رهان مع الشيطان 1

رهان مع الشيطان

م. زياد صيدم

[email protected]

1

عندما أسدل الليل عباءته على تلك القرية النائية، المنسية من ركب الحضارة والتطور في ابسط صورها، كانت أزقتها الترابية تغرق في ظلمة دامسة، تكتحل بحلتها السوداء، أطفأت فوانيسها بعد ساعة من صلاة العشاء، تنام مع دواجنها ،تستيقظ على أصوات ديوكها، تعلن انشقاق الصبح، فينهض رجالها لصلاة الفجر، وتنصرف نساؤها إلى إعمالهن مع أول خيوط الشمس إلى الحقول، وأخريات يشتغلن في إشعال طوابين الطين، لتجهيز أرغفة الخبز وإعداد الطعام على انتصاف الشمس في كبد السماء، ليأكلن مع أزواجهن الكادحين في الحقول، حيث الخضراء والماء والوجه الحسن، من خراف وماعز ترعى منتشية، تقفز من أمامهم راقصة على أنغام الناي، القادمة من راعيها في أوقات يتجلى وينسجم فيها مع الطبيعة العذراء، التي هي كل ما يعرف من الدنيا.. مثله مثل الآخرين من رجال القرية، في حياة فطرية بسيطة يعيشونها، لا ينازع الأزواج فيها مهند التركي .. بل كانوا يتقاطرون بعد صلاة العشاء على ديوان المختار "العمدة"، يجتمعون مشغوفين إلى سماع الراوي، يقص حكايات عنترة بن شداد، وكيف كان يطيح بالرقاب فتتدحرج الرؤوس كأنها ذبائح يوم الحج، ويحتد صوته، وتنتفخ أوداجه بينما يصف كيف كان يصول ويجول في ميدان المعركة، قبل أن يعودوا إلى بيوتهم منشيين متحمسين لنزال من نوع آخر! على طريقة أهل القرى؟ في عتمة إلا من سراج يضاء بالزيت، يبعث بنوره في أرجاء الغرف على خجل واستحياء مما يسمعه من تأوهات مكتومة تحت طبقات من أغطية وظلام في صيف حار، وهذا لم يمنع حاسة اللمس أن تكون بديلا عن حواس أخرى قد تعطلت؟ بالرغم من خشونة الأيدي وتشققها، وبروز نتوءات وندب جلدية على معظمها، إلا أنها كانت أفضل من لا شيء بالنسبة للزوجات، اللواتي قنعن بالمثل القائل: "ظل راجل ولا ظل حيط " .

ذات مساء، حل بالقرية رجل غريب الأطوار، مهيب الشكل، يخفى في مؤخرته شيئا ملتفا يشبه الثعبان بتكوره ! يخفيه تحت طيات سرواله الواسع، المضموم على خصره بحزام من جلد البقر الأسود، يعتمر طاقية نسجت من خيوط الصوف المزركشة جوانبها، يخفى داخلها بروزين على جانبي رأسه، كانا أشبه بقرني خروف !وقد اتخذ سكنه على أطراف القرية وحيدا .. أيام قليلة مضت على وصوله ، حتى بدأ يتجول في سوقها، يغدق الأموال على التجار دون مفاصلة لاثمان ما كان يشتريه من أقمشة فاخرة من الحرير الهندي والسيتان، حتى أصبحوا يرصدون تجواله بفارغ الصبر، مترقبين قدومه للسوق، فيسرعون في عرض بضاعتهم وكل جديد قادم لديهم من الأقمشة غالية الأثمان، والخاصة بكبار التجار والأغنياء التي تعود ابتياعها حتى ذاع صيته في القرية بالغنى والكرم والسخاء، فأصبح حديث الرجال في مجالسهم العامرة في ديوان المختار. كانوا يتمنون حضوره ومشاركتهم في سماع حكايات الراوي عن أبى زيد الهلالي، وعنترة ابن شداد، وحرب البسوس..تمنوا أن يكون بينهم على الرغم من هيبته، والمهابة التي تصاحبه حد الرهبة والغيرة فى نفس الوقت، فالأموال التي أنفقها في الأسبوع الأول لقدومه، فاقت كل التوقعات، حتى عميت أبصارهم، وتكلست بصائرهم عن طبيعة شكله ومظهره واصله وفصله.. لا يعيرون اهتماما لما كان يخفيه وراء مؤخرته، و على جانبي رأسه ؟ .

