فصل من رواية جديدة (كلّ هذا)

محمد الهجابي

[email protected]

وزيرانِ

في حكومة عباس الفاسي متابعان قضائياً في ملفّ العمارة المنهارة؛ وزير السكنى والتعمير ووزير الداخليّة. الإشاعةُ أطلقت في دهاليز المحكمة، ثمّ ارتسّت في الناس خارجها، كما ترتسُّ النّار في الهشيم. أما الحقيقة فهي غير ذاك. الحقيقة كما يقول زهير، الذي حضر جلسة الصباح، هي أنّ لا أحد في أروقة المحكمة تحدثَ عن وجود متابعة قضائية حيال الوزيرين.

ناصر نفى، بدوره، أن يكون خبرُ المتابعة قد ورد بهذه الصيغة على لسان الأستاذ إيدير، محامي جمعية سكان العمارة. كلّ ما في الأمر أنّ المحامي طالب باستدعاء الوزيرين ليمْثُلا أمام المحكمة بوصفهما الجهتين الوصيّتين على مصالح إدارية، منضوية تحتهما، لها معرفة تقنية بمنطقة البناء، وتملك صلاحيات كبرى لفرض احترام تصميم التهيئة. وعوضَ أن تضع هذه المصالح وثائق أساسية لها صلة بالموضوع رهن إشارة القضاء عمدت إلى التكتّم على دور الوزيرين في ما حدث إبّان البحث التّمهيدي. الوثائق التي تمّ التستّر عليها تؤيّد عدمَ صلاحية الأرض التي أقيم عليها المشروع لأيّ بناء.

على أنّ البعض، ممّن حضر جلسةَ المحكمة، حوّر خطاب الأستاذ إيدير، عن سوء فهم في الغالب، ليجعل منه حقيقةً اعتقد الكثيرون في صحّتها، بينما إن هي إلاّ دعوة موجّهة من المحامي إلى القضاء؛ دعوة ما تزال تنتظر من يأخذها على محمل الجدّ، وألاّ يتعامل معها كما لو كانت بمثابة مزاودة.

بدا ناصر متحمساً، على غير عادته في الأيّام الأخيرة، وهو يدلي برأيه في ما تمّ تناقلُه من إشاعاتٍ بين أصدقائه وزملائه بالوكالة. هذه الحماسة شهد له بها جلاّسه بمقهى الأروقة بخاصة، كما اندهشت لها زوجته عائشة. في قرارة نفسه، يتمنّى ناصر لو يتابع الوزيران قضائياً، بل كلّ الوزراء، وإنّما الحكومة برمتها. ثمة قشرة صلدة وسميكة ما انفكت تكبس على بركان دواخله حتّى لا ينفجر حمماً. الرجل غاضبٌ (وقلّما يغضب ناصر). ومن السهل تبيان سورات الغضب التي تنزّ من وجهه. يفضحه تقطيبة جبينه، تعقد ما بين حاجبيه، تغير لكنته ونبرة صوته حينما يتحدث عن ملفّ العمارة. لا يعرفُ ناصر كيف يداري مشاعره. لا يعرف كيف يتحاذق أو يتذاكى. وإذن، من أين جاءته هذه الحماسة؟ هل من الأحكام التي صدرت في حق طارق المالغي ومن معه؟ هل من الخطاب النّاري الذي ألقاه المحامي الأستاذ إيدير بقاعة المحكمة؟ هل من استعادة أعضاء الجمعية لنشاطهم بعد فترة ركود؟ هل من إصرار بعض الصحف على مواصلة الكتابة عن الفساد في قطاع التعمير؟ فمَ الذي يا ترى حمّس ناصر؟

الذين يعرفون ناصر، حقّ المعرفة، يقرّرون أنّ الرجل ليس سوى حزمة عواطف (وهذا رأي الحسين بخاصة في الرّجل، كما سيأتي ذكره بعد قليلٍ). ما يحرّكه إيجاباً أو سلباً هو قلبه. القلب قبل العقل. لا يجيد ناصر فنون التملّق والمحاباة والمداهنة. يفشل حين يحاول. هذا الرجل هو محصّلة مشاعره بامتياز. رجلٌ بهذا الميسم كان يكفيه أن يقاعدَ الأستاذ عمر لكي يظهر قدراً من تحسّن، وكان يكفيه أيضاً أن يستمعَ إلى المحامي إيدير وهو يشيرُ بأصبع الاتهام إلى الوزيرين، ويلهبُ الحضور في قاعة المحكمة بخطبة إدانةٍ جهراء، كي يلتحقَ باجتماعات جمعية السكان من جديدٍ، ويؤكّدَ مواصلة الكفاح.

