مارد في صدري (1)

نعماء محمد المجذوب

أصبحت الحياة في الوطن مثقلة، تتصارع فيه تيارات وأهواء، انتشرت بشكل مثير، كل منها تريد إثبات وجودها، وأكثرها لا تمت إلى أصالتنا بصلة، المسافة بينها شاسعة، والجديد منها يلتصق بالأرض، ويقطع صلته بالسماء، حتى غدونا ميداناً للتجارب.. وتصارعت مع التراث في تناقض واضح، ولفظها العقلاء لبعدها عن حقيقة السماء.

الخوف والوجل سرى في نفوس الكثيرين على أبنائهم، هل يعتزلون، أم يغضبون؟

إعصار جامح اجتاح الأرض، اقتلع الجذور، دفنها في الصحارى، تقلصت الحرية، تشتت الشمل، اغتصبت دور، وعمّ الجور.. وكان نصيب أولادي من الفاجعة كبيراً، توزعوا في الغربة، فكان من هاجر منهم إلى استراليا.

فجرت آلام الفراق والأسى والحزن في حياتي، وقتلت البسمة على شفتني.. أمشي بجسد ينعزل عن كل شيء، إلا من نفسي، وما تحمل من أفكار أتأملها في كل فرد، كنت كغيري أحمل هموم الوطن، ما أكثرها! وأتساءل:

لم الهموم، ونحن من أعظم أمم التاريخ، وأزهى البلدان، وطريقنا سوية في منهج رباني؟

حدثنا التاريخ، لم يظلمنا أبداً.. الآن نحن نظلمه.

في استراليا التقيت بالحاجة فخرية أم (سناء)، كان لها وجود محترم في سدني وسط الجالية العربية المسلمة، تحقق ما تصبو إليه من أماني، أثرت الغربة في صقل شخصيتها، وبلورتها من خلال النشاط والمثابرة في جمعيات نسائية عدة، وبرزت موهبتها الشعرية، فكانت تجري معها مقابلات في إذاعة سدني العربية، سمعتها مراراً وهي تلقي شيئاً من شعرها البديع، ينساب بإيقاعات آسرة، تنبض بمشاعر تسيل برقة في عبارات عذبة، الحنين، والشوق إلى (سناء) والوطن نسيجه في عبق روحي.

كنت أراقبها عن كثب، فالغربة استنزفت أيامها، والشيخوخة غزتها، ولما سألتها عن سناء تنهدت، وبقلب ينفطر بالشوق، استرسلت بلذة في الحديث، وهي تسند بمرفقها على كتف الأريكة الفخمة، ونظراتها ترحل بعيداً تلامس الآفاق:

سارة وهالة ابنتا علاء تخرجتا من الجامعة، وحفيدتها فخرية غدت شابة جميلة في طريقها إلى التخرج.. ضحكت بسرور وهي تذكر حفيدها محموداً:

- أما محمود فهوايته دراسة اللغة العربية، وكتابة الشعر.

- كجدته.

سناء احتفظت بذكرى والديها في اسمينا، كعادتنا نحن العرب في الوطن.

*  *  *

انهالت الذكريات عليّ بكل ملهماتها، وفي داخلي شيء يتكسر، يربكني أمام الأحداث والمواقف، ويشعرني أحياناً بالعجز، ولكني أتلهف للكشف عن كل شيء بصراحة ودون خوف.

أرست بي الذكرى عند ضفاف طفولتي، وأثارت سلسلة من الأحداث والمواقف، نابضة بالحياة، هادئة حيناً ومشرقة، وفائرة كنبع سخي حيناً آخر، وأراني أجري معها وأنقاد ومن زوايا الماضي وطيات الذكرى، تطل سناء نافضة عنها ركام السنين.

عالم الذكريات حسبته فات ومات، فإذا هو ينمو بحسي، ويؤرقني ويحتضنني بقوة، ويشدني ويدفعني إليه دفعاً.

أخذ شريطها يكر من البداية، حين كان يسترعي انتباهي في غدوي إلى المدرسة أو رواحي، فتاة لا تتجاوز الثانية عشرة، نحيلة القامة، شاحبة الوجه، انسدلت خصلات من شعرها الفاحم بإهمال على جانب وجهها، وعينيها النجلاوين، وارتاحت أخرى فوق ظهرها الذي ينوء بعبء صفيحة الماء التي أرستها فوق قمة رأسها.

كان هذا المشهد يشغل تفكيري، ويشوش خطواتي، وتتسمر له نظراتي على حين كانت الفتيات تضحكن، وتمرحن وتتقاذفن في الطرقات، والنسيم يسرق أحاديثهن المنمنمة، وهمساتهن الرقيقة، ينشرها عبر السكون، ثم يتفرقن في الدروب، تستقبلهن الأمهات بشوق وتلهف. في هذه الأثناء كان يشوب مشاعري حسّ حزين، ورغبة ملحة لأواجه عن بُعد تلك الفتاة.

اعتدت أن أندرج من المدرسة القابعة فوق الهضبة، وأنحدر في الطريق المطل على شاطئ البحر، وعلى بعد منه رست جزيرة "أرواد" وهي تتلألأ كالماس تحت أشعة الشمس المتوهجة.. ثم يلتوي الطريق مع الزقاق في حيّنا الأثري.

عند الظهيرة والنسمات الندية تلاطفني، وتخفف عني رطوبة الجو، كان في داخلي إلحاح يثير الرغبة فيّ لألتقي بها.

فأسأل نفسي بتعجب:

ما الذي يشدّني إليها، ويصعد الغصة فيّ حين أراها؟!

أهكذا شعور من في مثل سنّي؟!

من أين ينبع ذلك الحس الرقيق لدى بعض الناس ويجف لدى بعضهم الآخر؟

ومالي أهتم بما ليس لي به شأن؟!

يكفيني عذاب ومتعة في آن، حين أمرر الحالات في ذهني، فأقارن بينها، لأجد فيها التناقض.

الطبيعة الخلابة تمتد أمام بيتنا المرتفع، والجبال تحتضنه مع الأحياء من الخلف، والأشجار الباسقة تنهض عند السفوح، ويحيط بالبلدة القديمة خندق دائري، يبدأ عند سلم المسجد الأثري، ومئذنته الشاهقة تشرف على البيوت المتراصة، وينتشر صدى الأذان منها في الأجواء.

كنت وإخوتي نصحو عند الفجر على صوت والدي –بعد رجوعه من المسجد- في أرجاء البيت الواسع، يدغدغ أسماعنا بنداء حنون في دعوة إلى الصلاة، لنغمة آسرة توقظنا برقة، فنتسابق إلى الوضوء، والوقوف خلفه صفاً متراصّاً، وبصوته الشجي، يرتل آيات من القرآن تخشع منه قلوبنا، وقد يبقى صغيرنا في سجوده نائماً لا يقوى على النهوض.. فكياسة والدي في تعامله، كانت تغني عن إيقاظنا بقسوة، ثم بعد فترة تتناولنا الأيدي الحنون بالرعاية، من اهتمام بمظهرنا، وحقائبنا التي تدس فيها الشطائر، وقطع الحلوى، ويشتد سرورنا بالنقود الورقية التي تنسلها أمي من الحزمة ورقة، ورقة، محدثة تكتكة تشرق لها نفوسنا، وأثناء هبوطنا السلم الحجري، كانت الوصايا تلاحقنا:

- على مهلكم.. الزموا جانب الطريق.. لا تتكلموا مع أحد.. كلوا اللفائف..

- حاضر يا أمي.. حاضر..

في الطريق، مع القفزات السريعة فوق الحجارة الناتئة برؤوسها، ومع الجذل الطفولي، ونسمات الصباح الندية تصافحنا، أفاجأ بتلك الفتاة فتجرح المفاجأة جريي، وتسكن مرحي، ويقف بصري عند صفيحة الماء الراسية فوق قمة رأسها، تضغط على جانبيها بكفيها الرقيقتين، وينقلني المشهد من عالمي الحالم اللذيذ، إلى آخر مؤلم.

كانت نظراتي تلامس جسد ابنة في الثانية عشرة، ملتحفة بثوب منسدل، التصق لبلله، فأوضح نحوله، والصفيحة تترجرج بين كفيها، فتهرب منها قطرات من الماء، تتقافز بخفة مع مشيتها، وتندس في شعرها وثوبها.. وقد تنزلق نظراتي إلى قدميها الحافيتين وهي تنقلهما بحذر فوق نتوءات الحجارة، وألمح في عينيها تيهاً وشروداً.

مشهد كان يلاحقني كل يوم، مرة أو مرتين، فيعتصرني الألم ويفتت أحلامي، ويمزق نفسي، ويلفني بغلالة من الحزن أعمق من تجربتي، وبدون قصد مني تتحسس أصابع قدمي دفء الحذاء اللماع، وكفي نعومة الضفيرة المنسقة بالشريط الحريري، فتنتابني مشاعر متناقضة تلقيني في موجات من الحوار المحير، في تصورات لا أقدر على حل غموضها.

من هذه يا ترى؟

لم حرمت حقها من التعليم؟

ولم حرمت الحذاء، ودفء الجسد؟

لم... لم... لم..؟

كانت التساؤلات تصفع ذهني، والرغبة تعصف بي تستفزني، وتدفعني لأثور على وصايا والدتي كي أحادثها وتحادثني..

جبنت، لم يحصل شيء من هذا.. استمررت في سيري، وأنا أعضّ على شفتي من الغيظ.

إنّ ثمة سراً خلف ما أرى، سنوات عمري القليلة غير قادرة على كشف الحقيقة.. ويضيق صدري لمثل هذه التساؤلات، ويعود بأشياء رخوة لزجة، تصعدها غصة في حلقي، ثم تتكثف بدمعات أحاول ردها، فتأبى إلا التدحرج.

(لا تنشغلي بشيء في الطريق.. الزمي الرصيف.. كوني مؤدبة..)

أوامر ونواهٍ كلسع السياط، تدفعني دفعاتً وأنا أحتضن هذه الفتاة في خيالي، ثم لا تلبث أن تتلاشى شيئاً فشيئاً في الزحام، وخلف الجدران، والأحداث المتلاحقة.

*  *  *

كنت أسير صباح يوم خريفي في زقاق جانبي هادئ، والمنازل تقوم على جانبيه مغلقة الأبواب، والشمس ترخي ظلال الأشياء فوق الأرض والجدران.. طرق سمعي صوت خشن لامرأة يرتفع من فوق سور أحد البيوت، يأمر بقوله:

أنت يا بنت يا سناء، هيّا، أسرعي لإحضار الماء من بئر الحارة.

تسمّرتُ في مكاني، وأنا أعجب، كيف اهتديت إلى اسم الفتاة، وبيتها، حملقت في الواجهة، وشعرت برعدة تسري في جسدي، ولم أدر هل كانت الرعدة من المفاجأة، أم من البرد.. ابتسمت لنفسي حين سمعت قرقعة الصفيحة وهي تطرق الجدار بعفوية، قلت:

إذاً سناء، اسمها سناء.

تردّدتُ:

هل أبقى في انتظارها حتى تخرج، أم أعود إلى البيت، وفي جعبتي هذا الحدث الصغير.

بدهشة تساءلت:

ترى من هذه المرأة صاحبة الصوت الأجش؟!

ولم ألبث أن عرفت الإجابة، فقد فُتِحَ باب البيت بعض الشيء، فتشاغلت بشيء كان في يدي قد وقع مني، رأيت في الداخل امرأة ضخمة واقفة وسط الحوش، تلوح بيدها في عصبيّة، وتتحدث إلى رجل جالس، وظهره ناحية الباب، مستند إلى جذع شجرة، كان مرتدياً سروالاً فضفاضاً، وفوقه قميص أزرق، أدركت أنه صاحب البيت، ورأيت أطفالاً مختلفي الأعمار يلعبون في أرض الحوش وازداد صوت المرأة حدة، وهي تنهر البنت سناء بشدة، وتستعجلها للتحرك، وسمعت الرجل يقول للمرأة:

- لماذا تتصرفين كأن الدنيا انقلبت رأساً على عقب يا أم خالد؟!

بصوت حاد أثار اشمئزازي قالت:

- إن الوضع في هذا البيت لا يحتمل..

- اهدئي يا أم خالد، لا تفقدي أعصابك على هذا النحو..

وازداد صوتها حدّة، وهي تجيبه قائلة:

- أنت تتكلم بمنتهى البرودة، لأنك لا تعرف نوع الحياة التي أعيشها في هذا البيت مع هذه البنت اللعينة، إنك تجلس في دكانك ولا تشاهد ما يجري، بينما أحمل أنا عبء البيت كله..

- سأربيها وأقسو عليها، فقط اهدئي.

- دعني وشأني..

- أبسبب سناء كل هذا الغضب؟

- أجل، بسبب هذه البنت الهوجاء.

قلت في نفسي: إذاً هذه البنت هي "سناء" وهذه المرأة هي أم خالد، ليست أمها بلا شك، لما يبدو من قسوتها في الكلام وتذمرها، وأبو خالد زوج هذه المرأة، وأبو سناء.

تحول الأمر إلى شيء مثير للشفقة، ولقد ساعدني الحظ لمعرفة جانب من الحقيقة ببساطة وعفوية، وانطلقت مسرعة نحو البيت، وبعد لحظات كنت بجوار أمي، وبنفسي حوارات، وتساؤلات ملحّة ومحيّرة.

- أمي في الجوار بنت اسمها سناء، أشاهدها باستمرار، وأتألم لحالها، وأرغب بالتحدث معها.. ألقيت هذه الكلمات وأنا في حالة استرخاء..

- مسكينة سناء يا ابنتي..

- يحزنني أمرها..

- لا تشغلي نفسك بشأنها، فما زلت صغيرة.

وجمت هنيهة، ضمتني بحنان إلى صدرها.. أريد المزيد من المعرفة، وددت لو تسمع أمي حوارات نفسي وتجيب عليها، يبدو أنها تعلم الكثير، ولكنها لا تريدني أن أعلم، وتصرفني عن التفكير بلطف.. تصورت سناء واحدة منّا، تشاركنا الحياة، والحب، والرعاية، والتعلم و..

بابتسامة ساخرة، وأنا أعدّ أفراد أسرتنا الذين تجاوزوا العشرين، ويعيلهم والدي بعد وفاة جدي، قلت:

- مستحيل، شيء مستحيل.

سكت، لم أشأ أن أسترسل في الحديث مع أمي، كيلا أثير انتباهها، فتزيد ضغطاً عليّ بوصاياها.. أكتفي بأن ألاحق ظلال الأشياء، ريثما تتضح لي الحقيقة.

*  *  *

كانت سلسلة المواقف والأحداث المثيرة تتلاحق، فتجعلني أكثر اندفاعاً لاقتحام عالم سناء الغامض.. فالسنة الدراسية تودع يومها النهائي، والطالبات يكسرن قيود النظام المدرسي، ليتسلموا البطاقات بابتهاج، ثم لتنتقل هذه البهجة إلى الآباء.. فهو يوم التهاني والفرحة بالنجاح.

كنت وزميلاتي ننطلق في الدروب كالفراشات المهفهفة، وأنا أحلم بهدية والدي التي أنتظرها بمشاعر الترقّب والأمل، وغالباً ما تكون مجموعة قصصية هادفة، أستمتع بقراءتها في الإجازة في إحدى القرى الجبلية المحيطة ببلدتنا الساحلية، في أحضان الطبيعة، بين أشجار الصفصاف والأزهار وعلى ضفاف الجداول الرقراقة.

حملنا أحلامنا مع بطاقاتنا، نزاحم الخطى والمنى، تملأ نفوسنا بنشوة الفوز والنجاح، ونثرثر بلا توقّف، ونحلّق بسعادة وعيوننا تخطف ما في بطاقات بعضنا، ونقارن بينها.. وقد نعبر عن رغباتنا في كيفية قضاء الإجازة.. نوزعها على هوانا بين الرحلات لإزالة التعب، والرغبة بالراحة والكسل، أو بالمطالعة، والمداومة على الدروس المسجدية وحفظ القرآن و..

في لحظات الفرح، يتدخل القدر، ويبتسم ساخراً من بهجتنا.. أفيق على صوت ارتطام الصفيحة بالأرض مع سناء.. تراجعت مذعورة والماء يندلق هارباً في كل اتجاه، وتسرع الفتيات في المضيّ بغير مبالاة.

اقتربت منها لأعينها على النهوض من عثرتها، وإصلاح شأنها.. عصرت ثوبها المبلل، وفركت ساقها، ثم رفعت الصفيحة التي التوى جانباً منها.. بانكسار اتجهت نحو البيت من غير كلام، وبصمت كانت دموعها تنهمر.

موقف حقاً أثار عطفي، فآلمني.. تغلب على فرحتي، وحزّ في نفسي عدم اهتمام الأخريات بها.. هي كائن موجود بيننا في الحي، لكن.. كأن ليس لها وجود.. تبعتها وهي تحمل الصفيحة الفارغة بيدها، وبأسى تساءلت: كيف ستواجه غضب المرأة القاسية؟

لاشك، ستمر بها لحظات قهر، قد يكون تأثيرها بليغاً في نفسها.. نظرت إلى بطاقتي، تصورت اسمها مكان اسمي، وتصورت سناء هي أنا، وأنا هي.. غلبتني الرأفة والشفقة، فبكيت عنها، وبالتياع قلت:

- ألا يحق لهذه المسكينة كما وصفتها أمي بأن تصرخ، وتشتم، وتبكي؟ طويت البطاقة، وطويت معها حلمي.

حثّتني قدماي على التوجه نحو بيتها، قد أعتذر للمرأة عما بدر منّا قبل أن تنهال عليها ركلاً، وسباباً.. مضيت بهدوء، وأنا ألوك كلمات التأسّف في فمي.. وجدت الباب نصف مفتوح، وقفت.. لم أدر كم مضى عليّ في تلك اللحظة فقد خيل إليّ أن الزمن قد توقف، أو أنه يمر بسرعة رهيبة.. لكني أفقت من ذهولي على ضجيج وصراخ يصدر من ذاك البيت.. هربت الكلمات خائفة.. لم أجرؤ على عمل شيء.. تسمّرت في مكاني، وكأني أصبت بضربة أذهلتني عن كل شيء..

كان الصوت الأجش يعلو الأصوات بشكل مقزّز ومريع، يتبعه صفعات على الوجه، وقرع بالقبقاب الخشبي على الظهر.. ثم همهمة من سناء تشعر زوجة أبيها أن الإصابة في ساقها تؤلمها حين تعرضت للسقوط، ولكن الصوت أردف بلهجة آمرة:

- كفّي عن كذبك يا لعينة.. لا تزيدي من توتّر أعصابي.. ولا تبرري تضييع وقتك مع البنات بشكواك.. هيا.. أسرعي إلى البئر، وإياك أن ترجعي بالصفيحة فارغة.

- حسناً يا خالتي، سأفعل ما تأمرين به، سأمضي لإحضار الماء.

واستدركت بقولها تستدعي شفقتها:

- استمعي إليّ للحظة، كي أعلمك بأني ما كنت أضيع وقتي في الطريق مع أي إنسان.. فقط يا خالتي، تذرعي بالصبر، أنا لا أقصد أن أغضبك.

وقفت برهة أحاول أن أركّز تفكيري فيما ينبغي أن أفعل:

- هل أحمل عنها الصفيحة وأواسيها؟

- هل أقرب منها كتفي تتوكأ عليه؟

- ماذا كان بوسعي أن أفعل؟

- هل كان عليّ أن أدخل البيت لأقدّم الاعتذار؟

بعد لحظات خرجت سناء، تصحبها الصفيحة في طريقها إلى بئر الحارة، وهي تجرّ إحدى ساقيها جراً.. خفق قلبي بعنف حين رأيتها، والألم يلبسها في بدنها، ونفسها، وتكتسي عيناها الواسعتان بغلالة حمراء من أثر البكاء، وشيء من شعرها الطويل، قد انتزع بشدة من رأسها، والتصق بثوبها.

ضعفت.. جبنت.. والله جبنت.. فلم أجرؤ على التحدث معها.. ثم مضيت في طريقي إلى البيت، تدفعني الخيبة والهزيمة.. ومضت سناء إلى البئر بصمت.

صار هذا الحدث هاجسي، اكتظّت به غرفتي، وأثقل رأسي.. لجأت إلى حضن الوسادة، أحكي لها حكاية القسوة، والظلم، والحرمان، حرمان المسكينة سناء من الرأفة والرحمة.. ورحل تصوري معها، وهي ترفع صفيحة الماء فوق رأسها، وساقها المتألمة تخذلها.

كان لهذا الموقف أبعاد ورؤى في خاطري، فلم تكن نفسي قد تكوّن فيها مثل ذلك الخليط المتمازج كي ينتج أشياء جديدة، ولم أكن أدري وأنا أراقب الموقف أنني أكثر من إقحام نفسي في سلسلة من المواقف والأحداث التي كانت تتربص بسناء أو بكلينا.

*  *  *

في يوم ربيعي، أعلن والدي بأن نستعد لنزهة عند شاطئ البحر، عمّت الفرحة جو البيت، قفز الصغار كالقرود، تعلقوا بكتفيه، قاموا بحركات غريبة يعبرون عن بهجتهم.. أعدّت الفطائر والأشياء ومعها السطل الصغير، ومجرفة الرمل، والكرة..

لم يكن في السماء سحابة واحدة، وأشعة الشمس في الربيع ممتعة، والمكان الذي اختاره والدي كان خالياً، كي لا ترمقنا عيون الفضوليين.. كانت السعادة تجري معنا حيث نجري.. فوق الرمال، وبين الصخور القائمة، نتسلقها حيناً، ونتزحلق إلى تجاويفها حيناً آخر، ونلتقط صغار السمك التي ألقت بها الأمواج في أحضانهاـ وإن تعبنا لجأنا إلى ظلالها القاتمة.. وأشد استمتاعنا كان الرمل المبلل، نشكل منه بيوت أحلامنا، ونتفنن في أجزائها، وعلى حين غفلة منا، تباغتنا مويجة زحفت خلسة، لتهدم ما جسدنا من أحلام.

طلبت من أختي الكبرى مشاركتنا في الجري فوق الرمال، والتقاط القواقع، هزّت برأسها وقالت:

- أحب أن أجلس فوق صخرة أتأمل الطبيعة.

ضحكت، وقلتُ:

- وأنا أحب أن أجري، وأتجول وأتفرج.

أشارت بيدها:

- دعيني وشأني.. اذهبي مع سطلك ومجرفتك والكرة.

ابتسمت، وأردفت:

- ما أجمل الطبيعة بكل ما فيها!.. إن مجرد لمسها بنظري يثير في نفسي إحساساً بهيجاً، وتعميقاً للإيمان.. الحياة يا أختي بدون إيمان موحشة.

قلتُ:

- أما أنا فسأشغل نفسي بشيء منها.. بالرمل، وصغار السمك، والتقاط القواقع و..

كانت تبرر استرخاءها فوق الصخرة بقولها: أنها تحب أن ترى الحياة في الطبيعة المتسعة أمامها، بدلاً من أن تشترك بالمتعة في شيء معين، فيفوتها الكثير.

بعد لحظات عمدتُ إلى تجويف بين صخرتين، أغسل فيه قدمي، وأبلل وجهي ووقفت أتأمل، وأتتبع ساحل البحر ورماله بنظري، كان خالياً في ذلك الوقت، إلا من قطة كبيرة رمادية، تنكت في الرمل بمخالبها، تبحث عن حيوانات صغيرة نثرتها الأمواج.

تفقدتُ السطل، وصغار السمك الأسيرة، فلم أجدها، صرخت أسأل عنها، ضحك إخوتي، وقالوا بسخرية:

- ابحثي عنها في البحر، لقد سرقتها الموجة، واختطفتها في غفلة منك. قلت:

- استردت ما أعطت.

هربت إلى الرمل حزينة، أشكو له ما فقدت.. حفرت حفرة، وجرفت ما فيها بالمجرفة.. باغتني منها سرطان بحريّ كبير، جرى، وجريتُ مذعورة، أصرخ أطلب النجدة.. قالت لي أختي الكبرى بهدوء، وبرودة أعصاب:

- إنه سرطان بحري.

- لقد أخافني.

ضحكت، وقالت:

- بل أنت التي أخفته، وروّعت سكنه.

أخذت أتأمله وهو يجري بطريقة عجيبة، يبحث عن مكان يختفي فيه.. ثم لجأت مع إخوتي إلى حجارة مبعثرة، صنعنا منها كوخاً، وجلسنا فيه محنية ظهورنا، وعندما شاهدنا والدي ضحك وهو يقول لنا:

- إنه يبدو كصخرة متفجرة.. ثم ما لبث أن هوى فوقنا.

أطال والدي النظر إلينا، وهو صامت، كأنه يفكر وقال لنا:

- الأيام ثمينة يا أولادي، تكرّ من بين أيدينا كالرمل الناعم، استمتعوا بحياتكم مع الطبيعة الجميلة، واشكروا الله ربكم.

رددنا وراءه:

الحمد لله حمداً كثيراً.

على غير موعد يتدخل القدر، ليزيد من بهجتي، وحسن حظي.. كنا نتقاذف الكرة، ونتلقاها بأيدينا، وحصل أن ألقاها أخي بقوة، اجتازت المكان، وجرت بعيداً، وفجأة اصطدمت "بسناء" وهي منحنية فوق تجويف بين الصخور.. جريت وراء الكرة، ثم توقفت أمام سناء.. رفعت رأسها، واضطرم وجهها، بلطف قلت:

- نحن بغاية الأسف، أرجو ألا نكون قد أزعجناك.

أومأت برأسها.. مضت برهة.. قلت:

- إنه يوم بهيج، أليس كذلك؟

ردت بابتسامة:

- كل شيء بهيج هنا.

تردّدت قبل أن أسألها:

- هل يمكن أن نجلس معاً، ونتحدث؟

انبسطت أسارير وجهها بالرضى، ونفضت يديها، ثم مسحتهما بثوبها، وهي تجيبني:

- نعم، يمكن ذلك.

تأملتها بصمت، كانت غلالة من الحزن تلفها، وشعرها يتناثر في الهواء، وقدماها الحافيتان عند ضفة التجويف.. جلسنا والمويجات تنساب برقة، وتمازحنا برذاذ الماء، كانت تزحف خلسة، ثم تنحسر هاربة بعد أن تلقي شيئاً من أعشاب البحر.. كانت سناء قد انتهت من غسل فوط الأطفال، وجعلتها في طست بجانبها، فوجدت الفرصة قد حانت لأتعرف عليها عن كثب، فلا مجال الآن لتنفيذ الأوامر والنواهي، فوالداي على مقربة مني، يتسامران وأختي الكبرى.

رششتها بالماء أمازحها، ردّت خصلات من شعرها إلى الخلف، وبادلتني المزاح بمثله، تلاقت ضحكاتنا فكانت بوابة العبور للتعارف.. نظرت إليّ من خلال أهدابها الكثيفة، لاحظت هالة سمراء تحيط بعينيها النجلاوين، قلت ببساطة:

- اسمك "سناء" أليس كذلك؟

عرفت اسمك بالصدفة، أشاهدك باستمرار، ولا تتكلمين مع أحد، وأنت واحدة منّا، لم..؟

أجابتني بمرارة:

- لقد حكم عليّ بالعزلة عن الناس.

قلت باستنكار:

- العزلة.. شيء غريب؟!

ردّدت وهي تلعق المرارة:

- هكذا.. كما ترين.

بهتُّ، أكاد لا أصدّق ما أسمع.. قطعت صمتي بسؤالها عن اسمي:

- "نعماء" اسمي "نعماء".

هل تحضرين إلى هنا باستمرار؟

- الواقع، كما ترين، لأغسل فوط الأطفال.

كان الحديث فيما بيننا عادياً وبسيطاً، تمهيداً للتعارف، وكان وجهها ينمّ عن نباهة وذكاء، وبدا لي في تلك اللحظة أن وراء هدوئها أشياء غامضة، ورغم بساطة أسئلتي، فقد كانت تفكّر قبل أن تجيب.

سألتني:

- أتحبين البحر، ورطوبة الهواء؟

قلت:

- البحر أحبه، أما الرطوبة فشيء مزعج، نهرب منها صيفاً إلى الجبال، حيث الهواء الجاف، والبرودة المنعشة.

ابتسمت وأنا أقول:

- من السهل أن أتذكر اسمك، معناه جميل، ونغمته أيضاً جميلة، و..

توقفتُ عن إتمام العبارة، حين لمحت سحابة من الحزن تغلف وجهها، وتطفئ البسمة على شفتيها، فقلت في نفسي: قد أكون قد أخطأت في حديثي معها على هذا النحو، بلطف سألتها:

- ما بك، هل أخطأت؟

بقيت صامتة، ومطرقة، غيرتُ وجهة الحديث، تشاغلت بالقطة التي أقبلت نحوها، تتمسح بأقدامنا، وتصدر هريراً ناعماً، ثم ابتعدت عنا، قلت بابتسام:

- يبدو أنها شبعت، واسترخت، فاستلقت في ظل الصخرة.. ناديت سناء وأنا أتوخى الحذر.. لم تجب، ولم ترفع عينيها، ثم بلعت ريقها، قلت: هل نسيت اسمها في هذه اللحظة، أم أنها تذكرت لحظات القهر، حين يسبق اسمها بما يشينها، ويذلّها، عندما تناديها زوجة أبيها بازدراء: يا بنت، أنت يا بنت يا سناء.

بدا لي أني أحرجها بثرثرتي، وكثرة أسئلتي، رغم توخي الحذر الشديد، فكرت بأن أشيع السرور في نفسها، وبعجب قلت:

- شعرك يا "سناء" طويل، ناعم كالحرير، ما أجمله؟

جففت كفيها بثوبها، ولامست بهما شعرها، تنبهت إلى وجود شيء جميل لديها، كانت تجهله، ابتسمت وتنهدت.

قلت ثانية:

- ما أوسع عينيك، وما أكثف أهدابهما؟!!

شعّ بريق فيهما، فأسبلت جفنيها باستحياء، ثم رفعتهما بصوت هامس، رافقته ابتسامة عذبة، قالت:

- عيناي تشبهان عيني أمي.. هكذا يقولون.

شعرت باستدراجي يؤتي أثره، في بسمتها، وانطلاقها في الحديث.. طمحت بأن أتغلغل في نفسها أكثر فأكثر.. تذكرت كلام المرأة الشرسة في أحد الأيام وهي تقول بحدة:

- اغربي عن وجهي يا ابنة السوء، وارحلي إلى أمك التي تركتك بلاءً عليّ.

أردت التأكد مما سمعت، سألتها بصوت خافت:

- ألك أم يا "سناء"؟

أومأت برأسها.. ثم أردفت وهي تتنهد:

- طلقت من أبي وأنا في الخامسة من عمري.

وقالت بامتعاض وهي تشير بيدها:

- غادرت من البلدة إلى لبنان، وكما قالوا: تزوّجت وأنجبت بنين وبنات.

- هل تلتقين بها؟

- أبداً، منذ ذلك الزمن البعيد لم أرها.

- وتعيشين..

- مع أبي، وزوجته، وإخوتي من أبي.

- كثيرون هم؟

- خمسة.

لم أشأ أن أسترسل في الحديث أكثر من ذلك، ضاق صدري، شاركني الصمت.. دعوتها إلى مشاركتها في شطيرة الحلوى، هزّت برأسها يمنة ويسرة، خشيت أن أجرح إحساسها، فلم ألحّ عليها.

شعرت بأشياء في داخلها يتحرك، تريد التنفيس ولكنها تردّها بإرادة، جلستُ القرفصاء، اتخذت من إصبعي قلماً، وخططت في الرمل "سنا" كانت تراقبني وأنا أرسم الكلمة، دنت مني، ورسمت الحرف الناقص "ء" صحت بدهشة:

- "سناء" هل تكتبين؟!

مع مسحة من الحزن مشوبة بفرحة غمرت وجهها، أجابت:

- وأقرأ أيضاً.

- كيف، فلا أراك تذهبين إلى المدرسة؟!

بحسرة قالت:

- في صغري جعلتني أمي عند الشيخة "بدرية" علمتني سوراً قصيرة من القرآن الكريم، وشيئاً من القراءة والإملاء، وبعد الطلاق والرحيل، منعتني زوجة أبي من الاستمرار في التعلم، وملء الماء من بئر الحارة، والخدمة في البيت.

- وهي، هي ماذا تفعل ماذا؟

- تحمل، وترضع، وتطبخ، وتأمر وتنهى.

ابتلعت غصة علقت في حلقها، وزفرت من ضيق.. ثم لمحت بريق أمل أضاء وجهها، وبضحكة عفوية قالت:

- إني أتعلم القراءة والكتابة من إخوتي، دون علم منها.

- كم أنت نبيهة، وذكية يا "سناء" لقد أدخلت السرور في نفسي.

بسرعة سألتني:

- هل تحبين الدراسة؟

- جداً وبولع شديد.

يمكنك يا "سناء" أن تعوضي ما فاتك بالمطالعة، والدراسة في كتب إخوتك، ومراجعة ما تعلمت من سور القرآن.

بفرح قالت:

- أقرأها باستمرار، وأحفظها غيباً، وأرددها في الصلاة.

قلت بإعجاب:

- ما شاء الله.. الحياة تكون موحشة وكئيبة من دون إيمان.

تأثرت بما أقول، بكت بصمت، ثم كفكفت دموعها، وهمست بحيرة وشكوى:

- لا أدري لم تعاملني زوجة أبي بقسوة، فما اقترفت.. وما أسأت، ومن حين إلى آخر كانت تزيح بيدها خصلات من شعرها عن وجهها، فتبدو أهدابها الطويلة، وتختلج في اضطراب كأنها تفكر، وكأن فكرها هو الآخر يضطرب وراء تلك الأهداب.. قلت:

- أرى الوحدة والاستسلام الحزين في عينيك.

ترددت قبل أن ترد بوداعة وهي تبتسم، وبصوت خافت كأنها تحدث نفسها:

- أحد عشر عاماً وأنا في عزلة عن الناس، فرضت علي، لا يحق لي فعل شيء أرغب فيه إلا باستئذان.. حياتي مملة، يائسة، لا شيء فيها يسرني.

- الأيام تكبر، وأنت تكبرين، كبرعم يتفتح ليلاً..

