بِـــمَ أعتز، ومما أستتر ؟!

 

 

خطبة الجمعة 3/ 2/ 2016م

6 جمادى الأولى/ 1438هـ

يطالبنا كثيرون بالمراجعةِ، ومن ثمَّ بالتغيير والتنازل.

الآخرون يطالبونك بمراجعات، لكنَّـهم لا يراجعون أنفسهم في شيء أو قلَّ أنْ يفعلوا.

أنت محل اتهامٍ عندهم؛ لكنَّـهم يبرئون أنفسهم.

وينساق بعض المسلمين باسم المراجعة والحوار إلى اتهام النفس، وإلى التنازلات، وأحياناً يكونون في موقفٍ ضعيف، فلماذا؟!

من هم، ومن نحن؟!

وهنا لا بدَّ من البيان أننا نقصد بقولنا "نحن" كل مسلم التزمَ الإسلام عقيدةً ومنهج حياة.

وأقصد ب"هم" كل من لم يلتزم بالإسلام عقيدةً ومنهج حياة، أو ربما قال عن نفسه إنَّـه مسلم لكنه لم يرتضِ الإسلامَ منهج حياة.

فهل في ديننا ما نخفيهِ أو نخجل منه؟!

هل ثمَّـة دينٌ أعظم أو عقيدةٌ أو فكرةٌ أو مبدأ تستحق أنْ يعتز بها أصحابها أعظم من اعتزاز المسلم بدينه وعقيدته وأخلاقياته؟!

مصدر عزتنا:

الله تعالى يوجهنا في هذا الشأن إذ يقول: ﴿وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8]

 ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴾ [فاطر: 10]

ولاحظ أنَّ مقتضيات العزة عندنا كونك تتصل بالله وتتلقى عن الله الوحي وتعمل بالوحي، ويدور هذا الوحي على العمل الصالح؛ بينما منهج الآخرين عامةً يقوم على المنفعة المادية التي تحكم أخلاقياتهم فيبررون مواقفهم بالمصلحة ولو أدت إلى إضرارٍ بالخلق؛ ولذلك تجدهم مستعدين لسحق الإنسان مقابل المصلحة المادية، وما يحدث في فلسطين والعراق وسوريا وأفغانستان ومنع أبناء دول إسلامية من دخول بلادهم نموذج، وكذا تشريع الربا نموذج آخر.

فما هو الواجب تجاه هذا الحق؟!

الله يقول ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [الزخرف:43- 44].

إذن لاحظ وجه الحق والاعتزاز عندنا مما يوجب الاستمساك أنَّـه وحيٌ، وأنَّـه صراط مستقيم، وأنَّـه طريق العزة والشأن، وهنا يترتب على ذلك المسؤولية؛ أي فكم استمسكنا؟!

فإذا وجدَ صعوبات وتحديات في هذا الاستمساك فإنَّ الله تعالى يقول: ﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الحَقِّ المُبِينِ، إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَمَا أَنْتَ بِهَادِي العُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [النمل:79- 81].

فإذا رأيت إعراض المعرضين فلا لأنك على باطل أو لأنك يجب أن تراجع نفسك ومعتقداتك.

الإسلام حق كله، خير كله:

وكيفَ لا نتمسك وكل مافي الإسلام هو الحق والخير والنجاح والسعادة ﴿ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104]

﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33].

فمن ثم ارتضى الله هذا الدين ﴿ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً ﴾ [المائدة: 3]

﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85].

بمَ يعتزون وليس عندنا؟!

 فكيف لا يكون كل اعتزازنا وسعادتنا وتمسكنا وفخرنا بكل هذا الدين بكل مافيه، والله ليس عند الآخرين شيءٌ أفضلَ مما عندنا إلا أنْ يكون أصله عندنا ولكننا قصّـرنا فيه، قد تجدهم يتحدثون عن عدالة، عن إنسانية، عن نظام، عن محاسبة، عن كرامة، عن رحمة، يطول بنا المقام إذا أردنا أن نتحدث عن أصول ذلك وسبق ذلك في القرآن يومَ كانوا يتيهون في الظلام؛ ولكن ما الحيلة إذا كان بعض المسلمين قصّـر؟!

