موقع الإنسان بين الكونين

أديب إبراهيم الدباغ

موقع الإنسان بين الكونين

أديب إبراهيم الدباغ

في كتابَي الله تعالى: القرآن، والكون، تقوم الآيات تنادي الأرواح التي سئمتْ لبثها عند مشارف الأرض لتعلوَ وترتقي فوق السماوات السبع، حيث لا يعرف أحد المدى الذي يبلغه نورها ولأْلاَؤها هناك في الأعالي.فالقرآن ـ كما يرى النورسي ـ كونٌ عظيمٌ إلاَّ أنّه مقروء ومسطور و لا يَقِلُّ في عظمته وسعته وامتداده عن عظمة الكون المنظور والمحسوس بسماواته وشموسه ونجومه وأقماره، والإنسان بين هذين الكونين العظيمين يبحث عن جوهره المهيب، ويفتش عن مستقرّ روحه، وموطن إيمانه وأمنه.

فأدعية "النورسي" ومناجاته ترتفع في حشد عظيم من آي القرآن، وآي الكون، وهو جهد جرئ وجدير يبذله الرجل لكي يبقي على التوازن المطلوب بين الكونين، في حين تسعى المعرفة الكونية إلى قهر الروح وتحديد مساراتها بينما هي- أي الروح- تلاحق مغيّبات بعيدة يقصر خيال الكون عن إدراكها.

إنَّ القهرَ الذي يمارسه الكون إزاء الروح، وعدم سماحه لها بمجاوزة محدودياته، أصابَ نبيَّ الله إبراهيم عليه السلام بالهلع، فصرخ مستغيثاً: {لا أُحِبُّ الآفلين} أي أنا زائلٌ فانٍ فلا ينفعني الزائلون والفانون، ولن يكون وقوفي عندهم، بل أريد الحي الذي لا يموت، والباقي الأبدي الذي لا يزول.

فالآيات الكونية ليستْ مطلوبةً لذاتها، بل مطلوبة لِمَنْ هو بعدها، ولِمَنْ هو فوقها، وهو الله تعالى خالق الكون والإنسان ومَنـزلُ القرآن.

وقد بقي "النورسي" طوال حياته يسعى دوماً لتحرير الإنسان من سجنين دنيويين رهيبين يكبّلانه ويحولان بينه وبين إدارة محركاته الروحية للانطلاق نحو الأمداء العالية من القرب الإلهي ومقصود الروح، وموطنها الفطري، وهذان السجنان هما: غرور "أنا" داخل النفس بما يُسبَغُ عليه من صفات لا تليق إلاّ بالألوهية والربوبية، و"الكون" خارج النفس الذي وقف عنده علم بعض العلماء، وفكر بعض المفكرين ولم يتجاوزانه، وفي هذين السجنين هلكَ الكثير من الخلائق ولا زالوا يهلكون.

وفي المناجاة الآتية يحشد "النورسي" مفردات كونية ذات دلالات عميقة تلفت الانتباه إلى الشمولية التي تطبع فكره ووجدانه، فيقول:

"سبحانك يا من أنطق السماء بحمده وتسبيحه بكلمات النجوم والسيارات.

ويا من انطق الأرض بحمده وتسبيحه بكلمات الأشجار والنباتات..

وانطق النبات والشجر بكلمات الأزهار والثمرات..

وانطق الزهر والثمر بكلمات البذور والنواتات..

وانطق النواة والبذر بلسان السنابل وكلمات الحبات..

سبحانك يا من يسبح بحمدك الضياء بأنواره، والهواء بإعصاره، والماء بأنهاره، والأرض بأحجاره، والنبات بأزهاره، والشجر بأثماره، والجو بأطياره، و السحاب بأمطاره، والسماء بأقماره.

والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبراس [1] الأنبياء، وزبرقان [2] الأصفياء ونيّر [3] الأولياء، وشمس الثقلين، وضياء الخافقين. وعلى آله نجوم الهدى، وأصحابه مصابيح الدجى" [4].


 


[1]  النبراس: المصباح.

[2]  بكسر الزاي والباء : أي القمر.

[3]  بفتح النون وتشديد الياء: المقصود الشمس.

[4]  المثنوي العربي النوري ص 334