كلمة في افتتاح "منتدى عائشة الباعونية" في باعون

كلمة في افتتاح "منتدى عائشة الباعونية"

في باعون

د. حسن الربابعة

قسم اللغة العربية

جامعة مؤتة

[email protected]

بسم الله وكفى، والصلاة على نبيه المصطفى ،وعترته  الأنقياء ، وصحبه الأتقياء ، عطوفة راعي الحفل ، الأخوة الحضور ، سيدات و سادات ،علماء وبحثة وعالمات ، راغبين بالعلم وراغبات ، وساعين إليه وساعيات، ومحتفين بمناسبة افتتاح منتدى عائشة الباعونية في بلدة آبائها وأجدادها ومحتفيات ، سلام عليكم من الله وبركاته برحمات متتاليات ، بقدر ما يستحقه المولى الواحد الأحد من حمد ممتد ،مذ خلق الكون وبثًّ فيه الحيوات والأرواح والنسمات ، سلام عليكم في منتدى "عائشة ابنة يوسف الباعوني "، تلك الفقيهة ابنة الفقيه حفيدة احمد مفتي الديار المصرية والشامية ، منتدى الشاعرة المتصوفة التي تجلى شعرها الصوفي في محبة الله والقبة المحمدية ، منتدى الباعونية حافظة القرآن ومتقنته  ، مذ كانت بنت ثماني سنوات ، دأبها العلم ، والترحال من دمشق  إلى الأزهر، وان كلفها ضرب آباط الإبل إليها  شهورا  ، سلاحها حياؤها وإيمانها وتقواها بله توكلُّها على رب لا يضيعها ، على حُسن ما كان من ظنها به تعالى شأنه  ،وان كانت مصنفاتها  الستة و العشرون، قد فقدتها في رحلتها الأخيرة في بلبيس القاهرة  ،فاحتسبتها من همزات إبليس العاثرة ، وفي الله كان عوضها ، ، فكان لها خير عوض عن كل ما تلف ، فألهمها الإبداع في ما خلف ، فسبحانه من إله يتخشاه العلماء ، ورثة الأنبياء ، ومداد أقلامهم توزن بدماء الشهداء كما في بعض  الأثر.

 عطوفة راعي الحفل الكريم ، الإخوة والأخوات  ، قبل ثمانية قرون مضت كان ناصر الباعوني، جد الأسرة الباعونية يستوطن باعون ، يتاجر بالثياب ولعلها حريرية من دودة القز ، ويركض بها على دابته في صفد والناصرة  دون أن تستوقفه حواجز،ولم يكن  يُسألُ عما كان يحمله ، وكان أهل  باعون  يغزلون الصوف على أنوال يدوية ، يستعذبون ثراها المخضل  ، وانسامها من جبال اشتفينا ، التي  يستشفى العليل  بانسامها التي تفوح  عليه من أرواح البلوط والزيتون الرومي  دائمي الخضرة أو من نفحات وادي اليابس" الريان" أخيرا ،فيطيب عيشه وان شح المورد، فينتشي  من أنفاس النعناع المسترسلة بذوائبه الخضر حينا ، ومن أنداء خرير غدير الباعونية الذي هو من أملاك احد أقربائي اليوم، حينا آخر  ، أقول  لعله آثر البقاء في باعون  ردحا من الزمن  ينتشي بالعبق العليل ، راضيا مرضيا برزق قليل  ،إلى أن قرر الرحيل إلى صفد والناصرة ،وكانتا حاضرتين بارزتين في العصر المملوكي في زمن الظاهر برقوق،  لتوافر  الأمن والأمان والعمل والعلم  فيهما ،وليتخلص ناصر الباعوني من الأمراض التي طعنت عددا من أهل عجلون من جهة ، ومن أخرى ليتخلص من  اعتداءات الأعراب على السكان في تلك فترة حكم مضطربة  ، كانت يستبدل  السلطان بآخر  كل سنة أو سنتين مرة .