لم يحك ناصر عن القعدة التي جمعته بالأستاذ عمر للتوّ. ترك الأمر إلى ما بعد النطق بالأحكام الصادرة في حقّ المتهمين. ولا شيء يفيد بأنّه أجّل الحكي بقصد أوعن سبق نيّة.

٭٭٭

يحسبُ ناصر أنّ الأستاذ عمر أدرك غلطَته، إذ أتاه يدعوه إلى قعدةٍ بعيداً عن مقهى الأروقة، وقريباً من النهر. فلبّى الدعوة آملاً في أن يفهم الكثير من الأشياء، أقلّها ما جرى أثناء ندوة أوتيل جاكراندا.

كانت السماء زرقاء وصافية الأديم. ولا سحابة واحدة تخدش هذا الصفاء، غير شمس هذا الصيف التي توهّج بأشعتها البرّاقة والشاقولية حبات ماء النهر، وتلمّع نتوءات الأشياء بفسحة مقهى ريڤر كلوب. اختارا منضدة، تحت مظلّة جوار الدرابزين الحديد، وجلسا إليها. بإمكانهما من موقعهما تحت المظلّة أن يبصرا حيّزاً كبيراً من الماء الجاري في عالية النهر. كانت الساعة الحادية عشرة صباحاً. وهناك قلّة قليلة من الرواد تتوزّعهم المناضد بالفسحة. طلب ناصر قنينة مونادا باردة، وطلب الأستاذ عمر فنجان قهوة سادةٍ.

يصفُ ناصر تلك القعدة فيما وجهه يكتسي مسوحَ الغبطة. يمعنُ في وصف الماء الجاري نحو الميناء. ويقول لا شيء يساوي الجلوس إلى منضدةٍ تطمح إلى نهرٍ سائلٍ ومنعشٍ كما هو حالُ نهر سبو في ذلك السبت. 

ثمة في مطاوي كلام الأستاذ قدرٌ وفيرٌ من الالتباس. لم يكن ناصر يفهم كلّ ما يسردُ عمر من مواقف. يكتشف أنّ كلامه يخفي أكثر ممّا يُظهر. لم يكن يهتمّ مثلاً للكلام في السياسة بذاك القدر من التّفاصيل. ولا يفهم لمَ اختار الأستاذ الحديث في السياسة منطلقاً للقعدة؟ قد يكون ناصر اهتمّ بمستويات منها في وقتٍ ما، ولا سيما تلك التي تقاطعت مع ميولٍ لديه نحو الرّفض والمعارضة والاحتجاج. كان ذلك قبل عقدين ونيفٍ من الزّمن. الآن، لم يعد الحال كذلك. تبدّلت أمور عديدة. لربّما هو أيضاً التقادم وتغيّر الأوقات، ولعلّه النّضج. وقد يكون التقدّم في السنّ. يرجّح ناصر هذه العوامل مجتمعةً.

تلك الأوقات التي حكى عنها عمر، خلال سبعينات وثمانينات القرن الفائت، يتذكّر ناصر جيّداً الأجواء التي طبعتها. يتذكّرها كما لو أنّها جرت قبل أيّام فقط. خوف ورعب من جهة، وتحدٍّ وعناد من جهة ثانيّةٍ. لكن تلك الأوقات ألقينا بها وراءنا، يقرّر ناصر. يوافقه الأستاذ الرّأي برغم المرارة التي لازالت تلطعُ حرف لسانه فيما هو يستعيد لحظاتها العصيبة.

