حركة التاريخ بين النسبي والمطلق في رسائل النور"(1)

أديب إبراهيم الدباغ

حركة التاريخ بين النسبي والمطلق

"في رسائل النور"(1)

بقلم: أديب إبراهيم الدباغ

الرحلة... و... الصحبة!

في البدء لم أكن أحسب أني سأمضي مع "النورسي"، فيما كتب، هذا الشوط البعيد، أو سأوغل في شعاب فكره هذا الإيغال اللاهف العميق، فقد توهمت - بادئ ذي بدء - أن رحلتي معه لن تطول، وصحبتي له لن تستمر، ولكن الذي حدث هو أن الرحلة التي بدأت قبل أكثر من خمس سنوات* لا يبدو أنها على وشك الانتهاء، والصحبة التي استمرت طوال هذه السنين لم يظهر - حتى هذا اليوم - ما يشير إلى أنها قد وصلت إلى نقطة النهاية، فما زلت أقف أمام صفحات كثيرة مطوية من فكر الرجل تنتظر من يكشف عنها، ويسلط الأضواء عليها، فضلاً عما تحدثه - في النفس - صحبة الرجل، وملازمة مؤلفاته، من إحساس بالراحة، وشعور بالقوة والحيوية والتفوق إزاء شتى ضروب الأفكار والمعتقدات الأخرى.

والرجل - بعد هذا أو ذاك - موهوب في كسب صداقة من يقرأه، وامتلاك إعجابه واجتذابه إليه، بما وهبه الله سبحانه وتعالى من قوة الروح، ونفاذ الفكر، ورهافة الحس، وصفاء الذوق، وصدق المشاعر، وعمق محبته للإنسان، وعظيم إخلاصه لله، وشدة تعلقه بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن صحبته لا تُمل، وملازمته لا تُسأم، ومعايشته لا تُضجر.

وقد كانت بداية تعرفي على "النورسي" من خلال قراءتي لبعض أعماله المترجمة من التركية، والتي اضطلع بمهمة نقلها إلى العربية الأخ الأستاذ إحسان قاسم الصالحي، كما وقع في يدي بعض مؤلفاته بالعربية كـ "المثنوي العربي النوري"(1) و"إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز" و"الخطبة الشامية" فاكتشفت من خلال هذه القراءات أنني وقعت على كنز إيماني نفيس، ليس من العدل حرمان قراء العربية من الوقوف عليه، والتعرف على ما عنده، والإفادة مما لديه، لا سيما والرجل وقاع على الجديد والطريف والمبتكر من المعاني والأفكار، وقصاص بارع لكل سارح وبارح من بوارق الخواطر ولوامع العقول.

و"سهولة العمق" أو "عمق السهولة" ميزة مؤلفات "النورسي".

أما "سهولة العمق" فنعني بها: أنه لا يأخذك إلى عمق أفكاره ما لم يمهد لك السبيل إلى ذلك، وييسر لك طريق الاندفاع إليها، والغوص في طلبها، فلا تحس في غوصك بضغوط الأعماق، ولا تعاني من ضيق التنفس، ثم تنفذ - بعد ذلك - إلى السطح وقد التقطت طِلبتك، وحصلت على بغيتك، وكأنك في مكانك من السطح لم ترم.

وأما "عمق السهولة" فنعني به: أنه ما من سهل في فكر " النورسي" إلا وهو من ذلك " السهل الممتنع" الذي تحس وكأن كل أحد قادر على الإتيان بمثله، لكنه في حقيقة الأمر، يستعصي على الفحول من أرباب العقول، لأن التجربة والمعاناة - وهي ذاتية بحتة - هي الأساس فيه، وهي مما لا يتشابه فيها اثنان من البشر.

فالتجربة والمعاناة هي التي ترفُد رسائله بالحرارة، وتفعمها بالحيوية، وتطبعها بالمصداقية، وتشحنها بالواقعية، فقد عايش عصراً مضطرباً مليئاً بالأحداث، وشارك في بعضها، وراقب الأخرى عن كثب، وشاهد المسارات المرسومة للدولة العثمانية وكيف يتم تحويلها إليها تدريجياً. فشارك في "الحرب التركية الروسية" قائداً لفرق الأنصار وأبلى البلاء الحسن، وهزه انهيار الدولة العثمانية، ذات الأمجاد العظيمة، ولاحظ بأسى الانقلاب المريع الذي قاده "مصطفى كمال" مزلزلاً به حياة تركية المسلمة، وأحس بالمؤامرات وهي تحاك في الظلام لإبعاد الأتراك عن دينهم وفصلهم عن قرآنهم، وبكى بمرارة الحرف العربي الذي اختفى ليحل محله الحرف اللاتيني، وأبصر دامعاً حزن "الجمعة المؤمنة" وهي تتوارى وَجِلة أمام "الأحد" السفيه العابث... إلى غير ذلك من أمور أصبح لها قوة القانون وهيمنة الدستور.

وقد شخص الرجل مرض المسلمين المزمن، ووضع يده على أسباب انحسار حضارة الإسلام أمام الحضارة الغربية،ونادى بضرورة الانكباب على العلوم الحديثة والإفادة منها في بناء "القوة الإسلامية الجديدة" والتي ينبغي لها أن تقبل التحدي وتواجهه بكل ما يتيسر لها من أسباب القوة، ونبه إلى أن اللبنة الأولى في صرح هذه القوة يجب أن يكون "الإيمان".

لذا فإن التركيز على "الإيمان" وتجلية حقائقه، وتعميقه في النفوس، هو من مهمات الرسائل التي كتبها وأطلق عليها اسم "رسائل النور".

*  *  *

وهذا الكتيب الذي بين يدي القارئ الكريم إنما هو إشارات سريعة لبعض أحداث "التاريخ" وردت متفرقة في العديد من "رسائل النور" المترجمة إلى العربية، وقد لاحظت أهميتها في تفسير كثير من أحداث التاريخ عموماً والتاريخ الإسلامي بشكل خاص، مما حدا بي أن أضع كل إشارة تحت عنوان مناسب، ثم أجري حولها كلاماً أرجو أن يكون قد أسهم بعض الشيء - في إلقاء المزيد من الأضواء عليها.

وأرجو أن يوفق الله سبحانه وتعالى في قابل الأيام للعثور على إشارات تاريخية أخرى في ثنايا "رسائل النور" نعد القراء أن نضيفها إلى هذه "الإشارات" إن شاء الله.

       

الهوامش:

* كُتب هذا قبل عام 1987.

(1) انظر "مختارات من المثنوي العربي النوري لسعيد النورسي: اختيار وتقديم: "المؤلف". مطبعة الزهراء الحديثة – الموصل 1984.