- كيف؟

- بالقراءة والكتابة، والتفهم لمعاني القرآن.. تفاءلي، ولا تنظري إلى الحياة بيأس.

- وأنا في الظلمة؟

- بل بإيمانك بالله الذي يسكن في قلبك، وينور دربك، اقرئي قوله تعالى: )الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور(.

تهلّل وجهها وهي تقول:

- صدق الله العظيم.

- المسألة فقط مسألة وقت.

ابتسمت وأنا أتذكر قول والدي، أعدته على سمعها:

- (الأيام ثمينة، تكر من بين أيدينا، استمتعوا بحياتكم بما يرضي الله)..

قالت بمرارة:

- وأنا بين مخالب القهر والحرمان؟

قلت بحرارة:

- أسرقي لحظات المتعة مع نفسك، بصلتك مع الله بالعبادة والمناجاة، لا أحد يستطيع أن يخطفها منك، مهما أوتي من بطش وقوة، ستزدادين معرفة بحقوقك، وواجباتك وأنت مقبلة على كتاب الله.. تحتاجين إلى الصبر والمثابرة.. الحياة لا تصنعنا، نحن من يصنع الحياة، حين نغير ما في نفوسنا فتتغير.

- كيف؟

- بالهدف، نتتبعه، بإرادتنا وعزيمتنا.

أومأت برأسها وهي تقول:

- أجل، أجل.

- أتريدين المزيد؟

إن مياه النهر تتدفق إلى البحر، فتذهب هدراً، فمن يهدر مواهبه ووقته فهو إنسان أحمق.

قالت والقلق يشوب كلامها:

- الحياة قاسية، قاسية جداً.

- نحن الذين نزرع القساوة في الحياة، هي مزرعة خصبة، ينمو فيها ما نلقيه إليها من أشواك ورياحين، من شر ومن خير.

كنتُ أثرثر بلا هوادة، ونفسي ترغب في الاستزادة.. نهضت وهي تنظر إلى الشمس، وتقول:

- لديّ موعد.

- مع من؟

- مع بئر الحارة، كي أحضر الماء.

ضحكنا..

- أشعر بالوقت يجري بسرعة، ولا أريد لك مزيداً من المشكلات مع زوجة أبيك، ولقد سررت بلقائك، سنكون صديقتين.

- سنكون صديقتين.. وإلى الأبد.

أطرقت ويدي تعبث بالرمل، وخواطري تتجاذبني.. لم أحس بسناء وهي ترفع الطست فوق رأسها وتنسل بهدوء.. تنبهت، لامست نظراتي قامتها الممشوقة وهي تسير بتأن فوق الرمل، تغرز قدماً وترفع أخرى.

كانت النزهة رائعة، وكسباً لصداقة طالما تمنيتها، فشعرت وكأني أطير من السعادة.. لملمت أشيائي ببلادة، وصوت أبي ينادي إخوتي المبعثرين فوق الشاطئ ومن البحر.

استدرت نحو الشمس، وقد غاصت وراء الأفق، والظلام يزحف ببطء يلتهم الأنوار والألوان، وغاص في أعماقي الحدث، ومشاعري تلتهم آثاره.

رافقتنا النسمات الندية، تربت على وجوهنا مودعة.. وتراءت لي سناء في جوها المكبوت بالوحدة، لا رحمة فيه ولا شفقة، مع أب ضعيف الشخصية، ينقاد لأهواء زوجته، ويصدقها في ادعائها الضعف والمسكنة.. ولمست في "سناء" لطف الحديث، وعزة النفس، والنباهة، وحسن الاحتيال في خطف التعلم من إخوتها، وكتبهم المنسية المهملة.

لقد مارست التآلف مع الأشياء، بما يخدم مصلحة أسرة أبيها، ويبدو أنها لا تقدر أن تعقد الأُلفة مع العالم المحيط بها، يحجزها التسلط الجبري، وتخشى إن حاولت أن يرفضها، أو ترفضه.

كان الوقت ضحى، والهواء منعشاً لطيفاً، حين رأيت نفسي تنساق إلى بيت "سناء"، وقفت برهة عند الباب أتأمل البيت من الداخل من خلال تفاريج فيه، شاهدت الحوش مرصوفاً بحجارة ملساء، يبرز العشب من حوافها بشكل عفوي بديع... وفي وسطه تنهض شجرة نارنج، تمتد أغصانها، وترخي ظلالها، ومن بينها تتدلى ثمارها... امتد نظري إلى الليوان، تحيط به الغرف، وتزينه أصص الأزهار المتنوعة.

طرقت البات... سمعت المرأة ترد بصوت مسترخ:

- مين على الباب؟

- أنا

- من أنت؟

- ....

سحبت المزلاج... أطلت بوجه مطلي بالألوان، وقد زينت رأسها بزهرات من الفل، والياسمين... نظرت باستنكار، سألتني:

- ماذا تريدين؟

- "سناء"، أنا صديقتها.

قهقهت باستخفاف وقالت:

- متى كان لـ"سناء" صديقة... ما عندنا صديقة لك.

أغلقت الباب، بصوت مرتفع حدثت نفسها:

- عال، والله عال، البنت "سناء" صار لها صديقة...

وباستفزاز نادتها:

- ألم أقل لك يا بنت ممنوع الكلام مع أحد.. من البيت إلى البئر، ومن البئر إلى البيت...  من البيت إلى البحر، ومن البحر إلى البيت؟

كم حذرتك!!

تحتاجين العقاب، والتربية.

وسمعت الشتائم تنهال عليها، وأنا لا أزال في وقفتي... أرسلت نظري عبر التفاريج، .. شاهدت المعركة من جانب واحد، فيما الصفع وشد الشعر، وسناء تتكور فوق الأرض، تحتمي بجذع الشجرة، تحاول أن ترد عنها الأذى، وهي تقول بصوت خافت:

- التقيت بها مصادفة عند الشاطئ... ما كنت أقصد هذا.

كانت تقدم الاعتذار برقة، ... وتتفادى الضرب.

في أثناء الطريق غمرني إحساس بالعطف الشديد على "سناء" المحرومة من حنان الأبوين، التي لا تجد رفيقة تؤنسها... وتسببت لها بالأذى، عدت إلى البيت، وأنا أعتقد بأن ما رأيت، وسمعت، شيء فظيع لا يحتمل... لم أتجرأ بعد ذلك اليوم من الاقتراب من بيتها، ولكني ظللت أتوق لمشاهدتها.

في ساحة الحارة، عند البئر كنت ألتقي معها... تعرفت على بائسات وهن يملأن من ماء البئر... رسمت في مخيلتي البيئة، كانت أشبه بلوحة رسمت عليها حياة كثير من البائسين، وسناء. واحدة منهم، بؤسها في قساوة أبيها، وفظاظة زوجته... لكن سناء كانت تجد الحصانة في الغض، والتناسي، والتسامح، وتستنكر من المرأة التي لا تجد الحصانة من الكره، والحقد في حبها لسناء ورعايتها لها.

تكرر لقائي "بسناء" في الحي، وفي الزقاق، وتحت القنطرة، وعند البئر، وحين نكون في نزهة عند الشاطئ... صارت الصفيحة فوق رأسها كجزء منها، وخطواتها أكثر انسجاماً مع نتوءات الحجارة. وشعرها لا يزال ينهدل على جانبي وجهها... كنا نتحدث وعيوننا تراقب المكان، قد يشي أحد ما إلى زوجة أبيها، وتقع سناء في ورطة.

في أحد الأيام، عند الشاطئ، قلت لها:

- إنني أنتوي الذهاب غداً إلى المسجد، لأحضر درس عمي الشيخ "عبد الله"، أتمنى أن تذهبي معي، لا نطيل البقاء، مجرد ساعة لا أكثر.

باستغراب قالت:

- كيف يكون موقف زوجة أبي لو علمت بالأمر؟

- أتمنعك...؟

برغبة، وبلهفة قالت:

- أود ذلك... ستمنعني حتماً.

أخذت تصلح وضع الصفيحة فوق رأسها، وهي تشكرني على اهتمامي بها....

- سيأتي وقت أحضر فيه مجلس عمنا الشيخ "عبد الله"، فيه نتعرف على ديننا

- حاولي... استعطفيها... لا تيأسي... لعل، وعسى...

هزت برأسها وهي تقول:

- أن توافق... شيء مستحيل، ..مستحيل.

"سناء": آن لك أن تواجهي الخوف بإرادة... أخرجي نفسك من القوقعة، ... صبرت بما فيه الكفاية... الجئي إلى أبيك، نعم الجئي إليه.

ضحكت باستخفاف، وبصوت خافت كأنه ينساب من مكان قريب، قالت:

- هل يشعرني بكونه أباً لي؟

آه... لقد تأخرت، تأخرت... أخشى أن يحصل ما أتوقعه.

- حاولي أن تكتسبي ثقتها... ستلين حتماً، ستلين.

كان القلق واضحاً في نبرات صوتها، وهي تنطق بالعبارة الأخيرة، وتهرع بأنفاس لاهثة، .. كان لكلماتها صدى في نفسي... هل أخطأت بتصرفي هذا... هل نكأت جراحها..؟ أريدها أن تتغير، ولا أريد أن أفقدها كصديقة.

في المساء، بعد عودة أبي، قررت أن أحدثه عن حالها، ومن ثم أرجوه القيام بعمل أي شيء من أجلها... أكّد لي بصوت حاسم محاولاته العديدة، تارة باجتماعه مع أبيها لتحريك عاطفة الأبوة تجاهها، وتارة بعرض المساعدة المالية... للأسف لم ألق منه أي استجابة، ويزعم أن مخالطتها للناس تؤدي إلى إفسادها، وجعلها تثور على من في البيت... لن أستطيع يا ابنتي أن أفعل شيئاً... يبدو أنه قد اصطنعها لزوجته وأولادها.

قلت في نفسي:

- خادمة؟..

ليس بهذه الطريقة المتوحشة، بالضرب، والشتم، والركل بالقبقاب، وشد الشعر.

زفر والدي بضيق، وسألني:

- هل حدثتك بشيء من ذلك؟

- بل بأكثر منه، بحرمانها من الطعام أحياناً كعقاب، وفي الأحوال العادية لا تنال إلا ما فضل من إخوتها.

- أف، ما أغبى أباها!! هل هو غافل عما يجري لابنته؟

ثم أردف:

- احتفظي بصداقتك معها.

اسمعي يا ابنتي، لا داعي لشعورك المستفيض هذا، لسوف تنتهي الأمور إلى الأفضل بإذن الله.

عرفت فيما بعد ذلك، أن والدي يرافقه رجال صالحون، التقوا بأبيها، وأبدوا استعدادهم لدراسة وضعها، ولكنه كان يعتبر ذلك إهانة له، واتهامه بالتقصير، والتدخل في شئون أسرته... عجزوا، رغم ما بذلوه من جهد في سبيلها.

احتضنت "سناء" في أعماقي وأنا أراها عند أب متحجر يضربها من غير سوط، وامرأة مجرمة تضربها بكل سوط، وأيامها تسحق بين دفتي رحى.

ذات يوم ونحن نسير معاً، شعرت بضيق نفسها، فقلت:

- الحياة عجلة مزودة بالعصي، ماذا نفعل كي نستمر في المضي؟

بسرعة أجابت، وهي تضحك:

- نزيل العصي، لكن.. من يدري.. قد ننجو، وقد نعجز أحياناً.

قلت بجد:

- لا بد من تحرير الذات من القلق، والخوف، والسعي لإزالة العقبات، والاتكال على الله سبحانه.

فكرت برهة، ثم بحزم قالت:

- سوف أغامر مهما كانت الطريق طويلة.. أكيد.. ستقصر، وتسهل..

كانت الشمس فوقنا متوهجة عند الظهيرة، قلت لها:

- ستقودنا الشمس قريباً إلى الظل.. هكذا الحياة يا عزيزتي.. ستقودك إلى الفرج.

كانت سناء تعاني الكثير في أمور كثيرة، أشدها التفريق في المعاملة بينها وبين إخوتها، وحرمانها من التعلم في المدرسة، وصحبة الصديقات، وأشياء كثيرة، كأنها تعيش في دنيا غير دنياهم، ولا يدري أبوها عنها شيئاً، ولم تفكر هي في مكاشفته بالأمر.

كانت الأيام تكر، وتتسع، وسناء تنمو، وتتفتح كزهرة عبقة في حميم من جحيم... كنا في الطريق المؤدي إلى شاطئ البحر، حين بثت لي لواعج نفسها، وعبرت عن شدة حاجتها إلى أمها، وتأوهت وهي تشكو قلة اهتمام أبيها بها، وقالت في ألم:

- لم أعد صغيرة، نفسي تتوق إلى ما يبهجني كغيري من النساء الصغيرات، إلى المعاملة الطيبة، والثوب الجديد، والحذاء ذي الكعب و..

- اطلبي من أبيك ما ترغبين.

هزت رأسها بانفعال:

- لا.. لا أتجرأ على ذلك.. ولا أتجرأ حتى إلى التحدث معه، و...

- شيء مؤلم حقاً.

كيف حالك هذه الأيام مع زوجة أبيك؟

- إنها تستفزني بلا مبرر، ..تغضبني جداً.. تدفع بي إلى الجنون.. أضغط على أعصابي، وأستعيذ بالله.

- هدئي من روعك، لا تقلقي، كيلا يزداد الأمر سوءاً.

- هذا ما يحصل بالفعل... الوقت لا يتسع لأشرح لك كل شيء.

توقفنا برهة عن الحديث، بابتسام، وبصوت هادئ سألتها:

- هل تنظرين إلى نفسك في المرآة؟

ضحكت، وهي تقول:

- أحياناً.. بل كثيراً.

- ما أكثر شيء يعجبك فيها؟

- عيناي.

- لماذا؟

- لأنها تذكراني بأمي.

- وشعرك بماذا يذكرك؟

- بالليل.

- هل تحبين الليل؟

- نعم، فيه راحتي، وتأملاتي.

- والنهار؟

- آه من النهار! تتورم فيه قدماي من التعب.

رأيت الألم يزداد عمقاً في عينيها، فقلت بعطف شديد:

- لا أريد أن أزيد في آلامك.. ولكنها أسئلة.. مجرد أسئلة قصيرة.

أردت أن أدخل البهجة إلى نفسها، فقلت:

- لك عندي مفاجأة، آمل أن تروقك.

بلهفة سألتني:

- ما هي؟

- احزري.

- أكره الألغاز.

- إنها كتب صغيرة، رائقة، آمل أن تعجبك، سأحضرها لك.

استجاش ذكر الكتب نفسها، لمعت عيناها، وفاجأتني بقولها:

- هل تعلمين بأني لا أدع كتاباً لإخوتي إلا أقرأه، بل وأساعدهم في فهم ما يقرأون.

بدهشة قلت:

- إنك تكبرين يا سناء، وينمو معك إحساسك بالحياة، وتذوقك للقراءة وتتدفق مشاعرك بالألم، والضيق، والحنين، والحزن، وغيرها.

أيمكنني القيام باقتراح؟

- ما هو؟

- أن تسجلي مشاعرك، وأفكارك على الورق.

بسرور قالت:

- أنا أفعل ذلك، أفعل دائماً.

- جميل جداً، آتيني بها كي أعرضها على أختي هيفاء، وكما تعلمين، هي مدرسة في تجهيز البنات، وتشجع الطالبات على الكتابة.

بهدوء قالت:

- سأريك أشياء كثيرة أحتفظ بها.

في صباح يوم ربيعي، كان الجو صافياً، والشمس مشرقة، والهواء منعشاً، حين استيقظت "سناء" متأخرة على غير عادتها، كان البيت هادئاً، وخالياً من صخب إخوتها وضجيجهم، تذكرت حديث زوجة أبيها مع أولادها أمس، تعدهم بزيارة خالتهم غداً، في إحدى ضواحي البلدة، لقضاء النهار عندها... تفقدت أركان البيت، وقامت بكل ما يلزم... تناولت الإفطار بهدوء، ولكنه ظاهري، إذ أحست بالوحشة، بحثت عن وسيلة للهرب منها... تفتحت نفسها على شيء كان مكتوماً... تنهدت بارتياح، إنه الحرية.. الحرية التي تفتقدها.. أخذت تجري هنا، وهنالك، في الليوان بين أصص الزهر، وفي الحوش، وتدور حول شجرة النارنج، وتقفز بالحبل، وتنتعل حذاء زوجة أبيها ذا الكعب المرتفع، وتغني بصوت عال... قامت بأشياء غير مألوفة لديها، لم تكن لتجرؤ على فعلها في يوم من الأيام... تأوهت وهي تتنسم بارتياح عبق الحرية... ثم وقعت نظراتها على بعض الكتب والمجلات، هتفت بلهفة:

- الآن بمقدوري أن أقرأ بصوت عال.. لا أحد ينهرني، أو يقطع علي متعتي.

لم يكن في البيت سوى هرتها التي لمعت عيناها، وهي ترى "سناء" على غير المألوف.. أخذت تجري بجريها، وتموء مع غنائها، وإن جلست تمددت بقربها، وهي تهر بنغم رقيق.

باطمئنان حدثت نفسها:

- من يدري... سأمرح كما أشاء، وأقرأ كما أشاء، وفي أي مكان أريد، إنه يوم حريتي.. آه.. ما أجمل الحرية.. كم أنا بحاجة إلى تغيير حياتي، وأن تعينني نفسي على نفسي!!

أشرق وجهها بالابتسام وهي تهرب من الخوف الذي يسكنها، وتتعرى من القلق، وتقبل على الكتاب بلهفة.

كانت القراءة تغمرها بمتعة عميقة، ولذة كبيرة، وتستسلم إلى هذا الشعور بسرور.. الفضاء ممتد أمامها، وزهرات النارنج تفتحت ليلاً، تنشر عبيرها في الدار.. لم تكن تحس بمثل ذلك في الأيام الخوالي إلا لماماً، كانت في شغل دائم في النهار، وقيود لا تجرؤ على كسرها.. وفي المساء تلجأ إلى زاويتها وقد نالها الإنهاك.

في هذا اليوم وهي تقرأ، انطلقت وراء الأفكار المنبعثة من الكلمات، ومن بين السطور، ثم تعتريها الدهشة عندما تحس بتوقدها في ذهنها.. كم كانت تحلم بذلك لتتعرف على نفسها من خلال القراءة، وتتعرف على الناس في طباعهم وأخلاقهم، وتعيش مع الأحداث والأزمات التي مرت ببلدها الصغير، ووطنها الكبير زمن الاستعمار قبل مولدها، كان سمعها يخطف بعض الأحاديث من العجائز حين يجتمعن في أرض الحوش مع زوجة أبيها، فيشوقها التعرف إلى الماضي.. تاريخه، معاناة الشعب، فوجدت في القراءة ما تصبو إليه.

تفقدتُ "سناء" هذا اليوم، لم أشاهدها كالمعتاد في الطريق إلى البئر، علمت من جارتنا "أم مصطفى" أنها في البيت وحدها، استأنست بالخبر، فاجأتها بزيارتي.. رأيت البشاشة تبرق في عينيها، وتطوف على وجهها، قد سرحت شعرها بعناية بضفائر ألقتها على ظهرها، والكتاب بشغف تضمه بين يديها، فازدادت سروراً بلقائي.

- أراك اليوم سعيدة يا سناء.. وحيدة في البيت.

بفرح أشارت إلى القطة:

- بل مع صديقتي..

ابتسمت وأنا أدرك طريقة تخلصها من الوحشة والعزلة، بالكتاب، ومع الهرة.

سألتها:

- ألا تسمعين إلى المذياع، إنه وسيلة رائعة للاتصال بالعالم؟

- لا أخفي عليك بأني أسمع وأنسى، وعندما أقرأ أتذكر.

- سمعتك وأنا عند الباب تقرئين بصوت مرتفع.

- لأن البيت خال.. أقرأ أحياناً بهمس، أو بصمت، والقراءة الصامتة تعينني على الفهم، والتأمل فيما أقرأ.

غمزت بعيني وأنا أقول:

- ألا تخشين "أم خالد" وأنت تقرئين بصوت عال؟

بلهجة حاسمة قالت:

- يكون ذلك فقط وهي خارج البيت، كي أعوّد لساني على سلامة النطق بالفصحى، كما يفعل إخوتي.

- يبدو أنك تستمتعين فيما تقرئين.

- جداً جداً.. الجديد من المعلومات يمتعني، ويخفف من ضيق نفسي.

ضحكت وأنا أسألها مازحة:

- هل يتسنى لك الوقت والمكان المناسبان.. على علمي أنك تقضين سحابة نهارك في العمل، حتى تتورم قدماك.

تنهدت وقالت:

- هي لحظات أخطفها من خلال استراحتي اليسيرة، أما المكان فزاويتي المفضلة تحت النافذة، في الغرفة الجانبية، وذهني ينحصر فيما أقرأ، لا ينشغل بشيء آخر.

- بلا شك.. أنت تفهمين ما تقرئين.. ماذا تفعلين إذا كان الموضوع صعباً؟

- أدعه جانباً.. قد أعود إليه فيما بعد.. أحاول أن أغوص فيه كي أصطاد المعاني، وأستشفّ ما وراء السطور.. أعيد الكرة مرات.

ابتسمت وهي تقول:

- يذكرني المعنى الغامض بـ "بدر" صياد السمك في بلدتنا، أراقبه عند الشاطئ، يلقي شبكته مرة تلو المرة، ثم يجذبها فيجدها خالية.. لا يتأفف.. يحاول، وبعد جهد يجذبها بمشقة، ليجدها ملأى بالسمك، فتقفز الفرحة في عينيه كقفز السمك، ويشكر الله على ما أعطاه.. منه تعلمت الصبر في الصيد، هو للسمك، وأنا لمعاني الكلمات.

نظرت إلى سناء بإكبار.. بعد برهة من الصمت، تذكرت قولاً لوالدي:

- كانت المدارس في الوطن مقتصرة على المرحلة الابتدائية زمن الاستعمار، بالرغم من ذلك، فقد ظهر الكثيرون من الأدباء والشعراء.. كان سببه الإقبال على كتاب الله تلاوة، وتدبراً، وتفهماً، حتى تميزوا بالحس اللغوي، ودقة الملاحظة، بالإضافة إلى تفاعلهم مع ظروف الوطن، فتفتّقت مواهبهم الفطرية الكامنة في نفوسهم.

ببهجة قالت:

- وأنا أيضاً أتلو آيات القرآن، وأتدبر معانيها ما استطعت.

سألتها:

- ما هدفك من وراء القراءة؟

ابتسمت والأمل يخالجها:

- بناء نفسي بتثقيفها، وتغيير حياتي في المستقبل، والصبر عليها، بحيث لا يفوتني نفع فيما أقرأ.

- لكل شيء؟

ضحكت وهي تقول:

- أتغاضى عما لا يعجبني، وأكره إلزام نفسي بشيء لا أحبه.. أقرأ ما أرتاح إليه.

- إنك تنحشرين في مكان ضيق و..

- أحبه، لأنه ملك لي وحدي.. لا يشاركني فيه أحد.. المساحة تتسع أمامي من خلال النافذة، عيناي تمسحان السماء نهاراً، وتلامسان القمر والنجوم ليلاً، والنسيم يلاطفني بنداوته.

- جميل منك هذه الهمة العالية.. أهنّئ الوقت بك، إذ لا تضيعينه في الكسل، وتستغلينه في المفيد.

- الأوقات يا عزيزتي تدعوننا إليها، لم لا نهتم بها، ونكرمها؟

كنا نتحدث بهدوء.. بلا خوف أو قلق.. النهار ملك أيدينا.. ارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة، مشوبة بحزن، وقالت:

- لقد حرمت من الصديقات، وزيارة الجيران والأقرباء منذ رحيل أمي، وبخاصة صديقة طفولتي "فاطمة" بنت خديجة، وجدتها أم مصطفى.. أما الآن يخفف أسى نفسي أن أجد وقتاً ثميناً –ولو كان قليلاً- أملؤه بالقراءة، شعاري الآية الكريمة:

بادرتها بسرعة:

- "وقل ربي زدني علماً".

- هذا ما أردت قوله.

- إن زوجة أبيك حرمتك من الصديقات لتستخلصك لأطفالها.. ربما.. ربما أيضاً لأنها غريبة عن بيئتنا، فلم تراعي تقاليدنا، وأخلاقنا.. اصبري يا "سناء".. على فكرة، ما أقدمه لك من كتب ومجلات وقصص هي من اختيار أبي من مكتبته، وعلمت منه أن أمك كانت قد نالت "السرتفيكا" قبل زواجها من أبيك، وعرفت بين النساء بحسن ترتيلها لآيات القرآن الكريم.

دهشت لما سمعت.. توقفت برهة.. ثم قالت:

- القراءة تستثيرني للمزيد، وتشعرني بحاجتي إليها كلقمة العيش، أجد فيها منطلقاً لروحي، ومتنفساً لذهني، وتعلمت منها أسلوباً جديداً في التفكير، والروية في التصرف.

بانبهار قلت:

- إن الله قد متعك بالموهبة، والذكاء وحسن الفهم، عوّضك بهذه الصفات عما حرمت منه.. أخشى أن أكون قد أفسدت عليك وقتك في المطالعة، لسوف أضطر للعودة إلى البيت.

كانت الهرة تتمسح بي، وتقوّس ظهرها، وترمش بعينيها، تدعوني إلى المكوث أكثر.. مسحت على رأسها، ولوحت لها مودعة.

كان النهار يمضي بسرعة، وسناء توزعه بين القراءة والاسترخاء، والعناية بالأزهار وشجرة النارنج، حتى إذا أقبل المساء، والقمر يبزغ في الأفق، سمعت حفيف خطوات إخوتها تقترب من الباب الخارجي، وضحكاتهم تنتشر بمرح.. أحست بشيء يطاردها، وشعرت بقلبها يدقّ كالمطرقة، ويتردد صداه في صدرها، حين داهم سمعها صوت زوجة أبيها وهي تقول:

- سنرى هذه اللعينة، ماذا فعلت في غيابنا.

لملمت سناء أشياءها، وأسرعت إلى ركنها الخاص تدسّها فيه، وهي تدعو الله أن يساعدها على قول الصواب، فلا تخطئ معها.

أخذت أم خالد تلقي تساؤلاتها السريعة بصوت مقزّز، ووجه كئيب:

- هل كنست يا بنت، هل غسلت، هل...؟

- فعلت كل شيء، كل ما تأمرين به يا خالتي.

- هل أخذت الطعام إلى أبيك في الدكان؟

- نعم، أخذته.

- هيا اغربي عن وجهي.

شعرت "سناء" بالدموع الحارة تملأ عينيها، وبهمس قالت:

- يا إلهي.. ما أفظّها، ما أخشن كلامها، وأقسى مشاعرها!!

ضمّت إليها إخوتها بحنان وشوق، ثم اتجهت إلى ركنها.. ألقت بجسدها فوق الفراش.. وبنشوة عارمة قالت:

- على كل حال.. إني أبارك هذا اليوم الذي عشت فيه بحرية.

اقتربت بوجهها من النافذة، وهي تود أن تصرخ وتقول:

- آه.. ما أجمل الحرية.. ما ألذ طعمها!!

*  *  *

نهضت "سناء" في اليوم التالي مبكرة، لبثت برهة وهي لا تدري أين هي، تنبهت إلى الحقيقة، بقيت في الفراش مستمتعة بالدفء والاسترخاء.. تذكرت.. لا يمكن البقاء أكثر، أعمال البيت كالعادة تنتظرها، ..ثم الخروج إلى البئر، وإلى البحر..

في هذا اليوم لم تتململ.. انتابها إحساس خفي ممتع، تماوج في صدرها، نظرت إلى الطست المليء بالأشياء، وإلى الصفيحة الفارغة، وشعرت بالرغبة في الانطلاق، وارتسم الارتياح على وجهها.. مر بذهنها صورة "خضرة"، وأختها "بدرية" العمياوين، وهما تملآن الجرار من البئر، أحست بشوق نحوهما، اعتادت على رؤيتهما، لم تكونا تتضجران من العمل، كانتا تحدثانها، وتسألان عن صحتها.. في إحدى المرات ذكرت "خضرة" أمامها "فخرية" أمها، ولكن سرعان ما ضغطت أختها على يدها، وقالت: هيا يا "خضرة"، وراءنا أشغال كثيرة.. شعرت سناء بشيء تكتمانه عنها، تساءلت في نفسها: ما هو...؟ إنها لا تدري.. شذرات من مواقف تنبهها، وتترك آثاراً غامضة، ثم لا تلبث أن تتلاشى.. بلهفة حدثت نفسها:

- لماذا في هذا اليوم بالذات تدفعني الرغبة الشديدة للخروج؟

أهي الحرية تستدعيني إلى الهرب من الضغط والقسوة؟

هل هو ولادة لشعور جديد أيقظه يوم أمس؟

لم تتردد.. خرجت والطست بصحبتها.. استدارت في الطريق المؤدي إلى البحر.. المنازل قائمة على جانبيه، مغلقة أبوابها، على مسافة بعيدة تبدو المنارة، ومن ثم البحر من ورائها.

وقفت أمام مياه البحر الغارقة بأشعة الشمس، الزوارق يؤرجحها الموج، تحمل بعض الناس إلى جزيرة "أرواد"، وأخرى تعود منها.. شعرت بشيء من البهجة تطفو في نفسها، لم تدر كنهها، هل هي لذكرى بعيدة خطرت أمامها مع أمها، وهي دون الخامسة؟.. وتغيم الخاطرة، فلم تستطع أن تسيطر عليها كانت عيناها ترحلان من الناس.. كم تمنت أن ترحل معهم!!. بكت... لم تبكي..؟.. لا تدري.. والزوارق الرمادية تختفي شيئاً فشيئاً.

كانت الذكريات تستيقظ في ذهنها، وهي تتأمل البحر، وشعور لذيذ يستجيش في صدرها، مسافات وأزمنة يختصرها التصور.. وكأن هذا اليوم بداية لحياة جديدة.

شعرت بتطور يزحف إلى نفسها، لامست صدرها وردفيها.... أحست بتغير في جسمها.. سخرت وهي ترى أن طريقة حياتها ثابتة لا تتغير، فما زالت تخضع لتحكم العادات منذ وقت الاستيقاظ من النوم، حتى وقت الإخلاد إلى النوم، تقوم بالأعمال بصورة تلقائية، تتم بحكم العادة، بتوجيه من زوجة أبيها، حتى تكون لديها السرعة في الاستجابة دون أدنى تفكير.

استلقت فوق الرمال، كانت أنفاسها تتردد مع عبق أعشاب البحر، فقررت أن تغامر ببعض الوقت، لتستمتع بالطبيعة دون خوف أو قلق.. كل ما حولها يحثها على التأمل، والتفكر في الكون، وفي نظام الحياة، وتتغلغل في خباياه بالتصور، والخيال، وفي نفسها رغبة ملحة في تحويل عاداتها التقليدية إلى أفعال فيها الشعور، واليقظة.

كثير من الأطفال كانوا يلعبون فوق الرمال، ومن النسوة من يغسلن الأشياء في تجاويف الصخور كعادة قديمة... تعمقت في الاستغراق، وتجاذبتها الخواطر، ورجعت بها الذكريات إلى ضفاف طفولتها، فأحست بالدمع يتعلق بأهدابها... انتفضت في مكانها حين سمعت صوتاً يقول لها:

- ماذا بك يا سناء، هل تشعرين بشيء؟

فتحت عينيها، فرأت طفلاً في العاشرة ينظر إليها بعطف شديد:

- ما بك، هل رطوبة الجو تزعجك؟

- لا، لا شيء من هذا.. فقط أشعر ببعض التعب، والحاجة إلى الراحة.

- هل أجلس معك؟

- لا، لا.. الواقع أني أحب الوحدة... على فكرة، كيف عرفت اسمي؟

ابتسم بعفوية وهو يقول:

- من لا يعرف اسمك.. "سناء بنت فخرية".

- أجل، أنا هي "سناء بنت فخرية".. أرجو أن لا تزعج نفسك من أجلي، أنا بخير.

بسخرية حدثت نفسها:

- ظروف حياتي تفرض علي العزلة عن البشر، أراهم ولا أكلمهم.. سئمت.. فإلى متى..؟

كانت رائحة البحر مغرية، والرمل دافئاً من أشعة الشمس، وصخب الأمواج يخلع السكون من القلب والمكان، والطيور تصوت في الفضاء، تحلق تارة، وتهبط تارة أخرى، تباغت طفو السمك، لتلتقطها بمناقيرها.. وحكايات الأطفال، والنساء الصغيرات تتناثر مع الهواء، وتتخم ذاكرة البحر.

يعصف "بسناء" الشجن، فتلوذ بالصخور، تجلس بينها، علمتنها أن تكون صلبة مثلها، هي تتحمل لطم الموج، والأعاصير، و "سناء" تتحمل صفع الألم، والقهر، كلاهما يصبر على البلايا.

بحيرة ساءلت نفسها:

- ماذا يجري لي؟

أرى اليأس يدفعني أحياناً لأفتش عن الأمل في نفسي، كي تنجلى وتصفو... ثم يقترن الألم بالبسمة، وتقول:

- أرجو أن يكون يومي خيراً من أمسي.

صارت أحاسيسها تتسع في صدرها يوماً بعد يوم، وهي في الطبيعة ترجع الحوادث، وتعلمها الحياة ما الحياة، وأن التشاؤم يندفع من داخلها وليس من الحياة... ثم أدركت أنها لم تصل بعد إلى مرحلة شجاعة الموقف، وصراحة القول، والرفض.. كانت ترخي على الطبيعة شباك الرؤية، وتشعر بالظمأ الشديد للمعرفة، تراقب فعل الريح وهو يجرح وجه البحر الأملس، ويحيله إلى حبك متتابعة، والبحر يستسلم... يصبر.. لامست وجهها بكفها، تذكرت مواقف أليمة.. شدت ما بقي من شعرها الناعم برفق، ثم أخفته تحت ياقة ثوبها، تنهدت وهي تقول:

- أنا وأنت يا بحر نذوق المرارة.. ونصبر.

كانت تعيش في جنة من فصول الخيال لذيذة، تتمنى لو أن النهار يمتد والدهر يتمطى، وتستسلم إلى أحضان الطبيعة، بنقائها، وبراءتها، وإلى الحقيقة بصراحتها.