يذكرُ الأستاذ عمر اعتقال أخته أمينة بالقنيطرة، وعمّه الهادي بالدار البيضاء. يذكرُ عناصر البوليس السرّي وهي تلازم باب الدار بحي لابيطا. يذكرُ استدعاء رجال قسم الاستعلامات العامة لأفراد العائلة بمناسبة وبغير مناسبة. يذكر استفزازات مقدم الحومة وأعوان السلطة.

ناصر عايشَ أيضاً مناخات تلك الفترة العسيرة، هو شاهدٌ على تجاوزاتها التي عطّبت آلاف الأسر المغربية، بيد أنّه لا يفهم لم اختارها الأستاذ مفتتحاً لجلستهما تلك بمقهى ريڤر كلوب؟ يودّ ناصر لو يكلّمه الرجل عن تداعيات قضيّة العمارة وذيولها. هذا موضوعٌ جديرٌ، هو كذلك، بمنحه قسطاً مهماً من حديثهما. أليست أفعالٌ من قبيل إهدار حقوق الناس، والتسبّب في إزهاق أرواح البشر، وتشريد الأسر ووأد أحلامها، والحرمان من الحقّ في حياة كريمة، جرائمَ تستوجب العقاب؟ كيف يكون المواطن مواطناً إن لم يحمه الوطن، الذي من المفترض أن يكون وطناً للجميع، ويصون له حقوقه؟ كيف يكون الوطن جديراً بالاحترام إذا كان قانون البلاد ينتصر للأقوى ويحمي كمشة ضوارٍ ونصّابين ومنتفعين؟ يودّ ناصر لو يفهم عجزَ الأحزاب والنّقابات والمنظّمات الحقوقيّة، على كثرتها، عن جعل قضيّة عمارة المالغي عنوان نضال ضدّ الفساد. أليس هذا الانهيارُ من ذاك الانهيارِ؟

ظلّت هذه الأسئلةُ تفترس دخيلةَ ناصر دون أن يقوى على البوح بها في تلك القعدة الاستثنائية. لم يفض بشيءٍ من ذلك. لم يجرؤ. لم يستفسر عمّا حدث في جاكراندا حتّى. لم يفعل ناصر لأنّ الخجل أخرسَ لسانه. هذا هو ناصر، ولا يمكن أن يكونَ غير ذلك. يبقى يفكّر ويفكّر ويفكّر، وحينما يقرّر ويعزم يلفى نفسه متردّداً ومتراجعاً، ولا يستطيعُ أن يأتيَ الخطوةَ الفصل. يحتاج الرجلُ إلى تشجيعٍ. يحتاج إلى رائزٍ.

لم يبادر ناصر للكلام عن هذه المواضيع، ولا الأستاذ من جهته بادر إليها. ولمّا أثار الأستاذ عمر قضيّة العمارة، فقد أثارها لكي يخبر بقضية أخرى ذات علاقة. قال إنّ المنظّمة أبرمت عقداً مع مخرج سينمائي مغربي معروف لإنجاز شريط وثائقي، من ثلاث حلقاتٍ، عن الفساد الحاصل في البناء على امتداد خارطة البلاد. وثمة رغبة كبيرة في إشراك الضحايا. الشريط سيبثّ عبر قناتين تلفزيونيتين أو ثلاث قنوات (ربّما تكون هذه الأخيرة أجنبيّة). مكتب المنظمة يقترح مشاركة عضوين عن جمعية سكان العمارة المنهارة، إلى جانب عضوين عن أسر الضحايا من العمال. الفكرة ما انفكّت قيد التحضير، وتلزم بالكتمان إلى غاية الانتهاء من عمليّة الإنجاز.

٭٭٭

وناصر لم يلتزم بالكتمان. أطلع الحسين على الفكرة وترجّاه بالتكتّم عليها. رغب في أن يستمزجَه الرّأي، فأخبره. لا بدّ أن يأخذ برأيٍ فهيمٍ، خمّن. وبإمكانه الاطمئنان إلى رأي الحسين. فهذا صديقه. صديق حميم، ويستحقّ أن يمنحه كامل ثقته.

