بداية الوحي وحديث البخاري(1)

بداية الوحي وحديث البخاري(1)

18/7/1975

(نقدم اعتباراً من هذاالعدد ماتيسرلدينامن خطب العلامة الخطيب المفوه الأديب الشيخ محمود مشوّح –مفتي الميادين رحمه الله تعالى لمافيها من فكروثقافة ودعوةمستنيرة إلى الله تعالى)

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد أيها الإخوة المؤمنون، فهذا أوان الوفاء بما سبق أن وعدناكم بالحديث عنه بعد مقدمات قد يراها البعض طويلة ومملة، ونراها ضرورية ولازمة، لقد وعدناكم أن نتحدث عن بواكير الدعوة، وفي ذهني أنني قد أسلخ معكم في هذا الحديث أسابيع طوالاً، ولكن من الضروري قبل البدء في الحديث أن أقدم بضع ملاحظات.

إن الحديث عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ليس أمراً هيناً، وأعترف لكم دون تردد أنني حين وعدت بهذا ما كنت أقدر أن الأمر يتطلب كل هذا الجهد فنحن نملك في موضوع السيرة أقدم نص وأوثق نص؛ هو النص الذي جاءنا عن طريق ابن هشام والمعروف بسيرة ابن هشام، وسيرة ابن هشام هذه هي تلخيص لمغازي ابن إسحق رحمة الله عليه، وهذه المغازي ضاعت في ما ضاع أثناء النكبات التي حلت بالمسلمين على مدى تاريخهم الطويل، ثم هناك ما هو أوثق من هذا ولكنه أضيق مدى وأقل شمولاً وهو ما يتناثر من وقائع السيرة في ثنايا مجاميع الحديث النبوي الشريف، ثم بدأ الناس يكتبون في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم واختلفت درجات المغالاة في هذه الكتابة ويكفيك أن تنظر في كتب المتأخرين لترى كم ترك الخيال الشعبي من آثار على هذه السيرة الإنسانية العالية، وكم ألحق في السيرة النبوية من خرافات وأباطيل مع أن النبي صلوات الله عليه وآله كان يحرص باستمرار وفي كل مناسبة على تأكيد بشريته ونفي أية صفة زائدة على هذه البشرية.

وفي منهجنا الذي نأخذ به أنفسنا إن شاء الله سوف نُعْنَى عنايةً خاصة بتجريد حياة النبي صلى الله عليه وآله مما ينبغي أن لا يضاف إليها من الخرافات والأضاليل والأباطيل فحسبنا منه عليه الصلاة والسلام أنه البشر الكامل المكمل (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ).

أعرف تماماً أن كثيراً من العوام وأشباه العوام سيضيقون ذرعاً بهذا لأنهم يرون عن جهل -طبعاً- أن أي مساس بجملة الأباطيل التي يروج لها ويسمعونها شيء لا يطاق، ولكننا نحترم العلم ونحترم الحقيقة، ونحترم الحقيقة البشرية المتمثلة في محمد صلى الله عليه وسلم هذه ملاحظة، وملاحظة أخرى إن الميدان الذي نروده الآن ميدان بِكْرٌ أو شبهُ بكر قد تعجبون فالسيرة النبوية كتب فيها كثيرون وقال فيها كثيرونَ ولكن النحو الذي أريده والزاوية التي أتناول السيرة منها يشبه أن تكون زاوية بكراً لم تردها قدم سائح أنا لا أهتم بالخبر من حيث هو خبر أهتم له من حيث هو واقعة تاريخية فالتاريخ معلومات لكني أهتم بالسيرة برمتها من حيث هي حركة، من حيث هي تحرير للإرادة البشرية، من حيث هي إغناء للمسيرة الإنسانية، من حيث هي رفع لسوية الإنسان، يهمني أن أعرف وأن تعرفوا كيف كان النبي صلوات الله عليه وآله وسلم يدعو ويتصرف، وتحت أية قوانين وقواعد كان يسير في هذه الدعوة لأن اجتهادات المجتهدين في عمل المسلمين اختلفت ضرورة اختلافهم في فهم هذه القواعد إن كانوا فهموها أصلاً، فالسيرة تهمنا من حيث هي صورة لتيار حركي استهدف تغيير الواقع البشري بالدعوة وبالقول وبالعمل، ثم هو لم يكن عملاً عشوائياً غير مبني على قواعد ولا خاضع لقوانين ولا هو غير مقيد بمناهج، وإنما هو بالفعل كان يخضع لقوانين صارمة ودقيقة للغاية، وواجب المسلمين أن يتصرفوا على هذه القوانين ليقيموا حركتهم وفقاً لها.. لماذا؟ لأن الله جل وعلا اختار لنبيه صلى الله عليه وسلم الطريقة التي توصل إلى الهدف المقصود من أقرب طريق وبأقل التضحيات الممكنة على الإطلاق.

