ديننا ارتقاء وخلق وحضارة وتعامل

خطبة الجمعة 11/ 12/ 2015م   

29 صفر/ 1437هـ

يقولون: لماذا لا نكون متحضرين؟ لماذا لا نكون متمدنين؟

لماذا الدولة الفلانية شعبها متمدن متحضر، سلوكهم حضاري؟

لماذا لا نكون كتلك الشعوب؛ إذا دخل المواطن مسجداً كان كأطيب ما يكون، وفي عبادته أرقى ما يكون، فلا تجد ما تكره لا من رائحة فم ولا عرق، ولا تشويش هاتف نقال، لم يدع حذاءه خلفه، لم يرمه بعنف على الأرض، لم يضع الكرسي في مكان غير مناسب، ثم إذا استخدمه يرده إلى مكانه، لم يشوش على أحد، لم يتدخل في المسجد فيما لا يعنيه، و هو كذلك في الشارع؛ حفظاً على النظافة والنظام والهدوء، وغض البصر، والتعاون والإيثار للغير.

وكذا الجار في علاقته مع جاره؛ إكراماً ووداداً ومنعاً للأذى.

فإذا أتى دائرة عامة كان السلوك ذاته، في الحفاظ على النظافة والهدوء والنظام، وخفض الصوت، والابتسامة الدائمة وصدق في المعلومات، وإذا كان موظفاً مسؤولاً يكون أرقى ما يكون في رعاية شؤون المواطنين، والإسراع في حلها، والتعاون معهم، ومساعدتهم ما أمكن، وإنجازها بدقة وصدق وأمانة وسرعة، وابتسامة.

يقول بعض: لماذا لا نكون كذلك؟ بل وأفضل، ماذا ينقصنا؟

قالوا كلما كانت الأمة ذات بعد تاريخي حضاري؛ تكون أرقى في المدنية والسلوك، فانتشر عندهم قولهم: سلوك حضاري، سلوك راقٍ، سلوك مدني ... .

الإسلام ارتقاء وحضارة:

والحق أن الإسلام كله رقي، كله أدب، كله أخلاق، كله قيم ، كله حضارة ، كله مدنية، هو الحضارة وهو المدنية، فإذا رأيت تخلفاً من بعض عن هذه السلوكيات المستقيمة فليس لأننا تخلفنا عن الحضارة والمدنية بل لأننا تخلفنا عن الإسلام ذاته، فالإسلام هو قمة ما يسميه الآخرون حضارة ومدنية وتقدم، إذا مفهوم الحضارة والمدنية نسبي كلٌ يفهمها بطريقته، لكنه قطعاً قدم الإسلام أرقى السلوكيات والأخلاق في كل شيء، لذا رأينا من توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم ما كان معالجة لسلوكيات؛ فارتقى بالجميع من  الجفاء، أو الخشونة أو الغلظة أو القسوة، أو الشدة إلى هذه المعاني، فغير الأسماء ذات الدلالات السلبية.

أكد على النظافة والطيب والمظهر الحسن، ورعاية الشعر، وحسن الثوب، وغير ذلك من المظاهر الجمالية، ألا ترى إلى وصاياه صلى الله عليه وسلم في شأن الفطرة: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رِوَايَةً: " الفِطْرَةُ خَمْسٌ، أَوْ خَمْسٌ مِنَ الفِطْرَةِ: الخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ ") صحيح البخاري، 257.

 (عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ ") صحيح مسلم، 261.

أكد على عدم رفع الصوت في الخطاب، تحقيقا لما في القرآن الكريم ﴿ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ﴾ [لقمان: 19].

أكد على عدم جرح المشاعر ولطف الخطاب ﴿ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [الإسراء: 53]

أكد على مراعاة الهدوء وعدم الإيذاء، حتى ولو في الصلاة ﴿ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ﴾ [الإسراء: 110].

فعن أهمية رعاية المساجد

من التطبيقات المهمة تعظيم شأن المساجد، بالطيب والنظافة ومنع الرائحة، وعن نظافتها وطهارته وكل ما يتعلق بها، يأتي عموم قوله تعالى: ﴿ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ [الأعراف: 31].