يريدوننا أنْ نتخلى:

ولذلك الآخرون يريدوننا أن نتخلى عن هذا الدين ومافيه من عظمة وكمال وسمو باسم الحوار والمراجعةِ، ويحذرنا القرآن من ذلك ﴿ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 49]

﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [يونس: 15]

﴿ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ﴾ [محمد:25- 26].

إضاءات على طريق الاعتزاز:

التوحيد:

كيف لا يتيه المسلمُ عزاً وكرامةً وقد حملَ عقيدة التوحيد التي طهرته وحررته من عبودية البشر والحجر والحيوان والنار والمخلوقات الأخرى واستمد وجوده وقوته وهدايته من الله الخالق العظيم ومنه استمد الكرامة ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾ [الإسراء: 70].

عندما يقول ﷻ ﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [آل عمران: 79]

 تصوروا عندما كسفت الشمس عام موت إبراهيم بن محمد ﷺ فَقَالَ النَّاسُ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ {آيتان} لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ فَصَلُّوا، وَادْعُوا اللَّهَ» متفق عليه، واللفظ للبخاري، عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ.

 لو كان غير نبيٍ لاتخذها فرصةً لتمجيد ذاته وربط الناس بشخصه؛ ولكنه التوحيد الخالص.

عندما تدخل معابد وثنية تستشعر فضل الله العظيم عليك أن لم يكن بينك وبين الله واسطة، وأنك تحررت من هذه الأنجاس والأوثان، في بعض البيئات يعبدون البقر ويتبركون بروثها، أما الذين يعبدون الأهواء والشياطين فشيء لا يوصف.

ومـما زادني شـرفـاً وتـيــهـاً ... وكدت بأخمصي أطأ الـثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي ... وأن صـيَّرت أحمد لي نـبيا

عندما تخلص في عبوديتك وعبادتك لله وتكون في حالة من الذكر والدعاء الخالص، وتضع صدقتك، وتعين على نوائب الدهر؛ يجعل الله في قلبك من السكينة والطمأنينة مالا يمكن أن يقدر بثمن.

وعندما تكون مع القرآن وأهل القرآن تكون محل الهداية والشفاء والسعادة ﴿ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾ [طه: 2]

﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ﴾ [طه: 130]

﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِياًّ لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [فصلت: 44]

حسبك في الإسلام أن يربط حياتك الدنيا بالآخرة فتعلم أنك لا تعيش لهذه السنوات المحدوة فحسب،  وأنّـك إنما تعمر آخرتك وخلودك ونعيمك المقيم، فكل مجاهداتنا وأعمالنا وكدِّنا وعرقنا وبذلنا لا ينتهي في ميزاننا؛ إنما هو خلود فإن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

من هنا كان عمار بن ياسر، وبلال بن رباح أسعد الناس وهم يتلقون أشد العذابات، وهو نفس المبدأ الذي واجه فيه المؤمنون من أتباع موسى فرعون ﴿ قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه:72- 73].

عندما يصبح هدف المؤمن رضوان الله يشعر بعظم الأعمال الخيرة التي يعملها في الدنيا، ويشعر كيف أنَّـه ناجٍ وفائز دائماً ورابح دائماً ومفلح دائماً، وأنَـه في عطاء دائم وأن في حياته معنى دائم ﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ﴾ [التوبة: 21]

﴿ وَعَدَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ ﴾ [التوبة: 72].

فمن أسعد من المؤمن؟!

بالإسلام كانت العزة والقوة والمنعة والفتوح قَالَ عُمَرُ: «إِنَّا قَوْمٌ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، فَلَنْ نَبْتَغِيَ الْعِزَّةَ بِغَيْرِهِ»

فإلى أولئك الذين يطالبون بالمراجعة أو التغيير والتبديل نقول لهم: هذا هو ديننا وبه نعتز وبه نتمسك، ومهما زخرفتم من القول ﴿ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً﴾ [الأنعام: 112]، ومهما حاولتم التشويه، أو مارستم من الضغوط فيزداد المسلم تمسكاً.

برغم كل ما نعانيه فإن نعمة الإسلام العظمى لا يعدلها نعمة لو قدرها الإنسان وعرف معانيها وعاش حقائقها؛ فضلاً عن كونها هي التي تدفعه نحو القوة والتقدم والعطاء.

﴿ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [النحل: 18]

﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الحجرات: 17]

الخطبة الثانية: "هل خطبة الجمعة علاج لمشكلاتهم؟"

وسوم: العدد 706