لم يمض وقت طويل على وجوده في القرية الآمنة الحالمة، حتى تغيرت أحوال رجالها ونسائها، فقد ساءت أمورهم كلها، استفحلت الخلافات العميقة فيما بينهم، تزايدت حالات الطلاق بين الأزواج، فتشتتت الأسر الآمنة، لم تعد القلوب حانية طيبة تشتاق بعضها، تمزقت الروابط بين العائلات، قرعت أجراس العداوة والضغينة رؤوس معظم رجالها، وهبت رياح صفراء عاتية، اقتلعت آخر جذور المحبة والوئام في القرية التي كانت ذات يوم حالمة وادعة.

بينما كان الغريب يقبع هناك منزويا في بيته، تنفرج أساريره، وتلمع أسنانه المدببة تحت أشعة الشمس،يقهقه في الليل مدويا بصرير تُسمع أصداؤه في الوديان وعلى امتداد السهول والأرض الخلاء. بدأ في التوافد عليه زواره من تجار القرية المحتاجين من الذين كسدت تجارتهم، وأصحاب الدكاكين التي خلت من بضاعتها، كانوا يقصدونه لسلفه أو استجارة أو لمجرد النميمة التي وجدت أذانا صاغية لدى الغريب وصدرا رحبا شغوفا بسماعه لتلك الأخبار، التي أصبحت تجارة رابحة في مضافته العامرة.. كان لهم المُقرض والمُواسى ومُفرج الكروب، فقد أُعميت قلوبهم وبصائرهم عن كل منطق، حتى تلاشت من عقولهم فكرة البحث عن حقيقة وأسباب ما حل بالقرية، حتى مختار القرية وعمدتها المعروف بالحكمة والفصل والحنكة والدراية بأمور شتى، والمتصل مع الحضر في المدينة كما كان يتباهى ويفتخر دوما، وقف عاجزا حائرا عن اى تفكير قد يوصلهم إلى خيط الحقيقة، المغيبة عن عقول مسلوبة ومبهورة...

أيقن الغريب بأنه قد نال ما يريده، فبدأ في مد شروره ومكائده إلى القرى النائية الأخرى، يغيب ثم يعود أدراجه إلى حيث استوطن وتربع، متخذا من القرية هذه نقطة انطلاق، لا يفارقها إلا في مهماته الخسيسة والدنيئة، كأنه تعاقد مع أهلها، أو تحالف معهم بوثاق لا ينكسر أو يسقط بالتقادم.

عاد الغريب من جولته خارج القرية، عندما مالت الشمس في الأفق بعد ظهيرة حامية، تنذر بقدوم صيف شديد القيظ، سيزيد من سوء أحوال العباد أكثر مما هي عليها، ليجد امرأة في انتظاره خارج بوابة بيته، وقد اتكأت على عكازها، تجلس القرفصاء على حجر،كان احد أحجار كبيرة تحدد وترسم الفراغ المحيط بالبيت بطريقة لم يعهدها احد من قبل! .. رمقها بنظرات ملتهبة غيظا وحنقا، وقد انقلبت سحنته عبوسا، لم يكن وجهها غريبا عنه، إنها أم فاطمة، هكذا يعرفونها في القرية، وهى أشهر من أن تُعرف، كان يخاطب نفسه...

لم يرق لأم فاطمة هذا الغريب من أول يوم وطأت أقدامه القرية، حاولت الحديث جاهدة مع كبار رجالات القرية ومختارها بادئ الأمر، لتلفت انتباههم إلى ما تفكر به ؟ وتدلل على ما تقول بتلك الشواهد العجيبة التي تبدو عليه، كانت تواجه ضحكاتهم بصبر، وتحتمل سخرياتهم على مضض، فتعود خائبة في كل مرة، مكسورة الجناح إلى بيتها، تبكى حظ القرية وما سيحدث لها؟ فانزوت في بيتها معتكفة، ترقب من بعيد ما آلت له أحوال القرية .. ترد بإيماءات من رأسها، أو بصمت حزين من عينيها، عندما كانت تقصدها نساء القرية متلهفات مذهولات، يبحثن عن تفسير ما، يشكين لها هول ما يقع لهن .. فلا حياة لمن تنادى ؟حتى اعتقدن بان أم فاطمة قد أصبحت خرساء، فقدت القدرة على النطق و الكلام.

