تغذية أبنائنا ثقافياً وتربوياً

خطبة الجمعة 14/ 10/ 2016م

13 محرَّم/ 1438هـ

الخطبة الأولى

الخطبة الثانية: "لا للفتنة الطائفية" - أ.د. محمد سعيد حوى

إنَّ من أعظم ما ينبغي أن يعتني به الإنسان، بل من أعظم المؤثِّـرات في حياته الإنسانية هو مصدر الثقافة والتربية والعلم، فإذا استقام وصحَّ هذا المصدر كانت الاستقامة الفكرية والتحقق الإيماني، وبمقدار عظم التلقي وصحة المصدر تكون المسؤولية ويكون الارتقاء.

ولذا امتن الله على نبينا صلى الله عليه وسلم أنَّــه سبحانه هو من علمه، قال تعالى: ﴿ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾ [النساء: 113]

﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشـاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52] ومن هنا كانت مهمة النبي عظيمة، وكان في رعاية الله، فقال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ﴾ [الطور: 48]، ومن ثمَّ كان صلى الله عليه وسلم هو صاحب الخلق الأعظم ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].

فهنا لنا أن نتساءل: ما هي التغذية التي يتلقاها أبناؤنا ثقافياً وتربوياً؟ ويزداد الإلحاح في أهمية هذا السؤال على ضوء ما يثار من قصورٍ في المناهج، ومشكلات، وما يتعرض له الأبناء من غزوٍ إعلامي رهيب من الصعب التفصيل فيه، و لضعفِ دور المسجد كما نلاحظ لأسباب شتى، وهنا يأتي دور الأسرة إذن لتقومَ بواجب التغذية الإيمانية والتربوية والثقافية السلمية، أو التوجيه نحو ذلك.

التغذية الإيمانية:

والذي يلح عليَّ في هذا الجانب أكثر هو كم يتلقى الأبناء من تغذية إيمانية تعمِّق التوحيد بالله، والرضا عن الله، والثقة بالله، ومن ثم المعرفة بأركان الإيمان والقيام بحق العبودية لله.

التغذية الأخلاقية:

والجانب الثاني ماهي التغذية الأخلاقية؟ كم نزرع فيهم قيم الصدق، الحرية، الأمانة، العدل، العفة، حفظ الوقت، بر الوالدين، وغيرها كثير ... ؟

التغذية الفكرية:

كم يتلقى أبناؤنا تغذية فكرية في تصحيح التصورات عن مصدر التشريع، وكذا موقفهم من القضايا الكبرى مثل علاقتنا مع الصهاينة، ومكانة المسجد الأقصى، فتجد من يقول لك: أنتعامل مع أوهام السياسة أم حقائق الإيمان في قضية العلاقة مع الصهاينة؟ وهناك من يقلب العنوان ليقول لك حقائق السياسة وأوهام الإيديولوجيا.

الوحدة الثقافية:

 وهذا يتفرَّع عنه شيءٌ آخر: هل يوجد وحدة ثقافية تربوية أخلاقية لدى أبناء المجتمع المسلم الواحد؟ وعلامة وجود هذه الوحدة الثقافية أنَّـك لو سألت سؤالاً ما في قضيةٍ ما، أو طلبت تصرفاً ما؛ لكان الجواب أو السلوك واحداً، فلو سألت المسلم في أندونيسيا أو المغرب العربي ما موقفك من التطبيع مع العدو الصهيوني مثلاً؟ أو ما موقفك من العدوان على أهلنا في غزة؟ أو موقفك من قتل المسلمين في أي بلد؟ لينبغي أن يكون الجواب واحداً.

دور المسجد:

لقد كان المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هو المدرسة والجامعة والمصدر الإعلامي، فيصدر الناشئ عن ثقافةٍ واحدة وتغذية واحدة صحيحة في آن واحد، وشاملة وعملية.

الوحدة الثقافيةلدى أبناء الصحابة:

تقف على شواحد في حياة أبناء الصحابة تدلك على أنَّـهم تحققوا بالوحدة التربوية الثقافية، من ذلك هذه القصة، فمما رواه عبدالرحمن بن عوف قال: بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بِغُلاَمَيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ - حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ (أي تمنى أن يكون بين رجلين قويين خشية أن يضعفا) مِنْهُمَا - فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا (أي سأله خفيةً) فَقَالَ: يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِنْ رَأَيْتُهُ لاَ يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الآخَرُ، فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، قُلْتُ: أَلاَ إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي، فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلاَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ: «أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟»، قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ: «هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟»، قَالاَ: لاَ، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ: «كِلاَكُمَا قَتَلَهُ ... والشابان هما معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء، وقيل الثاني معوذ بن عفراء، متفق عليه، بألفاظ متقاربة. فهذه القصة تنبئ عن وحدة ثقافية تربوية أن يبحث الشابُ عن عدو الله ويتعامل معه كما يملي الشرع.

نماذج من التغذية الإيمانية النبوية:

ولنا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم نماذج عديدة كيف كان ينشِّئ الأبناء تغذيةً إيمانية وتربوية وثقافية وأخلاقية

فعَنْ أَبِي الْحَوْرَاءِ السَّعْدِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِلحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: مَا تَذْكُرُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: أَذْكُرُ أَنِّي أَخَذْتُ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَأَلْقَيْتُهَا فِي فَمِي، فَانْتَزَعَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُعَابِهَا، فَأَلْقَاهَا فِي التَّمْرِ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مَا عَلَيْكَ لَوْ أَكَلَ هَذِهِ التَّمْرَةَ؟ قَالَ: " إِنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ " قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ: " دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ " قَالَ: وَكَانَ يُعَلِّمُنَا هَذَا الدُّعَاءَ: " اللهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ - وَرُبَّمَا قَالَ - تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ " مسند أحمد، إسناده صحيح.

وهكذا نجد أنَّ الحسن بن علي، وبعد أن تقدمت به السن مازال يحفظ هذا التوجيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستذكر هذه الحادثة التي ربَّت فيه وفينا معنى محاسبة النفس، ومعنى الورع، ومعنى المراقبة لله، ومعنى الارتقاء فوق العواطف التزاماً بالقيم والمبادئ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو القدوة العظمى فآل البيت لا يأكلون الصدقة، فما سمحَ لطفلٍ أن يقع في جوفه مما لا يحل، فكان تغذيةً إيمانية، وبياناً لمعرفة الحلال والحرام، وتحرياً في ذلك، ولعلنا نقف مع نماذج أخرى، والله الموفِّق.

وسوم: العدد 690