فنحن إذاً سوف ندرس السيرة في هذا الإطار وسوف نعاملها تبعاً لضعف المصادر التي بين أيدينا على ضوء القرآن لأن القرآن هو الوثيقة الوحيدة التي لا يمكن الطعن فيها، وهو الوثيقة الوحيدة التي تحوي هذه الحركة بكل زخمها، وبكل إشعاعاتها هذه ملاحظة ثانية، وملاحظة ثالثة قبل اليوم ومنذ سنوات أسمع من كثير من الإخوة تساؤلاً عن الأسلوب. هذه معضلة أيها الإخوة تتعلق بشخصي مع الأسف كثير من الإخوة يشكون ومعهم كل الحق من أن الأسلوب أعلى مما ينبغي ومن أن الأفكار أعمق مما ينبغي، وطلب إلي الكثيرون أن أخفف من هذا، أما إخواننا أهل منطقتنا فقد تعودوا على هذا (البلاء) ووطّنوا أنفسهم على تحمله منذ ما يقرب من ثلث قرن، وأما الآخرون فأحب أن يدركوا معي ملاحظة بسيطة، إن الأسلوب يا إخوة، جزء من شخصية الإنسان لا يمكن تعديله إلا بعد إدخال تعديل واضح على الشخصية، وهذا مستحيل فمن حيث الأسلوب أعتذر إليكم لا أملك حيلةً في هذا الموضوع، هكذا فطرني الله وهذه هي طريقتي في الحديث وهذه هي طريقتي في تناول الموضوعات لكني قررت وحدثت أحد إخواني أمس مساءً أنني سوف أسلك طريقة كنت لا أريدها، كنت أريد أن يسمع الواحد منكم الكلام هنا كما يقرأه في كتاب أو كما يقرأه في جريدة أو مجلة -لا فرق أبداً- مع ذلك فرعاية للظرف المحيط بنا سوف أركز في كل جمعة على فكرة واحدة أو فكرتين أوضحها وأبسطها، وأنا آسف لأن هذا سيقضي على كثير من المزايا التي كنت حريصاً عليها.

نعود إلى ما كنا فيه:

منذ أسبوعين رويت لكم الحديث الذي رواه الإمام البخاري رحمة الله عليه في أوائل كتابه الجامع الصحيح وفي باب (كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) واقتصرت من الحديث على ما دعت الحاجة إليه آنذاك، الآن سأروي لكم الحديث بتمامه إن شاء الله وأرجو أن نُمَرِّن أنفسنا على قراءة ما بين السطور قال الإمام البخاري رحمة الله عليه:

حدثنا محمد بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: أول ما بُدِئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبب إليه الخلاء أي العزلة وكان يخلو في غار حراء ويتحنث، وهو التعبد، الليالي ذوات العدد- قبل أن ينزع إلى أهله - يعني يرجع- ويتزود لذلك يعني ينقطع أياماً يأخذ أثناءها ما يلزمه من زاد ثم يعود إلى خديجة رضي الله عنها فيتزود لمثل ذلك أي أن تحنثه كان يستمر على فترات كلما فني زاده وانتهت نفقته عاد إلى بيته فتزود ثم رجع إلى الغار يتحنث هناك. قالت:

جاءه الملك وهو في حراء فقال له: اقرأ.