كانت روحها الشابة تثب إلى التغيير، وتحويل العادات إلى شيء جديد، فيه الحيوية والنشاط، بالتفكير، والتخطيط.. كان في داخلها شيء يتحرك كالوحش يريد الخروج، ويكسر الجامد من المألوف، ويعتقها من القيود... حثتها أمنيتها على تحسس الحرية عند الشاطئ، مع النسيم تطوف معه، ومع الفضاء الواسع تمسحه بناظريها، ومع الطيور تحلق بتحليقها، ومع انسياب الزوارق، ووشوشة المويجات، ودغدغة السمكات، وجري السراطين وهي تختبئ في زوايا الصخور... كانت تتابع الأشياء بعينيها، فيتساقط الإعياء من هشيم نفسها، منهمراً على هشيم الرمال.

أشياء كثيرة تفتحت لها نفسها، ما كانت لتأبه لها، كان الوقت يملكها، وليست تملكه، والحرية عنيدة، شريدة تستعصي عليها، واليوم تشعر بحلاوتها، ويجنح خيالها، ويفور طبعها.

كثيراً ما ترخي العنان لأحلامها، وتمتطي الأمواج، وتجد في الطبيعة حناناً ورأفة، تخشى عليها من وهج الشمس، فتمد لها الظلال عند منحدر الصخر، ويطيب لها السمر مع السمكات الهاربة إلى الهاوية..

كنت قد خرجت من المسجد بعد حضوري درس الدين مع عمي الشيخ عبد الله المجذوب وأعلم بوجود "سناء" عند الشاطئ ذلك الحين.. بحثت عنها وجدتها تتكئ على صخرة كانت نظراتها مشتتة في أرجاء الطبيعة، وفي ذهول.. غافلتها بصمت، لمست كتفها، اندهشت.. بادرتها بقولي:

- أهنا تختبئين يا سناء؟

- لا أختبئ.

بابتسام قلت:

- إنها مجرد عبارة لا أكثر.. شعرت بحاجتي للحديث معك فجئت إليك.

- وأنا أشعر بمثل ذلك.

- أرجو أن تكوني بخير.

- فقط أشعر ببعض السأم.. تذكرت أشياء في طفولتي.

- إن كانت سيئة وجب نسيانها.. اطردي السأم من نفسك.

تنهدت وهي تقول:

- يحكون كثيراً عن الحرية في مجالس السمر، فأقتنصها هنا فقط.

أشارت إلى البحر، وبتعجب قالت:

- من يدري ما تحت الماء؟

بادرتها:

- أسماك، وحيتان، وجثث غرقى، وأشياء مهشّمة، و..

- بل أقصد الأسرار في أعماقه، كما في صدري.. آه يا عزيزتي من الوحشة، والغربة، وذكريات الماضي.. هل تبقى مدفونة يا ترى، أم ستنفجر يوماً ما؟

- بل ستنفجر، وتطفو على السطح.

قلت مازحة:

- ماذا كنت تفعلين هنا؟

ضحكت وهي تقول:

- أسير على الغيوم.

- إذاً، أهلاً بك على الأرض.

ثم بضيق قالت:

- إن في داخلي طفلة خائفة، تتصارع مع وحش.

- الوحش هو التمرد، يريد الخروج، دعيه ينفلت.

- كيف؟

- بتلاوة القرآن، والتعرف على أحكامه، وحقوقك، وبالعلم والمعرفة كلها وسائل تعينك على إخراج الوحش من نفسك.

- صدقت، هذا ما أحاوله.

- الحياة يا "سناء" لا تتغير إلا بتغير ما في نفوسنا، حرّري عقلك، يتحرر جسدك، وستكون أمورك على خير.

طافت البسمة على وجهها، وبرقت عيناها وهي تقول:

- بحديثك تخففين عني.. وأنا معي أضحك من أعماقي، ولكنه ضحك يمتزج أحياناً بالحزن.

.. إنك تحافظين على قوتك بهذه النزهة اليومية، اعتبري مجيئك إلى البحر نزهة، كي تحافظي على عقلك بالتأمل والتفكّر، وبتثقيف نفسك.

- ولكن..

- ماذا؟

- لا أدري.. هل أحدثك عن طفولتي، لأتخلص من بعض أشباح الماضي؟

- فيما بعد.. عبّري عنها بالكتابة.

بلهفة بادرتني:

- كثيراً ما أكتب، حتى غدت الكتابة هوايتي المفضلة بعد القراءة.

- رائع، شيء رائع، ثابري ما أمكنك ذلك.

سألتها بهدوء:

- ما رأيك بمناقشة الكتاب الذي تقرئين، وتحددين فكرته؟

- هذا يسعدني، ويساعدني في السيطرة على شرود ذهني وتشتت فكري.. عسى أن أبني نفسي وأتحرر من همومي.

نظرت إليها بإعجاب وقلت:

- سبحان الله، فعلاً، إنك تتغيرين يا "سناء"!

أردفت بفخر:

- يا ابنة فخرية.

- يجب أن أبرح حالاً.

حملت الطست تحت إبطها، واندفعت فوق الرمال، ثم انجرفت في الطريق المؤدي إلى داخل الحي.. تابعتها بنظري، وأنا أخشى عليها من العتاب لمغامرتها ببعض الوقت.

*  *  *

أيقظتني رائحة الربيع مبكرة، بعثت النشاط في كياني، رأيتني مدفوعة بالرغبة في الخروج إلى البرية، لتلامس عيناي الجمال في وروده، وليسكن في سمعي حفيف الشجر، وتغريد العصافير، ولينتعش صدري بنسيمه المبلل، وأعيش فترة حالمة لمشهد خيالي ممتع.. كانت النحلات والفراشات قد سبقتني، تهفهف، وتلثم النباتات الثرية، وتتناثر في فضاء البرية، فيعود للأجسام توازنها، ويشبع أحاسيسها بالحياة.

من بعيد شاهدت "سناء" كتمت أنفاسي، وأنا أسمعها تدندن بأغنية محبّبة، وهي تتجول بين أشجار الزيزفون، والصفصاف.. ثم استدارت عندما سمعت حفيف خطواتي، وبدهشة قالت:

- مفاجأة رائعة..!

- أراك سبقتني إلى هنا.

- أنسيت قرب المكان من البحر؟

- لا.. ما أجمل الطبيعة في الربيع..! إنها تحثنا على الخروج لاستقباله، ليمتص أحزاننا وآلامنا، ويبدلها بهجة وسروراً، ويمنحنا النشاط والحيوية في جو فردوسي رائع.

- الأعشاب مبللة بقطرات الندى، ترطب أقدامنا.

- محببة تلك الرطوبة.

كانت الشمس تنشر دفئها، وتمتص البلل، وتذيب قطرات الندى.. والجراد الملوّن يقفز بفرح بين أقدامنا، ونحن نسير ببطء.. ثم وقفنا عند شجرة صفصاف، ترفرف أوراقها فوق رؤوسنا، وتؤنسنا بهوائها.

نظرت إلى وجه "سناء" فلمحت فيه شحوباً وخدوشاً، قلت في نفسي: إنها حزينة بلا شك، هربت إلى البرية مبكرة لسبب ما، ليتني أستطيع تسكين ألمها.. ولطالما تساءلت عما سيئول إليه أمرها.

- سناء: إنك تكتمين عني شيئاً ألمحه في وجهك، حدثيني عنه.

سكتت برهة.. هل فتقت جراحها؟.. أعدت السؤال، وفي ذهني أمر ما.

- أرى في وجهك شحوباً، وخدوشاً، ماذا ألمّ بك؟

- أوه.. نعم، حصل أمس أن غفوت في وقت لا يسمح لي بالراحة، لحقت الفوضى في البيت، نهرتني زوجة أبي، تضايقت، فقلت:

- ماذا يحدث لو يكسر ساقي؟

أجابتني:

- تمشين على الساق الأخرى.

- وكيف؟

بصراحة قالت:

- ستمشين ولو كان على عصا للقشّة، وتتدبري شئون البيت مهما كانت الأسباب.. ويبدو أنها استاءت من كلامي، فضربتني بالمقشّة على وجهي.

- أفّ.. ربنا يهديها ويصلحها.

بعد برهة صمت سألتني:

- إلى متى سيظل الحال هكذا.. لم يعد بوسعي الاحتمال.. إنها تسيء التصرف معي باستمرار.. وهل يبقى الإنسان على حال واحدة، لا يتغير؟

- لا.. بل يتغير.. كلنا نتغير يا سناء.

باستغراب تساءلت:

- لماذا تعاملني هكذا.. ألست ابنة أبي، ألست أختاً لإخوتي.. أم هناك أمر يخفى علي؟.. صرت أشكّ بـ..

قلت أهدئها، وأنا أربت على  كتفها:

- أجل.. إنك ابنة أبيك، وأخت لإخوتك بشهادة الجميع.. اسمعي، أريد أن أضحكك، زينب بنت أم علي جارتنا كانت سمراء البشرة، تختلف عن إخوتها، كانوا يمازحونها، فيقولون لها: إنَّا وجدناك في جوال الفحم عند الشاطئ، والمسكينة تصدق ما يقولون، وتظن بأنها ليست منهم، سألتني وهي تضحك:

- وأنا.. أين وجدوني؟

- في جوال الكلس، لأنك بيضاء البشرة.

ضحكنا.. ثم ما لبثت أن تنهدت وهي تقول:

- آه.. أكاد أختنق.. لا أستطيع أن أبكي.

- بل تستطيعين، هيا إبكي.. دعي دموعك الحبيسة تنهمر.

ألقت رأسها بين كتفها، واستدارت إلى جذع الشجرة، ودموعها تتناثر فوق لحائها.

- خفّفي عنك.. حدثيني.. لا تخفي عني شيئاً.

قالت بمرارة:

- إني أقوم بالأعباء المنزلية من غير تذمّر.. وإن أخطأت..

- ماذا يجري؟

- تضربني بقسوة.

- غريب أمرها، كلنا يسمح لنا أن نرتكب الأخطاء، وهذه تسمى تجارب، وتعلّم، وينبغي ألا نعود إليها.

بابتسام قلت، وأنا أدير دفة الحديث:

- في أحضان الطبيعة ننسى مآسينا، ألم نتفق على ذلك؟

- بلى..

ثم نظرت إلى أزهار البرية، بأسف وهدوء قالت:

- في الصيف تذوي الورود والأزهار، إنها كالأحلام، تروق في نفسي كأحلامي، أتشبّث بها، أخشى عليها الذبول، ولا أريد أن تتبعثر أوراقها، هي الحياة.. أيقظ الربيع أنوثتها، ونمّى ملامحها، وأجرى أريجها في صدري.. ثم رنّ الألم في نبرات صوتها، واستطردت قائلة:

- أليس مذهلاً أن تذبل هذه حقاً؟.. لا أستطيع أن أتصور ذلك..

- هكذا الحياة يا سناء.

بمرارة قالت:

- إني أعيش حالة الانتظار الطويل، لأرى تفتح الورود، هي وسيلتي لتفتح الأمل في نفسي.. فيالبؤس الانتظار.. بحثي لاهث، وأملي متأرجح، ولكنني أتوقّع حصوله من أعماقي.

أومأت برأسي وأنا أقول:

- في كل وردة نشمّها، وفي كل قطرة ندى تلثمها، دفء لمشاعرنا، وقشعريرة خشوع في صدورنا.

- إني أذوب في كل زهرة، ولكن..

- ولكن.. ماذا؟

- كرهت الظلال يا عزيزتي، أريد الحقيقة، أبحث عن وردة معينة، مميزة، أنتظرها في كل فصل، أرى فيها..

- وجه أمك، أليس كذلك؟

- بلى.. وجه أمي، لتعيد إليّ الدفء، والنور إلى حياتي.

أردت أن أشغلها عمّا تفكر فيه، فقلت:

- انظري إلى هذا العشب الذي استطال، سيكون علف الماشية هذا العام غزيراً.

أجابتني:

- إنه البرسيم.

بابتسام قلت:

- ليس "بَرسيم" بفتح الباء، ولكن "بِرسيم" بكسرها.

- أهذا مما تعلمته من أبيك؟

- نعم، كثيراً ما يصحّح أبي لنا مفردات العربية.

لم يفارق الضيق نفسها، رغم المتعة التي نحن فيها، كان وجودنا معاً في فضاء البريّة فرصة سانحة، لتفضي إليّ بأحاسيسها المختلفة.. رمقتني بنظرة سريعة، وقالت:

- هل يضايقك سماع حديثي؟

- لماذا أتضايق؟.. إنه الوسيلة الوحيدة لتتخلّصي من آثار القسوة الرهيبة التي تواجهينها.

أردفت:

- إن ظروفي في بيت أبي صعبة، وأجدني أتحدّى هذه الظروف بقدر استطاعتي.. سأبقى كذلك.. فالحياة قصيرة، وأرى ألا أقضيها في الظلم، ولذا قررت أن أواجه الصعوبات و..

بادرتها:

- ولكن بالتأسّي والحكمة.

- أنا لا أشعر بالأمان في البيت، وأكره أن أستمرّ في الحياة في ظل أب ينساني، أو يتجاهلني ومع امرأة سليطة.

وبلهجة ثابتة قالت:

- سأكسر القيد، وأخلع رداء الحزن، وأنسى أسى الأيام السابقة، وأضع حياتي بنفسي، أخطط، وأخطو، والله في عوني.

- مشكلات الحياة كثيرة، كلنا نتعرض لها.. وأمثالك في البلدة كثيرون.. كثيرون..

- ومشكلاتي، سيسعفني عقلي في حلّها.

ضحكت وأنا أقول:

- هنا في البريّة أنت بطلة، وفي البيت هرّة.

ضحكنا معاً، وأنا أضغط على يدها وأقول:

- صبراً سناء، صبراً، ما بعد الضيق إلا الفرج.

لوحت إليها مودعة، اتجهتُ نحو البيت، واتجهتْ هي إلى الشاطئ، ونفسي تحدثني بأشياء كثيرة: سناء تريد أن تتخلص من ظروفها العنيفة بالعنف، وهذه وسيلة رهيبة غير مناسبة في الوقت الحاضر، فيها مجازفة، قد يتفاقم الوضع أكثر.. إنه شيء محيّر.

هبّت نسمات باردة من ناحية البحر، وسرت في جسمي رعدة خفيفة، انتابتني حيرة.. هل الرعدة كانت من الهواء البارد، أم من أفكار سناء الثورية؟.. لست أدري.

*  *  *

كان ليلي مثقلاً بالأفكار، وأحاديث النهار يدور صداها في ذهني، تمثلت من خلالها طفولة "سناء" المعذبة، وها هي الآن في سن الشباب تعاني الأمرّين، وأجهد نفسي في أن أكسب ثقتها.. كنت أركز تفكيري فيما ينبغي أن أفعل تجاهها.. وماذا في وسعي أن أفعل؟.. راودتني أسئلة كثيرة، حاولت أن أهتدي إلى  إجابة مقنعة لها، ولما عجزت، تركت الأمر للظروف.

في صباح يوم مشرق، رأيت أن أخرج، عساي أن أرى "سناء" وأتناقش معها.. في الطريق إلى البحر كالعادة وجدتها.

- سناء: ليس هناك ما أفعله تجاه حالتك إلا بإخبار أبيك.

بخوف قالت:

- لا، لا، أرجوك..

- بل يجب أن يحيط علماً بحالتك، ولو بالتلميح.

عند الشاطئ تراخت فوق الرمال، كان في عينيها الواسعتين ما ينمّ عن اضطراب أو قلق، وبشيء من الارتباك قالت:

- هل سبق أن شاهدت أبي؟

قلت:

- ألمحه أحياناً وهو يخرج من البيت.. ليس أكثر.,

- آه.. إنك تتكلمين بهدوء.. أرجوك دعيني وشأني.. ليس الأمر سهلاً.

كان اليأس واضحاً في نبرات صوتها، وهي تنطق بالعبارة الأخيرة.. ولكن قلت بإصرار:

- سأذهب إليه، وأحدثه بشأنك.

- سيؤدي ذلك إلى أمور سيئة.

- إنه يحتاج إلى من يهز ضميره، أبوك لا يظلمك، ولكنه يثق بزوجته.

- لا تفعلي أرجوك، فأنا أخبرك بمكنونات نفسي لأننا صديقتان،

- وسنبقى كذلك، فالصداقة خبز الحياة.. وأنا المسئولة عن تصرّفي.

سكتت برهة، ثم قالت:

- فعلاً إنه يثق بزوجته، وهي التي تدفعني إلى الأحزان دفعاً.

- أعلم يا سناء أعلم.. لكل أمر نهاية.. الحياة لا تكون عادلة أحياناً، وتكون ظالمة أحياناً.

- أرجوك فكّري بوضوح قبل أن تقدمي على ما تقولين.. تمالكي نفسك، وتصرفي بعقل.

- فكّرت، وقررت.

ثم سارت "سناء" دون أن تقول شيئاً، ألقيت عليها نظرة طويلة، هززت كتفي، وأنا أقول:

- سوف أغامر من أجلها، فأمرها يهمّني كثيراً.

في اليوم التالي، والأفق مزدحم بالشعاع، خرجت من البيت، وأنا أشعر بالأمان في قلبي، تصوّرت دموع "سناء" تتناثر منها حكاياتها عبر الرمال، وفي صدري حسرة سكبتها من حسراتها وآلامها، فقلت: آن لها أن تستريح، فحياتها في أرجوحة لا تستقر.

كنت أمشي بحذر شديد، وبتمهّل، وخطى جريئة وأنا أتجه إلى دكانه عند أول سوق البلدة، حيث يعمل حذّاء، وكان أن برق في ذهني فكرة حين ألقيت نظرة على حذائي الذي أقنعني بحاجته إلى التصليح، فهي وسيلة تبرر ما أنتويه.

كان شيء ما يجذبني إلى الدكّان، والعبارات تتساقط في فمي قبل أن ألقاه، وشعور قوي يعزلني عن كل شيء، إلا عن نفسي، وما يمكن أن أتعرض لبعض المواقف..

التمرّد صفة لازمتني منذ الصغر، وما تزال، قد يفسّرها بعضهم بمعان مختلفة، ولكنني لم أتمرّد على كل شيء، فقط على ما هو فاسد.. قد يكون حبي خير الناس سبباً لذلك، وقد يكون حبي للحرية.

فكرت في الحقيقة، تطمسها حجب التقاليد، قد تكون حجباً متعسفة مظلمة.. فلم لا نمضي وفي أفواهنا كلام من نور، وفي أيدينا مصابيح لا تنطفئ؟..

في الطريق كنت أرى الوجوه القلقة، المسرعة، العطشى أبداً إلى توحدها بالألق المفقود، في وقع الخطى المتلاشية.. فالحياة في بيئتنا أضحت قاسية بعد الاستعمار، أشبه بلوحة رسمت عليها حياة البائسين، المحزونين.. "سناء" واحدة منهم.. ولكنها لا تخلو من وجود من يعيش بحبوحة من كل شيء.

شاهدت عم "محمود" مطرقاً فوق سندانه الخشبي المرتفع إلى محاذاة صدره، يعالج حذاء بيده، يقلّبه، يطرق جوانبه بخفّة طرقات متتالية، يخيطه، يلمّعه، ثم يلقي به على الرف، بعد أن يتأكد من خلوّه من أي عيب.

- عم "محمود" حذائي هذا يحتاج إلى إصلاح.

لم يلتفت إليّ، إلا بمقدار تناوله للحذاء.. كانت نظرة خاطفة، ثم ردّها إلى ما بين يديه.. نظرت إليه بعينين مفتوحتين، كان طويل القامة، عريض المنكبين، صارم الوجه، يتهدّل شيء من شعره على جبينه، أدرت حواراً صامتاً، وأنا أقارنه بابنته، ودهشت للشبه الكبير بينهما، تذكرت قول النساء، بأنه ابن عم مطلقته "فخرية" فزال عجبي.

كنت أراقبه وهو يتفحّص الحذاء بنظرته، وأستشفّ أفكاره من خلال العقدة المجدولة بين حاجبيه، وهو مطرق فوق السندان، كأنها تجمع هموم الدنيا، وتكثّفها في مهابة، وكانت حركة يده لا تهدأ وهو يخيط بالإبرة، ويقصر الخيط، فتقصر معه أفكاره.

قلت في نفسي: ما أكثر هموم البشرية، وما أعظم ما يملكون إن هم عاشوا في بيئة سويّة.. كم يظلمنا التاريخ أحياناً.. وكم نحن نظلمه أيضاً!! نحن من نصنعه، ونملؤه بالخير، أو بالشر، ويبقى الإنسان في النهاية أكثر أهمية من التاريخ.. كان ثمة سرّ غامض في حياة عم "محمود" أكبر من أن ألمّ به.

رأيت أن أقتل الانتظار بالحديث معه، فهي الفرصة التي أعددتها، تهيّبت الموقف.. شعرت بالرعدة تسري في جسدي.. لم أدر هل كانت من الخوف، أم من إقحام نفسي في أمر لم أعتد عليه؟. ولا أدري ما الذي سيحدث إن ذكرت ابنته.

همست: كم أتمنى أن يعامل "سناء" كما يعامل هذا الحذاء المهترئ! يتفحص حالها، ويتغلغل في حنايا نفسها، ويرعى صباها، ويوليها العناية والرعاية!!

تمالكت نفسي.. تجرأت، فقلت:

- عم "محمود" كيف حال سناء؟

من غير أن يلتفت، أجابني:

- مالك، وسناء؟

باستنكار قلت:

- إنها ابنة الجيران يا عمّ.

- أجل.. هل بينك وبينها معرفة وكلام؟

- لم لا؟.. أكلمها أحياناً، وأمشي معها.. إنها لطيفة ومهذبة، وحساسة و..

تنهّد بعمق، وقال:

- نعم.. إنها كما تقولين.

تنبّه إلى مجاملته لي، وبسخط قال:

- لا نريد أن تتعرف على أحد.. هذا إزعاج لنا كبير.

تسمّرت في مكاني، وعجبت من لهجته الفظّة، وتساءلت: ترى لِمَ هذه الحدة، والسخط.. حملقت في وجهه، وهو مطرق، وابتسمت لنفسي حين لمحت بصيصاً من الغيرة عليه، قلت: قد أستطيع الاستمرار في الكلام.

- عم "محمود" إنك لا تعرف نوع الحياة التي تعيشها ابنتك، إنك هنا في دكانك بين أشيائك، ولا تشاهد ما يجري معها في البيت.

- دعيها وشأنها.

- آسفة يا عمّ.. لم أكن أقصد أن أزعجك.. ولم أقل غير الحقيقة، إنها شابة تحتاج إلى رعايتك.

رمقني بنظرة جانبيّة، وقال:

- إنّ كلامك يبدو خيالياً.

قلت بهدوء:

- الفتيات في البلدة يتعلّمن، و "سناء" محرومة من التعلّم، ومن أشياء كثيرة.

- لا أريدها أن تتعلم، ولا أريد أن تملأ عقلها بالسخافات.

قلت في نفسي:

- شيء مذهل.. إخوتها يتعلمون في المدارس، وهي تحرم من حقها المشروع.

مرت فترة صمت.. ثم فوجئت به يقول بصوت لا يخلو من رنين اللهفة:

- أعلم بأن ابنتي "سناء" ذكية.. ولكن أين التقيت بها؟

تراجعت خطوة، وأنا أرى في عينيه نظرات حادة، وانتابني جزع ودهشة.. كانت نظرات الأب الغيور، وأحسست كأنه يوشك أن ينقضّ عليّ، وكرّر بصوت هادئ، ولكنه شديد:

- أين التقيت بها؟

- قلت لك: في الطريق أحياناً، أو عند الشاطئ بعد خروجي من درس الدين في المسجد، وعند البئر أحياناً.

ورغم بساطة إجابتي، أو أسئلتي، فقد كان يفكر قبل أن يتكلم.. كان في نحو الخمسين من عمره، يرتدي قميصاً أزرق، وسروالاً أسود فضفاضاً.. تنمّ تعبيرات ملامحه عن همّ مثقل، وشيء غامض.. وحين كرّرت الثناء على "سناء" انبسطت أسارير وجهه بالرضا، ثم ما لبث أن هتف بغضب:

- من يسمح لك بالتحدث معها، لا أريد أن يفسدها أحد.

شعرت بأنه لن يتردد في البحث عن وسيلة، لقطع العلاقة مع ابنته، حين قال بلهجة قاسية:

- اسمعي.. لا داعي لأية صداقة مع ابنتي.. انهي كل شيء.. نحن نكره ذلك.

قلت بتعجب:

- نكره.. من تقصد يا عمّ؟

سكتُ برهة، استشعرتُ بضم صوته إلى زوجته.. سطعت الحقيقة بوضوح أمام عيني.. تململت تجاه فكره الضيّق.. إذن هو يتعاون مع زوجته لحرمانها من السعادة والأمان، فعاشت طفولتها معذبة، والآن تعيش شبابها في ضنك، إنهما يقتلانها كل يوم.. سفكا طفولتها، وبراءتها، وها هما يسفكان شبابها.

وتساءلت بمرارة:

كيف يطاوعه قلبه بأن يلقيها لذئبة كاسرة، تتحفّز للانقضاض عليها في كل حين؟

رأيته يعيد النظر إليّ بحدّة، وبوجه مقطّب يقول:

- كل ما أريده منك، أن تبتعدي عنها.

- لا داعي يا عمّ أن أبتعد عنها.. أنا ابنة صديق لك، وهو الذي يشجّعني على صحبتها.

- أشعر بذلك..

ثم قلت بهدوء:

- آسفة.. لم أعلم بأن حديثي يضايقك.

أحسست بالغضب يملأ نفسي، وبمقدرتي على مواجهته، كي أبيّن له الحقيقة.. فكانت الكلمات تتداعى من فمي من غير هلع.

أصابني الجزع وأنا أقول في نفسي:

- يا ترى.. هل يزداد الأمر تعقيداً؟

أرخى عينيه فوق الحذاء.. أعطاني الموقف بعداً ورؤى، ورأيت نفسية "سناء" تمر بمرحلة الضياع، وتحس بالصراع يتحرك في داخلها، فأيهما سيغلب: أهو الخير أم الشرّ؟

كم تمنيت أن ينطلق من قيود العادات المسيطرة عليه، ويعطي لابنته أهمية أكثر بعد حرمانها من أمها.. فيخاف عليها، ويكون صادقاً مع نفسه، ويجردها من الأوهام والشوائب التي ترسّبت بعد فشله من زواجه من أمها، ويجعلها صافية نقيّة، وينظر إلى الحياة بشكل عقلاني، في بداية جديدة، ولا يدع أمر "سناء" لزوجته، تتحكم بها كما تشاء، وذلك كي تحظى بطفولة سعيدة، ومراهقة سليمة.

ازداد تقطيب جبينه.. بهتُّ وأنا أسمع شهقات بكائه، وهو مطرق فوق الأشياء، ودمعات تنهمر يمسحها بمرليته.

حملت حذائي، واستدرت في الطريق المؤدي إلى البيت، وأنا أشعر بالحزن يعتصر فؤادي.. بالرغم من ذلك، راودني إحساس بالانتشاء وأنا أنتصر في هذا الموقف، ولو كان صغيراً.. ثم صحوت من ذهولي على صوت صبيّ يقدّم لي فردة الحذاء ويقول:

- لقد سقطت منك هذه.

- أشكرك.. يبدو أني لم أنتبه، لأني كنت في عجلة.

*  *  *

شيء ما يتكسر في داخلي، يشعرني بأني غير قادرة على شيء، وأتلهف لكل شيء، ولديّ الرغبة، وقد يغشيني الخوف أحياناً.. لشدّ ما أكره الحياة المثقلة بالتوافه، وبلا هدف.. الأيام تفرّ من بين أيدينا، وتنسكب في مجاري الزمن، لا نستطيع أن نستعيدها، والظروف عوامل تقلب الأمزجة، فأراني تارة أحمل قلباً مفعماً، وعقلاً مليئاً بما هو غريب، ومحبّب، ومع ذلك ينتابني قدر من الأسى والحزن، فيمنعاني حتى من الابتسام.

في منتصف الطريق شاهدت "سناء" تقبل عليّ بأنفاس لاهثة، ممتقعة الوجه، سألتها:

- ما بك.. هل تشعرين بشيء؟

بلهفة قالت:

- هل واجهتِ أبي؟

أمسكت بذراعها، وقلت:

- ليس المهم أن أواجهه، ولكن أن يحسّ بك.. أن يتغيّر.

توقفنا قليلاً، قلت أطمئنها:

- سيكون الأمر على ما يرام بإذن الله.. أرجو ألا يغشاك القلق.. اهدئي.. كأنّ شيئاً لم يكن.

- أوه.. إني بحاجة كي أستريح في مكان ظليل، في ركني المنزوي تحت النافذة و..

- أو في ظل صخرة مشرفة على البحر، في جوّ رطيب منعش.. ضحكتُ وأنا أقول لها:

- لا تنسي أن تأخذي صاحبك معك.

- ما هو؟

- الطست طبعاً، المليء بالأشياء، حتى لا تلفتي الأنظار وأنت وحيدة عند الشاطئ.

استوقفتني، وبلهفة قالت:

- احكي لي ما حصل معك في دكان أبي.

- هلمّي يا "سناء"، لا تسأليني الآن عن شيء.

لكنها ألحت، فقلت:

- قابلته، ولمحت الحزن العميق في وجهه، وهو يجلس مع الأشياء يحتضنها، ويصلحها.. إنه يحبك يا "سناء"، يحبك..

ثم أردفت قائلة:

- لا تخبري زوجة أبيك بالأمر.

بسخرية قالت:

- وهل أجرؤ على ذلك؟

بعد أيام عدة، أثناء خروجي من المسجد، عرجت نحو الشاطئ، والتقيت معها:

- هل أنت بخير يا "سناء"؟

- أجل.. ولكن حصل شيء ما في البيت.

- ما هو؟

- مشاحنات بين أبي، وزوجته.

- أبسببك؟

- لست أدري.. لست أدري.

كان وجهها شاحباً، ملوناً بالخوف وهي تقول:

- إن عاصفة الغضب عندما تهب في البيت، أتمنى أن أهرب منها إلى البحر، متذرعة بغسل الأشياء.

كانت سناء تقيم علاقات الأشياء بشكل جديد، يستثيرها خيالها، ومقدرتها في ابتداع صور تجسم رؤيتها للحياة، وتثير ما في نفسها، فتعبر عن إحساسها بالكتابة.

باستغراب سألتها:

- ما الذي يدفع زوجة أبيك للمعاملة السيئة، أمرها عجيب.

- قد يكون الغيرة من أمي التي لم ترها، بخاصة حين يذكرن الشبه بيننا.

سكت عن الكلام لبرهة، ثم قلت:

- لا عليك يا "سناء"... انسي كل شيء.

- أحاول أن أنسى.

- من الحماقة أن يفسد المرء حياته بالتذكر لكل المآسي.

ابتسمت وهي تقول:

- أصبحت شابة، علي أن أتحمل... سأريك ما أكتب، إن مجرد قراءتها يثير في نفسي إحساساً بالمتعة.

- جوانب الحياة مختلفة، فيها الفرح، والكئيب، والمخيف، والعاقل هو الذي يعرف كيف يتعامل معها... الظروف والبيئة تجران المرء على مواجهة نفسه.

سمعتها تضحك، سألتها عن السبب، أجابتني: عندما أتوتر أبدأ بالضحك، قلت:

- وسيلة طريفة، فلنضحك معاً.

استطردت، فقلت:

- هل بمقدرتك التفاهم مع زوجة أبيك؟

صمتت برهة، ثم قالت:

- سأحاول.. لقد تغيرت، لم أعد طفلة، أصبحت إنساناً آخر، لي القدرة في التعبير عن نفسي... حقاً، لا أستطيع الصبر أو الصمود أكثر.

شجعتها بقولي:

- هذا رائع.. تطور رائع، فالأمور ستجري تلقائياً بسبب أو بآخر، فقط تمالكي نفسك، ولا تضطربي، ولا تخشي من فظاظتها.

في البيت، اقتربت "سناء" من زوجة أبيها، جثت على ركبتيها وبتضرع قالت:

- هل يمكنني أن أتحدث معك يا خالتي؟

رمقتها بسخرية، وسألتها:

- بشأن ماذا؟ خير إن شاء الله.

- أنا بحاجة إليك، كحاجتي إلى أمي، ساعديني على المضي في حياتي، نحن نعيش في بيت واحد، كالغرباء، إلى متى سنبقى على هذا المنوال، الأمور بحاجة إلى تقويم.

سكتت برهة، لترى رد الفعل عند زوجة أبيها، ثم تابعت:

- إلى متى وأنت تهربين مني، وأنا أهرب منك، هل حياتي، ومستقبلي متعلقان بك، وبإخوتي؟. فقط أريد أن أعرف.

أجابتها بلا مبالاة:

- وماذا بعد؟ هل انتهيت من كلامك؟.. لقد سئمت الإصغاء إليك.

- أستحلفك بالله أن تغيري أسلوبك معي.

صرخت بوجهها، وهي تقول:

- كيف تريدين أن أعاملك حين تقصرين في أعمال البيت؟

- خالتي، أرجوك، لا تلوميني دائماً، وتتهميني بالتقصير، وفعالك معي فوق أي اعتبار.. أرجوك، كفي عن ضربي، أصبحت في السابعة عشرة من عمري،.. الضرب يؤلم نفسي وجسدي معاً... لا أدري.. لا أدري.. كيف أرضيك.

ابتسمت ساخرة من أفكارها، وقالت لها:

- إنك لا تعنين شيئاً بالنسبة لي.

لم تحفل بكلامها، وتضرعها، وباستكبار قالت:

- لقد حان الوقت ليتناول الأولاد العشاء، أسرعي وأعدي لهم المائدة.

كانت "سناء" تنساب في حديثها بشكل سهل، تلقائي، بعيد عن المراوغة والتزويق، ثم رأت أن تقطع الحديث، وتصمت.