  لقد ولد ناصر الباعوني قبل سنة (750هـ)في باعون وولد ابنه احمد فيها على ما يؤرخه له المقريزي معاصره ،واحمد هذا هو جد عائشة الباعونية التي نحتفل اليوم بافتتاح منتداها في بلدة جدها احمد ووالده ناصر رحمهما تعالى وموتى المسلمين .

أنجب ناصر ثلاثة أعلام هم:إسماعيل (739ــ809هـ)واحمد (751ـ816هـ)وموسى(742ـ 794هـ)

  أمَّا احمد فأنجب ثلاثة أعلام هم إبراهيم (777ـ 870هـ)ويوسف والد الشاعرة الفقيهة عائشة (805هـ ـ880هـ)ومحمد (780ـ 870هـ)

   أمّا يوسف والد عائشة الباعونية فأنجب أعلاما ثلاثة هم عائشة(869ـ923هـ) واحمد (859ـ910هـ) ومحمدا( 857ـ910هـ)ومحمد أنجب عالما اسماه يوسف  ، سمي جده يوسف الذي لا اعرف سنتي ميلاده ووفاته.

  ولعلَّ  من الثابت  لدينا أنَّ ناصرا الباعوني وأنجاله الثلاثة :إسماعيل وموسى واحمد هم الذين ولدوا في باعون فحسب، أما غيرهم من سلالته فولدوا في بلاد الشام الكبرى ،  ذلك آن يوسف والد الشاعرة ،ولد في ساحة الخطابة في المسجد الأقصى، يوم كان أبوه احمد خطيبا له ، وابراهم ومحمد ولدا في دمشق وتوفاهما الله تعالى بها ودفنا فيها ، ويقال مثله عن الشاعرة الفقيهة العالمة عائشة الباعونية ؛ ولدت في دمشق ، وتوفاها الله بها ودفنت في بستان الباعونية قرب طاحونة الشنان على ما يذكره فارس العلاوي في كتابه الموسوم ب"عائشة الباعونية الدمشقية "ص62 ، ولعلَّ مما حفزني لقول هذا إنَّ بعض الدارسين يتوهمون أنَّّ الشاعرة عائشة ولدت في باعون، منهم البدوي الملثم، في "القافلة المنسية " وليس من حجة معه ، ومثله كثر تُجرى  معهم مقابلات صحفية ، فيوهمون بمكان ولادتها هنا في باعون  أو يتوهمون ، وكأن الأمر لهم محرج ؛ إن لم تكن عائشة ولدت في باعون، فيا للهول ! فقد وقعت أو كادت  تحل بنا  أو  علينا كارثة ، ولكنه يفرخ روعه  إذا قرأ أسماء العلماء في العصر المملوكي والأيوبي قبله، فلا يستغرب عندئذ نسبة العالم أحيانا إلى غير بلد ولد فيه، أو ترحل منه أو تمذهب فيه أو غيَّر مذهبه  في ما بعد، فتجده العالم الكركي الحسباني الدمشقي الشافعي الكفيراوي نسبة إلى كفير جرش ، ولعلنا  نجد مندوحة لو اطلعنا على أصحاب التراجم عند السخاوي في كتابه "الضوء اللامع " أو شيخه ابن حجر العسقلاني في كتابه "أنباء الغمر بأبناء العصر " أو ابن العماد الحنبلي في "شذرات الذهب في أخبار من ذهب " إذ ليس المهم وحده نسبة العالم إلى بلده الإقليمي  فحسب، بل تعميم رسالة الإسلام بالأمر الأول لنبيه الأمي "اقرأ"وتصاقبه "ارق " هو ضالة الدارس و حكمته المتوخاة منه، وعلى ذلك   فالبحث الجاد هو المتعني بدراسة تراثه الباقي بعده  ،بعد تحقيقه وإزاحة ما غمره الغبار من أدران عليه ، وإذا كان لا بد من معرفة بلده الذي ولد فيه ، فما  هو إلا تحفيز الهمم لأبناء بلدته، للتسابق في  تحقيق مخطوطاته ونشرها والإفادة العالمية منها في زمن "العالم قرية صغيرة " وليس المباهاة وحدها بكافية لنبش التراث وإضاءته ، فتلكموها أوهام  ،لا  يحققها  إلا العمل الجاد وحده .