فقال: ما أنا بقارئ.

قال –يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم -فأخذني فغطني أي اعتصرني حتى بلغ مني الجهد أي أتعبني جداً ثم أرسلني وقال: اقرأ.

قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال:

)أقرأ بسم ربك الذي خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم(.

 قالت: فرجع بها – يعني بهؤلاء الآيات – رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده أي دَاخَله شيءٌ كثير من الرعب، والتجربة تجربة جديدة على الإنسان تدخل الرعب إلى نفسه حقاً فجاء إلى خديجة فقال: زملوني فزملوه فلما ذهب عنه الروع أي زايله الخوف قال لخديجة وأخبرها الخبر:

"لقد خشيت على نفسي" خشي أن يكون قد تلبَّسه شيطان، أن يكون قد أصابه مس.

قالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل وتعين على نوائب الحق، ثم انطلقت به إلى ورقة ابن نوفل بن عبد العزى وكان ابن عم خديجة رضي الله عنها وكان أمرأً قد تـنصَّر في الجاهلية أي دخل دين النصرانية وقرأ الكتاب العبراني وكان يكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب فقالت له: يا ابن عم.. اسمعْ من ابن أخيك.

قال ورقة (يعني للنبي صلى الله عليه وسلم) يا ابن أخي: ماذا ترى؟

فأخبره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بخبر ما رأى فقال: لئن صدقتني إنه الناموس الذي أنزله الله على موسى، وإنك لنبيُّ هذه الأمة، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.

قال له قبل ذلك يا ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فدهش النبي صلى الله عليه وسلم وقال:

أو مخرجيَّ هم؟

قال: نعم لم يأت رجل قومه بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.

ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي.

قال ابن شهاب وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال وهو يحدث عن فترة الوحي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

بينما أنا في حراء إذ سمعت صوتاً فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني في حراء جالس على كرسي بين الأرض والسماء فرعدت فرقاً – خوفاً – فرجعت فقلت دثروني فأنزل الله تعالى:

(يا أيها المدثر قم فأنذر)

إلى قوله تعالى

(والرجز فاهجر)

ثم حمي الوحي وتتابع. هذا نص حديث الإمام البخاري رضي الله عنه رويت لكم جانباً منه منذ أسبوعين ورويت لكم نصوصاً أخرى في الموضوع.

قال ابن هشام قال ابن إسحق في السيرة:

ابتدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتنزيل في شهر رمضان أي أن بداية الوحي كانت في شهر رمضان قال الله تعالى:

)شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان(.

وقال الله تعالى:

)إنا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر(.

وقال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم

)حم والكتاب المبين، إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين. فيها يفرق كل أمر حكيم. أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين(.

وقال الله تعالى:

)إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان(.

وذلك ملتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين ببدر قال ابن اسحق وأخبرني أبو جعفر محمد بن علي بن حسين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التقى هو والمشركون في بدر صبيحة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، فالمقطوع به أن التنزيل وأن الدعوة بدأت في شهر رمضان المبارك نحاول الآن وأرجو أن تعيروني أسماعكم.. أن نتنبه إلى الحديث.. سآخذ منه موضوعات:

أولاً: الوقت الذي وصفت به خديجةُ رضوان الله عليها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: الإنذار الذي أنذر به ورقةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنه سيعادى وسيؤذى وسيطارد وسيخرج وعلل ذلك أن رجلاً لم يأت قومه بشيء مثل الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم إلا كان نصيبه العداء من الناس.

ثالثاً: الدهشة الغريبة، الاستغراب الذي قابل به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هذا الإنذارَ: أو مُخْرجيَّ هم؟

سنبدأ بما تيسر لنا.