همست لنفسها بانكسار:

- أعلم أني لا أعني لك شيئاً، سفكت طفولتي، والآن تسفكين شبابي، افتقدت الإحساس بالأمان في كنفك، جعلتني أشم رائحة الطعام الساخن، أشتهيه ولا أتذوقه إلا بارداً، ومن فضلات إخوتي، عوضتني عن حنان أمي بالقسوة... لا أدري لم هذا الحقد الدفين في صدرك تجاهي.. ألشبهي بأمي التي لم تريها في حياتك... لم أكون الضحية لانفصالها عن والدي، ويكون انعكاسه مريراً في حياتي..؟

غيرتك ولدت الكره لي، والرغبة في احتقاري، وإذلالي..

اضطربت "سناء"، ولاح عليها مظاهر الاضطراب.. أسرعت الخطى إلى ركنها، أرادت أن تنفس عن نفسها بالصراخ.. ليس لها إلا النافذة المطلة على الخربة.. كانت صرختها موجعة، يدوي صداها في صدرها، وتقول في ألم:

- آه، من يسمع لصرختي؟

*    *    *

كان الجو صحواً، والشمس مشرقة، تملأ الكون ضياء، وبهاء، والهواء لطيفاً منعشاً، يبعث النشاط في الأجساد، والانشراح في النفوس، حين انطلقت "سناء" بالصفيحة الفارغة، وفي فمها أغنية رقيقة تترنم بها، وتسمع نفسها... كانت الصفيحة الوسيلة لتنسم الحرية، والتمتع بالطبيعة.

قبل أن تنطلق، ألقت نظرة على نفسها في المرآة، تحدثت معها، فقالت:

أراني اليوم نضرة.. فقد نمت مبكرة، واستيقظت مبكرة.

كان الطريق خالياً من المارة، وهي تمشي بتمهل... سكن سمعها صوت خافت ينادي اسمها، أعقبه ضحكة قصيرة، جعلها تصحو تماماً من ذهولها... استدارت، شاهدت رجلاً يمشي وراءها، ويدعوها للسير معه.. في انبهار قالت:

- ماذا.. ماذا تقول؟.. اغرب عن وجهي، وإلا صرخت، وأسمعت الحي صراخي..

كانت تحاول أن تبدو هادئة.. كرر الدعوة.. أردفت:

- أعتقد بأنك تعرف من أنا.. إنني ابنة رجل يغار على الشرف والعرض.

تقدم نحوها.. تراجعت إلى الوراء، ووجهها مفعم بالغضب.. التزم الصمت، ثم ولى هارباً.. ترددت، هل تستمر في طريقها، أم تعود إلى البيت؟.. هزت برأسها حين تصورت زوجة أبيها وقد علمت السبب، فإنها ستقلب الحكاية رأساً على عقب، لتجعلها فضيحة تنتشر في الحارة... آثرت السكوت، ومتابعة السير، مع الحذر الشديد.

عاد الرجل نفسه إلى الحارة بعد عدة أيام، يركب حصاناً، يثير الغبار بحوافره، تنحت عن طريقه.. حاول المروق بمحاذاتها.. هدأ من حركة الحصان، ليقترب منها، تعجبت، وتساءلت:

- لماذا.. لماذا؟

حاولت أن تهتدي إلى إجابة مقنعة.. عجزت.. ابتعدت.. حتى إذا جاوزها، تابعت سيرها.

في صباح أحد الأيام، سمعت وقع خطواته وراءها، وبهمس يقول:

- أريد أن أتحدث إليك.

بصوت حاولت أن تجعله هادئاً في نبراته، قالت:

- ليس هناك ما يدعو إلى الحديث بيننا.

غلبها الخوف، فهربت تحتمي منه في أحد الأزقة كي تضلله.. حتى إذا بدأ الناس يمشون، اطمأنت، فقد أصبحت في حمايتهم.

تكرر الموقف لم ييأس.. نظرت إليه بثبات، وبلهجة حاسمة قالت:

- يمكنك أن تطاردني سنوات، ولكن تأكد من شيء واحد، هو أنني لست من النوع الذي تريد.. وها أنا أتوعدك للمرة الأخيرة بإعلام والدي، والشيخ عبد الله بأمرك.. فقد يؤدي إلى جريمة يسفك فيها دمك.. ابتعد عن طريقي أيها الأحمق... لم يَرعَوِ... سمعت حفيف أوراق نقدية في يده.. اقترب منها، يغريها بها.. صرخت في وجهه:

- عليك اللعنة أيها السافل.. دعني وشأني.

تخيلت الضجة التي يمكن أن تحصل بصراخها، فرأت الهرب أفضل وسيلة، يحثّها الخوف والاضطراب.. تساءلت في نفسها: لم يحوم حولي؟ التقاليد لا ترحم، ولا تفرق أحياناً بين المذنب والبريء.. ليس لي إلا الاحتراس.

في ركنها الهادئ، تهالكت على فراشها بإعياء، كانت النافذة مغلقة، تمنع عنها جلبة الحيّ.. ابتسمت وهي تتصور ما يصيب هذا الرجل من إهانة إن علم أبوها بأمره.. نهضت، واستردّت نشاطها بالماء البارد.

قررت المواقف في ذهنها، تصورته واحداً من خارج الحيّ، دلّ على ذلك من تصرفاته، ونبرات صوته، واعتلائه الحصان، وهو يخال نفسه كالضفدع.. وكان أن تهادى إلى سمعها من أحاديث النسوة، أن أشخاصاً يغرون الفتيات بالمال، ويستدرجونهنّ إلى أثرياء يقصدونهم، وهم يقحمون أنفسهم في المخاطر، ويغامرون بحياتهم، مقابل حفنة من المال.

التقيتُ "بسناء".. أخبرتني بمطاردة الأحمق، وطلبت مني كتمان الأمر عمّن حولها، قلت أطمئنها:

- محاولات تبدر من شبان مخادعين لبعض الفتيات، والأمر خطير على الساذجات منهمنّ.

أحسست بالعطف الشديد، حين لمحت الحزن العميق بادياً على وجهها، وطلبت منها أن تصفه لي كي أخبر والدي.

بهمس أخبرتُ أبي بما تتعرض له "سناء" وخشيتها التحدّث إلى أبيها، لما تعلم من انفعاله وعصبيّته، وتصرّفه أحياناً بغير حكمة.

كانت "سناء" قد أصبحت طويلة القامة، لفّاء، حساسة بطبعها، نشيطة، تبرر نشاطها بأنها تحبّ الحياة، وتحبّ أن تشترك في بنائها، ولا تريد أن تفوتها رؤية الأشياء منها. قلت لها:

- لقد غدوت أكثر جاذبية وجمالاً و..

قاطعتني، وهي تحاول أن تبدو حادّة:

- لا تكوني مبالغة أكثر مما ينبغي.

قلت لها:

- نحن في بيئة لو نظرت الفتاة فيها إلى رجل، تعني الكثير.. "سناء" عليك أن ترتدي الحجاب من عدّة سنوات، فكيف بك وأنت الآن في هذا السنّ، تثيرين رغبة الشباب، وضعاف الإيمان، فيتحرّشون بك، ويعرضون سمعتك لما لا يحمد عقباه.

بهدوء قالت:

- فعلاً، هذا ما ينبغي أن أفعله، ولكن..

- ولكن.. ماذا؟

- بعد أن أملك حرّيتي.. أشعر وكأنني أعيش في زمن الرقّ.

- كلامك خطير يا "سناء".. من أين لك هذه الأفكار؟

باتزان قالت:

- من الكتب.

صمتُ برهة، ثم سألتها:

- كيف كان تصرّفك تجاه الرجل؟

- نهرته مراراً.. لم أحدّث زوجة أبي بالأمر.

- حسناً فعلت.. فقد تأخذ كلامك على شيء فاسد.

- هذا هو قصدي بالتحديد.. تصوّري.. إن شعوري بالوحشة والغربة يزدادان عندما أكون في البيت.

- طبعاً، لأنك لا تطمئنين إليها.

- إني أهرب من البيت، لأني لا أطيق رؤية الوجوه المتجهمة.

لم تستطع "سناء" أن تنقطع عن الاتصال بالطبيعة، مهما كانت الظروف، لملمت الأشياء في الطست، وجلست عند الشاطئ.. رأت الزوارق تعشق الأمواج، وتشتاق إلى العودة.. استولى عليها الصمت، ضجر الصمت من نفسه، صار عويلاً في صدرها.. من يدري به.. من يدري؟.. تمنت لو كان له أصوات أجراس، يفجّر الفجر، ويوقظ الشمس، ويشيد من أحلام صباها قصوراً وقناديل.. نظرت إلى السماء بعتق، وهمست:

لمَ لا يطفو السلام كما تطفو هذه الغيمة الخضراء؟ لم لا تطلق الريح حمائم السلام، ويتوقف الرعد؟.. ما أعذب الحلم حين يضحي حقيقة! تغزله الأنوار أعشاشاً هنيّة، نهرب إليها من الواقع.. من منّا لا يعيش الأحلام في زمن الرعد؟.. هي التي تجعل الأرض القاحلة جداول على أكتاف الوديان.. والنجم في السماء يهدي رسائل للحالمين.

ألقت إلى الطست نظرة طويلة، صارت تشعر بالراحة لنفسها مع هذا الشيء، يعتقها من القيود والضيق، معه لا تشتكي أبداً.

لمسة رقيقة من كفّي على كتفها، وسلام خافت أفاقها من ذهولها، وهي بين الصخور، وساقاها مغمورتان في المياه إلى ركبتيها.

- أراك في شرود.

- أشعر بالاستياء قليلاً، تراودني خطة لهدف بعيد..

- هل تصرحين لي به؟

- فيما بعد.

- هل طاردك الرجل هذا الصباح؟

- لا..

ابتسمت، وأنا أقول لها:

- أعلمت أبي بأمره، أظنّه قد عرفه، وتصرّف معه بما يناسب.. ولكن احترسي دائماً، فالأشرار كثيرون..

"سناء": دعيني أحدثك بشيء مهم، سبق أن ذكرته لك.

حملقت بوجهي، وقالت:

- ما هو؟

- أما قرأت أمر الله تعالى في الآية الكريمة: (وقل لنساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهنّ).

- بلى، مرات عدة.. سبق أن قلت لك لا أرتدي الحجاب إلا بعد أن أنال حريتي.

- هراء، هذا هراء، الحجاب ضرورة ملحّة لنا.. آه.. تذكرت قولاً في إحدى المجلات للكاتبة الإنجليزية "آني رورد" تقول فيه: (ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين، فيها الحشمة، والعفاف، والطهارة، يمثله رداء المرأة، وإنّه لعار على بلاد الإنجليز أن تجعل مثلاً للرذائل، بكثرة مخالطة الرجال).

لبثت برهة تفكر، وتوازن، ثم سألتني:

- هل الحجاب يمنعني من المجيء إلى البحر، أو إلى البئر..

ثم بلهفة قالت:

- إنني أتشوّق لرؤية النساء البائسات وهنّ يحملن الجرار لملأن الماء.

تحيرتُ في الإجابة.. لم أرد أن أزيد آلامها، وأنا أواجهها بالحقيقة، صمتّ، وفجأة قالت:

- قد أواجه مشكلة مع زوجة أبي.

*   *   *

كان الجو دافئاً هذا الصباح.. فالظلمة تدفن الحياة، والفجر يوقظها، والشمس تنعشها، وصراع يدور داخل "سناء"، بين الرغبة بالحرية في أحضان الطبيعة، وقيود الأوامر في البيت، إحساسها ينمو مع نموّها، فتجد نفسها في شباك العذاب، حين ترى إخوتها في غدوّهم إلى المدارس، وهي تلبّي طلباتهم، وتنفّذ أوامر أمهم.. تتألم، تتعجب من حقوقها المهدورة، وتتساءل: لم يعطون وأنا أُحرم؟.. اليد القاسية تقلب أيامها وتملي عليها نمطاً معيّناً لا تريده، تهرب منه إلى السماء بمشاعرها، ترى حياتها هي الرقّ بعينه، مغلولة الكلمة، مغلولة الإرادة، وكأيّ عبد، تتوق نفسها إلى الإشراق والتهويم مع أحاسيسها الفيّاضة، وتشكو لله ظلم العباد للعباد.

عند الشاطئ، مع أشيائها، كان الأطفال يجرون فوق الرمال، وأقدامهم تتقاذف الكرة، وأصواتهم مبلّلة بالمرح والسعادة، كان "حمودة بن جميلة" من بينهم، ما إن رأى "سناء"  حتى هتف وهو يلوّح بيده:

- "سناء"  كيف حالك؟.. أمي تذكرك دائماً.. لماذا لا تأتين إلينا في البيت؟

ابتسمت وهي تقول:

- أنا بخير.. سأحاول زيارتها.

اعتادت "سناء"  أن تقف مع "حمودة" لحظات، كلما شاهدته يلعب تحت القنطرة في الحارة، وتمسح على رأسه بشفقة، وتمرّر في ذهنها حكايته التي التقطتها من أفواه النسوة، وبتعجب تقول: حمودة غريب عن حيّنا، لا يدري حقيقة نسبه.. ثم تتأوّه وهي تهمس لنفسها: كلانا غريبان، سيعيش ويموت ولا يعرف سرّه، وهو في الغفلة سعيد، وأنا غريبة بين أبي وإخوتي.

- "سناء" هل تشاركينني الشطيرة؟

بُغتت من المفاجأة، ضحكتُ وأنا أقول:

- درج المسجد يوشك أن يلتقي مع الشاطئ. قلت: لنسترح قليلاً عنده.

تراخينا فوق الرمال، متكئين على الصخرة، ونحن نثرثر بشيء، وبلا شيء.. التفتت إليّ لتقول:

- أشعر أحياناً بأنّ الهواء ثقيل، وأنا أتخذ من الأرض متكأً، وأنظر إلى البحر، ومياهه تنهل من مشاعري، تنطلق عارية حيث تشاء، وتنكت الذكريات من صدري، وتجعلني كالطير المختنق عند الشاطئ.. ما أكثر الأسئلة الموجعة للقلب! ولا أجد لها أجوبة.

- ما يحصل لك شيء طبيعي.. سنّ المراهقة مريع.. الصبايا تحلمن بالغد القادم، ووجوهنن تضيء بالبشرى.

ابتسمتُ، وأنا أقول:

- يحلمن بمن يطلّ، ويلوح ويقبل من بعيد.. بمرارة قالت:

- وأنا أحلم بخيال باهت.. فأي صوت جديد سيطلّ عليّ؟ وطلاق أمي كان طلقة قاتلة أصابتني وحدي.. الوجع في قلبي كبير يا عزيزتي.

- لا تكتئبي.. ستجدين طريقاً تكون فيه بغيتك.. دعي الأمر لله.

- حقاً، أكره أن يكون وجهي كئيباً، وأكره أن يسكن الرعب في عيني، ورغماً عنّي، تغشى وجهي الكآبة، ويسكن عينيّ الرعب.

- سن الثامنة عشرة ليس سهلاً، هو سنّ الأحلام والرغبات والذكريات و..

برقّة متناهية عرضت عليها ما أرسلته والدتي لها من نقود، رفضت بحدّة، وقالت:

- لا أتقبّل أية معونة.. لا أستطيع أن أكون مدينة لأحد.

- آسفة، لم أقصد إيذاء مشاعرك.. أعلم أنك لا تقبلين الإحسان، سدّديه بعد سنوات.. على فكرة: لرسول الله أقوال مأثورة في الحجاب.

- قرأتها، فيها الحكمة، وتدل على الذكاء الحاد والتوجيه لنا نحن النساء.

لم أشأ أن أذكّرها بأكثر من ذلك.. ثم سألتها:

- كيف حالك في البيت؟

- مثل كل يوم، يبدأ بثورة تشق السكون، وينتهي بمثلها، وأنا جزء منها، تنصبّ عليّ الشتائم واللعنات.. أبحث فيه عن التوحّد والترابط والمحبة، فأجدها أموراً تستحيل في ظلمات الظلم، كما تستحيل الألوان في الأماكن المظلمة.. حياتي في انتظار.. لا أحلم بالكنوز، ولكن أحلم بالمحبة.

- وماذا عن إخوتك؟

تنهّدت، وقالت:

- أحبّهم، أشتاق إليهم وأنا معهم، أحضنهم بعيني، ونظراتي، ألثم وجوههم من بعيد.. كثيراً ما أمشي ليلاً على أطراف أصابعي لأراقبهم في أسرّتهم، وأسمع أنفاسهم، وأدثّرهم من البرد.

- يا لقلبك الكبير!

- هم إخوتي، من لحمي ودمي، ليس لي سواهم.

- هل يبادلونك الشعور نفسه؟

- أظن ذلك.. لم يؤذني أيّ منهم.. يُسرّون إليّ بما يجدونه في مدارسهم مع رفاقهم بصوت خافت، فأهمّش مشكلاتهم، وأعوّدهم على السريّة والتسامح، يثقون بي، فيبوحون لي بكل شيء.

- شيء رائع.. أكيد، هذا يخفّف عنك أساك.

- ولكن لا يلبث الأسى أن يغور بمعاملة أمهم الخشنة.

أضاء وجهها ببريق، وهي تذكرهم:

- ما أبهى الصباح عندما يستيقظون!.. أراه ضاحكاً مشرقاً في وجوههم، كالربيع المعطّر.

- وهم كذلك؟

- منشغلون بحياتهم.. أحسّ بأنها تنفّرهم مني، فيتعاملون معي بحذر شديد. حياتي مفردات في كلمات، أحمّلها حبّي لهم، وأحلامي وآمالي.

ثم أردفت تقول:

- فرّقت أمنيات صباي بتجنّيها، وكوتني بنارها.. اعذريني حين أبوح لك بما يثقل نفسي.. آسفة لأنني لم أتوقف عن الكلام.

- لا يهمك.. تحدثي بما تشائين.. دعينا نسير على الشاطئ، فمجال الحديث أكثر متعة.

تابعت بألم:

- لو قدرت أن تحرمني نور الشمس لفعلت، إنها تجرحني، وتوقد الأحزان باستمرار في نفسي، وليس لدموعي إلا الوسادة أفرغها فيها.

- حاولي أن تتقرّبي منها أكثر، فأكثر.

- كم توسّلتُ إليها، وأنا مثخنة بجراحي! حتى غدت الحياة تريني الآمال سراباً واعداً من كل لون.. فأمضي معها في حلم ووهم.. كثر أنيني في فراشي، ليس بأنين من يتوجّع لألم أو مرض، ولكنه أنين خافت مكظوم، يفور من أعماقي، ويفيض بالخوف، وقد يصدر من يدي حركة خفيفة، فأستيقظ فزعة:

- إنه الكابوس، بسبب ما تعانينه من ضغوط نفسيّة شديدة، تفشلين في مواجهتها، وبسبب التربية الصارمة التي تعتمد على الضرب والإذلال، والأخطر من ذلك، تجاهل أبيك وإهماله.

- هذا ما يشعرني بالغربة في بيت أبي.. وأي خطأ يعرّضني للعقاب من زوجته، حتى صار الخوف يعيش معي.

- غريب تصرّفها هذا.. من منّا لا يرتكب الأخطاء؟.. لذا كان لقلم الرصاص ممحاة، نكتب بالقلم، ونمسح الأخطاء بالممحاة.

- حين تغضب تتحوّل إلى وحش مخيف.

- كان بوسعها عمل شيء، قول شيء، لو أرادت الخير.. ماذا تفعلين لتزيلي عنك التوتر؟

- حين أستشعر غضبها وأضطرب، ألجأ إلى القرآن، أحسّ حين أقرأ آياته بالسكن في روحي وجسدي.

- حسناً تفعلين.. هذه أسلم طريقة.

- حتى أضحى الهرب إلى زاويتي سجيّتي.. كما الكتاب سكن أيضاً لنفسي، أهرب إليه من الواقع.

- "سناء" الجئي إلى أبيك.. يجب أن يعلم بحالك.

- لا، لا هذا صعب.. صعب جداً..

- أين ميثاق الأبوّة؟

أردت أن أواسيها بقولي:

- صدّقيني، الناس في الهمّ سواء، البيوت مغلقة على أسرارها.

- لمن أشكو وقد عدا عليّ الزمن؟.. ليس لي سواك صديقة.. عمري يجري سريعاً، ولم أزل دون العشرين.

صمتنا برهة.. نظرت إلى الطبيعة تتأمّل، قالت:

- ما أرحب صدرها! أهرب من الصخب والضجيج إلى صخب البحر والريح.. إنه محبب.. أطوف مع النسيم بخيالي حيث يطوف، يحمل إليّ أنفاس الأعشاب البحرية، ممزوجة بآهاتي.. لا أنا، ولا النسيم نرى القرار.

بدهشة طافت الأسئلة على شفتي:

- لِمَ.. لِمَ.. كيف؟..

في حيرة قالت:

- لا أدري.. الكلام لغة التفاهم، والتخاطب معها.

- وكلامها؟

- الضرب والتحقير.

ألقت بنفسها فوق الرمال، وبانتعاش قالت:

- في الطبيعة أجد السلام الذي أنشده، ما أرحمها بنا!

أثناء العودة راودتها فكرة جريئة.. تعلم بأنها قد تأخرت بعض الوقت، وهذا سيثير زوبعة في البيت.. تساءلت: هل أعرج إلى دكان أبي، وأعلمه بقراري؟.. أنا في حيرة من أمري.

عند وصولها إلى مدخل البيت، تناهى إلى سمعها صوت "أم خالد" تقول بسخط:

- تأخرت اللعينة.. أعتقد بأنّها...

دخلت "سناء" وفي فمها كلمات تحدّ:

- أهكذا إذن.. اعلمي بأني سألزم البيت، لن أخرج بعد اليوم إلى بئر أو بحر.. فقط للتنزّه.

رمقتها بارتياب، وقالت وهي تغمز بعينيها:

- ما بك يا بنت.. هل جننت؟

- بل أنا في عقلي.

صوّبت إليها نظرات ملأى بالغضب، وقالت:

- تحتاجين إلى تأديب.

قبل أن تصل إليها، أسرعت "سناء" واختفت في أحد أركان البيت، ثم اطمأنت حين رأتها بعد ساعة مسترخية في نوم عميق.. سنحت لها الفرصة، فوثبت واقفة، وخرجت إلى الحوش تلتمس برودة الهواء تحت شجرة النارنج، وفيما هي كذلك فوجئت بها تسرع نحوها، وبيدها القبقاب الخشبي لتنال منها.. فتح الباب الخارجي، واندفع الأب، وزوجته في حال شتم، والقبقاب لم يزل بيدها، وهي تجري خلفها.. صوته بحنق جعلها تذعر تماماً، وتقف مبهوتة. اهتاج كالأسد، وبسخط قال:

- كيف تتجرئين على ضربها.. كيف؟

ذهلت "سناء" وأطرقت بعينيها، وكتمت أنفاسها، لم تصدق ما ترى وتسمع، وتسمّرت في مكانها.. ثم استدار نحوها، وبعطف سألها:

- أهكذا شأنها معك؟

صمتت، لم ترد إشعال غضبه أكثر، يكفي بأن يشاهد بنفسه جانباً من قسوة زوجته، ثم أسرعت إلى زاويتها.

كان الشجار حادّاً.. حاولت "سناء" أن تضغط على  أذنيها بالوسادة.. وبعد أن سكن الغضب عن أبيها، راحت في نوم عميق.

في هدوء الليل، تسللت إلى الحوش، وجلست تحت الشجرة في ضوء القمر، واستعادت في ذهنها الموقف المفاجئ.. وعند الصباح رفعت الطست مع الأشياء لتنطلق في الطريق إلى البحر.. استوقفها صوت أبيها، وعلامات الدهشة ترتسم على وجهه:

- تعالي.. أريد أن أعرف المزيد.

قالت وهي ترتجف:

- كما رأيت يا أبي.. عرفت شيئاً، وغابت عنك أشياء.

اقترب منها، ووضع يده عل كتفها بحنان ليهدئ من روعها، تأثّرت فبكت، وسحبت كفّه، وانهالت عليها بالقبل والدموع، وفي نفسها رغبة ملحّة بأن تلقي رأسها فوق صدره وتشعره بحاجتها الشديدة إلى عطفه.

كان يبدو في تلك اللحظة هادئاً، مستغرقاً في أفكاره وندمه، فمشهد أمس كشف له عن انتقاص زوجته من قدر "سناء" الإنساني، وعن العنف، والتجبّر من جهة، والبراءة والخوف من جهة أخرى.. وفكّر في وسيلة تخرجها مما هي فيه، وبذهن شارد ولهجة حنون سألها:

- لماذا لم تلجئي إليّ في مثل هذا الموقف؟

- لم أكن لأزعجك.

كانت زوجته قد خرجت من غرفتها، التفتت إليها وبصوت متهدج قال يؤنّبها:

- لقد خنت الأمانة والمسئولية، لا تستحقين أن أثق بك.

أمسك بيد "سناء" مرة أخرى، وضمّها إلى صدره وقال:

- لا تشعري بالقلق بعد اليوم يا ابنتي.

- لا تشغل بالك بشأني، ما يسعدني هو أن أراك بصحة وعافية.

خرج الأب إلى عمله، نظرت إلى السماء بعينين دامعتين وقلب خاشع، وهي تحدث نفسها: إنّ هذا من قدر الله الذي جعل أبي يصل في الوقت المناسب، ليرى شيئاً من معاناتي، وليدرك مدى غفلته التي أوقعتني لسنوات طويلة في براثن زوجته الحقود الشريرة.

كان الموقف بداية الأمان في نفس "سناء" مع حوافز رجولة أبيها، وغيرته عليها، واستسلمت للقدر.. فلن تواجه من اليوم فصاعداً التجبّر والغطرسة بمفردها، بعد أن لمس الأب بنفسه أدوات التعذيب الجسدي والنفسي المريعة، مما أيقظ عاطفة الأبوّة، وهزّ ضميره، على غير ميعاد.

اقتربت منها أم خالد متصنعة الهدوء، وقالت:

- لم أخبرت أباك؟

- لم أخبره بشيء، هو الذي اكتشف الحقيقة.. سامحتك على ما مضى، ولكن..

- ولكن.. ماذا؟ انطقي.

- إنك لا تملكينني بعد اليوم، فإنني أملك نفسي.. في البيت فقط أساعدك ما استطعت.

*  *  *

كان مساء اليوم أجمل لحظات حياتها.. كل شيء كان رائعاً في عينيها.. كانت تجلس في حوش البيت، مسندة بظهرها إلى جذع الشجرة، تستمتع بالنسمات تنثرها أوراقها، حين انساب إلى سمعها صوت أبيها من مكان قريب، وبلطف يناديها:

- "سناء" ابنتي، أنت هنا؟

نهضت بدهشة قالت:

- نعم، أنا هنا يا أبي، هل تحتاج إلى شيء؟

(ابنتي) كانت كأجمل نغمة دغدغت مشاعرها، وتساءلت بتعجب:

(ماذا جرى؟ أراه يكثر من مناداتي بابنته على غير عادته.. أفسحت له المكان، ولكنه دعاها إلى الجلوس، وبصوت هادئ تشوبه الرأفة قال:

- حدثيني عن حالك مع خالتك.

بأنفاس لاهثة ردّت:

- بخير إن شاء الله.. أحاول جاهدة كي أكسب ثقتها.

- أعرف هذا.. إلا أنها صعبة المراس.. خذي هذه..

فتحت "سناء" الصرّة بيدين مرتجفتين، فوجدت فيها ثوباً وحذاء، كانا مستعملين، ولكنهما أدخلا البهجة إلى نفسها.. انكبّت على يديه تقبلهما وتبكي، ومع دموعها انهمرت أحزانها وآلامها.. فلم يكن من شيء أحبّ إلى نفسها من عطفه هذا الذي انتظرته سنوات عديدة.. ومع سكب دموعها حدثت نفسها: لم تأخرت عليّ بحنانك يا أبي؟.. كم كنت أتمنّاه منذ طفولتي!

ثم وضع في كفّها بعض النقود، وربت على ظهرها دون أن ينطق بشيء وانصرف.. كان الثوب جميلاً في عينيها.. إنّ مجرد لمسه يثير في نفسها المشاعر المتدفقة، والرغبة في البكاء.

 وقفت برهة في ذهول تتساءل والأمل يختلج في صدرها:

- هل تصرّف أبي هذا يعني أن عهد الكره الذي تركته أمي في نفسه قد انتهى؟.. لطالما شعرت برغبته في الانتقام منها بشخصي.. أم هكذا كان يخيّل إليّ؟.. لا، لا أظن ذلك.. لا يوجد أب ينتقم من ابنته، مهما كانت الظروف.. إنه الإهمال.. أجل، مجرد إهمال.. ثم تذكرت كلماته الهامسة يوم أمس، حين ضغط على ذراعها وقال لها:

- إيّاك أن تكوني ضعيفة.. لا تثيري أية مشكلة.. ثم تذكرت قوله أيضاً، وهو يمسح على رأسها:

- كلنا نحبّك يا ابنتي، أنا وإخوتك.

أثارت كلماته البهجة في نفسها، رغم مظاهر القسوة التي كانت تبدو في ملامح وجهه، فيما مضى، تخفي حبّه لها، وما يبدر منه كان مداراة لزوجته، وخشيته من ردود الفعل، التي قد تؤدي إلى الخوض في تجربة أخرى هو في غنى عنها.. أليست امتداداً لماض فاشل، وذكرى تخطر أمامه في كل حين.. والآن تراه يتحفّز للإصلاح، ويحاول أن يتحرر من عقد الماضي.

وسط دخان النرجيلة، ورنين الملاعق في أكواب الشاي، ومن خلال أحاديث النسوة، وهنّ متكئات على الوسائد في الليوان، بين أصص الأزهار، تذكّر "فخرية" التي رحلت مع أمها إلى لبنان بعد طلاقها، ولم تعد، كان ذكرها يثير الغيرة في نفس "أم خالد" ويجعلها مهووسة، وبخاصة حين يثنين عليها بالفهم، والاستقامة.

بعد تسوية الأمر مع ابنته، صارت زوجته مصدراً لإيذائه، والإساءة إليه، من حين إلى آخر تعادوها الروح العدائية، وتلوي عنقه بكثرة الأولاد، ويعاني منها ألواناً من العذاب النفسي حتى حرمته راحة البال، فكان تارة يصرخ في وجهها، وتارة يتذرع بالصبر، وقد يلجأ إلى تأديبها بالضرب وهو في ثورة الغضب، فتخرج إلى بيت أهلها لساعات طويلة، فيطمئن، وينام ملء جفنيه، وكثيراً ما راودته فكرة طلاقها، ثم يمسك عن التفكير حين يتصور الماضي يعود إليه في صورة أخرى، فيرأف بأولاده، وتهدأ ثورته.

ازدادت المشاحنات، وتوترت العلاقة بينه وبين زوجته، وتسارعت التطورات في البيت، التي تثيرها نفسيتها الشريرة، وتؤدي به إلى الانفجار.

كان "محمود" أبو سناء حين يستلقي في فراشه، يجافيه النوم وهو يصغي من بعيد إلى صراخ زوجته، ويترقب المزيد بعد صحوة ضميره، واهتمامه بابنته، وأحياناً تستولي عليه الهواجس، فيحاول أن يبدّدها ويعلل نفسه بأنها مجرد أوهام، ويتلمّس من اٍلأسباب ما يستريح إليها.. ولكن كثيراً ما يحس بظلال الموت تلقى عليه.

في حياته حقائق كان يخفيها في صدره.. وعن "سناء" بعضاً منها، كان الماضي كالشبح يطارده.. لذا لم يعرف السعادة الحقيقية رغم جهده في تكوين أسرة كبيرة، ونظامه في عمله.

في إحدى المرات، قال لزوجته واللهفة ترتسم على وجهه، وفي نبرات صوته:

- فيما حصل لسناء منك، يمكننا أن ننساه، فلست أنت المخطئة وحدك، أنا اكثر منك خطأ.. إنّ خطأك يمكن تبريره بسهولة بما تعلمين.

انبرت بوجهه، وبحدّة قالت:

- بماذا.. ولم..؟

ببرود أجابها:

- بالغيرة من أمها، لشبه "سناء" بها، وهي لا ذنب لها في هذا.

سكتت برهة، وهي تداري ما بدا في وجهها ثم قالت:

- وخطؤك أنت؟

- فلأني وثقت بك، وتركت لك أمرها، فلنتعاون على إصلاح الأمور فيما بيننا.

انبرت صارخة، وهي تؤكد عدم احتمال وجود ابنته معها في البيت أكثر من ذلك.

بتعجب قال:

- ما الذي دهاك؟.. كفّي عن الصراخ.. الناس عادة يبحثون عن الإجابات السمحة، من غير نقاش، أو إثبات لتصفية الأجواء، وأنت على حال واحدة لا تتغيرين.. عجباً لأمرك.

دخلت غرفتها غاضبة، وهي ترفض تقرّبه من ابنته، والتعاطف معها، والتعويض عن تقصيره تجاهها، وصبا "سناء"  يستعيد ذكرى الماضي، بعد أن سحب الزمن عليه رداء النسيان.. كان يجد في ذكاء "فخرية" وحبّها للتعلم تفوقاً عليه، وتقليلاً من مكانته، وجرحا لرجولته، حتى كثر الجدال بينهما، وانتهى بالطلاق.. ومع مشاعر الندم، يتساءل إن كان قد ظلمها، أم أن التقاليد هي التي ظلمتهما؟ فعرف البيئة كان يحكم للشخص حق الزواج من ابنة عمه على سواه، بغضّ النظر عن أمور أخرى.

التقيت مع "سناء"  عند مفترق طريقين، وقفنا تحت القنطرة نتبادل الحديث، حانت مني نظرة إلى الخلف، فوجئت برؤية "أم خالد" تبرز في زقاق جانبي، لتسير وراءنا مباشرة، ضغطت على كفّ "سناء"  أنبّهها، وقلت لها:

- لا تأبهي بها.

رمقتنا بنظرة جانبية، ثم اختفت فجأة.. عرتني الدهشة من تصرّفها، تراقبنا ونحن في الطريق إلى البحر.. تابعنا السير بهدوء واستأنفنا الحديث.. قالت "سناء" بارتباك:

- إني أشعر بالخوف.

- من ماذا؟

صمتت برهة، ثم ارتسمت المرارة على وجهها، وقالت:

- ستسبب لي مشكلة في البيت.

- ألم يشجّعك والدك على عدم الاستسلام للضعف، كوني قويّة.. إن ضعفت ازدادت سيطرة عليك، لتقطع أية علاقة لك مع الناس.

