويلقي بكل ثقله في ساح المعركة والنزال، وبذلك يزداد صلابة وتمرساً ويتخلص – نتيجة هذا الوخز والخض – مما كان عالقاً به من خبثٍ يمكن أن يورده موارد الهلاك لو ظل عالقاً به...

وحتى لو خسر "الحق" – لأي سبب من الأسباب التي ذكرناها آنفاً – معركة هنا، ومعركة هناك، إلا أن العاقبة له لا محال إذا عرف كيف يفيد في مجمع الشريعتين "الدينية" و "التكوينية" على الوجه السليم.

*    *    *

وبعدُ:

نأمل أن نكون قد وفقنا إلى إلقاء بعض الضوء في طريق القارئ الكريم قبل أن يدلف مباشرة إلى رأي النورسي" في أسرار الهزيمة والانتصار، حين يقول – رحمه الله -:

سُئلتُ" لما كان "الحق يعلو" أمر حق لا مراء فيه، فلم يتنصر الكافر على المسلم، وتغلب القوة على الحق..؟

قلت: تأمل في النقاط الأربع الآتية تنحل المعضلة:

النقطة الأولى:

لا يلزم أن تكون كل وسيلةٍ من وسائل كل حق حقاً... كما لا يلزم أيضاً أن تكون كل وسيلة من وسائل كل باطلٍ باطلاً... فالنتيجة إذن:

إن وسيلة حقة (ولو كانت في باطل) غالبة على وسيلة باطلة (ولو كانت في الحق(.

وعليه يكون:

حق مغلوب لباطل، مغلوب بوسيلته الباطلة، أي مغلوب مؤقتاً (بسبب وسيلته الباطلة)... وهو ليس مغلوباً بذاته.. وليس دائماً، لأن عاقبة الأمور تصير للحق دوماً (إذا استطاع التخلص من وسيلته الباطلة).

أما القوة(بيد الحق أو بيد الباطل)فلها من الحق نصيب(في العلو والانتصار)وفيها سر للتفوق كامن في خلقتها...(5)

النقطة الثانية:

بينما يجب أن تكون كل صفةٍ من صفات المسلم مسلمة مثله، إلا أن هذا ليس أمراً واقعاً، ولا دائماً... (فيتعرض المسلم بسبب ذلك إلى الهزيمة).

ومثله لا يلزم أيضاً أن تكون صفات الكافر جميعها كافرة ولا نابعة من كفره (بل قد تكون بعض صفاته هي مما يتصف بها المسلم الحق) وكذا الأمر في صفات الفاسق، لا يشترط أن تكون جميعها فاسقة، ولا ناشئة من فسقه.

إذن:

صفة مسلمة يتصف بها كافر تتغلب على صفةٍ غير مشروعة لدى المسلم وبهذه الوساطة (وبهذه الجزئية من الحق) يكون ذلك الكافر غالباً على ذلك المسلم (الذي يحمل صفة غير مشروعة(.

ثم إن حق الحياة في الدنيا شامل وعام للجميع، والكفر ليس مانعاً لحق الحياة الذي هو تجل للرحمة العامة، والذي ينطوي على سر الحكمة في الخلق.

النقطة الثالثة:

لله سبحانه وتعالى – تجليان يتجلى بهما على المخلوقات – وهما تجليان شرعيان صادران من صفتين من صفات كماله جل وعلا.

أولهما: الشرع التكويني، أو السنة الكونية الذي هو المشيئة والتقدير الإلهي الصادر من صفة الإرادة الإلهية.

والثاني: الشريعة المعروفة الصادرة من صفة الكلام الرباني، (أي: الوحي الإلهي).

فكما أن هناك طاعة وعصياناً تجاه الأوامر الشرعية المعروفة، كذلك هناك طاعة وعصيان تجاه الأوامر التكوينية (أي – السنن الكونية والحياتية)، وغالباً ما يرى الأول – مطيع الشريعة والعاصي لها – جزاءه وثوابه في الدار الآخرة.

والثاني – مطيع السنن الكونية والحياتية والعاصي لها – غالباً ما ينال عقابه وثوابه في دار الدنيا.

فكما أن ثواب الصبر النصر...

وجزاء البطالة والتقاعس الذل والتسفل..

كذلك فإن جزاء ثواب الثبات الغلبة.

مثلما:

أن نتيجة السم المرض..

وعاقبة الترياق والدواء الشفاء والعافية..

وتجتمع أحياناً أوامر الشريعتين معاً في شيء ما، لكل منها جهة (عمل فيه).

فطاعة الأمر التكويني – الذي هو الحق – هذه الطاعة غالبة – لأنها طاعة لأمر إلهي – على عصيان هذا الأمر بالمقابل، لأن العصيان – لأي أمر تكويني – يندرج في الباطل ويصبح جزءاً منه...

فإذا ما أصبح حق وسيلة لباطل، فسينتصر على باطل أصبح وسيلة لحق.. وتظهر النتيجة: حقٌ مغلوب أمام باطل!.. ولكن ليس مغلوباً بذاته وإنما بوسيلته..

إذن فـ "الحق يعلو".. يعلو بالذات.. والعقبى هي المرادة... فليس العلو قاصراً على الدنيا... إلا أن التقيد والأخذ بحيثيات الحق مقصود ولا بد منه...

النقطة الرابعة:

إن ظل حق كامناً في طور القوة – أي لم يخرج إلى طور الفعل المشاهد – أو كان مشوباً بشيء آخر، أو مغشوشاً، وتطلب الأمر كشف الحق وتزويده بقوة جديدة، وجعله خالصاً زكياً... يُسلط عليه – مؤقتاً – باطل، حتى يخلص الحق – نتيجة التدافع من كل دَرَنٍ، فيكون طيباً، ولتظهر مدى قيمة سبيكة الحق الثمينة جداً.

فإذا ما انتصر الباطل، في الدنيا في مكان وزمان معينين فقد كسب معركة ولم يكسب الحرب كلها، لأن (العاقبة للمتقين) هي المآل الذي يؤول إليه الحق.

وهكذا الباطل مغلوب – حتى في غلبه الظاهر – وفي: "الحق يعلو" سر كامن عميق يدفع الباطل قهراً إلى العقاب في عقبى الدنيا والآخرة... وهو (أي الحق يتشرف في علوه الآخرة، ويرقى إليها من دون الباطل)... وهكذا فالحق غالب مهما ظهر أنه مغلوب...(6).

         

 (5) الجمل الموضوعة بين هلالين هي من وضعنا، اضطررنا إليها للمزيد من التوضيح. –المؤلف-.

(6) حقائق الإيمان/ص71 لسعيد النورسي. ترجمة إحسان قاسم الصالحي مطبعة العاني بغداد /1984.