خديجة رضي الله عنها حينما جاءها رسول الله يحمل أوائل الوحي هذه الآيات القصار: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) وأخبرها خبر ما رأى وخبر ما سمع، ماذا قالت له؟

قالت له: والله لا يخزيك الله أبداً. النبي صلى الله عليه وسلم أوجس في نفسه خيفة، خشي أن يكون أصابه مسٌ من الجنون، تجربة غير عادية.. كلام يسمعه الإنسان يخالط منه اللحم والعظم من مخلوق لا عهد له به ولا عهد للناس به يأمره وينهاه ويعتصره ويرسله ويكلفه بأن يحمل للناس رسالة الله، شيء يروع القلب، ويدخل الرعب إلى النفس، جاء خائفاً إلى الزوجة الوفية فقالت له بدون تلكؤ وبدون تساؤل:

"كلا والله ما يخزيك الله أبداً".

لماذا؟ هل هي ثقة الزوجة بالزوج؟ هل هي محبة الزوجة لزوجها وحسب؟

أحسب أن الأمر على خلاف ذلك. إن خديجة رضوان الله عليها عللت هذا الموقف بماذا؟ بما اشتهر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. من خلال فضيلة وخصائل الاستقامة والشرف: "إنك لتحمل الكَلّ، وتَقْري الضيف، وتصل الرحم، وتعين على نوائب الحق، خلالٌ عالية وفضائلُ عظمى  لا تجتمع إلا في نفس عظيم  من العظماء، أو في نفس أعظم العظماء، هذه الشهادة التي جاءت عفو الخاطر لم تأت في معرض أمر من ورائه مطامع ولا مكاسب، جاءت في مواجهة أي شيء، في مواجهة تأكيد من قبل رجل مارس الكتب وقرأها وعلم أخبار الأولين، واطلع على سير كثير من المرسلين فأنذر هذا المتوجس، هذا المرتعش الخائف من التجربة التي شهدها ومر بها أنه سيؤذى وأنه سيعادى، وأنه سيطارد، وأنه سيخرج من بلده..

أية زوجة من الزوجات العاديات لو سمعت هذا من زوجها في مواجهة هذه النذر والمخاطر لكانت عاملاً في تثبيط همة الزوج، لكانت عاملاً يدعو زوجها إلى القعود ونفض اليد من هذه المهمة القاسية، المهمة غير مأمونة النتائج. ولكن خديجة رضي الله عنها.. بالفطرة السليمة، بالخلق الفاضل، بالطبع الكامل، رأت أن امرأ مثل محمد صلوات الله عليه وآله لا يمكن أن يتعرض من قبل رب العزة للخذلان طالما أن الله جَمَّله وكمَّله بهذه الفضائل، وزانه بهذه الأخلاق الرفيعة فلم يك ذلك قطعاً لكي يُهدر، ويُضيع هذه المعاني السامية المتمثلة في شخص محمد صلى الله عليه وسلم ولكن الله سيحفظ بحفظه رسوله، ولن يعرضه للخزي والخذلان ولهذا آمنت خديجة رضي الله عنها لأول ما أخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ابتعثه للعالمين بشيراً ونذيراً.

علام يدلنا هذا، ما هو الدرس الأول البديهي الذي يمكن أن نستخلصه من هذه الشهادة، من هذه الواقعة الجزئية؟.. تعوَّدوا معنا يا إخوة على قراءة ما بين السطور.. هذا يدل على أن شخصية الداعي، وهنا موضع الأهمية، لها الأثر الحاسم والنهائي في نجاح الدعوة أو فشلها.. لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان على غير ما هو عليه ماذا يكون الحال؟ إن محمداً صلى الله عليه وسلم ولد في مكة، وعاش في مكة، واختلف فيما يختلف فيه الناس واضطرب فيما يضطرب فيه الناس من شؤون الحياة، أخذ وأعطى، وتزوج وأقصى، وأكل شرب ورآه الناس لم تكن حياته الشريفة صفحة مطوية وإنما كانت شيئاً ظاهراً يعلمه الناس ويرونه بأم أعينهم ويسمعونه بآذانهم ويلمسون آثاره بأيديهم فما تعلقوا عليه بريبة قط.