عند الشاطئ، أخذت أرسم بإصبعي خطوطاً متشابكة على الرمل، وأنا أنصت إلى "سناء" بصمت، ثم قالت لي:

- إنها تسيء سمعتي أمام النسوة حين يزرنها.

قلت بجدّية:

- بل تدفن سمعتها في الحيّ بافتراءاتها، لا تحفلي بأكاذيبها.

- كنت أكثر ما أخشاه أن يبقى أبي يعيش في الأوهام، وأبقى أعيش في سفوح الحياة نهب الظن بي، حتى قدّر الله أن يعلم الحقيقة؟

- أرأيت؟.. ما كان أبوك مغفلاً، بل متجاهلاً، يراقب ويترقب، حتى حسم الأمر بنفسه.

أشرق الابتسام على وجهها، وقالت:

- أيقنت بأنه سيكشف الحقيقة في يوم ما.

- بلا شكّ قد تغير.

- الحياة تدعو إلى التغيير.. علم ادّعاء زوجته، وسخافة أقوالها.

- هل كانت تقصد إلى تحطيم حياتك؟

- هكذا يبدو، ثم أمرني بعدم مغادرة البيت إلا للضرورة.

- والماء، من يحضر الماء و..

- ستنحلّ المشكلة تدريجياً.

ثم نظرت إلى الطست نظرة طويلة.. شكا إليها طول الصحبة، وتشقّق حوافَه.. لقد آن لهما أن يستريحا، في صمت قالت:

- كلانا مبتل يا صاحبي.. ستنحلّ الأمور.

بعد رجوعها إلى البيت، سألتها زوجة أبيها وفي عينيها ارتياب:

- أين محفظتي؟

- لا أدري عنها شيئاً.

- ابحثي عنها.

- انظري.. إنها هناك.

- كيف وجدتها؟

- هي التي وجدتني، هي أمامك فوق الخوان.

*   *   *

كان الشتاء هذا العام قاسياً، عارياً من كل شيء، يخلع ماضيه، ويشدّنا ببرده، وأمطاره ويدعونا إلى العزلة، فيه تمتزج الروعة بالروع، والمعاناة بالمتعة، والنشاط بالجمود.. شتاء بلدتنا الساحلية مميّز، يختلف عن كل الأشتية الأخرى، نعيش فيه لحظات تترواح بين قسوة البرد ودفء الرطوبة، والاستمتاع بأشياء كثيرة.

قررت أن أتسلّل من البيت هذا اليوم.. أخذت أهبط في الطريق الملتوي، المؤدي إلى الشاطئ، حتى وصلت إلى السور الأثري الراسخة جذوره في قاع الساحل بين الصخور، كان الموج يلطمه بين مد وجزر، يجرف معه الطحالب والأعشاب البحرية، ويتركها فوق الصخور الناعمة، وددت لو أني أحمل ورقة وقلماً، وأرسم منظر الشتاء الرائع.. ولما تأهّبت للرجوع سمعت صوت "سناء" تحاول أن تجعل نبراته هادئة وهي تقول:

- إذاً، أنت هنا؟

- أجل، لقد تأخرتِ.. انتظرتك طويلاً، ولما مللت الانتظار تمشيت قليلاً على الرمال، والموج ينثر رذاذه على قدميّ.. الشتاء عند الشاطئ دافئ.

ورغم شحوب وجهها، كانت تحاول الابتسام.. تنبهت، فقلت بانبهار:

- تبدين رائعة بالحجاب.

بسرور قالت:

- ارتديته عن اقتناع.. وقفت أمام المرآة أتأمل نفسي، وبابتسام قلت: يقولون إن الثياب تصنع الإنسان، اليوم أراني إنسانة جديدة، اختلط بكائي بضحكي.. شاهدتني أختي فسألتني باستغراب:

- ما بك.. هل من شيء.

أجبتها:

- لا شيء.. فقط تذكرت حنان أبي فبكيت، وارتديت الحجاب، فسررت، وضحكت.

قلت بتعجب:

- أرى التغيير يزحف إلى مظهرك، ونفسك معاً.

- أجل.. والتمرّد يخرج من القمقم، فأحاول كتمه.. تابعت فقالت:

- وأنا في ذهولي، سمعت النداء المعتاد:

- هيّا يا بنت.. أحضري الماء.

من مكاني، دون أن ألتفت، قلت:

- أودّ يا خالتي أن تعلمي بأن خروجي إلى البئر والصفيحة فوق رأسي أو الطست تحت إبطي، لم يعد يليق بي وبكم، لقد التزمت الحجاب و..

ولكنها أسكتتني بقولها:

- اخرسي يا بنت.. هذه تقاليدنا المتعارف عليها.

أجبتها:

- هل هي قوانين.. من سنها؟

قالت لي:

- كلامك سخيف.

قلت لها:

- كفي عن السخرية بي، أريد منك أن تصغي إلي ولو لمرة واحدة.

اعتبرت جدالي طول لسان، فاقتربت مني، ورفعت يدها لتضربني، دفعتها، وأنا أقول بثبات:

- القهر المتراكم يولد الانفجار... لا تزالين على عادتك، تريدين أن تزرعي الرعب في نفسي، وتستغبي عقلي.. لم أعد طفلة، الأمور تغيرت.

قالت: - أبوك أفسدك.

قلت: - بل أصلح شأني.

ثم رأيت أن أهرب من أمامها. ولم يكن هربي جبناًَ، ولكن حسماً للمشاكل، وتهدئة لثورة غضبها... ثم ارتأيت أن أخرج لإحضار الماء اليوم، أو لأيام ريثما يتغير الحال.

ازدادت الأمور تعقيداً بين "محمود" وزوجته، وكثر تفكيره بمصير ابنته وتدهورت صحته... ثم على أثر مشاحنة شديدة، أصيب بنوبة قلبية أودت بحياته.

كانت الفاجعة مريرة على قلب "سناء"، فالأيام الحانية انقضت فجأة، كانت كومضات البرق الخاطفة، أرعدها صحو الضمير، وانبثاق عاطفة الأبوة، مشت بدربها شهوراً قليلة، حجزت آلامها إلى حين، ثم لتعود ثانية، وتتجرع الأحزان بشكل آخر، وأخذت الكوابيس الرهيبة تراودها، وتقتات من راحتها.

صار المسكن عقيماً بعد وفاته، كان حين يبتسم تومض ابتسامته في أعماق نفس "سناء" على ندرتها، وحلت الفظاظة محلها فتفر منها خلف الجدران في زاويتها، أو إلى البحر، تحمل مشاعر صباها بداخلها، وعنده تفور ذكريات طفولتها، وتحلم بألوف الأشياء، وترتد حسيرة، فهل يصنع السراب شيئاً، وأصداف أيامها لم تزل متحجرة؟

جئت إليها أواسيها، فقلت:

- هوني عليك.. نحن مجرد عابري سبيل، في هذا الزمن الطويل.

بنبرة حزن، قالت:

- إنه عالم شديد الغرابة.. إذا حُكم علينا بالموت، فلِمَ يزرع فينا إرادة الحياة؟

- لنعبد الله بالطاعة والتقوى، ألم تقرئي قوله تعالى: ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)؟

- بلى.. قرأته... التفكير الكثير يسبب لي الإجهاد.

- ليس من الحق أن نتحدى مشيئة الحق.

- أخشى أحياناً أن يفلت الصبر مني، ويجعلني أتصارع مع الواقع، وأحياناً أجهل التعامل مع نفسي...

تنهدت وهي تقول:

- موت أبي المفاجئ جعلني في أرجوحة.. لقد ذقت بكتفه طعم الأمان.. كيف أواجه المستقبل المجهول، وأنا في حالة من التوتر والخوف؟.

- ستنصلح أمورك بمشيئة الله.. فكّري بنفسك.. مشاعر التوتر ضعف، جابهي الصعاب بروح مرنة.

- موته جعلني أعيش نصف ميتة.. أشعرني بالفراغ.. والموت ليس أسوأ من الحياة الفارغة.

- ذكرى وفاته تحييك، لا تميتك.

- كيف؟

- تذكّري وصيته لك، بألاّ تستسلمي إلى الضعف.. التجربة تساعدك على إعادة بناء شخصك بطريقة أفضل.. ألم تفكّري بتعلّم مهنة؟

- هذا سؤال مثير، من غير جواب مثير.. كيف يتسنّى لي ذلك، ووقتي ليس ملكي؟

سكتت برهة، ثم قالت:

- كنت أشعر وأنا في لحظات الصفاء مع أبي، أنه يتوق إلى أن يقول شيئاً يخفيه عنّي، ليؤكد به براءته، وألحظ الحيرة تطوف على وجهه، ثم يمسك عن الكلام، ويضغط بكفّه على فمه.

استمرّت معاناة "سناء" من سوء معاملة زوجة أبيها، بعد الوفاة، وكثيراً ما كانت تعاقبها ظلماً، وتريها ألوان العذاب، كانت معها أشبه بالذئب تنظر إليها بعينين متوثبتين، تحاول ردّها في التقرب منها، ولكن المحاولات كانت شاحبة كغيرها، مبعثرة، ذات نهاية سلبية.. تمنّت أن يطوف السلام بينهما، وتتعاملا بودّ، ولكنّ الوضع كان يزداد تفاقماً، وكان لديها جنون الارتياب.. فقد حدث مرة أن رجعت "سناء" متأخرة بعض الشيء، نظرت إليها بحدّة وسألتها: من هو الرجل الذي كنت تكلمينه في الطريق؟ أجابتها: لا أحد يا خالة، فقط صديقة لي منذ الطفولة، وبتودّد قالت: أتمنى أن نكون صديقتين، وليس عدوتين.

كانت كثيراً ما تتلقى الإهانات بالصمت، وفي كل حفلة للعواصف في البيت، تهرب منها إلى زاويتها، ويعقبه سكون.. فصدرها يموج بالكره والانفعال، وتتمادى في الصدود.

تساءلت في سرّها:

- هل أخطأت عندما سلكت معها درب الشكوى؟.. كثيراً ما أحاول أن أغتصب البسمة من ثغرها، بقلب يطوي الحزن والكمد، ولكنها كالصخر دائماً، وتتأبّى عليّ.

أثناء الضحى، عند درجات المسجد، توقفنا بعد غياب لأيام عديدة، كان الحزن يلوح على ملامح وجهها، سألتها عن حالها، بيأس أجابتني:

- إنها تستمر في عقابي على لا شيء، لم أنظر إليها لأيام عديدة، بعد أن جلدتني بالحزام.

- غريب أمر هذه المرأة الشريرة.. لم جلدتك؟

- لتأخري قليلاً، ولأنني بدأت أهتم بمظهري.

- حقاً.. إنه لأمر مزعج.

- كانت ليلة قاسية، ملأى بالكوابيس، ليس لديك فكرة عن الليلة التي أمضيتها.. ما زلت أشعر بالخسارة الفادحة لموت أبي.

- هكذا حالنا، يكون ألمنا أشد على من نفقده.. اهدئي، ستكون الأمور بخير.

ثم قلت بحذر شديد:

- هل عرفت الحقيقة، والسبب في الضغط عليك؟

- استعرتها من أحاديث النساء، ولكن بطريقة مشوشة.. هل يمكن أن توضحيها لي؟

- آسفة يا "سناء" أعلم أن الخبر سيئ يزعجك، ولكن يجب أن تعلمي.. فقط تمالكي نفسك.. لقد سجّل أبوك البيت والدكان لزوجته.

- إنها مفاجأة مذهلة.. لم أكن أدري.

- حصل هذا منذ طلاقه من أمك، وزواجه من الأخرى.

صمتت "سناء" لبرهة، ثم قالت:

- هذا هو السرّ الذي أخفاه عني.

- من أجل ذلك، تحاول إبعادك عن البيت بأساليب شتى.

هزّت برأسها، وهي تقول:

- ليس بهذه السهولة.. لا أستطيع أن أفارق إخوتي.

- لا عليك يا "سناء"، انسي ما قلته لك.

تنهدت وهي تقول:

- إن المال لا يصنع الإنسان.. إنني أضع مصيري تحت رعاية القدر، وسيأتي اليوم الذي أبدأ فيه حياتي من جديد.

ثم أردفت فقالت:

- أشعر بأنها تزداد خشونة معي، وتطفئ الابتسامة على شفتي، وتزيد من حزني.

اضطرم وجهها، وقالت:

- أصبحت مربوطة بهذا البيت، لا أعرف كيف أعيش بعيدة عنه.

- جامليها بقدر الإمكان.

- ليس من طبعي الالتواء، والمداراة القائمة على النفاق والخداع، أخشى ألاّ أقدر على الصمود أكثر، رغم محاولتي التسامح، إنها تجرح قلبي بتحقيرها وإهمالها.

نظرت إلى الأفق البعيد، ثم قالت:

- لماذا تفسد أرواحنا بأشياء الدنيا، وتفسد الدنيا بأشيائها، وفي النهاية نجد أنفسنا ممتلئين بالشوائب؟.. هل هذه هي الحرية التي ننشدها؟.. أم أنها نفي الأرواح من جذورها؟.. لو فكّر كل إنسان منا كيف يعيش وكيف سيعيش، لوجدنا أننا أبداً مخدوعون، لأننا مقلدون، نفكر كما يفكرون، ونعمل كما يعملون.

أغمضت عينيها، وراحت في ذهول.

- ما بك.. هل أنت بخير؟..

- أجل.. أفكر لا أكثر.. وليساعدني الله.

*   *   *

أوشكت ألا تصدّق أمر حرمانها من الميراث، رأت أن تسأل زوجة أبيها.. ترددت.. توقفت برهة.. حاولت أن تركّز فكرها فيما ينبغي أن تفعله.. ثم قالت: اللعنة على المال، يكفي بأنني نلت رضا والدي، وبنفس حاولت أن تكون هادئة، قالت: سامحك الله يا أبي.

بعد أيام ونحن نمشي في الطريق، سألتها:

- هل علمت منها شيئاً عن..؟

- لا، طبعاً، لأنني أعلم الجواب مسبقاً، ومن الأفضل أن أفكّر فيما ينبغي أن أفعل.

- ثقي بالله ربك، لسوف يكون معك في هذه المحنة.

كانت الأحداث المثيرة تتلاحق في البيت، فتهرب "سناء" منها كي لا تتفاقم المشكلات، وتعيش بحالة من الحذر والترقب، وهي تعلم بأنها ستواجه الكثير من الصعاب بعد موت أبيها، فزوجة أبيها المالكة لكل شيء، ولكنها غير عادلة، تستفزّها بمعاملتها، وتشعرها بأنها منبوذة ودخيلة.. وكثر الشجار معها، واتّسمت أفعالها بالساديّة، تؤذي بها "سناء" وتطاردها كالشبح، وتشعر بالرضا حين تراها مضطربة، ويبعث الاغتباط في صدرها ما لم تبعثه الثروة التي آلت إليها.. وتتساءل: وهل من صحيح أنها استراحت، وقد حققت ما أرادت؟.. الزمن سيمر، وستتحول الطمأنينة رويداً رويداً إلى قلق يطاردها ويجهدها، وستجد أنها لا تذوق للسعادة، والاستقرار طعماً.. إن الحياة هي الحياة.

التقيت بها عند الشاطئ، لمحت الحزن بادياً في وجهها، فقلت:

- مرّت أسابيع لم ألتق بك.. هل أنت منزعجة من شيء ما، ولا تريدين إخباري به؟

- أجل.. مللت حياتي هذه.. عجباً! كي لا يسمح لي بالتعارف في المجتمع؟ مما ولّد عندي الخوف من الناس، وملت إلى العزلة مع كثير من التشاؤم.

- بل مستاءة للغاية.

- الانطواء هو خوف عام من العالم كله، وميل إلى الوحدة.

ستقتلني الوحدة.

- هل حصل شيء ما؟.. ثقي بي.. فجّري غضبك.. عبري عن استيائك.

سكتت قليلاً، ثم قالت:

- إنها تستغل نقاط ضعفي، وتريد تدمير حياتي.. إنها امرأة خرافيّة، لها صفات الوحش.. فالنوم يستعصي عليّ، وفي داخلي صراع بين الأحلام والأمنيات، واليأس.. أليس غريباً أن يزداد شعوري بالشقاء والغربة وأنا بين إخوتي؟

- تمالكي نفسك، وانظري إلى هذه التجربة القاسية في حذر شديد ونقيّها من الرواسب التي خلّفها الماضي.

بمرارة ابتسمت وهي تقول:

- هل يمكن أن أتخلّص من آثار الطفولة المعذّبة؟.. إنها راسخة في أعماقي، متعلقة كالطحلب على جوانب نفسي، أحاول انتزاعها، ولكنني أفشل، وأجد التوافق مع زوجة أبي مستحيلاً، فهي تنفعل لشيء، أو بلا شيء، فأتوارى في ظلال السكون، وأبحث عن طريقة للسلام، مع الترقب للفرج.

- الأفضل أن تمرّني نفسك على التخلّص من المعاناة إن استطعت.

تنتظر "سناء" الليل لتعيش معه، تجد في صدره سرورها، وأنينها، وتمرّ بنظراتها عبر النافذة على السماء مروراً كالسحر، تشعر بالانتعاش في روحها، وتلقي سمعها إلى غناء الضفادع، وهي تعزف ألحاناً شجيّة، وبعجب تقول: من علمها الغناء والطرب؟.. وتتأمل السماء، والنجوم تتلألأ فيها، والبلدة تهجع أنوارها، والقمر يرعاها، فتراها مصدراً ثرّاً للجمال، فتخلع رداء الحزن، فالوقت وقت المتعة، والإحساس بجلال الكون.. تتعجّب من أحاسيسها الغريبة في الليل، والروعة العميقة تأخذها، وقلبها يعرف معاني الوداع، والأسى الصامت، والشجى والوحشة والرهبة، وفي النهاية يلفها الخشوع والابتهال.

في النهار تلجأ إلى ركنها متعبة، تجد نفسها مشدودة إلى الأرض، تبحث عن المرآة، والمشط تحت فراشها.. وتقرأ في كتاب تستقي منه الأفكار، وتنكشف أمامها الحقائق، تثيرها المعرفة والمقارنة في حوارها مع نفسها، تودّ لو تطرحها عن وعي.. ولكن كيف ومن مع، وهي تعيش ضمن تقاليد لا ترحم، وظروف لا تنقطع، يغلّفها القهر، وكل شيء في حياتها رهين بالتأنّي والصبر.

في ركن جانبي من أركان الغرفة التي توجد فيها أثاث مكوّم، اعتادت "سناء" على رؤيته منذ طفولتها، كان الفناء يمشي عليه لا يحذر أحداً، والبلى قد أمعن في أحشائه، تخاف منه حين يكنفه سواد الليل، وعندما كبرت، تساءلت بعجب: لم حشر معي في مكان واحد؟.. كانت تنبش فيه أحياناً، ومن قريب وجدت شيئاً ملفوفاً في منديل بعناية.. فتحته، فوجئت بصورة أمها قديمة، باهتة بالية، ولكنها حفظت تعابير وجهها.

قالت لي بدهشة:

- أظنني وجدت شيئاً مهماً في الغرفة.. انظري.. إنه صورة لأمي، تمَّ إخفاؤها بمهارة بين الأثاث المهمل.

- هل أنت متأكدة أن أمك على قيد الحياة؟

- أجل.. قلبي يحدثني بذلك، وينفطر شوقاً إليها.

- لقد قتلها الطلاق.

- بل قتلني أنا.. بلا شك.. إنها تعيش حياتها.

صمتت قليلاً، ثم قالت:

- لم أدر.. لم احتفظ أبي بأثاث أمي؟..

- ربما.. قد يكون لأسباب.

من خلال الأثاث، وهي تقلبه، أدركت "سناء" أشياء كثيرة، وغريبة عن الأيام الماضية، كانت تعيش معها، تحدثها باستحياء عن الأجواء التي عانتها أمها في هذا البيت، وعن الكتب التي كانت تقرؤها، وفي صفحاتها استدعاء لأجمل المعاني، توشي بطبعها، وتعبر عن أصالتها التي لم تندثر، وعن رفضها السلوك الأخلاقي في أبيها، فلم تستقر في أحضان الجهل، والتقليد.. كل قطعة من هذا الأثاث تحكي حكاية، أو ذكرى، أو إشارة.

أحّبتها.. أحسّت بلمسات أمها، وفوح عبيرها في نفسها، حتى صارت نديمها زاويتها، ومن خلالها ترسم مشاعرها بكلمات على الورق، وكلها ثقة بلقائها، وفي صدرها زاد من الصبر وجيشان من العاطفة، وخيالات واعدة.

كانت تحس بهاتف يهتف باسم أمها، يطأ الريح ليستريح في أذنها، والدجى ساكن يروع جفونها، والغياب بعيد المسافات، وتأمل أن تعود، وفي عودتها سرّ يلمس الأرض فتخضر من خطواتها، والصخر يورق من سروره.

بقي هذا الأثاث البالي هارباً هاجساً يحرّض مشاعرها، ففي لمسة تورق البهجة في نفسها، وتتداعى صور الطفولة، وتتدافع لتثبت وجودها، فسرير أمها لا يزال محشوراً بين الأشياء.. ويمتد خيالها في الفضاء، ثم يتبعثر كالنجوم الساهرة على ملاءة السماء.. ويبقى ظل أمها يحتضنها.. ومع النعاس يغادر، ويتلاشى بين زجاج النافذة، ونور المصباح.. حتى إذا أسفر الصباح صحت على صوت يعجّ بالعويل، فتجري خلفه، وتقف أمام زوجة أبيها بدون حراك، وتقول بهمس: يمكنني تصوّر أشياء أسوأ، وتحمل الوعاء لتسقي الزرع، وقد ينسكب الماء بعيداً عن الأصص، فتصرخ بها:

- أراك تسكبين الماء على الأرض.

بصمت تقول:

- كما ينسكب الهم من نفسي.

بعد ظهر يوم حار، خرجت "سناء" التوت في الطريق الرئيسي الذي يتوسط الحي، وعلى جانبيه البيوت المتراصّة، المزدحمة بالسكان.. عبرت القنطرة الأثرية ثم تراءى لها السور الفينيقي، تحيط به مجموعة من القلاع.. كانت تشعر بالتعب، الذي مزج بمشاعر الترقب، والأمل في قضاء وقت تتنسم فيه عبق البحر والراحة، كانت تترنّم بأغنية بصوت خافت، تعبر عن ابتهاجها وهي تطل على الشاطئ.. كان الأطفال يتزحلقون فوق الصخور الناعمة، ويردد الهواء أصداء مرحهم، ويخفف النسيم عبء الرطوبة، وعلى مسافة تقوم بعض النساء بأعمال اعتدن عليها.

منظر السور كان يشدّها إليه، وتركّز عينيها على نافذة طولية فيه، ثم تنتقلان، تستحمان في زرقة المياه، وترحلان مع زوارق الصيادين.

ضحكتُ وأنا أناديها من بعيد:

- لقد طال انتظارك، أليس كذلك؟.. الوقت يبدو طويلاً حين يكون الإنسان وحيداً في حالة الانتظار.

- بلى..

- أجدك وأنت في ظل السور تركّزين عينيك عند نافذة معيّنة فيه.

- أجل.. إنني أعيش لحظات سعيدة وأنا أتأمّلها.. أودّ لو كان لي جناحان لطرت إلى حيث كنت.. أتساءل: هل الشيخة "بدرية" لا تزال تعلّم الأطفال في بيتها.. وتسرد لهم الحكايات؟

- لم تذكرينها الآن؟

- سنة مرّت كالحلم وأنا في الخامسة من عمري، علّمتني أثناءها سوراً قصيرة من القرآن، وشيئاً من القراءة والإملاء.. السنة مرّت كالخاطرة الملهمة، ثم خطرت بعيداً وسط المشكلات في البيت، فكان آخر عهدي بالتعلم..

ثم تنهدت وهي تقول:

- وآخر عهدي بأمي أيضاً.. وحُكم علي بالجلوس في البيت.. لم يكن بوسعي أن أصرخ، أو أبكي.. فكانت عيناي تدوران بين الأشخاص بصمت حائر، وأمي تفرغ بهمس كلمات في أذني، وتضمّني بحنان إلى صدرها:

- الآن قد غدوت شابة، والحال تغيّر.

- وتبقى الشيخة "بدرية" شاخصة في ذهني.. كانت تحبّ الأطفال وقد حُرمت من الإنجاب.

ضحكت وهي تقول:

- أتذكر عصاها الطويلة من القصب، كانت تطالنا بها، وهي في مكانها أمامنا.. وإن مللنا وزعت علينا السكاكر، ومنحتنا فرصة للعب.. كم أودّ أن أراها ثانية!

أدرت رأسي إليها، وبهدوء قلت:

- لقد نفضت يديها من هذه المهنة.

- لماذا؟

- لأنها ماتت في مكة وهي تؤدي فريضة الحج.

فوجئت بالخبر، وبذهول نظرت إلى النافذة، ودمعتان ساخنتان تتدحرجان على خديها.

أدركت بأنني أخطأت في إخبارها، بأسف قلت:

- ما أغباني! ما كان عليّ أن أخبرك.. انسي ما قلته لك.

- لا أستطيع.. ستبقى الشيخة "بدرية" ذكرى دائمة في خاطري.

تدخل القدر، وابتسم ساخراً من أفكارنا، حين اقتربنا من صخرتين تحجزان الماء، والموج يلطمهما، شاهدنا قطة رمادية تندفع، ثم تتراجع في انزعاج، وتربض، وهي تنظر بهدوء وحذر إلى شيء ما، اقتربنا لنرى ما روّعها.. قالت "سناء" مبهوتة:

- انظري.. هذا أخطبوط، انظري إلى شكله الأسطواني، وأرجله الثمانية الرأسية، وكيف يتثبّت بالصخرة.

فقلت بانبهار:

- أجل.. إنه كذلك..

ثم ضحكت، وأنا أقول:

- ولكن ليس كما تلفظين، بفتح الهمزة والطاء، إنما بضمّهما، فنقول: (أُخطُبوط) كما صحّح لي أبي.

ثم عدنا إلى الحديث العادي البسيط، الذي يدور عادة بين صديقتين، وقبل أن نفترق قلت:

- المسجد قريب من هنا، والنساء الآن مجتمعات وقت العصر، لحضور درس الدين.. هل تأتين معي؟

فكّرت برهة، وبلهفة قلت:

- إنني أتوق إلى الذهاب معك منذ زمن بعيد.

- إذاً، هيا معي هيا..

مشينا باتجاه المسجد، وصعدنا درجاته العديدة، ثم انتهينا إلى الغرفة المخصصة.. كان ترحيب النساء "بسناء" حاراً، وابتساماتهن ودوداً ورقيقة، والبشر يعلو وجوههن، وهنّ يتبادلن معها الحديث بمتعة وشوق، وبعد برهة قالت:

- معذرة، لن أطيل البقاء، جئت دون علم من زوجة أبي.

وبعد حديث قصير نهضن يودّعنها.. في الطريق تسمّرتُ في مكاني حين سمعت زوجة أبيها تقول:

- لقد تأخرتِ يا بنت.. انتظرتك في البيت طويلاً.. أين كنتِ؟

- في المسجد، تعرفت على بعض النسوة، وسأثابر على درس الدين عصر كل اثنين.. لم تسألينني أين كنت؟ لم أعد طفلة صغيرة.

- هذا ما كنت أتوقّعه.. خروجك عن طاعتي.

- وإقبال على طاعة الله.

ارتفع صوتها، ولوّحت بيدها، وهي تردّد بحدّة:

- سيكون عقابك أليماً.. وسوف ينتهي كل شيء على خير.

*   *   *

في ظلام الليل، تراود "سناء" الأحلام.. تسري بها وعيناها شاخصتان إلى السماء بين الكواكب، والذكريات تتردّد في أعماقها كالعواصف، والأحداث تلطمها كالموج.. وتجعل من صدرها مرفأ ترسو في بحر من الحسرات، وتعصف بها الأشجان.. ما أكثر الأحلام، تؤمن بها، ولا تتحقق.. تتساءل بعجب: لماذا تنجح في أمور، وتفشل في أخرى؟!

في ضوء القمر المنهمر من النافذة، تناجي خيال أمها، تشكو لها الشوق والأسى، وعمق الجراح، وحبّها الذي أصبح ظلاً لها، لا يفارقها، يزيده تأججاً ما تجده من الكره، والصدود لدى زوجة أبيها، حتى توهّمت لصورتها هاتفاً في سمعها، ممزوجاً بكلمات تستعيدها من الماضي، وغدا خيالها شعاعاً يلوح لبرهة، ويختفي في مكامن الدجية والغربة، ويترك قلبها في قلق هائل، وظل متعطّش في الزحام، وعند معبر كل طريق.. وتبقى أمها ألقاً ضائعاً ولمحاً خاطفاً.. وبحيرة تتساءل: هل اللمحة من طرفي وحدي، أو من أمي أيضاً؟

لو أتيح للجدران أن تتكلم، فأي شيء تبيّنه وتقوله؟.. مرّ عليها زمن طويل.. هل كان المكان وكراً للمعاناة، أو ألحاناً تتنافى؟.. هل كانت النافذة معبراً لآهاتها في ظلمة الليل؟

تأوّهت بحنين يتنامى مع الشجن، وفي صدرها صراخ لا يسمع، ولولا هذه النافذة لكان حالها كمن في ظلمة السجن.. تبتسم وهي تقول: لا يقدرون على غلّ أحاسيسي، وأنا أحوم في الفضاء، وأضرب بجناح في الآفاق.. وحين تشعل المصباح، لا ترى في سقف الغرفة إلا خيالاً باهتاً، ووجهاً مسافراً.

ساعدتها العزلة على التأمّل، واكتشاف الذات، أخذتها إلى زمن الطفولة.. كم كانت الدنيا كريمة معها، حين وهبتها أماً زرعت في نفسها المعاني الرائعة في كلمات، وحكايات، ثم استردّت ما وهبت، وتركتها في العذاب تتخبّط، بتحسر قالت: يا ليت جودها كان بخلاً!

كانت تبحث في زاويتها بين الأشياء المندثرة، تنبش فيها، وتأنس من العناء.. كانت مأواها تحميها من الوحش البشري، وتمنحها فرصة تمارس فيها طبيعتها الصافية، وتجيش نفسها بشتى الانفعالات، في رحلة خيالية ممتعة.

كانت الوحدة تقتات من حاضرها، بعد أن جرحت الدرب بخطواتها المتعبة، وفي العتمة تتراءى نجمة متلألئة في السماء، تحدق في وجهها، وعندما يطل الصباح ترحل.. بحزن تتساءل: ألا يشدها للبقاء شيء؟ ألست شيئاً يستحق البقاء من أجله؟.. أين محطتها التي عندها استراحت؟

المكان خال، والهررة يلاحق بعضها بعضاً، وخلف النافذة عالم يزخر بالحياة، وفي ركنها يسكن الصمت، تتساءل: هل من أحد يعتريه كما يعتريني من الوحشة، والأحلام، لماذا لا أحقّق شيئاً منها.. لا أريد أن أتمسّح بأعتاب البكاء.

في ظلال الظروف القاسية، والسكن العقيم من الرحمة، تهيّأت "سناء" عصراً للخروج، سألتها زوجة أبيها:

- إلى أين تذهبين؟

باستنكار أجابتها:

- هل يهمك أمري حقاً؟

بغضب نظرت إليها، وقالت:

- عليك مسئولية غسيل الأطباق، وتنظيف البيت، وسقي الزرع و..

- أدّيت كل شيء.. سأذهب إلى المسجد.

التقينا عند مدخله.. انطلقت في الحديث، تصرح بما في نفسها:

- الوحدة يا عزيزتي تكاد تقتلني.

- هل نمت اليوم جيداً؟

- لا، أكاد أصاب بالجنون من قلة النوم.

- دعي التفكير جانباً، ولا تحبسي نفسك في البيت طول النهار.. أحسنت بالمجيء إلى المسجد.. هو ضرورة ملحّة للتخفيف عنك.

- فيه أشعر بالارتياح، وأتعرف على حقيقة الحياة من كتاب الله، فالمبادئ الربانية تترسّخ في أعماقي.. وينبغي أن أعمل بها، وأدافع عنها.

- هل تمنعك أم خالد من المجيء، والتعرف على النساء الصالحات؟

- اعترضتني أكثر من مرة، وهجمت عليّ لتضربني، فأبعدت يدها عني، وأشعرتها بأنني كغيري من البشر.

ثم هزّت برأسها وهي تقول:

- لا أريد المزيد من المفاجآت المؤلمة.. استجديت عطفها، وقلت لها:

- لقد خسرت أبي بوفاته، فلا أريد أن أخسرك.. أعتذر إن كنت تسببت لك باإزعاج.

- أحسنت..

- أرغب في التمشّي على رمال الشاطئ.

- لا أستطيع.. لديّ شغل.

لجأت "سناء" بمفردها إ‘لى الصخور، كانت لها ملاذاً، تراخت عندها لمستها بكفّها.. سرى الأمن إليها.. لا تريد أن تحمل الريح سرّها، قد يتقاذفه الموج، وينشره في الأسماع.. نظرت إلى الأطفال بدهشة، وهم يتزحلقون ببراعة على الصخور المرتفعة، الناعمة، وأصواتهم تشارك الموج في هديرها.

لم تدر كم مضى عليها في تلك اللحظة.. أفاقت من ذهولها على همهمة، كان بينها صوت زوجة أبيها.. استدارت رأتها تتمشّى على مقربة منها، خفق قلبها بشدة، ووقفت أمامها، خشيت أن تهينها أمام النساء والأطفال، اقتربت منها، وقبلتها وقالت:

- إنها مفاجأة يا خالتي.. أليس البحر رائعاً.. هل نتمشّى معاً على الرمال؟

رمقتها بنظرة جانبية لئيمة، ثم قالت:

- لم أنت وحيدة هنا؟

- لست كذلك.. الشاطئ مزدحم بالناس.. أشعر هنا بالحياة جميلة، وممتعة.

التزمت أم خالد الصمت.. ثم اتجهت في الطريق المؤدي إلى البيت، دون أن تنظر إلى الخلف.

قالت "سناء" في نفسها:

- يحقّ لها التزام الصمت.. ولا يمكنها أن تشهر السلاح ضدي أمام الناس.

