معاً من أجل فهم أعمق

معاً من أجل فهم أعمق

بقلم: أحمد جمال الحموي

عضو مؤسس في رابطة أدباء الشام

1 – قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون".

إنه خطاب للمؤمنين "يا أيها الذين آمنوا". إن كنت مؤمناً فإن الخطاب لك فافهمه واعمل به ومن لم يلتفت لهذا الخطاب ولم يعمل بما فيه فكأنه لا يعد نفسه مؤمناً. فمن ذا الذي يرضى لنفسه ذلك.

2 – قال تعالى "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه"

أرأيت إلى هذه العلاقة بين شهر رمضان والقرآن "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن"، حتى لكأن شهر رمضان شهر الصيام والقرآن معاً. ولا نقصد بهذا أن قراءة القرآن وتدبره لا تكونان إلا في شهر رمضان، وإنما القصد أن الداعية إلى قراءته وتدبره تزداد وتقوى في هذا الشهر، حتى إنك لتسمع قراءة القرآن في هذا الشهر أينما سرت، وكيفما توجّهت، ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً. فيا أيها المقصر في قراءة كتاب الله وتدبره . ويا من لم تنتظم بعد في سلك التالين المتدبرين له، اغتنم شهر رمضان واعكف على القرآن لتجمع في هذا الشهر الصيام والقرآن كما جمعهما الله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة.

3 – وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: (كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.. للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه) رواه البخاري واللفظ له، ومسلم.

ما أحلاه من كلام وما أعذبه وأرقَّه من خطاب، لا بريق الذهب يداينه، ولا نظم الجواهر يجاريه، والحديث كله يجب الغوص على معانيه لصيد درره ولآلئه، لكن انظر أخي المسلم إلى آخر هذا الحديث (إذا أفطر فرح بفطره) وراقب نفسك هل أنت كذلك، أم أنك عند الإفطار تكون مقطب الحاجبين عابس الوجه لا يكاد يجرؤ أحد على مخاطبتك وكأنك تقول بلسان الحال إنني برم بهذه العبادة مستثقل لها، إن كنت كذلك فأنت لست ممن يعنيهم هذا الحديث فتب إلى الله واعلم أن الصوم خير كله فافرح به فذلك خير وأحسن تأويلاً.

4 – عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه. ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال فيشفعان) رواه الإمام أحمد والطبراني في المعجم الكبير والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم.

أخي المسلم: هل أنت حريص على الشفيع الذي يشفع لك يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه، يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً، إذن عليك بالصيام والقرآن، فهما شفيعان مقبولان عند الله تعالى بنص الحديث "قال فيشفعان" ثم تأمل أخي المسلم ما يقوله القرآن يوم القيامة "منعته النوم بالليل فشفعني فيه" إن القرآن هو الذي يقول منعته النوم بالليل. وهكذا ليل المسلم في شهر رمضان تلاوة قرآن وتهجد ودعاء. وليس كليل الغافلين السادرين يضيع في الكلام الفارغ، أو في المسلسلات السامة، التي تنسف فوائد الصوم الروحية والقلبية، وتقضي عليهما. فحاذر أن تكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً وإياك أن تنسف صومك وفوائده بأمور قد تضر ولا تنفع، وبعضها يضر دونما أدنى شك، وتذكر الحديث الشريف

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رُب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر" رواه ابن ماجه واللفظ له، والنسائي وابن خزيمة في صحيحه والحاكم.

5 – عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً وحضر رمضان:

(أتاكم رمضان؛ شهر بركة، يغشاكم الله فيه "أي يحيطكم بعنايته" فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء ينظر الله تعالى إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل) رواه الطبراني.

أخي المسلم:

انتبه فإن الله ينظر إلى تنافسنا فيه وأي تنافس يطلبه الرب الرحيم العظيم منا؟ إنه التنافس على الخير، وليس هو سبحانه محتاجاً إليه فهو الغني عن العباد وأعمالهم:

"يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد".

فاحذر أن يراك حيث نهاك، وأن يفقدك حيث أمرك. ولتكن كما يحب وحيث يحب سبحانه، عسى أن ينظر إليك نظرة رضا وينفحك نفحة لا تشقى بعدها أبداً.

ثم إنه تباركت أسماؤه وتقدست ذاته وصفاته يباهي بنا ملائكته الذين قالوا ذات مرة:

)أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال إني أعلم مالا تعلمون(.

وهل يباهي الله تعالى ملائكته بالعصاة أو بالمقصرين؟

لا يا أخي إنما يباهي بالعاملين المجدين فاجهد كي تكون منهم وتبلغ هذه المنزلة وتحظى بهذا الشرف العظيم.

وهل من شرف فوق أن يباهي الله بنا ملائكته؟ فأين من يفهم؟ جعلنا الله جميعاً منهم. آمين.

6- عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احضُروا المنبرَ، فحَضَرْنا، فلما ارتقى درجة قال: آمين. فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: آمين. فلما ارتقى الدرجة الثالثة، قال: آمين. فلما نزل قلنا: يا رسول الله، لقد سمعنا منك اليوم شيئاً ما كنا نسمعه. قال: إن جبريل عليه السلام عرض لي فقال: بَعُدَ مَنْ أدرك رمضان فلم يُغفر له، قلت: آمين، فلما رقيت الثانية، قال: بَعُدَ من ذُكرتَ عنده فلم يصلِّ عليك. فقلت: آمين، فلما رقيت الثالثة، قال: بَعُدَ من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة. قلت: آمين) رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد.

