ليل الغرباء

الفصل الأول من رواية

فتحي درويش

[email protected]

راح  يمسح وجهه بباطن يده وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة ، .بعد  أن  صحا من نومه مذعورا على وقع حلم مرعب، رأى فيه: أفعى  سامة كبيرة؛  تلتفُّ حول عنقه وتغرز فيه أنيابها، وهو يحاول جاهدا إبعادها حتى  انهارت  قواه؛ ولم يعد قادرا على الوقوف على قدميه. إلي أن هبط فجأة طائر من السماء  راح يغرز مخالبه بقوة  في جسد الأفعى ، حتى  استطاع  قتلها  وإبعادها عنه .

ظل صامتا ولم يخبر زوجته، لأنه يعرف  جيدا كيف  ستكون ردة فعلها على  ذلك  الحلم الذي  ستعتبره فألا سيئا ،و تقيم  الدنيا ولا تقعدها  في البيت، في ظل أجواء الحرب، وفي الوقت  الذي  يتأهب  هو  فيه للالتحاق بوحدته العسكرية في جنوب لبنان.

 النساء بنصف عقل،  لن أخبرها؛ ولا وقت للأحلام المرعبة.

 قال متمتما؛ وهو يرتدي  بزته العسكرية؛ ويلملم أوراقه، قبل أن ينطلق نحو الجنوب؛ للالتحاق بوحدته  المتمركزة في  أطراف  مدينة صيد ا، التي انتقل إليها  في إطار الترتيبات التي اتخذتها  القيادة الفلسطينية  لمواجهة احتمالات الحرب  ،  اثر التهديدات التي أطلقتها إسرائيل باجتياح لبنان، في إعقاب محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن شلومو أرجوف  عام 1982..

ودع زوجته، وطبع قبلاته على وجنات أبنائه الثلاثة الذين ظلوا  نائمين  في فراشهم، ثم أزاح بلطف يد زوجته، التي  وقفت بالباب  تطالبه  بان  يبقى بالبيت مع أولاده  ليوم أخر؛ فرفض مؤكدا لها أنه سيعود في إجازة مطلع الأسبوع  القادم، بعد أن ينهي بعض الأعمال التي يتوجب عليه انجازها، ثم  سار متوجها نحو الشارع الرئيسي قاصدا  مدينة صيدا.

كانت السيارة تتجه مسرعة نحو المدينة؛ و السائق يتمهل  أحيانا  لتفادي الحفر المنتشرة على الطريق الساحلي،  رغم الأجواء المتوترة  والتحليق المتواصل للطيران الإسرائيلي في الأجواء اللبنانية، بعد قصف المدينة الرياضية في بيروت،  ومحطة توليد الكهرباء في الجيِّة.

  والمقاتلة السمراء " ليا " التي كانت هي الأخرى  متوجهة للالتحاق بوحدتها العسكرية  في حركة " فتح " ، لم تتوقف عن الحديث   طوال الوقت، فيما كان هو غارق في أفكاره  ومحاولة  تفسير حلمه المرعب؛ الذي شاهده في منامه!

قالت "ليا " :

-المقاومة الفلسطينية أكملت استعداداتها لمواجهة العدوان الإسرائيلي، وأبو عمار أمر بحشد المزيد من القوات في الجنوب.

- وصواريخ المقاومة تدك يوميا المستوطنات اليهودية

رد السائق :

- يا أختي لسنا بحجم إسرائيل، هي  اقوي منا، ولديها سفن ودبابات وطائرات، نحن ما عندنا شئ .

ليا :-

-نحن أصحاب حق وأقوياء به .

 أجاب  السائق :

- العالم لا يعرف الحق؛ بل يفهم منطق القوة.

- العالم ظالم .

قالت ليا؛ والتفتت نحوه؛ لجره إلى الحديث  الجاري بينها وبين السائق، لكنه ظل صامتا وراح  يتمتم في سره :

- لو مت، فان زوجتي ستترمل؛  وسيصبح  أولادي  أيتاما .

- فهل سيهتم بهم الرفاق  أم سينسونهم بمجرد موتي ؟

- وهل سيلتقي أولادي بأهلي  في غزه ،آم سيعيشون طوال حياتهم غرباء؛ كما عاش أبوهم؟؟؟!

- اللعنة... راتب الشهيد لا يكاد يكفي لشراء حليب لأطفاله  ..

نظر إلى البحر محاولا طرد فكرة الموت من رأسه ، وهو يتمتم    في سره  :

- هذا البحر يؤدي إلى غزه .

وعلى الفور قفزت إلى مخيلته صور طفولته ، وهو يلهو مع أقرانه الصغار على شاطئ البحر في غزه، بسراويلهم الطويلة المصنوعة من أكياس الطحين التي كانت توزعها وكالة الغوث، فيعفرون بعضهم بالتراب أو يحملون أحدهم؛ ثم يلقون به عنوة  في مياه البحر، وسط ضحكاتهم الطفولية البريئة،  وشتائم الرجال واحتجاجات النسوة اللواتي كن  يقصدن  البحر للنزهة،  أو التبرك ب"أربعاء أيوب " ، على أمل أن تحمل المرأة العاقر التي ليس لها أولاد،  أو  يشفي الله لها مريضا .

 و تذكر الهجانة السودانيين الذين  كانوا يركبون الجمال، ويجوبون الشاطئ حفاظا على الأمن قبل حرب عام 67، تلك  الحرب لم تكن حربا بمعني الكلمة ،   بل مسرحية احتلت فيها إسرائيل أراضي ثلاث دول عربية في ستة أيام .

 فال وهو يستعيد  أيام الحرب :

- حين  دخل الإسرائيليون غزه وهم يرفعون الإعلام العراقية، راحت  النسوة  تزغرد، وهبَّ الرجال لملاقاة جنود الجيش العراقي الشقيق، ولما أطل جارنا حسن؛ الذي طلب من والدي الذهاب معه لملاقاة العراقيين، فوجئ بإطلاق النار نحوه من طرف الشارع ، فعاد  يصرخ بأعلى صوته :

-  يهود... يهود مش عراقيين .

كان  طالبا في الإعدادية حين وقعت الحرب، وكان حينها في قاعة الامتحانات يجيب على أسئلة  الرياضيات، حين ملأت الطائرات  التي كانت متجهة  لمهاجمة الجيش المصري في سيناء  سماء القطاع، فأصيب الطلاب  بالرعب والهلع،  وغادروا مسرعين إلى بيوتهم، في الوقت الذي راحت  فيه  أوراق الامتحان تتطاير في الهواء .

فتح زجاج السيارة  وأخذ  يستنشق نسيم البحر بقوة وهو يقول في سره، وكأنه كان يناجي البحر  بعد أن شعر  بالاختناق  حين داهمته فكرة الموت مرة أخرى :-

 يا بحر

 خذ بيدي

ولا تحطم أشرعتي

بل  ساعدني

 لمواجهة الريح المقبلة

التي لن تبقي

 سوى  الخراب  

 والنساء المجللات بالسواد 

 التفت نحو "ليا" حين  توقفت السيارة في ساحة النجمه بمدينة صيدا  وصافحها مودعا، ثم  انطلق بسيارة أخرى نحو موقعه العسكري بالقرب  من بلدة  " مغدوشه " في الطرف الجنوبي للمدينة .

               

*كاتب فلسطيني مقيم في غزه