ثم تمتمت، وهي تضحك بسخرية:

- لم لا تبتسم للطبيعة؟ أم أن الإرهاق سيصيب شفتيها لو أنها ابتسمت؟

في البيت، تحت شجرة النارنج، كان اللوم قاسياً، وعنيفاً، سألتها "سناء":

لم كل ذلك؟.. لم أرتكب أدنى خطأ.. ولن أرتكب.. أودّ لو نكون صديقتين.

فرّ الدمع من عينيها، وهربت إلى زاويتها.. من خلال النافذة، كانت ترى البسمة في السماء، والدعوة إلى الانعتاق من هموم الأرض، فترسل إليها ريح الصبار، همس الورود وقطر الندى، ويخفق قلبها بالشوق، وتتردد في صدرها الأسئلة.. لقد طال غياب أمي فمتى تبين، ثم يصفعها الصمت والسكون.

في أحد الأيام، جلست على مقعد خشبي في الحديقة العامة لهذا المكان ذكرى أثيرة في نفسها في زمن طفولتها، عنده كانت ترخي رأسها في حضن أمها، وهي تحكي لها عن النحلة الماهرة في كسب الرزق، والصرصار الكسلان، والفراشة المهفهفة بين الأزهار.. وتعبر في ذهنها حكاية البنت الجميلة تغار من أخوتها، فيتآمرن عليها، ويلقينها في قبو مهجور، وكانت تسلّي نفسها بترديد السور القصيرة من القرآن، وتحوك من القش الملقى على الأرض سلاّت صغيرة، تحمل فيها أحلامها، وأمنياتها، إلى أن فرج الله عنها كربتها على يد شاب، صارت له عروساً.

حكايا صغيرة، زرعتها أمها في نفسها، علمتها التعايش مع تجارب الحياة القاسية، والشغف بالطبيعة، مما جعل ذكرياتها مفعمة بالمرح، والحيوية، كانت تتردد إلى هذا المكان، تلمس بكفّها المقعد برفق.. تراقب الطيور تقفز من غصن إلى غصن، وتدقق في حركات عصفورة متلهفة تزقم فرخها، وتعلمه الطيران.. قد يمر أمامها بائع الفستق المشويّ، والرائحة تعبق في الجو.. وبائع الكعك بالزعتر، تتألم حين تمد يدها إلى مخبئها الخاوي.. وبهمس تقول: ما أقسى الحياة مع الفقر!.. يا لزمن الطفولة ما أكرمه.. لقد تبدّل الأشخاص، وبقيت الأشياء.. ذكرى ارتبط فيها الماضي بالحاضر، والحنان بالقسوة.

التقيتُ بها، والحزن يطوف على وجهها، قالت:

- ما يثير قلقي التفكير في المستقبل.. الطريق إليه وعرة.

ثم تناولت حفنة من ورق الشجر اليابس، فركتها ونفختها، وقالت:

- هكذا أيامي تذهب هباء.. كل حادثة تمرّ تؤثر فيما يليها.. الذكريات تساعدني على رؤية ما لم أره منذ فترة طويلة.. أظن بأني بدأت الرؤية للأشياء بشكل أفضل.

- معاني آيات الله في القرآن، والواقع والذكريات تنوّر عقلك.

- والنصر في النهاية للقيم، والأخلاق الفاضلة.

بانبهار قلت:

- إنك تتمتعين باستقامة مميزة، وما عليك إلا التخلص من الترسبات التي اجتاحتك.

ابتسمت وهي تقول:

- أراني في ركني أتلذذ بذكر الحكايا، ويأتيني الإلهام في الكتابة أحياناً.

سكتت لبرهة ثم قالت:

- أتعجب من النسوة اللائي يجتمعن على النارجيلة وشرب الشاي، والثرثرة التافهة.

- هذا واقع أكثر نسائنا في المجتمع، تضييع الوقت.. ينبغي أن يكون للإنسان مهارات، وطموحات وأحلام، يسعى إلى تحقيقها.

ربتُّ على كتفها، وقلت:

- أراك أحياناً خيالية، تطيرين بجناحين فوق الأرض.

- لأهرب من الواقع.. يبدو أن الخيال يولد مع الإنسان، ألا تجدينه عند "خضرة" المرأة العمياء، انظري إليها حين تزرع الأزهار في الحوش، بطريقة منسّقة، وتلمسها بيديها، وتتحدّث بما لم تره.. ليس للخيال قيود، خيال البصير مقيّد بالمرئيات، وخيال الضرير في بصيرته.

- هكذا أبو العلاء المعري، في قصائد يصف السماء، وما فيها، والأشياء ببراعة فائقة مذهلة، وهو الأعمى منذ طفولته.

صارت الأشياء المنسيّة في ركنها هاجساً، تلهث بينها، تنبش فيها، وتحدثها.. بلهفة تتساءل: هل تركتها أمها لتعود، أم أنها رحلت بدون عودة؟.. كان توقعها للقاء توقعاً مشبوباً.. تنظر إلى النجوم الصغيرة المتناثرة في السماء.. تتأمل نجماً أكبر، تقول:

- أكانت أمي كهذه بين النساء؟

في كل مساء تبحث عن الوردة التي ينبتها خيالها، عن الزهرة المستحيلة، والممكنة في آن واحد، وتظل عيناها متعلقتين بالنجوم المبعثرة، تبدو وكأنها تدعوها بابتسام.. وترى أمها أشبه بالنجم الذي يهدي في ركنها، ويتحول إلى سرّ من أسرار الليل الهائل.. ثمّ ينتابها النعاس، ويفرّ الألق بين زجاج النافذة، والضوء الخافت.. ولا شيء غير الجدران الخالية.. فما كان لم يكن سوى سراب.. ثم تصحو على عويل الريح، يتردّد مع عويل نفسها، والطيور الحائمة، وحساسين الصباح المشقشقة، وزخات المطر.. فالوهاد، والبطاح ظمأى لا يدري بسرّها مهما سرى، وظمؤها مقيّد بجراحاتها.

ابتسمت، وأنا أقول لها:

- الحياة ليلها شديد الحلوكة، ثم ينفجر الفجر.

- وآمالي عريضة، تتحدّى الصعاب، ثم ستظهر.

- كلّ شيء يتغيّر.. راقبي القمر في علياء السماء، هل يبقى على حال واحدة؟.. تأمّلي الكون، هل يدوم على رتابة معينة؟

- لا، طبعاً..

- هكذا حالنا في مجتمعنا، نعاني من الظروف القاسية بعد رحيل الاستعمار، علينا أن ننهض أفراداً، وجماعات، لنتغيّر ونغيّر.. نلملم ما اندثر.. لا يكون دفعة واحدة.. يحتاج إلى تفكّر، ومراحل.

- هذا ما أريده، التطلع إلى التغيّر، إلى الانطلاق نحو المرتقى، والسمو.

بهدوء قلت:

- ولكن.. أراك تتعلقين بسراب واهٍ، تشغلين فكرك فيه كثيراً، ترين حياتك متوقفة عليه، حتى ضاق بك المكان والزمان.

- حقاً، أنا كذلك، أصبحت أشعر بالغربة، وأتساءل: لماذا أجري وراء سراب؟

تأوّهت وهي تقول:

- هل الأم هي الوطن، والوطن هو الأم؟

استطردت:

- أراني فقدت حياتي، ودنياي بفقداني لأمي.. الوحدة، والوحشة تضغطان عليّ.. وأكتوي من نفسي بنفسي.

أطرقتُ برهة، ثم قلت:

- إنك محقّة، لو كانت معاملة أم خالد فيها حبّ وحنان ورعاية، لما انتابك هذا الشعور المتزايد.

- قد يكون هو السبب.. معاملتها تخلو من أيّ لمسة عطف، وإنسانيّة، والأمور تتأزّم بيننا.

بأنين صامت، والدموع تنهمر على وجهها، قالت:

- سلبتني الأمان، وجعلتني ضائعة مشوّشة.. كلما قلت يومي هذا خير من أمسي، فتّقت جرحي، بإهانتها وتحقيرها وسخريتها اللاذعة.. سنوات عمري تجري بجنون، تجرفها روحي جرفاً.

بهدوء قلت:

- فتّشي عن عيوبك، حاسبي نفسك، وتداركيها إن وجدت.

- لم أجد غير الصبر ألوذ به.

ثم أردفت:

- إن الناس يتقاتلون أحياناً، بعضهم يتقاتل بالأيدي، ومنهم من يتقاتل بالألسن، وأنا يصيبني الحالتان.

كانت تنتظر الليل، ومع الانتظار أمل في انبثاق طيف أمها، قد يطول، وهي تحدق في العتمة، والضوء الخافت، وفي ظلال الأشياء، يخيّل إليها أنها تراه لبرهة قصيرة، ويختفي في حركة العالم الليليّ، ويبقى في تصورها متحوّلاً من الفكرة إلى الصورة، ومن الصورة إلى الفكرة.. تتعذّب في متعة البحث.. وبلهفة تتساءل: هل سأظل أبحث عن صورة معيّنة، أتتبع خيالها موجة موجة، وملامحها تتأرجح بين التصوّر والتعين، بين الضوء والعتمة؟.. ثم يهجرني، ويتركني في قلق، وتعطّش.

تبحث أسئلتها عنها في زحام الوجوه، وفي معبر كل طريق، وفي كل انبثاق مفاجئ، ويبقى وجه أمها ألقاً ضائعاً، ولمحاً خاطفاً.. وتصيبها رعدة وهي تفكر بأن اللقاء مستحيل، لا يتجاوز اللمحة من طرفها وحدها.. وفي سفرها مع الذكريات، تسامرها الأحاديث.. ثم تتلاشى في السراب.. تتعجب كيف يضيع شبابها في السراب؟.. فيه صمت، ووهم من بدور، وورود، وشجر أثقل بالثمار.. ويتلاشى في الدجية، كما يتلاشى القمر، والنجوم في إسفار الصباح.. أما الحقيقة فلم تزل تعيش في داخلها، حنين لأمها، وضمّها، وحكاياها، وها هي أشياؤها تنبشها، وتنبعث الأحداث متتالية من حفريات الذكريات، تمكنها من الرؤية بوضوح، وتعلم بأنه قدرها، وبخوف تصرخ: يا ويلتي من قدري.

في الصباح راقبت الأزهار في الأصص الموزّعة في الليوان، رأتها قبل طلوع الشمس تتفتّح، وبعد الشروق بقليل تأخذ بالانكماش.. بذعر تتساءل: أهكذا تتفتح ذكرياتي في نفسي ليلاً، ثم لتذبل في غمرة التعب نهاراً؟.. هل ستموت؟.. انبعث من داخلها صوت، يقول: لا، لن تموت.

*  *  *

في أحد الأيام، كما نمشي فوق الرمال المبلّلة عند الشاطئ، والبرودة تلسعنا، والموج يتحفز للنشاط، قلت "لسناء":

- انظري إلى السماء. الشمس قد احتجبت وراء الغيوم الداكنة، والضوء خفت، إنّ هناك عاصفة وشيكة على الهبوب.

- يجب أن نعود، يبدو أنها اليوم ستكون قويّة، تكاد تنفجر.

بسرعة اتجهنا نحو الحيّ، ونحن نردّ عنّا صفعات الريح، وما لبثنا أن تفرقنا.. في الليوان كانت "سناء" تنظر إلى شجرة النارنج بحزن، فالطيور فرّت منها مذعورة، وهشّمت العاصفة فروعها، وألقتها في كل اتجاه، ثم أخذ المطر ينهمر بغزارة.. كانت تراقبه، وبتعجب تقول: ما أمهر المطر، وما أحذقه، يستطيع بنغماته أن ينثر الحكايا في الأذهان، ويسرق هدأة القلوب.. تأوّهت وقالت: ولكن ما في داخلي أكثر غزارة.. النبات يرتوي، وقلبي يتحرق.

سكنت العاصفة وتوقف المطر، وتبعثرت فروع الأغصان، فلامت الشتاء على قسوته.. كان كالعاصفة في روحها، يجتاح ذكرياتها، ويوقظ نفسها رغبات ممتعة تمنتها، ولا تحصل عليها.. رأت فيه انسجاماً لا تقدر على مقاومته، فيه صدق مع النفس وتعرية من الشر، وكشف عن مواطن الضعف في داخلها.. ابتسمت بمرارة، وقالت: أليس الحنين الدافق في نفسي ضعفاً؟.. أليس الحنين إلى المعاملة السمحة التي تقرّب الناس من بعضهم ضعفاً؟ آه من الحنين، لشدّ ما يكثف القلق في روحي!

بقيت الشجرة شامخة برأسها رغم ما اعتراها، عرّفتها أن الحياة لا تدوم على حال واحدة، تسمعها صوتاً لا تراه، يقول لها: لا تستسلمي للضعف، كوني قوية.

ثم أشرقت الشمس، وغمرت الكون بضيائها، بعد أن عصرت الغيوم ماءها، لملمت "سناء" الأشياء المهشمة، ثم أقبلت على شجرتها تواسيها بلمسات حانية، وتطيل النظر إلى ما أصابها.. ثم سقطت عيناها على التربة حولها، دهشت حين رأت رؤوس تالات انبثقت منها.. بكت من الفرحة، وبألم قالت: شجرتي قد نضجت، وأنا لم أزل سجينة في قفص، هل حكم عليّ بالمؤبّد؟

أحسّت ببرودة، تدثرت، وأسندت ظهرها إلى الجدار، ثم استغرقت في نوم عميق.. لم تصح إلا على هرير قط البيت، وهو يتمسّح بها متململاً، ويقوّس ظهره، ويموء برقة.. مسحت بيدها عليه، وبرأفة قالت: ما بك يا رفيقي؟.. لقد تأخرت عليك بالطعام، سأشعل النار، وستشعر بالدفء.. ربتت على ظهره، وقالت: سأتأخر عنك، نم بين الأصص.

توجهت إلى ركنها.. هنالك أشياء تشدّها دائماً، تبحث فيها عن خيال لا تستطيع إمساكه أبداً.. تراخت فوق الفراش، وتسمّرت عيناها في السماء، تنتظر الليل، لتنظر إلى نجم مختلف، يثقب حجب الظلام بضوئه الباهر، حتى إذا أسفر الصباح اختفى رويداً رويداً.. تململت في مكانها وهي تقول: هل سأقيم مع همومي تطرقني طرقاً؟.. لا أدري إن كنت أعيش في عالم الخرافات، بعيدة عن الواقع.. ولكن لدي ذكريات حقيقية أحتفي بها.,. ثم يتراءى لها وجه أبيها، فتقول له بعتاب: لم تكمل تصحيح خطئك، وتعرّفني بأشياء أمي.. لا بأس، إنني أكتشف أسرارها وحدي شيئاً فشيئاً.

في صباح اليوم التالي، كان الجو صاحياً، مشرقاً، والهواء بين إنعاش حيناً، وصفير خفيف في الآذان حيناً آخر، حين انطلقت أم خالد مع أولادها لتزور أختها في الضاحية، رغم جمال اليوم، شعرت "سناء" بالوحشة وباليأس يتسرب إلى نفسها.

لم أشك في سوء الحالة النفسية التي تكون عليها، وهي مرغمة على لزوم البيت، فقررتُ أن أمضي إليها، لأسرّي عنها، قلت لها:

- أرى لونك اليوم باهتاً.

- إني مرهقة بعد أن أدّيت ما عليّ من أعباء البيت.

- هل نمت جيداً.

- لماذا تسألين؟

- لأني أعلم أنّك تعيشين مع التذكّر والأحلام.

- هذا ما يحصل بالفعل.

- خففي عنك، واهتمي بنفسك.

- ذهاب إخوتي أشعرني بالضجر، والغربة.

سكتت لحظة ثم قالت:

- في مثل هذا الظرف تشتدّ حاجتي إلى أمي.. إني أراها في وجه كل أم حنون مع أولادها، وأرنو إليها بطرف كسير، وأوار الحنين يهيج في مقلتي، ويزيد من ألمي.

- هوّني عليك..

- لماذا تركتني أمي؟.. أرى حياتي تتدمّر بغيابها.

رأيت أن أغيّر من اتجاه تفكيرها، فقلت بدهشة:

- تلك القلادة في عنقك جميلة جداً، من أين حصلت عليها؟

- سأخبرك.. لقد وجدت بين الأشياء صرّة معقودة.. فككتها، فوجئت بثياب أمي وفي طياتها هذه القلادة، منقوش عليها اسمي، تعجبت، وتساءلت: هل تركتها عمداً؟!

صمتت قليلاً، وقالت:

- أحسب بأنّ القدر يحركني.

قلت بانبهار:

- أمر غريب، لماذا تركتها مع بعض ملابسها؟

- هذا ما يحيّرني.. ألم أقل لك إن القدر يحرّك حياتي؟

- سنقوم برحلة غداً بعد الانصراف من المدرسة ظهراً.

- إلى أين؟

- إلى المعبد الأثري الكائن وسط الحديقة العامة، سيصحبنا العم حلمي والد صديقاتي هند ومنى وهناء.. أتودّين مرافقتنا؟

ضحكت من الدهشة، وشكّت في حديثي، وقالت:

- "حلمي" الحذّاء؟

- أجل.

- أخشى أن تعود زوجة أبي وتفتقدني.. أفضّل البقاء.

- لا تمانعي، يحق لك الخروج معنا، والاندماج مع من في مثل سنّك والاستمتاع، إنها الرحلة المدرسية الأولى بعد الاستقلال.

- قد أتعرض لبعض المتاعب.

فكرت قليلاً، ثم قالت:

- سأسمح لنفسي بالخروج، دون أن يسمح لي أحد.. أعلم أنها مغامرة، سأترك الأمر لمشيئة الله.

- هذا من حقّك.

عند ظهيرة اليوم التالي، تسللنا من الباب الخلفي للمدرسة، كانت النسمات تميل نحو الدفء، ونحن نسرق الخطى باتجاه المعبد، وما لبثنا أن لمحنا العم "حلمي" مع بناته بانتظارنا، وكنا زهاء العشرين.

ما كان دليلنا ذا مكانة في مال، أو مركز اجتماعي، إنه مجرّد حذّاء ماهر في صنع الأحذية الأنيقة، تميّز بصفات تركت آثاراً في أذهان من يتعامل معهم، لما لديه من ثقافة، ومعلومات غزيرة، يسردها على زبائنه بفصاحة، وهو يقلب الحذاء بين يديه، ويطرق جوانبه.. وكثيراً ما كان يريهم أوراقاً يخرجها من الدرج، كتب فيها أفكاره وذكرياته، والدور الذي قام به مع المجاهدين ضد الاستعمار، حتى نال الوطن استقلاله.

كنت أستمع إليه، وهو يهيء حذائي، فأحسّ وكأني كبرت في لحظات، وجاريته في سنّه الخمسين، وأفكاره التاريخية، فأتساءل باستغراب: من أين تنبثق أفكاره التي يصوغها بفصاحة.. أفهم بعضها، وما غمض منها، أسأل عنها والدي.. وكان كثير الصمت حين يكون خالياً برفقة الأحذية.. لعل الصمت معلمه المبدع.

عرف بجدّيته، فلم تختلط بابتسام، وبتحديه لكل صانعي الأحذية في البلد، حتى إذا ما انتهى من إحداها، ألقاه في الهواء مرة تلو المرة، مؤكداً طول عمره.. أما نحن فكنّا نتباهى بها.

كانت الرغبة والمغامرة تدفعاننا في اقتحام المجهول، ونشعر بالبهجة ونحن نجري بسرعة لنختصر الزمن، ونتواصى بالسريّة فيما بيننا.

هذا المعبد يربض منذ القدم في الجانب الغربي وسط الحديقة العامة، نعرف سوره منذ الطفولة، كنا نختبئ بين حجارته المتداعية من بعض جوانبه، ونخشى الاقتراب من مدخله، لما نسمع من أصوات مرعبة تنبعث منه.

كان العم "حلمي" يتقدمنا كالقائد الهمام، بخطوات الواثق من نفسه، وطربوشه الأحمر يعلو رأسه، والابتسام يشرق على وجهه، وهو يشجعنا على اللحاق به، عند المدخل شاهدنا مصراعي الباب المتهالكين، المسندين إلى الجدار.

في بهو العبد وقفنا ذاهلين، زاغت أعيننا بين الأشياء، وعرتنا الرهبة، وأحسسنا بعمق القدم يفوح منه، ويمزق سكونه هرير الكلاب الضالة الهزيلة، والهررة تجري مع صغارها.. وكان أكثر ما يثير سكون المكان المهجور، نعيق البوم، وتطاير الخفافيش في طيش وذعر، إذ كانت تلتطم بالجدر من غير وعي، نظراتنا تلاحقها وتذكّرنا بالأصوات المرعبة التي تصدر من البرج المرتفع جانب سور الحيّ، ومن القلعة الخاوية، في أصداء متماوجة.. الآن، أدركنا ونحن نشاهد ونسمع البوم والخفافيش بأنها ليست كما يحكون بعفاريت، وشياطين، إن هي إلا حيوانات وطيور متشرّدة.

كل ما في المعبد استأثر باهتمامنا.. النوافذ المستديرة ذات الزجاج الملون، تلامس السقف، يتسرب منها شعاع الشمس، فتلقي ظلالاً كألوان الطيف، والأوثان المتساقط بعضها، والقائم بعضها الآخر، وتيجان الأعمدة وغيرها.. والعم "حلمي" يمدّنا بالمعلومات بين الحين والحين.

كانت "سناء" بجانبي، تنظر إلى الخراب من خلال الأشياء، وإلى الأوثان الممثّلة لأشخاص، وتاريخ أمم قد بادت، قلت لها:

- ألا تستحقّ هذه التأمّل في الماضي؟

- أجل، هكذا الحياة، زهو وجمال ثم حطام.

لفت دليلنا أنظارنا إلى أكبر التماثيل، أعلمنا أنه للحاكم الروماني "دقيانوس" الجبّار، باستنكار سألته:

- لم لقب بالجبّار؟

قال:

- لظلمه رعيته، وادعائه الألوهية، والتنكيل بكل من تمرّد عليه.. تحدثنا الأساطير عن شباب مؤمنين بالله الواحد، رفضوا الانصياع للشرك، فتهدّدهم بالقتل، فهربوا من وجهه إلى كهف في الجبال المحيطة بالبلدة، يصحبهم كلبهم، ومن ثم لم يعلم عنهم شيئاً.

صمتُّ برهة، ثم قلت:

- هذا ما تحدّثني يه جدتي، فاسم "دقيانوس" تتداوله الأجيال في بلدتنا.

نظرت "سناء" نظرة طويلة، ولاح الحزن في عينيها، وبهمس قالت:

- إن هم لجأوا إلى الجبال خوفاً، وهرباً من الظلم، فمن لي ألجأ إليه؟

ابتسمت وأنا أضغط على كفّها.. ثم لمحنا نظرة "حلمي" القلقة حيالها، وأشار إلى قبر ناهض وقال:

- هذا هو مكانه.. هكذا الحياة، نهايتها الفناء.

ازداد توغلنا في بهو المعبد، ونحن نتأمّل وندهش.. وتُثار تساؤلاتنا، والعم "حلمي" يوضح لنا.. ثم أعلمنا أنّ المستعمرين اتخذوه مقراً لكثير من جنودهم، وألحقوا به الخراب.

 كنّا نمشي فوق الركام المتداعي، تؤنسنا ظلال الألوان والأنوار، وضجيج البوم والخفافيش المذعورة، وعيونها الثاقبة تطاردنا بشذر، ثم لا تلبث أن تسكن وتختفي في الجحور.

صعدنا السلّم الحجري عند نهاية البهو، وقلوبنا تجف من الظلمة، إلا من خيوط النور المتسرّبة من النوافذ الضيقة، تمنحنا النسمات النديّة، حتى إذا ما انتهينا إلى السطح، أخذنا بروعة المشهد، ونظراتنا تتجول بين حقول البلدة، وجبالها، وبيوتها المتناثرة.. ثم لتنتقل إلى السور والخندق المحيط به، وإلى الأزقّة الرماديّة الملتوية بين الأحياء، وببهجة امتدت نظراتنا إلى البحر، وهو يحتضن الجزيرة كالماس تحت أشعة الشمس.

بفرح قالت "سناء":

- انظري إلى المسجد، يتباهى بشموخ على القصور والمرتفعات.. ما أطول مئذنته؟!

قلت:

- هل تعلمين أنه بني في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟

- إذاً، منذ زمن بعيد.

- أجل، أثناء الفتوحات الإسلامية المباركة لبلاد الشام.

قطع ثرثرتنا العم "حلمي" يقول بصوت مشحون بذكرى أليمة:

- من هذا العلو، كان الجنود الفرنسيون يصوّبون رصاص بنادقهم على أهل البلدة.

كان يؤكد لنا مواقف الاغتصاب، ويغزو قلوبنا وعقولنا بأفكار نجهلها. وأحسسنا بالانتعاش والسماء تظلّنا، والطيور تخرج من أعشاشها تتطاير فوق رؤوسنا بذعر، ثم تختفي في أوكارها.. نظرنا إلى غيمة فوقنا، وببهجة قالت "سناء":

- أودّ أن أمسك هذه الغيمة الوردية.

ألقينا نظرات وداع على بلدتنا ملأى بالحبّ والوفاء، وتمثل لنا الماضي كأنه قد وقع بالأمس، بعد لحظات بدا القلق على وجه دليلنا، كأنه يريد أن ينهي مهمته بسرعة.. اندفعنا نحو الدرج، نتلمس طريقنا إلى البهو.

لم نكن ندري بالمفاجأة التي تنتظرنا، عند المدخل وجدنا حشداً من الآباء تنظر بعيون ثاقبة.. تساءلنا:

- ما المشكلة؟

ما إن رأوا "حلمي" حتى تعالت أصواتهم بغضب، لائمين، شاتمين، متعجبين من استدراج هذا الحذّاء لبناتهم إلى مكان لم يجرؤ على اقتحامه أحد من أهل البلدة قبله، وهو يغطي الموقف بالتجمّل، والابتسام، ولم يبد عليه أدنى أسف، أو محاولة في المضيّ بل بقي شامخاً معتزاً بما فعل.

اقتربت "سناء" مني، وقالت:

- إني خائفة، العقاب ينتظرني في البيت، إني أرى أخي بينهم، عليّ الذهاب.

قلت مهدئة:

- حريّ به ألا يخبر أمه.. لا تقلقي، ثقي بالله، لن يخذلك، ثم ثقي بنفسك.

اختفت في الطريق الملتوي إلى الحيّ، دون أن تودعني.

كان والدي في هذا الحشد.. اقتربت منه وارتقبت الحوار، وشعوري ينازع عقلي، وأملي ألا ينهزم دليلنا أمامهم.. خشيت أن يطفئ أبي فرحتي بانفعاله، راقبته بطرف خفيّ.. كان يبتسم وفي عينيه لوم، وعلى شفتيه عتاب، وكفّه تضغط بعصبية على كتفي.

بوجه طلق قال لهم "حلمي":

- لو تصبروا قليلاً، وتكفّوا عن الغضب.. أرجوكم دعوني أطرح سؤالاً و.. بسرعة بادروه:

- انتهى الأمر، لا حاجة لسؤالك.

- لا بأس.

ثم انطلق مع بناته شامخ الرأس، مستقيم الظهر، بعد أن نفض آثار الغبار عن طربوشه.. وشعرنا بالارتياح لعدم تخاذله.. فقد استطاع أن يعرفنا على شيء من أمجاد الوطن من خلال آثاره، وينمّي شعورنا بالمسئولية، ويطرد الأشباح من مخيلاتنا التي كانت تحدثها الأصداء المرعبة من خلال الآثار، ويلفت الأنظار إلى أهمية الرحلات، ويحدث تغيّراً في نظرتنا إلى الحياة.. كما بقيت هذه الرحلة ذكرى نتصفّحها مع مضيّ الأيام.

*  *  *

واجهتها زوجة أبيها بتجهّم، وبعصبية قالت:

- هذا وضع سيئ لا يحتمل.

قالت "سناء" بدهشة:

- ماذا جرى؟.. ما الأمر؟

- خروجك مع الرجال.

التفتت "سناء" إلى أخيها، وقالت:

- لماذا تكذب إذا كنت لا تجيد الكذب؟.. ألم ترني مع مجموعة من الطالبات؟

- إنه لا يكذب...

- بل يكذب..

رجاء اصغي إليّ، إنها مجرد رحلة إلى المعبد الأثري.

نظرت إليها بريبة، ثم قالت:

- ماذا كنت تفعلين معهنّ في ذلك المعبد الخرب؟

- نتفرج على ما فيه من آثار.

سكتت "سناء" والمرارة تهيج في نفسها، ثم قالت:

- لماذا لا تؤمنين بحقي في الحياة الكريمة، كما تؤمنين بحقك وأولادك؟ وأشارت إلى زاويتها، وبتألم قالت:

- إلى متى وأنا ألزم وكري هذا؟.. ولا تسمحين لي بالخروج مع من في مثل سنّي؟

نظرت إليها نظرات جانبية تأكل وجهها، وبتأفف قالت:

- لقد كبرت يا بنت، وطال لسانك.

- أجل كبرت، ومناقشتي معك ليست طول لسان، هذا من حقّي.

ثم رأت أن توقف الجدل معها.. وبرجاء قالت:

- مهلاً يا خالتي، إنك تعاملينني بازدراء وانفعال، وكأنني مجرّد خادمة في هذا البيت.. أشعر بالأسف إن سببت لك الإزعاج.. فقط أرجو أن تغيري معاملتك معي.

لم تتلق منها أي ردّ.. دفنت "سناء" وجهها بكفيها، وأخذت تبكي كطفلة، ثم تسلّلت إلى ركنها، وزوجة أبيها تلاحقها بنظراتها القاسية.

في مثل هذه المواقف تلجأ "سناء" إلى العزلة، تترقب عواصف الغضب العقيم من الرحمة، وتحاور نفسها: كيف يمكنني أن أفرّ منها؟ وإلى أين؟ وإلى متى وأنا في هذا الحال؟.. ألقت بجسدها فوق الفراش واسترخت، وفي نفسها ألم وحزن.

كانت أم خالد تلزمها بالطاعة المطلقة، والتقبّل لما تفرضه عليها دون اعتراض، لتضمن سكوتها عنها.. وتتساءل "سناء" في سرّها: أيرضيها إن فعلت ما تريد؟.. لا، لا أظن ذلك.

وعندما تفتقر إلى السكينة، والأمان، تتذرع بالأشياء، وتلجأ إلى البحر، عنده ينساب حديث طويل بينها وبين الطبيعة، فشاطئه مرتع خصب للحكايات، والناس فيه أكوام، يستمتعون ببهائه، وعنده تصوغ قصص طفولتها، وتتسع شيئاً فشيئاً مع مرور الأيام، وتحتفظ بأحاديث الدهشة، والتلقائية حين ترى صبياً بلاحق سرطاناً بحرياً، قد ربط ساقه بخيط طويل، يجعله يجري خائفاً، وهو مقيّد.. وتنظر إلى مويجات البحر تعبث بخواطرها، وإلى صخوره تفتت عوائق نفسها، وتؤجج أسراره أسرارها.. فأحاسيس "سناء" قد نمت، وتفتقت بشتى الانفعالات، وجاشت بها روحها، والخيال يفتح أجنحته ويحلّق بها، وبلهفة لذيذة تقول: ما أروع البحر! إنه رفيقي ومعلّمي منذ طفولتي.

في إحدى المرّات، كانت تجلس فوق صخرة مشرفة، تراقب صفحة المياه، أثار دهشتها بعض الحيتان تقترب من الشاطئ، يصدر منها نغمات جميلة، وتقوم بحركات غريبة، لم ترني وأنا أتقدّم نحوها، ولما وقفتُ أمامها، بصوت فيه الدهشة، قالت:

- انظري إلى..

لم تكمل عبارتها حين تزحلقت بين الصخور، أسرعت إليها، وسألت:

- هل أنت بخير؟

- قدمي تؤلمني.

- كيف تزحلقت؟

- كنت أفكر فيما أرى، أصابني ذهول، فحصل ما حصل.. انظري إلى هذه الحيتان تقترب، وتبتعد وهي تغني.. إنها رائعة، أليست كذلك؟

- بلى، إنها تتباهى أمامنا، وتكرّر حركاتها.

- قليلاً ما نراها، تقبل مرة في العام، ثم ترحل.

- هيا بنا قبل أ يصيبنا دوار البحر، فتقعين في الماء ثانية.

قلت وأنا أضحك:

- فقد يلتقمك الحوت، كما التقم النبيّ يونس.

- أجل، أنت محقّة.

قبل الغروب، كانت الشمس قد زرعت ظلال الصخور فوق الرمال، مثل أشباح يصعب التقاطها.. ثم غربت، وحلّ الغسق، ليأخذ دوره في الزحف على المكان.. ذهب ناس، وأتى آخرون، حين بدأت خيوط رقيقة من ضوء القمر تتسلل من بين السحب.. كانت "سناء" تنسجم مع المكان، والزمان، فالغسق بالنسبة إليها ساعة انحسار للهمّ الذي تجاهد في قلعه.. وحين تفلت الزرقة، زرقة الغسق من الجفون، تبدأ في العودة.

في البيت كانت زوجة أبيها تلاحقها بنظرات الشكّ والارتياب، وتستفزّها بألفاظ تنمّ عن ذلك.. واجهتها "سناء" بقولها:

- أنا لست ممن يضعف، ويسقط يا خالة.. هل أنت غيورة عليّ أكثر من غيرتي على نفسي؟.. تأكدي بأنني لا يمكن أن أخطئ أبداً، مهما تهيأت أمامي أسباب الخطأ.

- لماذا إذاً تكثرين الهرب إلى البحر؟

- لأفرغ همومي عنده.

كانت "سناء" ترى الهرب إلى الشاطئ هرباً من القلق، ومن الكآبة التي تختلج في صدرها، فتجد عنده الخلاص.

*   *   *

- من اليوم فصاعداً لن تخرجي إلى البحر.

قرار ألقته أم خالد أمام "سناء" كان أشبه بالفاجعة، أجابتها باستنكار:

- لا يمكن ذلك، عنده أجد حياتي، وذكرياتي.. تعلمين يا خالة مقدار الجهد الذي أبذله في البيت، فلم تمنعينني مما أحب؟.. أنا في حيرة من أمري.. كيف أتعامل معك؟.. لا أدري.