إن جبريل عليه السلام يدعو بالإبعاد والطرد على من أدرك هذا الشهر بما فيه من غلق أبواب النيران وفتح أبواب الجنان وتصفيد الشياطين، وبما فيه من رحمة ومغفرة وعتق من النار، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمن على دعاء جبريل فهل ندرك عمق هذا المعنى، لكأنه مما لا يمكن أن يتخيله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدرك المسلم شهر رمضان ثم لا يغنم المغفرة ولا يفوز بها.

7- أ-  قال صلى الله عليه وسلم: من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري ومسلم وأبو داوود والنسائي بألفاظ متقاربة وابن ماجة.

ب- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي.

هكذا شهر رمضان؛ صيام وقيام وليس صياماً فحسب، وإن اختلفت درجة الطلب وهما مدرسة تامة ومعسكر تدريبي كامل فمن صام رمضان إيماناً: بأن يصومه على التصديق الكامل بأنه فرض، وأن فيه الخير والنفع الشاملين. واحتساباً أي رغبة في الثواب، طيبة نفسه، غير كاره له ولا مستطيل أيامه، ولا مستثقل أوقاته، غُفر له ما تقدم من ذنبه، وكذلك من قام رمضان غُفر له ما تقدم من ذنبه، فإذا اجتمع الصيام والقيام كان حصول المغفرة آكد بإذن الله.

ولو أن العاقل كان يملك مال الأرض، ثم علم أنه إذا بذله غفر له لبذله طلباً لمغفرة ما تقدم من ذنبه. لكن الرب الرحيم الكريم سبحانه فتح لنا باباً سهل الولوج، قليل الكلفة، ويسر لنا سبيلاً ممهداً لتحصيل المغفرة، فهل لأحد أن يتقاعس أو يتردد. وهل تضييع هذه الفرصة إلا شعبة من الحماقة والجنون.

8- (أُرِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم. فأعطاه الله ليلة القدر خيراً من ألف شهر) الإمام مالك في الموطأ.

أخي الحبيب:

كم تتعب إذا بقيت ألف شهر تقوم الليل؟ إنه تعب قد لا يطيقه إلا أقل القليل من الناس، لكن رحمة الله تعالى بهذه الأمة وإكرامه لها كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيء عجيب، فقد أعطانا ربنا سبحانه وتعالى ليلة القدر إنها ليلة واحدة من قامها كانت له خيراً من قيام الليل ألف شهر كاملة، فأين تجار الآخرة الذين يعرفون علم الحساب؟!

9 – وفي حديث نبوي شريف يقول صلى الله عليه وسلم مبيناً ثواب إطعام الصائمين في رمضان: (من فطّر صائماً كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء. قالوا: يا رسول الله ليس كلنا من يجد ما يفطر الصائم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعطي الله هذا الثواب من فطر صائماً على تمرة أو على شربة ماء، أو مذقة لبن، وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، من خفف عن مملوكه فيه غفر الله له وأعتقه من النار).

أيها الأخ الحبيب:

إطعام الطعام مستحب ومرغّب فيه دائماً وفي الأيام كلها ويعظم الترغيب بذلك في شهر الصيام، والأمر متاح لأكثر الناس، فإذا فطّرت صائماً بما يتيسر لك وحسبما تستطيع، كان لك مثل أجر الصائم من غير أن ينقص أجر ذلك الصائم.

ثم إن في هذا الحديث لفتة رائعة أخرى: إنها الدعوة إلى التخفيف عمن لك عليه سلطان أو ولاية أو رعاية (من خفف عن مملوكه فيه غفر الله له..) هذا في حق من خفف عن مملوكه فكيف بالزوجة والأولاد؟! إن بعض الرجال على درجة من القسوة والغلظة قبيحة وشنيعة لا يكون بشرهم وانبساط أساريرهم إلا للغرباء ولا يرى الأهل منهم إلا الوجه الكالح الكئيب.

فليتقوا الله تعالى فيمن تحت أيديهم.

ولا ينسَ أربابُ العملِ العمالَ أن يرحموهم في هذا الشهر، فالراحمون يرحمهم الرحمن (من لا يَرحم لا يُرحم).

10 – قال تعالى: )اليوم نختم على أفواههم، وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون( سورة يس.

عن حكيم بن معاوية بن حيوة القشيري عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(أول ما يتكلم من الإنسان يوم القيامة ويشهد عليه فخذه وكفه) وفي رواية (فخذه ويده).

11 – أخلص ما بينه وبين الله:

قيل إن الذئب في عهد الخليفة الأموي الثامن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان يحرس الغنم. فسأله راع وقال له يا أمير المؤمنين ما بالنا نرى الذئب يحرس الغنم؟ فقال له أمير المؤمنين: أخلصتُ ما بيني وبين الله، فأخلصَ الله ما بين الذئب والغنم.

12 – قال الشاعر:

شهرَ الصيام لقـد علوتَ iiمكانـاً
يا صائمي رمضان هـذا iiشهركم
يـا فـوزَ مَـنْ فيه أطـاعَ إلهه
فالويلُ كل الويل للعاصي iiالـذي



 
وغدوتَ  مِن بين الشهور iiمعظما
فـيه  أنـالـكُمُ المهيمنُ iiمـغنما
متقـربـاً،  مـتجنباً مـا iiحرّما
فـي  شهره أكلَ الحرام iiوأجرما

وكل عام وأنتم بخير، وتقبل الله منا ومنكم.