- عن أنس: رَأَى صلى الله عليه وسلم نُخَامَةً فِي القِبْلَةِ، فَحَكَّهَا بِيَدِهِ وَرُئِيَ مِنْهُ كَرَاهِيَةٌ، أَوْ رُئِيَ كَرَاهِيَتُهُ لِذَلِكَ وَشِدَّتُهُ عَلَيْهِ.(البخاري)

- عن أَنَس بْن مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «البُزَاقُ فِي المَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا»(البخاري)

- عَنْ نَافِعٍ، «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُجَمِّرُ ثِيَابَهُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ»

- نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُجَمِّرُ الْمَسْجِدَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ»ابن أبي شيبة

- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ - أَوْ شَابًّا - فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَ عَنْهَا - أَوْ عَنْهُ - فَقَالُوا: مَاتَ، قَالَ: «أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي» قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا - أَوْ أَمْرَهُ - فَقَالَ: «دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ» فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ» متفق عليه، واللفظ لمسلم.

- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي حَتَّى الْقَذَاةُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي، فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ آيَةٍ أُوتِيَهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَا»سنن أبي داود، ضعيف

وفي خصوص الجمعة وآدابها نقرأ:

- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنِ اغْتَسَلَ؟ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ، فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمَّ أَنْصَتَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَفَضْلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ»مسلم

- عن سَعِيد بْن المُسَيِّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الجُمُعَةِ: أَنْصِتْ، وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ "البخاري ومسلم

- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَمَسَّ مِنْ طِيبِ امْرَأَتِهِ إِنْ كَانَ لَهَا، وَلَبِسَ مِنْ صَالِحِ ثِيَابِهِ، ثُمَّ لَمْ يَتَخَطَّ رِقَابَ النَّاسِ، وَلَمْ يَلْغُ عِنْدَ الْمَوْعِظَةِ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهُمَا، وَمَنْ لَغَا وَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ كَانَتْ لَهُ ظُهْرًا»أبو داود (حسن)

وعن حقوق الطريق:

وإن آداب الإسلام لم تقف عند المسجد وتعظيم شأنه، بل جعلت طرقاتنا مدرسة في الأخلاق ألا ترى إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم

- «إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ: «إِذْ أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجْلِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ» قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ»البخاري ومسلم

وعن الارتقاء في التعامل:

 نقرأ مثلاً لا حصراً:

- عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، يُحَدِّثُنَا، إِذْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا، وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقًا» متفق عليه.

- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» سنن ابن ماجه، صحيح.

- عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ» أبو داود (صحيح)

- «خياركم أحاسنكم أخلاقا» أحمد، صحيح.

- «خياركم أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا وشراركم الثرثارون المتفيهقون المتشدقون» .

- " إن أحبكم إلي أحاسنكم أخلاقا الموطؤون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون وإن أبغضكم إلي المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الملتمسون للبراء العنت " الطبراني حسن لغيره.

- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ رَجُلًا لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، وَكَانَ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَيَقُولُ لِرَسُولِهِ: خُذْ مَا تَيَسَّرَ، وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ وَتَجَاوَزْ، لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَلَمَّا هَلَكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ قَالَ: لَا. إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لِي غُلَامٌ وَكُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا بَعَثْتُهُ لِيَتَقَاضَى قُلْتُ لَهُ: خُذْ مَا تَيَسَّرَ، وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ، وَتَجَاوَزْ لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْكَ "(النسائي، صحيح)

- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى، سَمْحًا إِذَا اقْتَضَى، سَمْحًا إِذَا قضى"البخاري

حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ الخُزَاعِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ: كُلُّ عُتُلٍّ، جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ "مسلم

- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ، عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهْلٍ» : الترمذي «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ»

-"«خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم» .(مسلم  عن عوف بن مالك).

الخلاصة:

ومحور القضية كما بدأت يقولون لماذا لا نكون حضارين؟

وقالوا كلما كانت الأمة ذات بعد تاريخي حضاري تكون أرقى في المدنية والسلوك، فانتشر عندهم قولهم: سلوك حضاري، سلوك راقٍ، والحق أن الإسلام كله رقي، كله أدب كله أخلاق، كله قيم ، كله حضارة ، كله مدنية، هو الحضارة وهو المدنية، وعندما ترى تخلفاً في السلوك المستقيم فاعلم أنه تخلف عن الإسلام ذاته، وتخلف عن هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

وسوم: العدد 646