بسخرية قالت لها:

- أراك مضطربة عقلياً، لكثرة ما تفكّرين وتحلمين.

انهمرت الدموع من عينيها، وبابتسامة باهتة، قالت بهمس:

- إن كان كذلك فبسبب ما حرمت منه.. لا شيء يعوضني عن أمي، لا أدري، لم يعاقبني القدر على شيء لم أفعله، ألم يكن من الأجدر أن تضحّي الأم من أجل ولدها؟.. كلما كبرت ازدادت حاجتي لحنانها، وعطفها.. يبدو أن وجودي مع زوجة أبي يوتّر أعصابها دائماً.

كانت تبوح لي بمكنونات صدرها، فأثّبتها وأطمئنها:

- ما عليك إلا الصبر. الله الذي خلقك، لن يتركك في رحلة حياتك هكذا.. لا تتعجّلي، ولا تستبطئي.

أطرقت برهة، ثم قالت:

- هل تصدّقين أنها لا تزال تصفعني بعنف؟ أي ذنب يرتكبه إخوتي تلقي عليّ باللائمة.

نظرت إليها بعطف، وقلت:

- لا بأس.. أتعلمين كيف سيكون مصيرها؟

في عصر ذات يوم، التقينا في المسجد، سألتها:

- ما موقفها من مجيئك إلى هنا؟

- اعترضتني ولكن خالداً حال دون ذلك.

- يبدو أنه شهم.

- أكثر الأحيان.

في المسجد كانت تسعد بصحبة المؤمنات، كل واحدة تسعى نحو الكمال في سلوكها، وتعاملها، حتى ولو كانت قابليتها لا تسمح بذلك، فتعمل على تقويم نفسها، والتمثل بخلق القرآن، معهنّ تستعيد "سناء" الاعتبار لذاتها، وتشعر أنها لا يمكن الاستمرار بين يدي المرأة تسيطر على مقدرات حياتها، دون مراعاة لإنسانيتها، حتى غدت العلاقة فيما بينهما نوعاً من العداء التقليدي، الذي يحول دون تطوّرها، وأصبح الصراع نتيجة طبيعية تفرضه تصورات باسم التقاليد، والعادات، التي قد لا تكون صحيحة.. كما كانت تجد متعتها العقلية والروحية بإقبالها على تلاوة القرآن الكريم وفهم معانيه، فتتنسّم نسمات الرحمة في قلبها، وإذا ما أوت إلى ركنها ردّدت ما تعلمت، وأقبلت على قراءة ما تركت أمها من كتب بين أشيائها. كانت تحسّ بالفخر حين تردّد النساء: كان لفخرية صوت ملائكي في الترتيل، ويبدو أن "سناء" ستكون امتداداً لأمها.

كانت تلاقي شتى أنواع العنف من زوجة أبيها، وبالأخص إذا ما أثنى عليها النساء بالفهم والذكاء، ولم تتورع عن نبش ما يخصها من أشياء، فتتلفها، ولا تجد "سناء" إلا الصمت حسماً للمشكلات.

ازداد وعي "سناء" لأمور دينها، وللحقوق التي كرّم الله بها المرأة، وما نزلت من السماء إلا لتنظيم حركة الحياة، لا لإعاقتها، ومن ثم ينتفي التسلّط من قبل شخص يتمثل التقاليد المنافية للدين.

لشدّ ما كانت تأسرها كلمة (اقرأ) مفتاح العلم والمعرفة، فالله هو المصدر لكليهما.. كتبت الآية الكريمة في لوحة، وطرّزت كلماتها، وجعلتها على الجدار في ركنها، تتأمّلها كل حين، لتكون لها حافزاً على القراءة.

بابتسامة ساخرة، تساءلت في سرّها:

لم تصدّني خالتي عن هذا الخير؟ ألتبقيني شيئاً للبيت فقط؟ ألا يكفي يتمي، وحرماني من الأبوين، وبثقة قالت: سأعوض كل شيء بالعلم، ولا أبالي، سخطت عليّ أو رضيت.

ورسخ في ذهنها هدف رحب، وحافز نبيل، ألزمت فكرها به، بأن تجعل حياتها تشييداً لقدرها المحتوم.

*  *  *

المواقف القاسية جعلتها تتأمّل ذاتها في عملية استبطان، تخرج به نفسها من العزلة التي فرضت عليها ردحاً من الزمن، وتستشعر لذة الاستنباط من مورد الألم، واستلهام الفكر تحت وقع المرارة، أفادتها التجارب والمحن، في تدفّق الوعي لديها، وخصوبته، فارتدت السكينة والاتئاد في مواجهة التحدّيات ما استطاعت، واشتدّ ارتباطها بالطبيعة، والالتصاق بما توحي به من أسرار، فكانت بكل أشيائها مصدراً للتأمّل والتفكّر، تنفذ إلى مكامنها حيث المخابئ الثريّة والكنوز المغمورة، تفكّر بالكون، وتزداد تعلقاً بالوجود، وتكتسب توازناً في نفسها، وتتعجب من ظواهر الأمور، كم تخفي من حكم في أعماقها!

بعد يوم عاصف، وتوقف هطول المطر، اشرأبّت رؤوس الأزهار من التربة في أصص البيت، انتشت بجمالها، وأثارتها للخروج حيث وجدت نفسها وحيدة، وساقتها قدماها إلى حديقة البلدة.. وجدت امرأة عجوزاً قد جلست على مقعد خشبي تحت شجرة صفصاف، تدثّرت برداء صوفيّ، اتخذت "سناء" جلسة بجانبها.. بدا أن المرأة كانت بحاجة إلى الثرثرة مع أحد، حملقت بسناء.. اقتربت منها، وبهمس سألتها:

- أنت من البلدة؟.. أراك أحياناً.

- أجل.

واصلت حملقتها، وبدهشة قالت:

- تذكرينني بصديقة قد رحلت منذ زمن بعيد، ومن ثم لم تعد.

ابتسمت "سناء" وبرنّة حزن خفيفة، سألتها:

- ما اسمها يا خالة؟

- فخريّة.

حاولت المرأة جرّها إلى الحديث، لكن "سناء" كانت حذرة، هزّت المرأة كتفيها باستخفاف، وكأنها تؤمن بأنّ الإنسان يمكن أن يعيش بعيداً عن موطنه، ويبني حياته بناء جديداً.

- حدثيني عنها يا خالة.

اعتدلت بجلستها، ثم قالت:

- إنها حكاية قديمة، مضى عليها خمسة عشر عاماً، كانت جذابة لها عينان جميلتان كعينيك، وكانت متعلّمة معجبة بنفسها، ولكن..

- لكن.. ماذا؟

- لم تسعد مع زوجها –ابن عمها- وحصل الطلاق، ورحلت إلى لبنان بعد أن تركت طفلتها الصغيرة عند أبيها.

كانت عينا المرأة لا تفارقان وجه "سناء" كأنها تعقد صلة بين الاثنتين، ثم التقتا بعيني "سناء" في نظرة طويلة، حوّلت "سناء" نظراتها عنها، وهي ترجو ألاّ يكون وجهها قد اضطرب، ووشى ما بنفسها.

نهضت المرأة، لتنصرف بهدوء، ونظرات "سناء" تتبعها، وتودّ لو أنها تلحق بها، وتستزيدها من أخبار أمها.

التقيتُ بسناء مصادفة، وتبادلت معها حديثاُ عابراً، قالت لي:

- إنني أجد الكثيرين من الناس الذين يمكن التعرّف عليهم، ولكنني لا أجرؤ على اقتحام عالمهم، مما يزيد من شعوري بالوحشة، وكأنني في بلد غريب.

في طريق العودة، لمحت زوجة أبيها تراقبها من بعيد، ثم ما لبثت أن اختفت.. خشيت من العقاب الذي ينتظرها، فصاغت إجابات متنوعة لأسئلة استفزازية، فهي لا تشكّ بحماقة تصرّفها، وتساءلت بعجب: لماذا تلاحقني في كل مكان، وتنغّص عليّ متعتي؟

بلهجة صارمة، سألتها زوجة أبيها:

- ألم أحذرك من الخروج إلا للضرورة؟

- هذا ما حدث، خرجت فقط للضرورة، احتجت للترويح عن نفسي تحت شجرة الصفصاف في الحديقة، كي أستعيد نشاطي، أليس هذا أمراً ضرورياً للإنسان؟

ركّزت عينيها في وجهها بحمق شديد.. سألتها "سناء":

- لماذا تنظرين إليّ هكذا؟ نظراتك المتجهّمة تذعرني، ما الأمر؟

أخذت تقهقه بشكل مغيظ، سألتها بدهشة:

- لم تضحكين هكذا؟ أليس لديك ما تقولينه؟

- إنك مجنونة، مجنونة.

- لست كما تقولين، ولكنني مذعورة بسبب نظراتك.. رأيك فيّ لا يغني شيئاً.

أردفت تقول:

- إنك تبعدينني عن إخوتي، وتشعرينني بالوحدة الرهيبة في البيت.. أتمنى أن تكوني منصفة، وتعدلي بيننا.

- لسانك يزداد طولاً يا بنت، اذهبي من وجهي.

رأت "سناء" من الأفضل أن تغرب عن وجهها، فزاويتها رغم ضيقها أرحب من البيت كله، فيها تخلو مع السكون، وترحل بعيداً مع ذكرياتها، وأحلامها، وكانت تتلذّذ في نبش أشياء أمها، تخرج منها كتباً ومجلات موثوقة، لا شبهة فيها، ولا فتنة، فتنكبّ على قراءتها وفهمها، لتثقيف ذاتها، وصقل وجدانها، وتحفيزها إلى الإيمان بكرامة الإنسان، والعدالة والحرية، والنفور من الظلم والتخلف.

*   *   *

سألتها ونحن في رحاب الطبيعة:

- هل انتهيت من قراءة (العبرات) للمنفلوطي الذي قدّمته لك؟

- أجل وتأثرت بما فيه من الفضائل والمشاعر.

وبصوت فيه رنين اللهفة قالت:

- لا يروي غليلي كتاب أو كتابان.. في الكتب أعيش رشفات من الحياة ولمسات من الوجود.

- وأنا كذلك.. فالقراءة تحميني من أيّ فراغ.. فالوقت قاتلي، وتحمي الوقت من أن أهدره عبثاً.

صمتت لحظة، ثم قالت:

- أرجو أن تسير أمور حياتي كما أريد.. الوطن مفعم بالتاريخ.

- كيف عرفت؟

- من خلال قراءتي في كتب التاريخ المدرسية لإخوتي.

- سأحضر لك كتباً أخرى تقرئينها في ركنك الهادئ، حتى إذا ما التقينا سردت لي ما فهمت، وبأيّ شيء تأثّرت.

قالت بثقة:

- إذا مرّ يوم لم أستفد فيه علماً، فما ذاك من عمري.. وأرى أن المرء لا يسمو ويرتقي إلا بما يعرف.

نظرتُ إليها بإكبار وقلت:

- إنك تتغيّرين يا سناء.

- أحس بهذا، ليس بسبب القراءة وحدها، ولكن بنور الإيمان الذي يشقّ صدري ويدفعني إلى التغيير.

سألتها:

- بماذا تشعرين حين تختلين بنفسك؟

- أشعر بحاجتي الشديدة إلى التعبير عن ذاتي بالكتابة، يحثّني الحنين الذي ينمو في كياني يوماً بعد يوم.

ثم أشرق وجهها بالابتسام وهي تقول:

- سأريك ما أكتب.

- وأنا أقدّمه إلى أختي المعلمة هيفاء، كي تخلّصه من الضعف. أرى في يدك قصاصات من المجلات، ماذا تعني لديك؟

- إنها تعجبني، فأعيد قراءتها.

ثم استطردت:

- الإلهام في داخلي لا يخرج أحياناً، ولكني أحس به.. أتقوت من راحتي في ليلي الهادئ، لأسجل خاطرة خطرت في ذهني.. كلمات تبدأ بالظهور ثم لا تلبث أن تهرب، وأشياء تنتهي ثم لا تلبث أن تبدأ من جديد.

بإعجاب قلت:

- لو كان والدك حيّاً، لشعر بالفخر الشديد بك.

دمعت عيناها وبهمس قالت:

- أحقاً ما تقولين؟

عرضتُ على أختي شيئاً مما كتبته "سناء" فقالت:

- خواطرها المتفرقة من وحي الواقع والإلهام معاً، تحمل شحنة من الإحساس تجاه مواقف مؤثّرة، تتمتع بموهبة، إنها فتاة حالمة.. وتتمتع بسرعة فائقة في التعلّم، والفهم.

*   *   *

صار للشاطئ طعم مميّز في نفسها، وله انعكاسه، والأحداث المتتابعة شحذت شخصيتها، والتأمّل عمّق الإيمان في قلبها، وغدت الطبيعة ملاذاً لها من الوحشة والعزلة.

كان الهدوء يسود المكان إلا من بعض الأولاد يتزحلقون على الصخور الناعمة، ويملئون الجو ضجيجاً، قالت في نفسها: يبدو أن صديقتي شغلت بأمر ما، فلم تأت، ثم شعرت بكفّي تلامس كتفها، سألتها:

- ماذا تفعلين؟ أراك شديدة الاستغراق والتأمّل.

- أتأمّل في زرقة السماء والبحر، كيف يلتقيان عند الأفق البعيد؟.. في داخلي أشياء تتوق إلى الانسجام مع الكون، ونفسي ظمأى إلى النبع الإلهي.

- كيف؟

- عندما أراقب الأزهار وهي تتفتّح مع الفجر، ننفتّح نفسي إلى الإيمان، وعندما أراها تذبل أحسّ بقرب الفناء.

- إن ظروف حياتك المضطربة فرضت عليك عدم الاستقرار النفسي، والشعور المتناقض، ستتغيّر حياتك بتغيّر الظروف.

- ليس بي انغلاق على ذاتي، وإن كان يبدو في الظاهر، ففي نفسي ترجيع للحوادث، ولحكايا أمي تحمل معاني متنوعة، وتزداد معرفتي بها مع مرور الأيام، كلما ازددت وعياً.

ألقت بجسدها فوق الرمل، وقد تفتّحت في نفسها شهوة الحديث، والحوار وتتعجب من هذا الزمان الذي ينطق بالأسى العميق، قلت:

- الزمن لا يتغيّر، ولكن الأحوال هي التي تتغيّر، وتتقلّب، حتى أصبحنا نردّ الأمور إلى الزمن، ونتّهمه بالريبة والمكر. البلدة كغيرها من أجزاء الوطن في مرحلة منهكة بعد رحيل المستعمر، فزمننا فيه التحرر من الاستعمار، وفيه الصحوة، والتخلص من العادات، والتقاليد الفاسدة، المنافية لقيم ديننا.

ثم أشرتُ إلى أمي وإخوتي:

- انظري، إنهم يدعونك إليهم.

بسرعة قالت:

- لا أستطيع، الوقت يعتصرني، يجب أن أغادر حالاً.

- رجاء لا تتهرّبي.

ولكن سرعان ما وثبت واقفة، وانطلقت في الطريق باتجاه الحيّ، وفيما هي كذلك رأيت أختي هيفاء تجري نحوها، ولكنها كانت قد ابتعدت وهي تقول:

- آسفة، الوقت متأخر، أشعر بضرورة الاستعجال.

*   *   *

في أحد الأيام، والسماء صافية، والخشوع يغمرنا ونحن نهبط درج المسجد، سألتها:

- أراك تنسجمين مع آيات الله أثناء التلاوة، بماذا تشعرين وأنت تتدبّرين معانيها؟

- تؤثّر في قلبي وعقلي، وأعيد نظرتي للحياة، وتمنحني الاتزان في مشاعري، والبعد عن التشتّت، ولا سيما قصص القرآن.

كان لزاماً علينا أن نتمشّى بعض الوقت عند الشاطئ، سألتها:

- وماذا تشعرين أيضاً، وأنت في الطبيعة، وبخاصة قرب البحر؟

سكتت برهة، ثم قالت:

- أحسّ وكأنني تخلّصت من القيود، وازددت تعلقاً بالوجود، وذابت مشاعري فيه، وأجد عندها أجوبة لأسئلتي، فارتبط بها أشد الارتباط والالتصاق، وأراني أتعلق حتى بأصغر أجزائها.. بحبيبات رملها، ونسميها وشجرها وفراشاتها.. وأتساءل: لم يحصل لي هذا؟ فتجيبني نفسي: ألست ابنة الأرض؟ أليس وجودك من وجودها؟.. وكثيراً ما أضحك في سرّي، وأنا أشعر بهذا الارتباط، كما لو كنت أول المخلوقات، وتتجاذبني اللذة، والأسى وتتدفّق بروحي الخواطر وأقول بانبهار: ما أجمل أرضنا وفيها الإنسان! صمتها صادق، وتواضعها ذلول، ولذا أراني مشدودة إليها بالتأمّل والحب.

أكّدتُ لها حقيقة بقولي:

- القسوة التي نراها في الحياة، ليست من قسوة الأرض، وليس الحرمان والفقر منها، القسوة والفقر والحرمان من الإنسان نفسه.

أطرقت برهة لتقول:

- حقاً ما تقولين.

امتد نظرها إلى المئذنة الباسقة، المطلة على البلدة والشاطئ.. بقيت صامتة، لم أرد أن أرهقها بأسئلتي، قلت: فلأدعها في تأملها، وصلتها بمن تحبّ. وأنا أغبطها بهذا الشعور الذي يصلها إلى الله من غير واسطة، سوى فطرتها التي فطرها عليها.

كان الهواء الساخن يسحب الرمل الناعم، فيسمع له هدير خافت، قالت بضيق:

- قرأت في مكان ما أن حرارة الشمس تزداد كل عام.

- علينا أن ننسى شأن الحر، لأن التذمر منه أكثر بكثير.

جلست سناء في حوش البيت، تستظل بأغصان شجرة النارنج، وقد زادها الضياء جمالاً، والخضرة بهاء.. ومدت المكان بالنداوة، وبدت ثمارها وكأنها ستسقط بين يدي سناء، كانت تأوي إليها العصافير المغردة، وتلم تحتها أفراد الأسرة، والزائرين.. وكانت رفيقتها في الفرح والحزن، وتثير في نفسها ذكريات بعيدة، فكلما هزّها الشوق جلست إليها، والنسمات الرقيقة تهفهف بينهما، فتشعرها بالراحة، والأمان، ويجنح بها الخيال إلى زمن الطفولة في حضن أمها، حين تحكي لها الحكايا.. ثم عقدت مع العصافير صداقة، تحمّلها الرسائل، فتجيبها بنغمات آسرة.. فتغمض عينيها على حلم كان، ومضى، وتخط بقلمها كلمات تذوب بالحنان.

هنا ضمّني صدر أمي، هنا تحت الشجرة.

هنا حكت لي حكايات غريبة عن الفجر.

في جذعها نقشت ذكرياتي وأبهى الصور.

في ظلّها سرى حلمي، ثم تدحرج واندثر.

وفيما هي تحلم، يمزّق السكون صوت زوجة أبيها:

- ماذا تفعلين يا بنت؟

بامتعاض همست:

- يا بنت، يا بنت، أوشك أن أنسى اسمي.

أجابتها:

- أسقي الشجرة مع تالاتها.

قهقهت بسخرية، وقالت:

- أراك عاشقة لها، وتتعزّلين بها.

- يقولون إن نباتات البيت تنمو، وتزدهر بالرعاية، ولمسات الحنان، كالإنسان، كما أنها توأمي، ولدنا في يوم واحد.

نظرت إليها باستخفاف وقالت:

- سخافة.. جنون..

تأثّرت "سناء" بكلماتها.. لوت رأسها بانكسار ثم غابت في زاويتها وبكت بصمت.

كان نور القمر يتسلّل من خلال النافذة، ويلامس عيني "سناء" برفق، يهدئ من روعها، ويزيل وحشتها.. وقع نظرها على (اقرأ) فتناولت كتاب الله تتلو من آياته، والخشوع يختلج في صدرها، ثم استسلمت إلى القدر في اطمئنان.

*   *   *

في صباح أحد الأيام، استيقظت على أصوات قرقعة في أرض الحوش غير معتادة، أسرعت لتعلم الأمر، فوجئت بعامل يحزّ جذع شجرة النارنج، بهتت من القسوة تتناول الشجرة، فما وجدت من سبب يدعو لذلك، فأغصانها تهوي فوق الأرض، وتذرف أوراقها، وتنكمش ظلالها.. لشدّ ما شقّ ذلك المنظر على نفسها.. رجت خالتها لتكفّ عن هذا العمل.. هوت على يديها تقبلهما، وتتوسل إليها باستعطاف كي تدعها.. دهش العامل، فأشفق على "سناء" ثم أخذ يجمع أدواته ليذهب، ولكن أم خالد أوهمته بجنون هذه البنت، وحثّته على المتابعة، أطاعها، وعيناه ترمقان سناء بعطف.

نظرت إلى شجرتها وأنين الحزّ يمتزج بأنينها، ومشاعرها تتفتّت مع تشتّت أوراقها، انكبّت على الفروع الهامدة تبكيها، وتلملم أجزاء من لحائها، جمعت فيها ذكريات في كلمات ونقوش، ثم غابت في زاويتها لتضمّها إلى أشيائها العزيزة.

كان الحدث ذا وقع مرير على نفسها، أشبه بالفاجعة، فكّرت فيه كثيراً، وأولته بمعان عدة، والتزمت ركنها، وتردّت صحّتها، ومكثت على هذا الحال أياماً عدة، عبّرت فيها عن مشاعرها المكتومة بكلمات باكية حزينة.

تفقّدتها النساء في المسجد، وسأل عنها الأولاد بقلق عند الشاطئ وفي أحد الأيام واجهتُ أخاها في الطريق، وسألته عنها، فأعلمني بمرضها، وانطوائها على نفسها، أردت أن أعرف السبب، فتلعثم في الجواب.. حدثتني نفسي بأمر مهم جرى لها.. آلمني صدّ أم خالد حين طرقت الباب، وبادرتني من ورائه بقولها: البنت نائمة.. قصصت على أبي ما حصل، صمت، وانطبعت على شفتيه ابتسامة عميقة المدلول، وبدا في عينيه ما يدلّ على التفكير.

كان قطع شجرة النارنج إحدى وسائل أم خالد في العقاب الصارم، ولغاية في نفسها، استطاعت أن تشغل "سناء" بهمومها عن الخروج من البيت، وتستحوذ على خيالها بالفواجع، وتعيد إليها الكآبة والإحساس بفقدان الأمان.

احتاجت "سناء" في هذا الموقف المؤلم إلى الكلمة المواسية، واللمسة الحانية، وجال في صدرها سؤال لا جواب له: هل تنتظر أمها الظرف الملائم حتى تأتيها؟ أو أنها تنتظرها وحدها؟

أيقنت بأن متاعب جديدة ستحل بها، ولن تسلم من لسان زوجة أبيها السليط.. فتلذّذها يقوم على الضحيّة، كما تزرع الورود فوق المدافن.

كانت "سناء" في عزلتها وتراً يبحث عن صنوه في أعماقها، ونجمة تائهة تفقد مدارها، ومسراها، ومن عمق الإحساس بالغربة تتسع وحشتها، وتضيق به دنياها، وتسافر بذكرياتها، وهيجان الحنين يدفعها، فتحمل الكلمات أساها:

حنيني لأمي عذاب وألم

وشوقي لأمي لهيب وحمم

أرى وحدتي بكل سقم

ترى ماذا بعد الانتظار؟

فهل مرارة ثم انهيار؟

أم فرحة في لقاء يعمّ؟

إلهي منك هبني العزم

بأمل قالت:

- لولا الانتظار، لاستحالت حياتي إلى فراغ قاتل.

في صباح اليوم التالي، والصيف يتنفّس بنسمات رطبة، كانت مجموعة من النساء يطرقن باب أم خالد، رفعت إحداهنّ صوتها، تقول:

- رجاء، افتحي الباب.

عندما رأتهنّ من تفاريجه، ارتدت رداء الخزي، وبتثاقل فتحته، وعلى وجهها مسحة من الخوف، أدركته النساء، وإن لم تره عيونهنّ.

- جئنا لزيارة "سناء" ألا تدعيننا إلى الدخول؟

وبدهشة سألتها:

- ماذا حلّ بشجرة النارنج، كانت تزيّن صحن الدار، وتمدّ فروعها فوق السور؟

- قطعتها.

- شيء مؤسف، فالشجرة لم تزل يانعة، فيها جمال، ولها ظلال.

قالت ليلى بحزن، وهي تفرك عينيها الدامعتين:

- لم يعد لي أرجوحة.. قطعتها أمي لتغضب أختي سناء.

صفعتها أمها، ودفعتها إلى الغرفة.

سألتها بتعجب:

- أتحرمين أفراد الأسرة من البهجة، من أجل ذنب ارتكبته "سناء"؟

- هذا بيتي، أعمل فيه ما أشاء.

- نعلم أنك تملكينه، ولكن ألم تسمعي قول الله تعالى: (.. يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء..).

- أين "سناء"؟

- في الغرفة، لا تخرج إلا نادراً.

- لقد جئنا للتحدّث معك بشأنها.

اضطربت أم خالد، وكأنما أمر فظيع قد حدث فجأة، فأيقظها من النوم، ثم بحدّة قالت:

- ما الأمر؟

كنتُ قد تسللتُ من بين النساء، بحذر شديد إلى ركن سناء، قلت بأسف:

- حاولتُ المجيء، لكن زوجة أبيك منعتني من الدخول، ماذا بك؟ مظهرك حزين، وأراك مكتئبة، فما السبب؟

تماسكت قليلاً، وهي تحتفظ بدموعها، كما تحتفظ بآلامها، ثم قالت:

- إنني بحاجة إلى من يعينني، أنا بنت، لا أستطيع أن أفعل كما يفعل الشاب، إن يغضب يخرج من البيت، ولا يسأل إلى أين؟ ولا ندري عنه شيئاً، وغالباً يرفض مواجهة المشكلة.. انخرطت في البكاء، سمعت ضربات قلبها، أشفقت عليها، وهدّأتها قائلة:

- لا تحزني، الألم يحول الإنسان الحزين، إلى إنسان جديد.

همست بخوف:

- تيار الحياة يجرفني، ولا أدري إلى أين، ويدع التجارب القاسية تسقط فوقي.

- نحن لا نختار التجارب، لكن التجارب هي التي تختارنا، نحن لا نسعى إليها، هي التي تسعى إلينا.

تأوهت، وهي تقول:

- لقد علمتني الحياة الكثير.. لا تظني أني ساخطة على  حياتي، ولكن في داخلي خوف.

- ممّ؟

- الزمن يفرّق، فهل يفرّق بيني وبين إخوتي؟

- "سناء" لا تدعي الوحشة تفرض الانطواء على ذاتك، وتطغى على تفكيرك، فتقضي معظم عمرك فيها. ماذا تفعلين في عزلتك هذه؟

- أقرأ.. أكتب بعض الخواطر.. اصغي إلى بعض ما كتبت.

- هذا شيء رائع، وممتع.. ولكن أراك تزدادين شحوباً، وجسدك يوحي بالجوع.

- أكاد أسقط من الإعياء.

أدركت أن ضعفها ناشئ من سوء التغذية، والقلق.

قالت والدمع في عينيها:

- الشعور بالاضطراب يعاودني، حتى أصبحت أحرق بعض الأشياء، وأسكب الماء على الأرض ويدي ترتجف، بدون وعي مني.. لقد فقدت الأمان ثانية.

- أبسبب قطع شجرتك الحبيبة؟

- أجل.. كانت عزائي في البيت، ومأوى ذكرياتي.. فلا عصافير الآن تأوي إلينا، ولا تغريد يؤنسنا.

- إذاً أنت منزعجة جداً لما حصل.

- أجل..

قلت أهدئها:

- قد تتلبّد السماء بالغيوم، وقد تشرق الشمس، هكذا ظروف الحياة، فلا تحزني.

- هل تمهّد خالتي لإبعادي بعملها هذا؟

- لا تهتمي، ما بعد الضيق إلا الفرج.

في صحن الدار كانت النساء تصغين إلى ما تقوله زوجة الشيخ عبد الله، وهي تطرق بوعظها قلب أم خالد، عسى أن يلين، وبتصميم قالت:

- إننا صديقات لسناء، ونحن نحبّها، هي واحدة منا.. إنها أمانة في عنقك، وأنت مسئولة عنها، اسألي نفسك، هل حفظت الأمانة، وتحمّلت المسئولية، ونصحتها؟.. أريد أن أذكرك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من راع يسترعيه الله رعيّة يموت وهو غاشّ لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة) إنه وعيد شديد يا أم خالد.

قالت:

- أعاملها كأولادي.

- لا، ليس كما تقولين، إنك تفرّقين بينها وبين إخوتها في كل شيء، هي مجرد خادمة عندك، تحطمين مشاعرها بكثرة تعييرك لها بالقباحة، وتتهمينها بالجنون، وتعاملينها بقسوة، وتدمّرين سمعتها، أيسرّك ضياعها ودمارها؟.. ثم إنك ترتابين بسلوكها.

ثم أردفت فقالت:

- كلنا نشهد بعفتها، واستقامتها.. كوني منصفة يا أم خالد واتّقي الله.

- إنها تخطئ معي دائماً.

- فتعاقبينها بالضرب، والحرمان والتعيير والتحطيم؟.. لماذا العناد والإصرار بالإعراض عن قبول الحق؟.. ماذا تنتظرين؟ أما تخشين عقاب الله وبطشه؟ أذكرك بقول الله تعالى: (إن بطش ربك لشديد) وفي الآخرة حساب وجزاء: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى)؟.. نرجوك لا تكوني متحجّرة.

كان إخوة "سناء" في الليوان، يسمعون الحوار، ويتضايقون من أجوبة أمهم.. ثم سألت إحدى النساء عن "سناء" فأسرع أحدهم بفرح يدعوها إليهنّ.

- أرجوك، لا أريد أن أرى أحداً.

- أختي، لا تمانعي.

كانت فرصة سنحت كي أجذبها من زاويتها، وعندما رأينها، بهتن من نحول جسدها، وشحوب وجهها، وقلن باستنكار:

- المرض، والخوف باديان عليها.

أقبلن عليها بودّ وشوق، ولملمن ما تبعثر من شعرها، وقدّمن إليها الهدايا وهنّ يقلن بحنان:

- لقد قلقنا عليك يا سناء قلقنا كثيراً.

بصوت متهدج، والدمع في عينيها قالت:

- وأنا اشتقتُ إليكنّ.

- لماذا تبكين؟

- حنانكنّ هو الذي يبكيني.

التفتن إلى زوجة أبيها، وسألنها:

- ما هي مشكلتك مع سناء؟

- إنها عنيدة، وتصرّ على ما تفعل.

بهمس قالت "سناء":

- إنها تصيبني في صميم قلبي، يلذّ لها أن تسخر مني، وتعبث بمشاعري، ولقد أصابتني بفاجعة كبيرة، حين قطعت الشجرة.

سكتت برهة ثم قالت:

- أعتذر إن أسأت إليها.

اقتربت من زوجة أبيها، وهوت على يدها، تقبلها وتقول:

- آسفة إن بدا مني ما يزعجك.. فقط كفّي عني كلامك اللاذع الذي يجرح مشاعري، ويدمّرني، ماذا عليّ فعله كي أرضيك؟

سألتها إحداهن:

- هل لديك ما تقولينه يا أم خالد؟

استولت عليها الحيرة، فما عساها أن تقول؟

همست إحداهن في سمع "سناء":

- لقد فعلت الصواب، ستكونين بخير.. انظري، الجميع يبكين.

- لماذا؟

- فرحاً برؤيتك.. سنزورك باستمرار، لنطمئن عليك.

وقبل الوداع قلن لها:

- يسرّنا رجوعك إلى حلقات الدروس في المسجد.

ثم التفتن إلى أم خالد، وقلن:

- نتمنّى أن تكوني معنا أيضاً.

قلتُ في سرّي:

- ما أكثر حسناتهنّ، وما أسمى أخلاقهنّ.

نظرت "سناء" إلى إخوتها، والحب يطوف على وجهها، فقالت:

- رغم كل الظروف، أحبكم يا إخوتي، وسأبقى أحبكم، وإلى الأبد.

أقبلوا إليها يضمّونها إليهم، فرحين، مستبشرين، والنساء يودعنها ويأملن تغيير الحال، وتصرّف أم خالد الإنساني معها.

نظرت إليّ، وهمست:

- نفسي ظمأى إلى رؤية البحر، ضجرت من الظلمة، وأنا أرتقب بزوغ الفجر.

- إلى اللقاء في المسجد، ثم التمشّي على الشاطئ.. لا تجعليني أنتظر.

*   *   *

في أصيل أحد الأيام، توجهت "سناء" نحو المسجد، والحنين يتأجج في صدرها، فلم تستطع كبح جماحه، وأصبح نقطة ضعفها، فكان عزاؤها في الاختلاط مع المؤمنات الصالحات، والإقبال على كتاب الله، وأصبح عقلها منقسماً بين السرور والأسف من المعاناة.

كنّا نهبط الدرج حين قالت بشوق:

- سنتجوّل قليلاً عند الشاطئ.. إنّ حبي أصيل لسحر البحر، يحثّني على التأمّل، والانطلاق بروحي.

- سأطرح عليك سؤالاً: هل ثمة تغييرات في معاملة زوجة أبيك؟

- إنها تتظاهر بأنها تغيّرت، ولكنها لم تتغيّر، لا أثق بنواياها، فهي حازمة جداً.. لقد مللتُ وهي تملي عليّ نوعاً معيناً من الحياة. إني أتحمّل الكثير، ما عساي أن أفعل حين يطفح الكيل؟

- عليك بالصبر والصلاة.. أقول لك بصراحة: إن الغيرة وحش قاتل، تقول النساء بأنك ورثت من أمك عينيها وذكاءها.

- هل ذلك جريمة أحاسب عليها؟

ضحكنا ونحن نتّجه نحو الشاطئ، ثم قلت بدهشة"

- انظري، هناك غروب مذهل.. ماذا تقولين فيه؟

- حقاً، يبدو ذلك رائعاً.