عاش العمر الطويل بينهم، أربعون سنة مرت والنبي صلى الله عليه وسلم لا يلفت أنظار مَنْ حوله من الناس بشيء خارق للعادة. كل ما هنالك أنه كان بشراً كاملاً، وكان إنساناً رفيعاً وكانت طباعه سليمة، وكانت فطرته مستقيمة، أما أنه كان هناك شيء خارق للعادة قبل أن يفجأه الملك بما فجأه به في غار حراء فلا هذه الحياة التي مرت أربعون عاماً بلغ فيها النبي صلى الله عليه وآله أَشُدَّه واستوى وأخذ فيما يأخذ الناس فيه لم يجربوا عليه كذباً قط. ثم عالنهم بأنه مرسل إليهم من قبل الله جل وعلا فبمَ يتهمونه بالكذب؟ أبعد أن جلل الشيب فوديه يكذب على الله؟ وهو الذي لم يجز لنفسه أن يكذب على أحد، هذا شيء غير مقبول في بديهة العقل الإنساني. كان عليه الصلاة والسلام منذ الطفولة وبواكير الصبا مثالاً للإنسان المهذب المستقيم. قال عليه الصلاة والسلام: ما هممت بشيء من أمر الجاهلية إلا مرتين، كنت أرعى غنماً لأهلي فسمعت صوت غناء فسألت صاحبي – كان معه شخص آخر يرعى الغنم – ما هذا الغناء قال عرس لابن فلان، قلت له: احفظ عليّ غنمي ريثما أذهب لأسمع فلما جئت جلست خارج الدار لأسمع الغناء فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا حرّ الشمس، فلم أسمع شيئاً فلما كانت الليلة القابلة صنعت مثل الذي قبلها – طلب إلى صاحبه أن يحفظ عليه غنمه ليسمر ويلهو كما يلهو صبيان مكة – قال فجئت فجلست قريباً من الدار فضرب الله على أذني فنمت فما استيقظت إلا مع الصباح.. هاتان الحادثتان فقط هما اللتان همّ بهما – عزم مجرد إرادة رغبة لم يصنعها- من أمر الجاهلية.

وأما ما كان يتقرب به قومه إلى الله من عبادة للأوثان ففي حديث بَحِيْرى الراهب أن بحيرى أراد أن يستخبر خبر النبي صلى الله عليه وسلم فاستدعاه واستدناه وقال له:

أنشدك باللات والعزى.

قال: لا تنشدني باللات والعزى فوالله ما أبغضت شيئاً كما أبغض اللات والعزى.

وكان قومه يتقربون إلى اللات والعزى ويرونها تشفع لهم عند الله وكان عليه الصلاة والسلام يرى أن هذا سخف.. سخفٌ لا يليق بعاقل.

وأمانته ماذا عنها؟ عمل بالتجارة فكان مثال التاجر الصدوق الأمين؛ اتجر لخديجة رضي الله عنها فلما رأت ما رأت من صدقه وأمانته ووفائه طلبت منه أن يتزوجها وهي التي رغب أشراف قريش لو ينالون شرف الزواج منها لما تتمتع به من كمال ومنزلة بين نساء قريش فرفضتهم وردتهم برغم ما بذلوا لها من الأموال وقطعوا لها من الوعود واختارت عليهم هذا اليتيم المُقلّ محمداً صلى الله عليه وسلم.

ثم ماذا؟ اشتهر بالصدق الذي لا صدق بعده أبداً! اختلفت قريش وكانت قريش تثق به ثقة مطلقة، لأمانته ولصدقه ولعفافه، اختلفت قريش حين هدمت الكعبة لتجديدها في رفع الحجر الأسود، وحمي الأمر وأنذر بالشر وتداعوا للقتال فقام رجل مسن منهم وقال لهم:

- رويدكم يا قوم اجعلوا الأمر حكماً في يد أول داخل من باب الصفا.