حينما فارق الحسين صديقَه ناصر في المساء، عند مفرق مقهى لابروفانس، بقي يدير شريط وقائع الحكاية، فلم يفلح في التّمييز بين جانبها التّبسيطي والسّاذج وجانبها الصّحيح والصّادق. والثابتُ لديه أنّ ناصر رجل غشيمٌ وسهل الانقياد، رغم كلّ ما عجم من تجارب. قال الحسين (لم يقل شيئاً من هذا لناصر. لم يقدِر. قال له بالأحرى: افعل ما أنت مقتنعٌ به. أمّا كلامه هو، فخاطب به نفسه، بينما هو يشيّع صديقه الذي اعتلى درّاجته الناريّة): لن يصدّق حكاية الشريط المزعوم سوى من يصدّق الأوهام. هل باستطاعة شريطٍ أن يغيّر في شيءٍ من هذا الواقع؟ الفسادُ ضارب أطنابه في المجتمع والدولة. اسألني أنا الذي أرى كيف يوضّب العقاريون والسماسرة طريقهم نحو المجالس البلدية والغرف الفلاحية والصناعية والتجارية والبرلمان وباقي مرافق الدولة. أنظر إلى لوائح المرشّحين إلى الهيئات المنتخبة، وانظر إلى تشكيلات قيادات الأحزاب والحكومات المتعاقبة، ألا تبصر أنّ غالبيتهم العظمى من ذوي المقاولات والعقار؟ اسأل أصحاب هذه الكاتكاتات، التي باتت تملأ الڤيلاّت والقصور، وتسابقُ الرّيح وتطارد سياراتنا الاقتصادية في الشوارع: من أين لكم بهذا؟ خذ مثلاً، متى سمعت أنّ المجلس الأعلى للحسابات أجرى مراقبة أو تحقّقاً أو كشف حساب لمؤسسة خاصة؟ البلاد، يا صديقي، شرقُها كما غربُها، جنوبُها كما شمالُها، أمست ملكَ هؤلاء. الحقُّ ما نطقت ذات مرّةٍ: إنّ سقوط عمارة المالغي من سقوط عمارة المجتمع. فهذا من ذاك.

والحسين لا يخفي اندهاشه من كيف يشفّ ناصر أحياناً عن ذكاء وحذق عجيبين، حتّى إنّ المرء ليجد صعوبةً حقيقيةً في الإيقاع به، ثمّ لا يعتمُ فيكشف عن سذاجة مريعةٍ، حتّى أنّ أبسط خدعةٍ يمكن أن تنطلي عليه وتكمش عليه في أحابيلها!؟

ساعتان اثنتان كاملتان، هو الزّمن الذي استغرقته القعدةُ التي جمعت ناصر بالأستاذ عمر في مقهى ريڤر كلوب، على مشارف النهر. ومنهما جاء الرجل يحمل بشارة واضحة على صفحة محياه. ساعة واحدة ودقائق، هو الزّمن الذي أمضاه الحسين مع ناصر في مقهى لابروفانس. ومنها خرج الحسين باستنتاج مؤدّاه أنّ ناصر نتاجُ مشاعره. قلبه يحجرُ على عقله. وعواطفه تغلبُه.

٭٭٭

زهير، هو من وقع عليه اختيار الجماعة لمرافقة ناصر إلى المقرّ المركزي للجمعية الوطنية لحقوق الإنسان. الخبر صحيحٌ إذن. خبرُ الشريط الوثائقي أيّده زهير، وأكّده انتقالهما إلى حي أكدال بالعاصمة. والرواية التي ساقها زهير عن سفرته مع ناصر إلى شارع فرنسا، حيث المقر المركزي للجمعية، رواية مثيرةٌ، على أكثر من صعيدٍ. فقد أبدى زهير إعجابه بالرجل. قال إنّه طيّب ونبيل. قال إنّه جرئ ومقدام. قال إنّ ما فعله، وهو وزان الكاميرا، لا يفعله سوى الرجال الشّجعان. قال ناصر إنّ المالغي ليس وحده المسؤول. قال إنّ الحكومة هي أيضاً مسؤولة. البرلمان مسؤول كذلك. والمنتخبون، هم بدورهم، مسؤولون. قال إنّ هؤلاء لا يتعامون فقط عن أعمال الغش والتدليس، وإنّما يرعون الفساد والمفسدين. يشجعونهم تارة بالصمت، وتاراتٍ بالدّعم. قال إنّه لا وجود لطبقات. الذي يوجد هم حاكمون ومحكومون. حاكمون مالغيقراطيون متجبّرون، ومحكومون خاضعون لم يفقهوا بعد نسغ قوّتهم وإرادة الجماعة فيهم.

أليس هذا الكلام مثيراً حقاً؟ من أين جاء به ناصر؟ أين سمعه؟ أين قرأه؟ كيف فكّر فيه؟ كيف وجد الشجاعة للصّدع به أمام الكاميرا؟ من أين اجترح كلمة «المالغيقراط»؟

القشرة السميكة والصلدة التي لبثت لوقتٍ طويلٍ تضغط على فوهة بركان دواخل ناصر، تناثرت دفعة واحدة، قدام الكاميرا، لتفسح الطريق لسيل جارف من الكلام. هذا لم يكن كلاماً. كان رأياً. هذا لم يكن رأياً مؤسساً على نظريّة. كان رأياً مستمداً من معاناة. الرجل قال الحقيقة، يقرّر زهير. قالها بما يمتلك من جرأة. دون خوف، أعلن رأيه. وهذا يحسب له. الذين شاركوه الإدلاء بشهاداتهم تحدثوا عن خصوصياتٍ. لكنّ ناصر قدّم جردة حال مجتمعٍ. تفرّد بكلام أصاب الصميمَ.

هل كان ناصر هيّأ سلفاً لخرجته تلك أمام الكاميرا؟ قال إنّه عندما راسهُ الأستاذ بالأمر، وقَبِل به هو، أمضى ساعات يرسم خطاطات كلام في ذهنه. بالحقيقة، لم يكن يتوقّع أن يجد نفسه في يوم ما إزاء كاميرا احتراف. كاميرا تلفزة أو كاميرا سينما. ومع ذلك، حضّر تدخلاً. المخرج أراد شهادة، بينما حضّر هو تدخلاً. كلام أقرب إلى تصريح. بل هو أشبه بتحليل. ليس بتحليل، وإنّما هو أشبه به.

في الواقع، الذي حضّر له ناصر يقع بين الشهادة والرأي. بيد أنّه، وهو في مواجهة العدسة المصوّبة نحوه كما يصوّب فم المدفع نحو الهدف، تبدّد بغتةً كلّ ما كان رسم بعناية من قولٍ. ارتبك في موضعه على الكرسي، وتعرّق جبينه، وفقد ناصية القول المنظّم. قال في خاطره، وهو يأخذ نفساً عميقاً، لا يمكن أن يترك الفرصة تفوته دون أن يفضي بكلام، حتّى لا يفرغ كلّ ما يزحم جعبته. ثمّ حدّق في عين الكاميرا لبرهة، وتجاهل مصابيح الضوء الغامر، فاندلق الكلام على لسانه مثل سيلٍ كاسحٍ.

البعض ممّن عاين التسجيل قال إنّ ما تفوّه به ناصر هو رأيٌ مؤَسسٌ، ما في ذلك من شك. أمّا في ما يخصّه هو، فقال إنّه لا يستطيع أن يحدّد أيّ صفة لما ورد على لسانه، لحظة عملية التسجيل تلك، فقد جاء كلامه كما لو كان تحليلاً، وما هو بذلك. وجاء كشهادة، وما هي بذلك. هو عينه لا يصدّق ما جرى، وأعلن مؤكّداً: وفي جميع الأحوال، أنتم أحرارٌ في أن تمنحوه الصفة التي ترون. أمّا أنا، فأحسب أنّكم إن سألتم امرأتي، وأمّ أولادي، إن كان ما حَكيتُه، وحُكيَ عنّي، عمّا إذا كنت حقاً تلفّظت بما تلفّظت به، فقطعاً ستقول لكم إنّها سمعت فعلاَ هلوساتي تلك، فيما أنا لصقها فوق الفراش، ليلةَ يوم سبتٍ، لم ترد الحمى أن تفارقني إلاّ بعد أن أهلكت جسدي وأتعبته. وغير هذا الكلام، فلا تصدّقوا ممّا أحكي شيئاً.

٭٭٭

تفادى المرور بشارع مولاي عبد الرحمان. منذ فترة ليست بالقصيرة، تفادى ناصر المرور به. لم يرغب في أن يُعتكر له مزاجٌ، فعبر إلى شارع محمد الخامس، ثمّ إلى زنقة كيندي، فإلى زنقة 36 (حمام الأنف حالياً). وبساحة بئر إنزران، توقّف عند عربات باعة الفواكه.

دخل الدار منشرحَ الصدر ومحمّلاً بفواكه؛ أصناف من الفواكه. العادة علّمت عائشة أنّ ناصر لا يؤمُّ البيت مبشورَ تقاسيم الوجه، كحاله اليوم، إلاّ إذا كان يلوبُ على شيءٍ. استوضحته جديده، فخاتلها بقبلة على الجبين، وسار إلى المطبخ. خرج من المطبخ ودلف إلى غرفة النوم. بقي يلفّ بالبيت دون أن ينبس بلفظ.

تعرف عائشة كيف تستدرج رجلها إلى الكلام. ليست هذه أوّل مرّةٍ تفعل. تدرك أنّه، في مثل هذه المواقف، لا يفعل سوى أنّه يساومها. يساوم ليحصل على وكده. تعرف كيف تجعله يتقرقع وينقصف. بعد عشاء معتبر، بعد انصراف الولدين إلى حجرتهما، ستتجمّل له وتتمرّى. تعرف كيف تصنع، حتّى وهي حامل في شهرها السادس. صحيح، هذه كرشها أمامها مكوّرة، ومع ذلك تراهن على أنّ الرجل لن يصبر طويلاً، فيتقضقض. في الفراش، هناك فحسب، ستترقّب لحظة يتطقطق بين يديها. ساعتها، ستستقبل بَوْحَه كما تريد هي، لا كما يريد هو.

قال إنّه سيظهر في التلفزيون. قال إنّه فعلها. قال إنّه فعلها كما لم يفعلها من قبل. لقد تكلّم. أخيراً تكلّم، وذكر ما يجب أن يذكر. سيراهُ الملايين من سكان الأرض يفصح عمّا لم يقدر الكثيرون على الإفصاح عنه. سمى القط قطاً، وسمى الفأر فأراً. الآن، لم يعد يخشى أحداً. هذا ناصر آخر. مات ناصر. عاش ناصر. مات الملك. عاش الملك.

على الأرجح خافت عائشة، فيما هي تصغي إلى رجلها وهو يسرد عليها حكاية وقوفه وزان الكاميرا. ما الذي أخاف عائشة وقتما كان هو ينتظر زغرودة منها؟ خافت إن كان ناصر تكلّم في السياسة. عائشة تخيفها السياسة. خافت أن يدخل رجلها الحبس، ويفقد عمله بالوكالة، وتتشرّد الأسرة. قالت عائشة: ماذا لو طرد من العمل؟ ماذا لو انتسج له فخ، فسرح من عمله، وأدخل السجن؟ هل فكّر ناصر في كلّ هذا؟

وناصر أجّل التفكير في هموم عائشة وهو يجرّ اللحاف عليه. ومغمضّ العينين، خمّن إن لم يكن تعجّل في إشراك امرأته في هذا السرّ العظيم. ألم يكن عليه أن يحتفظ به لنفسه إلى حين؟ فما الذي حمله على أن يحنث التزامه بالكتمان أمام الأستاذ؟

٭٭٭

كبرَ ناصر في عين زهير. مذ ذاك التسجيل التاريخي، صار يراه بعين مغايرة. هذا واضحٌ أيضاً من الطريقة التي أضحى يسلّم بها عليه. لم يعد يكتفي بمدّ اليد متى تقاطع معه أو التقى به. بات زهير يقبّلُ الرّجل حنكاً بحنكٍ، ويطبطب بكفّيه على ظهره. يحضنه ويطبطب. يجلس زهير بمقهى الأندلس، فيما خطّ نظره في اتجاه وسعة مقهى الأروقة، بل إلى نقطة محدّدة بها. يطيبُ له، إذ يلمح ناصر جالساً بين صحبه، أن يومئ إليه باليد محيّياً.

يتخيّل زهير لو أنّ يوسف هو الذي وقف قدّام الكاميرا، ماذا كان عساه يقول؟ يتصور أنّ يوسف كان سيفعل ما فعله ناصر بقليلٍ أو بكثيرٍ. ويشعر أنّه خيّب آمال فاطمة وقد خذله لسانه في هذا الامتحان. يفعل ناصر ويفعل يوسف، فما المانع من ألاّ يفعل هو الآخر؟ تصاغر الرجل نفسه، فلم يخبر امرأته بشيءٍ. لم يرد أن يعلمها بما جرى. لم يعلمها بفكرة الشريط أصلاً، فكيف يعلمها بوقوفه أمام الكاميرا، وتلكؤ لسانه عن قول ما كان ينبغي أن يقال؟ أكثر سكان العمارة درايةً بخبايا دهاليز البلدية، ولم يذكر ما كان يجب ذكره!؟ لم يخبر فاطمة بشيءٍ، حتّى لا يُبخس شأنه في عينها. عرفته بطلاً، وتريده أن يظلّ كذلك. بطلها بدون منازع.

٭٭٭

فوق إفريز الرصيف، فوق مربّعاته المزلّجة، كانا يمشيان بتؤدةٍ. تتعلّق هي بذراعه، ويسير هو جنبها. يشعر بحرارتها تلفحه. جسدها الممتلئ ينفث دفئاً، يتسرّب عبر فجوات بذلته إلى الباطن. يتلقّف جسده هذه السخونة التي تتخلّل المسام والأنساغ والحواس. فاطمة متلفعة بجلابيتها الوردية ومحتذية شربيليها الأحمرين المرصّعين بالموزون، وزهير مشتمل بجاكيطته وسرواله جينز الأزرقين.

نزلا صباحاً من الأوتوبيس، قبالة مقهى لؤلؤة الغرب، بشارع محمد الديوري. ومن هذه المحطة عرّجا على شارع محمد الخامس، ثمّ راحا يمشيان على مهلٍ. كانت فاطمة تسير في جنبه الأيسر كما لو أنّها لم تزايل أيّام عرسها الأولى بعدُ. كأنّها ما برحت في أجواء العرس. يداها محنّيتان. شعرها معقوص إلى الوراء على هيئة ذيل حصان. قالت له في الأوتوبيس ربّما عليهما أن ينزلا بمفرق «الماگنة»، ويتمشّيان. قالت له ربّما ينزلان ب«الڤيلاج»، ثمّ يسيران على الأقدام إلى «الخبازات»، وهذا أحسن. هو أحسن بالنسبة لجسديهما، حيث يكون شارع محمد الخامس، صباح يوم الأحد، أخفّ ومشمساً، وأقلّ ثخانة.