ثم استطردت قائلة:

- أنا والغروب محمّلان بالفقد واليتم، والأفق كعيني يبكي بمرارة.

كان المكان خالياً إلا من بعض الهررة، يلاحق بعضها بعضاً، تتلاعب حيناً، وتتقاتل على سمكة ألقاها الموج حيناً آخر.

قلت وأنا أعبّ من الهواء البليل:

- ما أجمل الحرية في الطبيعة!

قالت بحزن:

- في صوتي بحّة وأنا أنادي بحرّيتي، أعيش مسلوبة الأمان، والجرأة في الدفاع عن نفسي.. أرجو الله أن يعينني على استنفاذ ما سلب مني.

- بالصبر، والسماح تنالين ما تريدين، وتحققين أحلامك.

نظرت إلى الأفق البعيد ولمسته بعينيها، وعبّرت عما في نفسها، فقالت:

- من خلال وقوفي على الطبيعة، يتلاشى حزني وألمي، وتغيم العزلة، وتضمحّل مع أشيائها، وتحلّق روحي في الوجود، وأستيقن أن كل شيء زائل، إلا موجد الوجود.

ثم ابتسمت وهي تقول:

- إن حرية التفكير التي استشعرها هي الحرية الحقيقية.. لا أحد يستطيع أن يقفل في ذهني أبواب التفكير في كل شيء، ومعه ينمو وعيي، وأشعر أن ذاتي أضحت كياناً حيّاً في أجواء الطبيعة، وأتناسى تسلّط الإنسان كائناً من كان. تأمّلي وتعمّقي فيما يحيط بي من مشاهدها، يجعلني أهتدي إلى الحقيقة وأسرارها.

بانبهار قلت:

- صفاء نفسك، وفطرتك النقية التي فطرك الله عليها، تساعدانك على الهداية.

بدأ الظلام يخيم، قالت:

- أترين كيف تغيب الشمس وراء الأفق؟

- سبحان الله! هكذا الحياة، أنوار تسعى، ثم تتلاشى، وظلمة تقبل وفجر بعدها يترامى.

- الحياة مهما طالت فهي قصيرة.

لمحت شيئاً من الضيق في وجهها، بنبرة حزن قالت:

- أشعر بانزعاج عندما تقترب عودتي إلى البيت.

ثم نظرت إلى كوخ الصيادين المنزوي على كثيب رملي، وبلهفة قالت:

- أتمنى لو أملك مثله، لأعيش طليقة في الطبيعة.

- الحياة أشبه بطريق طويل لا تستطيعين عبوره وحدك، هذه عزلة عن الناس.

- لو كنت مكاني، وأنا كنت مكانك، ماذا تفعلين؟

- أكبح جماح خيالي وأتناسى، وأفكر بمستقبلي بشكل أفضل.. فحقيقة الدنيا ليست عزلة عن حياة الأرض، ولا إهمال عمارتها، ولا إهمال أنفسنا.

- أجل.

- هيا ابتسمي قبل أن نعود.

*   *   *

توقّفت "سناء" في الليوان، تراقب الأزهار، كان منها قد لوى عنقه، وذبل، ثم استدارت ببطء وأسى، وتوجّهت ببصرها صوب التالات الصغيرة، وجلست على الكرسي الخشبي بقربها، تردّدت قليلاً وهي تحدّث نفسها، متسائلة: هل سيصدر بحقي قرار في الرحيل من هنا؟.. اعترتها وحشة وكآبة، وشدّت ثوبها الملطخ بآثار التنظيف، وأحكمته بعناية حول خصرها، لتزاول ما بقي من أعباء البيت.

كان الجو هادئاً، وخيوط أنوار القمر تتسرّب من بين الغيوم الداكنة، أصابها الفزع من الظلام، وهي وحيدة معه، وفقدت قدرتها على الإحساس بأيّ شيء، فراحت تتحرك في الحوش بحذر، وهي تهمس: ليس في البيت جمال، وأنس، حين يخلو من إخوتي.

لم تدر لم كان يتردّد في داخلها إحساس بالحيرة بصمت، ويتوسل إليها في شفقة كي تضغط على هذا الشعور، الذي أصبح هاجساً لاذعاً، ثم عبرت الليوان بسرعة، متجهة إلى ركنها تحت النافذة، أغلقتها ببطء، ثم توقفت لحظة، أدركت من خلال إغلاقها أنما يعني إغلاق جزء من وجودها، فأوشكت على البكاء، كانت هذه المشاعر تنتابها، وتشعرها بالازدراء، حين تترك في البيت وحيدة، ويحثّها الهرب إلى أيّ مكان ترى فيه حقّها في الحرية.. تريد أن تبتعد عن المطبخ والغسيل والأشياء، وتمضي بعيداً عن كل شيء، وعن البيت الذي ضمّها، عن زوجة أبيها التي تسحق روحها.. ثم تذكرت إخوتها، وبابتسامة حنان، قالت: ولكنّني أحبهم، أحبهم كثيراً.

فكّرت في حياتها مع زوجة أبيها، الجميع يعرف أنها تعاملها بقسوة، ويتهامسون حول وضعها السيئ.. فكرت بأبيها، وبعدم ثقته بزوجته، عادت بذاكرتها إلى الوراء، وكيف كانت تخفي استياءها عنه، ثم ومض عطفه فجأة، وما لبث أن تلاشى بموته.

همست لنفسها: هل تشفي خالتي قلبها المتحجر، وغضبها المتراكم في ضربي وعقابي؟.. هل هذا يريحها وهي تهينني أمام إخوتي؟.. رحلة حياتي منذ طفولتي فيها العذاب والشقاء.. ولكني أرفض بشدّة أن يقهر الضرب إرادتي، وقرّرت أن أتفوق على كل آلامي، إذ لم يكن لي مكان آخر ألجأ إليه.

 كان نسيم الليل بارداً، تدفقت الدموع من عينيها، وانتابها إحساس بالقمع، وهي تدسّ وجهها بين أشياء أمها، جلست بجوارها، ثيابها وكتبها تذكرها بها، بدا كل شيء متعاطفاً معها.. حنان أمها يمتد عبر هذه الأشياء، تتصورها سعيدة وهي تراها قد غدت شابة شبيهة بها، غير أن الهاجس لا يفارقها أبداً، بأنها ستغادر هذا البيت بسبب أو بآخر.. وظلت تعيش في هذا الحلم أشبه بالوهم.

- آه يا زمان آه..

هل هذا مكاني الذي سأحيا وأموت فيه، أم سأطرد منه؟

هل أنا المخطئة دائماً؟

هل لابد أن أدفع الثمن، وأضحي بشبابي وعمري من أجل حرية أمي وأمنها؟

ثم شعرت بالضيق الشديد، وأصبحت الدموع المتدفقة من عينيها أكثر غزارة.

- آه يا روح أمي، تعالي، عانقيني، إنك تقطنين في لبنان، ولكنك لا تزالين هنا في البلدة، في كل مكان، وعلى كل شفة.. لماذا لا تأتين وتخلصينني من ذلك الشقاء؟

هكذا كانت تتوسل وتبتهل إلى روح أمها، وهي متيقنة أن الأرواح جنود مجنّدة، والروح تلتقي بالروح دون الأجساد.

نهضت وفتحت النافذة، وألقت بعينيها إلى صفحة السماء، هبّت ريح قوية، وتلاشت النجمة الوحيدة في السماء.. استولت عليها الوحشة، والكآبة وسط غموض الأشياء في ركنها.. تخيّل لها أنها تسمع صوت أمها، يأتي من بعيد حزيناً، شجياً، شعرت بشيء ما يلمسها، قفزت من مكانها، وقد تملكها خوف شديد وجسمها يرتعش، وما هي إلا لحظة يسيرة حتى أدركت أنها تمسك بثوب أمها، وقد تدثرت به.. توهجت عيناها، وتلألأت، وضحكت من نفسها، أيقنت على الفور أنها مع خيال أمها، وروحها.. ثم تلاشى كل شيء. قالت في نفسها: لقد وقعت تحت تأثير الحلم والوهم.. سأحاول ألا أهتمّ بغطرسة زوجة أبي، وإهمالها لي.. لماذا ينبغي أن أهتم إذا كانت أمي لم تهتم بي.. ينبغي أن أقاوم، حتى أحقق أحلامي، وطموحاتي.

كانت "سناء" تطمح إلى فرصة تبدأ معها حياتها الجديدة الملأى بالعطاء، ولا تتسم بالأخذ فقط.. رقدت فوق فراشها دون أن يفارقها إحساسها بالبؤس والشقاء.. ومن خلال النافذة كانت تسمع عويل الريح، مع استمرار هبوبها، ثم ما لبث أن بدأ المطر يتساقط، ويطرق بحباته زجاج النافذة، وفي السماء أبصرت غيمة كثيفة، ضخمة، يتخلل البرق من خلالها، ويملأ الغرفة ضوءاً.. تلاشى كل شيء من ذاكرتها، وذلك العبء المتراكم الذي تحمله في قلبها، ونام القلق داخلها.. فالكون في معركة من أجل البقاء، وصراع بين الموت والحياة.. وشعرت بروحها تحلّق في ظلال الإيمان، ستجد عنده الحماية والسلام، وتردّد في صدرها: لم الجري واللهاث، ولأترك الأمر لله سبحانه.

ظلّت الأمطار تتساقط بعنف، ويسمع خرير المياه في الخارج، كانت تستمتع بهذا الإيقاع الرتيب.. ثم لم تعد تسمع أصواتاً أخرى، فقد انتابها استرخاء وهي تضمّ ثوب أمها إلى صدرها، بعث فيها لمسات رقيقة حانية، تسلّلت إلى كل جسدها.. استيقظت من غفوة ساحرة، وتساءلت: هل كنت أحلم؟ يا له من حلم لذيذ!

كان المكان يغرق بالظلام شيئاً فشيئاً، نظرت إلى السماء وقالت بتعجب: سبحان الله! كم تختزن هذه الغيمة من أمطار!

استولى عليها شعور بالرضى، مفعم بالأمل، وآخر بأنها الآن إنسانة جديدة تغيّرت، ثم استغرقت في النوم من جديد.

لم تستيقظ إلا على خيوط الشمس الصفراء الوافدة من الشرق، تتسلل عبر النافذة، تتلألأ منها غرفتها، وحين لامست وجهها وجسدها، شعرت بالدم الدافئ يذوب في عروقها، وبسعادة غامرة وبروحها تحلّق، وترقص بنشوة.

نهضت من فراشها، واستندت بجسدها إلى الجدار، وعيناها تتجولان في الفضاء، دون أن ترى أثراً لغيمة أمس.. ومن وراء الأفق كانت تبصر شيئاً غامضاً، إنه الحلم والأمل في المستقبل البعيد.

أبصرت البلدة مفعمة بالحياة، وهي في وسطها واقفة بين الناس الذين طالما أحبتهم دون أن تختلط بهم، بدت بينهم قوية متحابّة، متماسكة، فهمست بنفسها: ذلك هو مكاني، يجب أن نتوحّد جميعاً بعد رحيل المستعمر، لنخلق حياة جديدة.. ابتسمت وهي تقول: وسأكون نحلة عاملة في خلية النحل.

تنبّهت من حلمها، وحسّ يدعوها إلى الصلاة والدعاء، ثم ما لبثت أن عاودها الشعور بالوحدة، حين أحسّت بالفراغ الهائل في البيت، قبعت خلف الباب المغلق منكمشة على نفسها، وكأنها تنتظر عودة إخوتها، وامتصّتها الوحدة، والجدران. تساءلت: لم تقيدني زوجة أبي بالوحدة والعزلة؟.. القيد ذلّ وضعف، ولكنّ المقيّد يبقى شامخاً، والقيد يعيق عن الحركة، ولكنه يحمل مفاتيح المستقبل.. إنها تسجنني وتوصد من دوني أبواب مستقبلي، بطغيانها وقمعها وإرهابها.. مواقف كثيرة أستنكرها منها، وأنا في موقف الموافق الرافض معاً، وروحي في حالة هيجان، أو صراخ.

كانت التجارب تنسج طبعها، وأحاسيسها وتملي عليها تصرفاتها، علّمتها أشياء كثيرة، وجدت نفسها في هذا البيت وهي مجردة من الوسيلة والحماية، فغرست الحياة فيها حبّ العكوف والتأمّل في أعماقها، استدعاها لتحقيق ذاتها، فالإنسان له رسالة على الأرض، مهما كانت بسيطة.

همّتها وإرادتها جعلتاها قادرة على كسب التعلّم ذاتياً، من الكتب والمجلات وما أزودها به من مكتبة والدي، وبإشرافه فالعلم أصبح سلاحاً في يد القويّ، يرهب به الضعيف، وفي المسجد كانت تغمرها مشاعر فيّاضة، فالعيون لا تلتقي كل واحدة تطالع نظراتها عالماً باطنياً مستقلاً، وهي تتدبّر معاني آيات القرآن، حتى غدت "سناء" شغوفة بدينها، وروحها في تماسّ شديد به، وتيقنت أن الخلاص يمكن عنده، ويخرجها من الإعاقة النفسية، إلى رحابة الوعي، وطمأنينة النفس، تحسّ بالخشوع يدغدغ صدرها، ويسمو بها، وهي تتلو آيات الله.

أتيتُ إليها بعد أن هدأت الطبيعة من صخبها، عبّرت لي عن إيمانها، وإحساسها به، قلت لها:

- إنّ الإيمان لا يمكن شمّه، ولمسه، ورؤيته، إنه ينبع من القلب، وتتجاوب له الجوارح، ويقوي الصلة بالخالق، ويفعل في النفس العجائب، يملأ القلب سكينة ورضى وهدوءاً وقناعة، ويغيّر النفس نحو الأفضل.

سكتت برهة ثم قالت:

- أجل، هذا ما أحسّ به، الإيمان يشعرني بالراحة النفسية، ويحثّني على التغيير، ويجعلني أشدّ صموداً.

- الإيمان كنف المؤمن.. تمتعي بالجرأة للتعبير عمّا بنفسك.

نظرت إلى ركام الأشياء في الغرفة، تأمّلتها، ثم قالت:

- إنّ الأشياء تملكنا، نجعل لها حدوداً في الزمان، وحدوداً في المكان، نحن لا نستطيع أن ندركها بغير حدود تميزها، هذه حياتنا الدنيا، لذا أهرب منها إلى الطبيعة، أتأمّل ما وراءها بروحي، ومن ثم أنتشي بنفحات إيمانية عميقة، أضمّ يدي إلى صدري، أخشى على شعوري هذا من الانفلات، وأغمض عيني، وأذوب في إحساسي هذا الذي منحني إيّاه الخالق في لحظات كرماً منه، إنه يسكب في نفسي السكون، والطمأنينة، فلا أبالي بما يمرّ بي من أحداث مقدّرة عليّ.

- هذا هو الصواب، أن لا تستسلمي للضعف، بسبب جزع أو تحسّر.

- سأجهد نفسي في مواجهة التحديات، بنفس فسيحة، وأعصاب رزينة، فالتأمل علّمني أشياء كثيرة، بأن أتعامل مع الأحداث كأنها غيمة عارضة، ستزول مهما مكثت، وأمضي مع القدر في رضى، وطواعية، وأتوجّه في كل أموري مهما كان فيها من ألم إلى الله وحده.

- وبالرغم من الفقر، والمعاناة اجعلي نفسك تستعلي على الواقع، بكل تناقضاته، فكل شيء للزوال والفناء.. فلم تتعلق نفوسنا بالأشياء الزائلة؟

هزّت برأسها وهي تقول:

- أتمثّل تجارب الناس فيما أقرأ، فتهون عليّ تجاربي، بالرغم من أنّ قصّتي مع زوجة أبي تستدعي الرثاء.. إني أراقب نفسي في كل تجربة، وأنصت بصدق إلى إيقاع قلبي، وأقوّم ما اكتسبته في حياتي، وما اكتسبت فيما تعلّمته من دروس المسجد.

بانبهار قلتُ وهي تفضي بهمومها، وتبوح بمكنونات نفسها:

- إنك تحققين كنزك الروحيّ بالإيمان، وهذا أهم دعامة لتحقيق ذاتك، أما كنزل الآخر الذي يراودك حدّ الأرق في أحلامك، فستحصلين عليه بالصبر والجلد.. إن أشدّ ساعات اليوم ظلمة، هي التي تسبق طلوع الشمس.. عليك أن تعملي كل ما بوسعك.. لأن تعيشي لتثبتي وجودك، خير من أن تعيشي خاملة، أو دون دراية في أحقيّة ذاتك في الحياة.. كوني شجاعة لتحققي حلمك، تيقني أن أهل الحيّ كلهم سيقفون بجانبك.. ولا يمكن لقلب أن يتعذّب عندما يتبع أحلامه، لأن الخوف من العذاب، أسوأ من العذاب نفسه، حلمك هو كنزك المدفون، الذي يراودك باستمرار.

- رحلة العذاب، والشقاء معي قديمة منذ الطفولة، كانت زوجة أبي تضربني بشدة، متذرعة بأتفه الأسباب، ولم أكن أصرخ، أو أتوسّل أو أطلب الرحمة، كنت أرفض بشدّة أن يقهر الضرب إرادتي، وقررت أن أتفوّق على آلامي.. إذ لم يكن لي مكان آخر ألجأ إليه.

تنهدت بعمق، وهي تقول:

- ومن حين إلى آخر يعادوني الحدس بوجود أمي، ثم يوحي إليّ الإلهام أن وقت مجيئها قد حان، فأترقب عودتها، وأواسي نفسي، فأقول: لا أشك في ذلك.. ستأتي، وأنتشل كلماتها من عمق طفولتي، وأتلذذ في التطلع إليها، فأحرص على اعتناق الحلم، والاستبسال من أجله، انطلاقاً من البحث عن ذاتي.

- لا تفكّري كثيراً فيما لا تطيقين.

- لا أستطيع، إن سياط التذكر تلهبني، فأحثّ نفسي على الصبر الجميل.

توقّفت قليلاً عن الكلام، ثم قالت:

- آه.. هل ينفع الاصطبار، والنهار يتلو النهار، وروحي تعاني من الانتظار؟ هل الحياة أمّ، والأم الحياة؟.. هل في غيابها دفني في الحياة؟

كانت "سناء" تتزوّد من ماضي طفولتها، مواقف صغيرة، وحكايا، تجد فيها معنى الحياة.. قالت لي:

- لِمَ تسحب الظلمة مني الأمل؟

قلت:

- ألف، ألف أمل سيشرق، ومع كل أمل يزرع نهار، الحياة ليست شحيحة، تمدّنا باللحظات السعيدة.

أحسست بأنفاسها تلهث، وهي تبكي وتقول:

- لقد حذّرتني من الخروج، وأجبرتني على المكوث في البيت، حرمتني من السعادة التي تتقلّب في ظلالها النساء الصالحات في دروس المسجد.

- حقاً، إنها إنسانة لئيمة، لا تحافظ على العهد الذي عاهدت به نساء المسجد.

- إنها تفتّق جراحاتي، ما أبرأ من حزن، وأسى، إلا لتثير في نفسي مأساة جديدة.

- لا بأس.. وحدتك فرصة، كي تختلي فيها بنفسك للقراءة، وكتابة خواطرك، يقولون: إن خير الأوقات لذلك، عند هدوء البال، وراحة النفس، وفي هدأة الليل، وبعد يقظة الفجر.. لقد أحضرت لك بعض الكتب من مكتبة البيت، اقرئيها، وأعطني رأيك بها.

غمرت الشمس الفضاء بأنوارها، وانصبّ ضوؤها الدافئ على رأسينا، ونحن نجلس قرب التالات الصغيرة، فوق المقعد الخشبي مستغرقين في القراءة، حين سمعنا غمغمة، تشبه النغم الصادر من مكان بعيد، رفعت "سناء" كفّها إلى جبينها، وأمرتها عليها إمراراً خفيفاً.. أخذ الضجيج يذوب في سمعنا، وهو يقترب، كانت ضجة إخوتها تنبثق بالفرح، بعد أن أمضوا أياماً في الضاحية، وعادت الابتسامة إلى وجه "سناء".. أقبلوا يلتفّون حولها، ويحدّثونها برحلتهم الممتعة بطيبة وبراءة.. تسلّلتُ من الحوش، أما "سناء" فسبحت في غمرة من التفكير، ذاهلة عمّن حولها، لا تكاد تبصر، ولا تسمع، وفي نفسها شكوى، وقررت ألا تعاتب زوجة أبيها، أو تشكو إليها، بل ستسامحها، إذ تذكّرت قولي:

- إذا شئت أن تعيشي بلا صخب يضجّ بسمعك، فاجعلي حياتك همساً خفيضاً، واصبري على كل تجنٍّ، واشربي مرارة الأذى، واعتادي عليه، ولكن نمّي الأمل في نفسك، لتحقيق ما تتمنّينه، واصبري على كل ما ترميه بك زوجة أبيك من سوء ظن يؤلمك.

قالت في نفسها:

- أجل.. لقد تمرّست بالتحدّيات، وهي مريرة، وروحي تصلى بها، أدفع ثمنها الغالي من قلبي، الذي يتدفّق بالصبر والإيمان.

نظرت إلى خالتها باستياء، سألتها:

- لم تلك النظرة؟.. أرى فيها خبلاً أو جنوناً.

- أنت مخطئة، ليس بي كما تزعمين.. فقط كنت أفكر، لا آبه بكلامك.

توقّفت "سناء" عن الجدل، تعلم أنه لا يثمر معها.. ألقت نظرها إلى إخوتها، يفعلون ما يريدون، لعب ومرح، حاولت أن تقول شيئاً، ولكنّ صوتها اختفى في الضجيج الذي تكسّرت معه الحروف والكلمات، تاركاً معانيها تتلجلج في نفسها.

كانت الشمس تميل نحو الغروب، والليل يزحف ببطء، فتحت "سناء" نافذتها. الأجواء في شهر شباط متقلّبة.. كانت الريح تشهق كشهقات صدرها، وهي تجري في الفضاء، وليس لها مستقر، عويلها بكاء صارخ، وعويل "سناء" بكاء صامت، كلاهما يعاني القهر والتمزق، ويرغب في الانطلاق.. أين المفرّ؟.. الريح تجري في الأجواء طليقة، و"سناء" ملصقة بالتراب، تتساءل في حيرة: متى الانفكاك من الشقاء؟.. يا ريح هل أنا وأنت مسافران إلى من هجرونا؟.. كلانا يعيش في ضياع، لا نعرف المفرّ، نبحث عن السلوى والمحبة.

في أكثر الليالي، كان لدى "سناء" الوقت لتفكّر، وفي هذا يكمن عذابها، خلصت إلى أنّ سرّ كآبتها نتج عن عدم كونها متفائلة، بما يكفي، ورأت أنّ عليها أن تخلق من داخلها كياناً نازعاً للتفاؤل والمرح.

في عمق إحدى الليالي، صحت على زئير غضب من حنجرة زوجة أبيها، انتصبت في فراشها، وبيد مرتجفة أضاءت المصباح المعلّق على الجدار، شاهدتها وهي واقفة أمامها، وفي عينيها تبرق نظرة جنون مخيفة، بادرتها بقولها:

- ماذا بك يا خالتي؟ ما الأمر؟

- ماذا فعلت بأحمد ولدي؟ ماذا أطعمته؟ إنه في حرارة مرتفعة.

- لا شيء، لا شيء أبداً، تعلمين أنني لا أطعم أحداً من إخوتي، أنت وحدك المسئولة.. لم ترتابين فيّ؟.. اسأليه.

تسمّرت "سناء" في مكانها، وأدارت الكلمات اللاذعة، الغاضبة، المتشجنة في نفسها، وتساءلت:

- هل هي مجرّد كلمات جوفاء، أم أنّ وراءها غاية ستدركها فيما بعد؟

توقفت عن الجدل، وهمست:

- كيف يمكنني أن أناطح صخرة عاتية، دون أن يوهن قرني صخرة من بركان يتفجّر، ذات صوت صخّاب متأجج؟

ثم تساءلت في حيرة:

- لماذا تخطر أمي بخيالها في مثل ذلك الموقف؟.. لقد تجاوزت غيبتها الآماد البعيدة، هل نامت عني، وتركتني أسهر الليل، وأتعذّب؟ أم تركتني أسير في جنازة حياتي وحدي؟.. ما كان عهدي بالطفولة معها إلا أشبه بالمنام.

وبيأس قالت:

- أنا كراهبة في محراب عزلتي.. لماذا أبكي كثيراً؟ هل جئت إلى الوجود باكية؟

لست أدري.. لا أزال لست أدري.

في أحد أيام الخريف، وقد أشرقت أنوار الصباح من بين الغيوم، ودبّت الحياة، والحركة في كل مكان، وقفت "سناء" قرب نافذتها، تنظر إلى الأعشاب والأشواك في الخربة المهجورة، وإلى شجرة مهملة، يلوح عليها اصفرار الموت، وتؤرجحها الريح، فتساقط أوراقها الهشّة، وتبعثرها هنا وهنالك.. في رنة حزن، قالت: هكذا أيامي في هذا البيت، الزمن يسقطها يوماً تلو اليوم، ويجرّدني من الوسيلة.. تساءلت بخوف: هل أعيش خريف عمري، ولم أزل في سن الشباب؟.. هلعت من حديث نفسها فقالت: لا، فالآمال لا تلبث أن تبزغ كالبراعم في نفسي.

في كل ليلة كانت تستيقظ، تضيء المصباح، وتقرأ صفحة الوجود في السماء، ثم تطفئه، وتنام على أمل جديد، يتردّد في داخلها، قد تجد صعوبة في أن تغفو ثانية، حتى إذا نهض الصباح، نهضت معه، وردّت على نداء زوجة أبيها بتحفّظ، وبدأت بتنفيذ طلباتها.. كانت ترى حياتها تستغرق على هذا المنوال، فيتسرّب الملل إليها، وقد يعتريها اليأس، فتضغط عليه وتسحقه في أعماقها، فالإيمان يذهب من نفسها أشياء كثيرة، ويحثّها على الصبر.. تنهّدت بعمق، وهي تقول: ما أروع الإيمان! يعد كل المؤمنين بالخير، فلأنتظر هذا الخير.

كانت ضجّة إخوتها، وتزاحم أقدامهم، تأتيها من كل مكان في البيت، وعليها أن تعينهم قبل الانطلاق إلى مدارسهم.. ثم يعقب خروجهم صمت نديّ، وهدوء لذيذ، فتهرع إلى لملمة ما تبعثر من أشيائهم، وقطتها تجري وراءها، وتهر، فهي بحاجة إلى الاهتمام بطعامها، وشرابها، وإن نسيتها اقتربت منها تتمسح بساقها، وتقوّس ظهرها، فالألفة قد عقدت بينهما.

كانت الأيام تمضي بسناء ثقيلة، تفتقد الراحة أحياناً، فتنشدها بمغادرة المنزل إلى الحديقة والمكوث فيها ساعة، تجلس صامتة على المقعد الخشبي تحت شجرة الصفصاف، وربما صادفت امرأة حطّمتها الوحدة مثلها، فتثرثران لبعض الوقت، ثم تعود كل منهما من حيث أتت.

التقيت بسناء وأنا في الطريق إلى عمتي، وجدتها تجلس ذاهلة، لم تجد محاولتي في استعادتها من شرودها إلا بجهد، قلت لها:

- أراك شبه نائمة، من الأفضل أن تعودي إلى البيت لترتاحي.

بفتور قالت:

- لقد أرقت الليلة كثيراً، وتملكتني الوحشة، والضعف والشعور بالغربة، ولذت بغرفتي، ونظراتي تجول بين الأشياء، والكتب وعلى الجدران.. شعرت بالفراغ الكبير.

بادرتها بقولي:

- املئيه بالقراءة.

- حاولت، فلم أستطع، وفي الصباح كعادة خالتي، تلقي إليّ بالأوامر، قبل أن تخرج إلى الجيران لشرب القهوة، وتتركني فريسة للوحدة، فإذا عادت ولم تجدني، انهالت عليّ باللعنات، والشتائم بعد رجوعي.

صمتت برهة، ثم بيأس قالت:

- صدّقيني مللت من الحياة.

ضحكت وأنا أقول:

- وقطتك، أليفتك، العبي معها، حدّثيها. الحيوان أحياناً يكون أكثر ألفة من الإنسان.. على فكرة خروفي في البيت ينسيني همومي.

- هذا ما يحصل، فقطتي تؤنسني.

ثم بضيق قالت:

- إن زوجة أبي تحاول طردها من البيت، تركلها بالقبقاب الخشبيّ، وتفتح الباب لتجبرها على الخروج، ولكن القطة سرعان ما تجري وتختفي بين الأصص.

- أمر خالتك غريب.

استطردت:

- أحياناً يبدو كل شيء في البيت باهتاً حين أكون وحيدة، وأحسّ باضطراب روحي، وتراودني رغبة في الصراخ.

- لا بأس، اصرخي كما تشائين، فالصراخ أحياناً فيه علاج من الضيق النفسي.

- هذا ما أفعله، إذ ألقي بصرختي من النافذة إلى الخربة المهجورة، فتذعر العصافير، وتفرّ... وأحياناً أخرج إلى الليوان، أنظر إلى ظلال الورود الساحرة، أحدثها تشرب الضوء الحاني على صحن الدار، فترتاح نفسي، وبخاصة حين أرى حزمات الضوء تتحاور مع المواءمة في الألوان.. وقد أخرج من الغرفة في الهزيع الأخير من الليل، أراقب تعانق الفجر مع الزهر في لحظات الوداع.

- والتالات كيف حالها؟

- تنمو بسرعة لتحتل مكان أمها شجرة التاريخ.

- رائع.

ثم استطردت، فقالت:

وقد أتمدد في فراشي، أحلق بذهول في جو الغرفة، ولا شيء يشدني إليها، حتى إذا ما سمعت أصوات إخوتي تنتشر في البيت، ووقع خطواتهم وهم يجرون في أرض الحوش، ابتسمت شفتاي، وانساب في أعماقي شعور لذيذ فيه حنين، فأنظر إلى الأشياء، والجدران التي بدأت تسري فيها الحياة والبهجة.

قلت:

- بعد العبوس ضحك، هيّا ابتسمي.

في الطريق، شاهدنا الكثير من النساء، تتكور أجسادهن بالملاحف الفضفاضة، وشعورهنّ مغطاة بها، لا يمكن للرجال رؤيتهن، إلاّ بانتهاز ما يظهر منهن بضآلة من الحرية، إذ أن الحجاب حماية لهن وقوة في المظهر، كما القوة في قلوبهن.

قلت:

- بعد رحيل المستعمر، الوضع تغير، أصبحت البنات مدمنات حقد على الحجاب، واعتبرنه نوعاً من الكتم، وأرجعنه إلى آبائهن، وأمهاتهن، وليس للشريعة، فالمستعمر كان قد لوح بالحرية للمرأة، لتثور على أحكام الدين، كما حصل في الغرب، وبدأنا نرى في مجتمعاتنا السافرات، المتبرجات، يمشين مائلات مميلات في الطرقات بلا حياء، غير متورعات عن كشف مفاتنهن، حتى أصبحت المرأة سلعة ملونة، تميل مع الأهواء حيث تميل.

- بأسف شديد، تطوّر المدنية، والحضارة، وتقليد الغرب، نراه يسري في مجتمعاتنا بسرعة هائلة، كسريان النار في الهشيم، ويأتي على كل شيء.

- من المسؤول عن هذه الظاهرة يا ترى؟

- التيار الفاسد، الآتي من الغرب، يجرف البشرية، والرغبة لدى الجيل الجديد في الانعتاق، والحرية المطلقة، ومن الدسائس الصهيونية للقضاء على الإسلام، وأمور كثيرة لا ندري بها.

- أكثر ما نراه عند أولاد الأغنياء المدللين، الذين يدرسون في المدارس التبشرية، كالراهبات، واللاييك، والكلية الأرثوذكسية فينصبغون بأخلاقهم، وتقاليدهم، ويسري التقليد من هؤلاء إلى الآخرين... حتى أصبحنا نسمع الكذب والتلفيق، والتزوير في الكلام، ونرى الذين يسجنون أنفسهم في قيم غريبة عن بيئتنا وديننا.

كنا نمشي بتمهل ونحن نتجاذب أطراف الحديث في أمور شتى حين ارتسمت على وجهها فجأة مشاعر بهجة، وهي تقول:

استولت الليلة عليّ لذة كبرى، وأنا أعلم بيوم مولدي 25 شباط فقد بلغت الثامنة والعشرين، ثم ضحكت، وقالت:

- لست أدري كم تساوي في نظر الآخرين... لاشيء طبعاً، وأفكر كم يوم من السعادة مررت خلالها، فلم أجد إلا القليل بعد رحيل أمي، فأنا أعيش بالأمل.

باستغراب، سألتها:

- كيف علمت بيوم مولدك؟

- من ورقة وجدتها بين أشياء أمي، رسمت فيها صورة لطفلة، وذيلتها باسمي، وتاريخ مولدي.

- وها أنا أبارك لك، وأقدم لك قصة "إصلاح" التي ظهرت حديثاً، أكيد ستعجبك، أليس هذا مبهجاً لك؟

كانت الشمس تتيه في السماء بجمالها، وبهائها، تحجبها غيوم الخريف تارة، وتنزاح عنها تارة أخرى، فينتشر الانشراح في نفوسنا ببهجة قلت لها:

- إن بلدنا أجمل بلد، نور، شمس، خضرة، ينابيع، بحر، وآثار.. كيف يتخلى عنها الكثير، ويهجرونها؟

- حقاً، إنها مدهشة، ولكن...

- ماذا؟

- البائسون فيها كثيرون، المرض يجعلهم يقفون بعيون بلهاء محملقين في الشمس، ثم يموتون.

- والفقر أيضاً، وتهاجمهم الملاريا، والسل أحياناً و..

بكيت حين تذكرت "إلهام" رفيقتي في المدرسة، التي قضت عليها الملاريا منذ يومين، وهي في حضن أمها، تنزف فوقها دموعها، وتتحسر على شبابها، إذ لا مال، ولا دواء.

عادت كل منا إلى البيت عن طريق الحي الأوحد، ومن حسن الحظ أن لم تكن زوجة أبيها قد رجعت من زيارتها.

وسوم: العدد 796