فرضوا فلما كان من الغد كان محمد صلى الله عليه وسلم أول داخل فلما رأوه فرحوا واطمأنوا واستبشروا وقالوا جميعاً:

- هذا محمد، هذا الأمين رضينا به وبحكمه.

فسألهم فأخبروه فقال: هلمَّ إليَّ ثوباً، فجاؤوه بالثوب فحمل الحجر بيديه الشريفتين ووضعه في الثوب ثم دعا رؤساء القبائل وأمرهم أن يحمل رئيس كل قبيلة  طرفاً من أطراف الثوب حتى إذا ساوى الحجر المكان الذي يوضع فيه، حمله بيديه الشريفتين فوضعه في المكان الذي هو فيه الآن.

لو أن أي رجل من سادات قريش وزعمائها جاء ليكون في مكان محمد صلى الله عليه وسلم لأثار نزاعاً، ولأثار لغطاً شديداً لأنه ما من رجل منهم إلا وله هنات وهنات وله سقطات وسقطات ولكنْ محمدٌ ماذا يقولون فيه؟ بأي شيء يعلقون عليه؟ لهذا من غير تردد وبلا مجادلة وبلا نقاش قبلوا به وبحكمه.

أكثر من ذلك.. لما جاءت الدعوة وأنذر وبشر ودعا إلى الله واشتد الأمر بينه وبين قريش وتدابرت قريش فيما بينها فوصلت الأمور إلى حد التآمر على قتله صلى الله عليه وسلم هل فكر أحد من القرشيين أن يسترد ما كان عند محمد من أمانات؟ لا. حين أراد الهجرة في وقت المؤامرة وفي ساعة التنفيذ زعموا... خَلَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً كرم الله وجهه في الجنة في مكانه لكي يرد الأمانات إلى أصحابها.

يا سيدي يا رسول الله أية أمانة أية ثقة هذه التي كنت تتمتع بها من خصومك، من الذين يطلبون دمك، من الذين يسعون ليقتلوك أو يثبتوك أو يخرجوك، ما فكروا بأن أموالهم في خطر عند محمد صلى الله عليه وسلم، في أشد الأوقات وفي أحرجها كانوا يثقون بمحمد صلى الله عليه وسلم هذه الثقة المطلقة التي لا تتقبل المناقشة ولا الجدال ولهذا نجد الله سبحانه وتعالى يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم حين ووجه بالصد وأعلن تكذيبه ورفضت قريش سماع ما يقول: يقول له الله:

)فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون(.

هذا الذي تراه من قريش ليس تكذيباً لأن الكبير والصغير والحر والعبد والذكر والأنثى يعرفونك الصادق الأمين ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون حينما تكون شخصية الداعي بهذه المثابة من الطهارة والاستقامة والعفة والأمانة، تكون دعوته بمنجاة من كل الركام الذي يلحق الدعوات التي يقوم بها أناس عليهم بعض الشوائب وبعض المآخذ ولهذا نجد أن الأمور يُسِّرت لمحمد صلى الله عليه وسلم، كان طريقه إلى قلوب الناس مفتوحاً ومعبداً ومذللاً فهو الموصوف في الجاهلية وفي الإسلام بالوفاء والصدق والأمانة هو الموصوف بالوفاء الذي لا يَغْدر لمّا وضع أهل الحديبية وأثناء المفاوضات جاء أبو بصير رضي الله عنه فرفض سهيل أن يسمح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقبوله وقال: لجّت القضية بيني وبينك يا محمد أي تم العقد.

قال: صدقت، يا أبا بصير ارجع مع القوم.

قال أبو بصير: أُرَدُّ إلى قريش، إلى الكفار، يعذبوني ويفتنوني عن ديني يا معاشر المسلمين..؟

قال: يا أبا بصير إنا أعطينا القوم عهداً وإنه لا يصلح في ديننا الغدر..