  لقد تركت أسرة ناصر الباعوني العلمية وهم عشرة نفر بدءا ب"إسماعيل "الباعوني وانتهاء ب"يوسف بن محمد يوسف الباعوني "حوالي خمسين مصنفا في مجالات العلوم المختلفة من فقه وفتيا ، وسيرة ، وأدب بنوعيه من شعر ونثر ، وخط،ونقد ، وتراسلات ، وغير ذلك ،خلال (175)مائة وخمسة وسبعين عاما من العصر المملوكي ، كان لعائشة الباعونية نصفها ، في مجالات البلاغة وهي سيدتها في علم البديع وفي تخمبسها البردة وهي الحادية الوحيدة بين فرسان علماء البديع ، ومن العجاب إلا ينشر من مخطوطات  الأسرة الباعونية  إلا ما لا يزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة ، مخطوطاتهم متناثرة في مكتبات العالم اشرنا إلى بعضها في كتابنا المشترك الموسوم ب"أسرة ناصر الباعوني العلمية في العصر المملوكي ـ، دراسة في سيرهم وتواليفهم " وقد وعدتنا وزارة الثقافة باستحضار ما أمكن مخطوطاتهم من مكتبات العام ، وكان لرحلة الدكتور احمد راشد إلى القاهرة قبل نحو شهرين دور في الاتصال معي لتزويده بأرقام المخطوطات لإحضارها ،وقد وعد ته دار الكتب بإرسالها إليه، وها نحن ننتظر بفارغ الصبر،  لجنة وطنية جادة  لتحقيق المخطوطات ودرسها ونشرها لا سيما أن اليونسكو تنبهت إلى إبداعيات عائشة الباعونية عام( 2006م) وفوّزتها بجائزة ، وان كنا لا ننكر دور وزارتي الثقافة ووزارة التربية والتعليم ،اللتين رشحتاها لليونسكو ،  مشكورتين .

عطوفة راعي الحفل ، الحضور الكرام

ومخلص القول فإننا نبارك لعجلون وباعونها بولادة هذا المنتدى الثقافي الذي يؤسس لثقافة أردنية إسلامية قبل  ثمانية قرون عبرت ، ولعل من ابرز مهامه أن ينتهج ما خطه أسلافهم من علم يقوم على التقوى وأمانة الكلمة وقول الحق وحفظ كتاب الله والحلقات التي تدعو إلى تهذيب النفوس لنرقى بها إلى قيادة عالم المادة ، فجوهر النفس الداخلي إذا صلح، صلح الجسد كله ،وعالمه المادي يصلح تبعا له ، واني لآمل أن يجد هذا النادي دعما خاصا من وزارة الثقافة التي رعته وأخذت بمطالب شيخ جليل هو محمد هيشان فلبوا مطلبه ، وكما قيل فان من يعمل معروفا يكمله ، ولا احسب أن هذا يغيب عن منظور كل من معالي وزيرة الثقافة وعطوفة امبنها العام وهو شاعر ذو حس وطني،وهمومنا مشتركة وسعينا إلى إبراز ثقافتنا للعالم محل اجتهادنا ، نبارك لهذا الجمع المبارك ميلاد المنتدى ونسال الله تعالى أن  يكلا راعي المسيرة بعين حفظه ليرى في تحقيق تراثنا بعينه التي رأى فيها البتراء إحدى عجائب الدنيا السبع فرأى بعين الزرقاء  وقال كما قالت  حَذام فصدقوه إن علم،  والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .