قمر الكرخ 1

د. عبد الستار الراوي

قمر الكرخ

(سيرة حارة بغدادية)

د. عبد الستار الراوي

إلى ذكرى أمي مليكة حمادي

وإلى أيام  دربونة زنْكوّْ.. لوحة التنوير الأولى

 (الحلقة الاولى)

اول الكلام

-1-

الطفولة وحدها أنشأت الحرية. وبعقلها الفطري استحدثت مكاناً لا متناهياً وأزمنة بلا بداية، وبلا حدود.

وبفضل أشواقها المعرفية تخطت الرتابة، وتمردت على التكرار، لتؤلف تجلياتها المبدعة فصلاً خامساً للطبيعة هو (الخلود)، عبر هوّس اللعب وشجاعة الأسئلة، وجنون الانشراح.

وطبقاً لهذا المنطق فأن تأويلات الطفولة قد تضغط المسافة بين (نعم) و(لا). فتضفي على الإيجاب والسلب صفة ثالثة بديلة:المماثلة،لنفي المفارقةً، خيالا حرا طليقا، يجعل من الأنهار الجارية جبالا شاهقة راسية في أفق الكون، فيما يضع النجوم في راحة اليد، وتنبسط السموات لتفترش الأرض، والحرية هي مركز العالم، ليس في شمال أو جنوب الكوكب.

- 2 -

وعندما تتأمل الطفولة ظواهر الحياة من حولها، وتصاب بالدهشة. فأنها أصدق الكائنات إخلاصاً في البحث عن الحقيقة. قد تصغي إلى المشهورات وبديهيات الآباء والأمهات، وقد ينغمر عقلها في سعة التبرير اليومي المريح، لكنها في صفحة البرهان الأعلى تغادر أو تتخلى عن هذه البديهيات وتنفر من الأجوبة المعدة سلفا، لتبدأ مغامرة التأملات إلى ما وراء المقررات الجاهزة.

إذْ يرتقي وعيّها إلى  جوهر الأسئلة تواقة إلى (تعليل)، بعد أن ضاقت منظومة الحواس بتسويات المماثلة والتبرير.

فتحاول أن تخرج من أعمارها عبر مغامرة البحث عن المعنى، وعن سر الوجود

وعن سؤال النشأة والتكوين.

- 3 -

عاد الصبّي من نهر الموت يسأل أمه عن الرحيل الأبدي،وعن السرّ في قوة مياه خضر إلياس التي ابتلعت على الفور (الفتى الغريب)، فأنزلته ا قاع الشط ليرقد هناك إلى الأبد.

صراع مقيم بين السببية الإنسانية والعلّية الكونية بين الفعل الحرّ ونازلة الموت؟‍! نسبية المعرفة وحتمية المصير. وحقيقة الانتهاء: مفارقة وجودية بالغة الإيلام في قانون الطبيعة الباردة، تنتج تجربة (القتل) الوحشية.

تستحيل واقعة خضر إلياس في وجدان الصبّي إلى فجيعة تشق جلدة الأرض، وتسقط هيبة الكون فتوقظ جذر الــ(ماذا)؟‍!

إزاء تبادلية الحياة والموت،

يشتد الصراع بين الوجود والعدم

يهوى العقل في قبضة القلق المرّ. ليس ثمة من خلاص.

الولادة موت ولو بعد حين !

لا ديمومة قائمة أو حياة أبدية، بل صيرورة بلا انتهاء‍!

- 4 -

الطبيعة في وعيّ الصبيّ، تعني اللعب الحرّ في الكون الفسيح. تبدأ خارطة الأرض بـ )دربونة زنكو)، وأطراف الفحامة وما وراءها من فضاءاتها المفتوحة على عوالم ؛ الجيّايلّة، الرحمانية، المشاهدة، الشيخ علي، الشيخ معروف، الفلاحات، الشيخ صندل علاوي الحنطة، سوق السلاسل، جامع حنان، هناك ينتهي كوكب الطفولة، ويلملم العالم حدوده عند بوابة جسر الشهداء، قبل ان يأتينا نبأ ( الضفة الأخرى) من النهر، سمعنا من فتيان الدربونة كلاماً عجبا، بأن عالماً مجهولاً يقع وراء الجسر، في ضفة النهر الأخرى، أكبر سعة، وأعظم عدداً، وأبهى جمالاً، من عالمنا الكرخي، هكذا كان شأن (الصوب الكبير) قبل أن يكتشف الصبيّ: (الرصافة) ويحيط علماً بأسرار (الباب الشرجي) و(حدائق غازي)، و(بارك السعدون)، عندها فقط  أدرك الصبي بأن الطبيعة لا حدود لها في المسافة والزمن.

- 5 -

المكان والزمان يتحدان، يصيران حركة، وجوداً متعّيناً، كل جزئية منه تنتمي إلينا، وتنضم إلى ذاكرتنا: الدربونة البهية، و(الطرف) المفعم بالبهجة، فضاءات الفحامة، ودنيا الكرخ، ليس ثمة من شذرة سائبة، أو لحظة غائبة، أو ذكرى عائمة، فلكل واحدة منها كياناً، رسماً، دلالة، رمزاً جذراً عميقاً يمتد إلى الأفئدة والعقول.

- 6 -

تتكثف تفاصيل الطفولة كما لو أن كل خليّة منها، تعادل دورة حياة كاملة، فتصنع عوالمنا الجميلة الباذخة: نخلة حفصة، مسامرات الليل، ذاكرة بريسم، سبتي البحار العتيد ومغامراته في أعالي البحار، قمر الكرخ، جرّة سكنة، حمار إبراهيم الجرمط، طيور أحمد البطوشة، الأبواب العتيقة الطاعنة، عبير الدروب، أصابع العروس، حامض حلو، الشرفات المشرقة، حديقة علي العكلة، أيام الملآ، مغامرة الجول، الشط، حكايات  جدتي  فاطمة.

ولوج قويّ للأنا في موجودات زنكو تتحد من حولها ومعها الأشياء والأنفاس، يوّلدان شعوراً حميماً بالألفة والقرابة الإنسانية.

- 7-

النقطة: قمر الكرخ مركز كون الصبيّ تنشغل بالحركة، تمتد خطاً، والخط يغدو سطحاً، والذرة الحية تمتزج مع محيطها في الاتجاهات كافة.

حركة الذرات تشكل أجساماً، تستحيل كوْناً، عاصمته الطفولة. والدربونة رأس الأمكنة، ومنها تنبثق الحرية حاملة حقائق الأوطان، جدلية مثيرة؛ ترفض الاختزالات العبثية، أو اللجوء إلى الأقيّسة المنطقية الزائفة، حيال الوعيّ بتبادلية الأنا والـ (نحن)، وتَمَثُّلْ العلاقة الخالقة بين الطرفين،.. التي تنتح الإنسان الكلي،  الوعيّ الإنساني، ينشئ بنيّة حميمة بالغة الرقيّ، في تشييد العمارة الاجتماعية:

زنَكوّْ - الفحامة.

الفحامة – الكرخ.

الكرخ – الوطن.

الوطن – الأمة.

الأمة – الإنسان.

تتداعي الفردية وتنحلّ في لوحة قيمّ الدربونة، فالواحد الفرد لا يكون إنساناً أو كائناً سوياً ما لم يكن كلياً، الحاضر في وجدان مجتمع (زنكو)، بوصفه تعبيراً عن صوت الإجماع العام الذي لا يضلّ ولا يُضلّل أحداً، وبـ(الإيثار) تنهض الحياة  ويرتقي الإنسان.

- 8 -

استعادة الزمن الجميل..

ليس ردة عن الحاضر، أو رجوعا إلى الوراء، وليس نقيضاً لمنطق الغد، ولا هو دعوة لأحياء الزمن الفائت، للانكفاء في قوقعة الماضي، وإلا فأننا نلحق ضرراً بليغاً بالعقل والحكمة والمستقبل.

إن قمر الكرخ بوصفه سيرة ذاتية للمكان، من وجهة نظر كاتب هذه السطور يسعى  إلى إعلاء القيم الجمالية، والثراء الإنساني، وإلى قراءة كتاب الطبيعة الأولى، في مرح الخيول، وحكمة فاطمة، وتأملات ماهية الحمادي، وعظات الشيخ مشمش،  وعبثيات رشودي، ومسرات الليالي، وبراءة الطفولة، وأرزاء الرحيل الأبدي، ووصايا الشهداء، ومرثيات الطيور، توكيدا للوظيفة النقدية  للفلسفة التي تعد الانشغال بهموم الإنسان وقضية الأوطان من مهامها الأولى.

وهي ذات الغاية التي أنشأ من أجلها كاتب هذه السطور أعماله الفكرية الأولى:

العقل والحرية

ثورة العقل

فلسفة العقل

أصابع العروس

وردة الغد

فردوس الكرخ

قطر الندى

وأسئلة الغد

بوصفها جدلاً نازلاً إلى خلايا الواقع، لتحرير العقل من الأجوبة المتداولة، واليقينيات الثابتة.

وقمر الكرخ  في البدء والمنتهى ليس أكثر من تجربة إنسانية، يأمل الكاتب أن تجد لها، مكاناً إلى جوار الكتابات الصادقة التي تثابر من أجل إنشاء نصّ الإنسان.

والختام سلام إلى كل المحبين.