الغدر ومساوئ الأخلاق ورديء الطباع قد يوفر لك مكسباً عاجلاً رخيصاً، لكن ثق أنك ستخسر الجولة الأخيرة، الاستقامة، الوفاء، الطهر، العفاف، صدق الحديث، قد يعرضك للمتاعب.. لكن ثق أنك ستكسب الجولة الأخيرة.. ما معنى هذا؟

معنى هذا أنني لا أطلب إلى كل داع إلى الإسلام أن يكون بصدق محمد، وبوفاء محمد، وبطهارة محمد.. ذلك شيء لا سبيل إليه، لكني أطلب وأشترط في كل متصد للدعوة إلى الله جل وعلا أن يكون صادقاً مع الله صادقاً مع نفسه صادقاً مع الناس لمجرد أن يتوفر هذا يكون طريقه سهلاً، لا بد من المتاعب ذلك ثمن يجب أن يدفعه كل متصد ومتقدم لتغيير الأوضاع المهترئة الفاسدة، ولكن العواقب مضمونة بإذن الله تعالى.

قد يتعرض الإنسان في موطنه للأذى.. يقال له كنت كيت وكيت، وكان منك كذا وكذا وهذا حصل ولا بد أن يحصل، لكني أريد أن أبشر أحبابنا أن مدار الأمر على الصدق مع الله تعالى، فالإنسان مهما يكن ملوث الماضي مهما تكن عليه من سقطات وشواغر يجب أن يعلم أن صدقه مع الله والتزامه بحدود الشريعة ووفاءه لهذه الدعوة والتحامه بجمهور المسلمين من أجلهم ولخدمتهم يهون عليه متاعب الطريق.

إن الله جل وعلا تكفّل، وهو الصادق الذي لا يأتي كلامه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لهؤلاء الناس الذين يصدقون معه أن يبدل الله سيئاتهم حسنات، بل أكثر من ذلك إن الله جل وعلا أخبر على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم أن الرجل الصادق مع الله، الملتزم بأوامر الله جل وعلا يُنْسي اللهُ جلَّ وعلا الحفَظَةَ ذنوبَه ويمحو من أذهان الناس سيئاته، بل ويُنْسي الأرضَ التي عصا عليها معصيته.

إن الله جل وعلا لم يطلب منك أيها المسلم إلا أن تكون صادقاً معه فإن صدقت معه فالبقية على الله.

 أيها الإخوة أيها الراغبون في سيادة كلمة الله، أيها الداعون إلى الله.

لا يكن ماضيكم.. معيقاً لكم.. إذا أحبَّ الله عبداً قال يا جبريل، إني أحببت فلاناً فأحبَّه فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله قد أحبّ فلاناً فأحبوه ثم ينزل له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً نادى جبريل فقال لجبريل: إني قد أبغضت فلاناً فأبغضه فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله قد أبغض فلاناً فأبغضوه، ثم ينزل له البغضاء في الأرض.. مدارُ الأمر -كما ترون- على الصدق، وعلى الوفاء لنهج النبوة وتعهد هذا الدين، فإذا كنت صادقاً فثق أن الله جل وعلا بيده كل شيء وبيده مفتاح كل شيء.

إن الله كلّف إبراهيم عليه السلام فقال له: أذِّنْ في الناس بالحج، فقال: يا رب وماذا تبلغ دعوتي من الناس؟ أقف في مِنى وأقول إن الله كتب عليكم الحج من الذي يسمعني؟ قال الله جل وعلا: أذِّنْ في الناس وعلينا البلاغ. فأذَّنَ إبراهيم عليه السلام وسمعت الدنيا أسلافاً وأخلافاً دعوة إبراهيم عليه السلام في الحج إلى بيت الله الحرام، إذاً لماذا تعجُّبُك أيها المسلم؟!