الشارع طويل. وهو أفضل للمشي. رياضة لمن لا رياضة له. رياضة وفرجة وإعمال تفكير. تلك المشية التي أخذا بها في الشارع الطويل، لم تكن برياضة. هذه تكون أسرع قليلاً. مشيتهما كانت بطيئة. مشيتهما لم تكن برياضة إلاّ تجاوزاً. بعد أن خلّفا سينما بلاص وراءهما اقترحت فاطمة أن يلجا سوبر مارشي «بيل في». قال لها زهير إن كان ولا مناص من الدخول إلى السوبر مارشي، فعليها أن تفعل لوحدها. أمّا هو فسيكون عليه أن ينتظرها بمقهى طارق. سيطلب كأس شاي منعنع، وقد يتصفّح جريدة، ويترقب خروجها. رمقته فاطمة بنظرة نافذة وذات معنى، وهزّت كتفيها هزّات خفيفة لا تكاد تبين، ولوّت شفتيها، ثمّ عقّبت قائلة إنّ قدميها لن تسلكان إلاّ حيث ستسلك قدماه، فإن دخل المقهى دخلتْ هي كذلك، القدم بالقدم. وهي ترسل ضحكة مخنوقة، سألت: ما رأيك يا رجلي العزيز؟ حدجها ببصره، وتزنّد. ولمّا لم تنتقل إليه عدوى ضحكتها المتكتّمة، فلم يرد عليها بكفْوها. ثمّ بعد هنيهة، قال لها: نتمشّى إذن.

إثر هذه الوقفة الخاطفة قدّام باب مقهى طارق، بعد هذا الحديث الوجيز الذي تبادلاه، عاودا المشي فوق مربعات الإفريز. عبرا إلى الضفة الأخرى من الشارع الطويل والعريض. جانبا حديقة بنك المغرب، ثمّ جازا حذاء فضاء مؤسسة بالزاك، فضريح سيدي العربي بوجمعة. فسينما الاتحاد، فالقنطرة الفاصلة، إلى أن بلغا زنقة كنيدي. بمدخل الزنقة، قالت فاطمة: كان حرياً بنا أن نركب تاكسياً. حدّق فيها بعينيه، وعجا شفتيه. وفي الوقت الذي كان التفت إليها أبصر من وراء ظهرها، غير بعيد منها، ناصر وامرأة تميل إلى البدانة. بدانة تغطي عليها جلابية زرقاء. حزر للتو أنّها زوجته. لم يكن رآها زهير من قبل. هذه أوّل مرّةٍ يصادف فيها ناصر بمعيّة زوجته. ربّما جاءا شأنهما أيضاً ليتبضّعا. ولعلّ الرجل أُرغم كما أُرغم هو على المجئ. أيضاً انتبه زهير إلى حمل عائشة (لم يكن يعرف اسمها بعد، سيعرفه في هذا اللقاء الصدفي فقط، سيتعرّف عليه أكثر في وقت لاحقٍ، حينما ستتوطّد العلاقة بين الرجلين). ليس زهير وحده الذي رأى عائشة لأوّل مرّةٍ. شاهدت فاطمة ناصر في وقتٍ فائتٍ. شاهدته من بعيد يمسك بدراجته. لكن هذه أوّل مرّةٍ تشاهده عن قربٍ؛ أقرب بكثير إلى حدّ أن صافحته باليد. وكذلك قبّلت عائشة.

من هذا اللقاء، عرفت عائشة أنّ من سلّمت عليه هو زهير، وهذه زوجته. عرفت أنّ هذا الزواج حديث العهد. عرفت من يكونا بمجرّد ما نطق ناصر اسم زهير. جاراهما المفترضان. جاراهما في العمارة المفترضة. في العمارة التي كان من الوارد أن تضمّهم، إضافة إلى جيران آخرين، لو لم تسقط وتتحوّل إلى خرابٍ. تبادل الجميع كلمات مجاملة وأخباراً مقتضبة، ثمّ توادعوا. وسار كلّ زوج إلى وجهته.

أثناء ما كانا في سبيلهما إلى قلب «الخبازات»، لاحظت فاطمة أنّ عائشة قد تكون في شهرهما السابع أو الثامن. ونمشت في أذن زهير. البطن المقبّبة والمندلقة أماماً تشي بذلك. صمتت قليلاً. ثمّ قالت بصوت مسموع، كأنّما تخاطب نفسها: البَنون زينة الدنيا! ظلّ زهير غائباً. في الواقع، كان يفكّر في ما إذا كانت عائشة على علمٍ بقصّة الكاميرا؛ القصّة الكاملة لواقعة التّسجيل.     

٭فصل من رواية جديدة موسومة ب(كلّ هذا/ انتبهوا، المالغي آتٍ!) للروائي المغربي محمد الهجابي تنتظر النشر،