إن النبي صلى الله عليه وسلم حجَّ حجّة الوداع وحجّ معه من أصحابه مئة ألف وعشرة آلاف عدا الأعراب ومن جاء مما لا يبلغه الإحصاء ولا يتناوله العد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون منتشرين في منى وخطب النبي صلى الله عليه وسلم ببلاغة العرب بوصايته الأخيرة بخطبة الوداع لم تكن هناك مكبرات للصوت، ولا كانت هنالك وسائل تبليغ الكلام إلى الناس وكان النبي عليه السلام يتكلم وكان الصوت يبلغ المسلمين وهم في خيمهم بقدرة الله جل وعلا وبإرادة الله جل وعلا فإذا كان الأمر كذلك فإياك أيها المسلم أن يردك أو أن يجعلك في تردد ما تشعر به من ماضيك، اصدق مع الله فأنت تنسى ماضيك وينسى الناس كلهم ماضيك وتنسى الحفظة ماضيك وتنسى الأرض التي عصيت عليها هذا الماضي.

شخصيه الداعي إذاً لها الأثر الحاسم في إنجاح الدعوة فليحذر كل إنسان يدعو إلى الله جل وعلا أن يسمح للحظته الحاضرة أن تكون شيئاً لا يرضي الله جل وعلا، ليعلم أنه حين يتصدى لدعوة الناس إلى الله لا يبقى الأمر متعلقاً بشخصه، الآلاف والملايين كلها تنظر إليه إن استقام استقاموا، وإن انحرف انحرفوا فليكن على حذر كل داع إلى الله جل وعلا متمثلاً بالنبي صلى الله عليه وسلم آخذاً الدرس والعبرة من هذه الشهادة التي رويناها لكم والتي هي كلمات قلائل ولكنها تترجم عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم، هذه الحياة الطاهرة النقية التي فتحت أمام محمد عليه السلام مغاليق القلوب والأسماع والأبصار فأبلغ دعوة الله إلى الناس قاطبة.

يا أحبابنا استعينوا بالله واعلموا أنكم في زمن يطلب من كل واحد منكم أن يجند نفسه لخدمة هذا الإسلام، هذا الإسلام أهمل طويلاً وطالت المؤامرات عليه، وهذا الإسلام تكسرت عليه النصال فوق النصال وآن لكل مسلم أن يعرف واجبه وأن يعرف أنه موقوف بين يدي رب لا تخفى عليه خافيه فمسئول عن كل كلمة وعن كل نأمة، وعن كل تصرف بلى وعن كل همٍ ونية وإرادة تحركت في خلجات الضمير، فاتصلوا بالله واعتصموا به هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير.

هذه يا أحبابي فكرة واحدة احفظوها وعوها وفي المستقبل سوف نحاول أن نعالج بقية الأفكار بهذا الشكل لا نخرج من المسجد إلا بشيء حقيقي قد تعلمناه..

شيء أخير أريد أن أقوله لكم:

هذا الكلام الذي أقوله لكم ليس كلاماً من قبل اجتهادي، خير ما عندي، وأنا أكره ما أكره موقف الأستاذ، موقف الموجه، موقف المعلم، أنا واحد منكم، قد أكون أجهل منكم، قد أكون أقلكم عزماً وحولاً وقوة، فأنا أطلب من كل واحد منكم أن يناقش وأن يفكر أنتم هنا لتسمعوا ولتفكروا وأنا هنا لأقول ولأسمع آراءكم والقضية قضية تعاون نحن نقول رأياً قد يكون صواباً وقد يكون خطأً وأنا لست من هؤلاء الذين يتأذون من رد الرأي ثقوا أنني أفرح من أعمق أعماق قلبي حينما أرى ولدي الصغير صحح لي خطئي نحن جميعاً إذاً باحثون عن الحقيقة، نبحث عنها، البحث عنها يقتضي الجد في النظر والتفكير والمناقشة. وخطبة الجمعة تعليم وتعاون بين المسلمين فلا تكونوا سلبيين.. من رأى رأياً لا يعجبه ولا ينطبق على ما يفكر فيه فليقل لا يستحي أنا ربما أغفل وربما أنسى ومن الراجح أنني أخطئ وأنا محتاج إلى رأي كل واحد منكم لنتعاون على التعرف على الحق..

فلا خير في حياة لا يسود فيها الحق أسأل الله جل وعلا أن يعينني وإياكم والمسلمين.