اقترب الغريب منها أكثر، توهجت عيناه المحمرتان كالجمر، دار حولها برقصات عجيبة! توقف قبالتها، لم تُنزل عينيها من عليه ، رمقته بنظرات تحد.. كانت ما تزال تبحلق في وجهه بإصرار غريب، وعدم ريبة أو خوف، وهى تنهض من قرفصائها منتصبة، متكئة على عكازها من خشب السنديان، قابضة عليه حتى برزت عظام يدها، من أسفل جلد اختفى اللحم منه...

2

انتصبت واقفة كشاهد لتاريخ ممتد عبر أزمان الماضي الغابر، إلى الحاضر بفجوره وعبثيته وضغائنه المتجسدة عبر هذا الغريب، برقصاته البهلوانية أمامها، بدوران وقفزات في الهواء يرتعب من هولها صناديد الرجال.. مما ولد في جسدها الهزيل طاقة، وقوة في قلبها غريبتين على التحدي فاقت توقعاته، مما زاد من فضوله لمعرفة واكتشاف ما جاءت تحمل إليه من أنباء وأحداث.. فلم تمهله كثيرا في الغرق في تحليلاته فبادرته القول:

- أيها الغريب، أنت شيطان، لن تكون آدمي تنتمي لجنس بني البشر.. عرفتك منذ وطأت أقدامك القرية، لنبرم رهانا إن كنت قادرا على رهان امرأة عجوز مثلى، جاءت تتحداك في عقر دارك!

 - ماذا ؟ أيتها الشمطاء الخرفة، كيف تنعتيني بالشيطان؟ وكيف تتحد رجل فرض احترامه ومهابته على الجميع؟ أيتها الوقحة .

- لا داعي للإنكار، والاختباء وراء كلمات لن تسعفك بعد الآن، لتقر بحقيقتك.. فقناعاتي ويقيني أنك تعلم باني املك الدليل على كونك لا تنتمي لنا كبشر، وإنما إلى عالم الشياطين من جنسك.. فهل كشفت ذيلك في مؤخرتك القذرة ؟ الذي تخفيه داخل طيات سروالك، وعن قرنيك أسفل قبعتك؟

استشاط غضبا، وراح يفرغ شحنات قهره بحركات دائرية متواصلة حول نفسه، تناغمت سرعتها في الدوران، حتى شكلت زوبعة أشبه بقمع مقلوب، قاعدته في علياء السماء، وبدايته تخرج من منتصف رأسه.

 تراجعت أم فاطمة إلى الخلف قليلا، مدت عكازها أمامها، تمسكه بقوة بيدها اليمنى، بينما أيسرها يقبض على منديلها الذي كاد أن يطير في الهواء.. تماسكت بصعوبة وهى تردد على مسمعه آيات مختارة من القران الكريم، وكثير من التعويذات التي أخذتها عن أمها الحاجة  فاطمة منذ عقود مضت، تلك الحاجة التي كانت مزارا للناس من جميع القرى والبلدات، لقدراتها الخارقة ومعجزاتها المباركة. فجأة، أخرجت من جيبها زجاجة ماء، لوحت بها أمام عينيه اللتان كانتا  تقدحان شررا مستطيرا، ما أن رآها حتى امتثل لرغبتها في التوقف وعدم المس بها ..وهنا كشف عن حقيقته فابرز ذيله، واظهر قرنيه بشكل سافر قائلا:

- ليكون اللعب بيننا على المكشوف أيتها الشمطاء بعد الآن .

- ليكن لديك علما، باني هنا من اجل عقد صفقة ورهان !

قهقه طويلا، بزئير ممتد زلزل الأرض، ورج الهواء، فتطايرت الطيور من على الأشجار فزعه، وتزاحمت الخراف من حول البيت  في جلبة وفزع واضطراب، وصهل حصان بالجوار، ونبحت الكلاب المرافقة لقطيع الأغنام،ثم صمت فجأة..و بنظرات حارقة وصوت الواثق أجابها:

- قولي رهانك أيتها الشمطاء، وأنا موافق عليه قبل سماعه؟ فقد تعودت النصر على بني ادم دوما، انه مسكين ضعيف، موسوس متوجس، بالرغم من امتلاكه عقل لم يمنحه الخالق لأحد من خلائقه، ومع ذلك يقف مستسلما أمام همساتي في أذنيه.. منقادا مسلوب الإرادة، ينصاع لغوايتي له صاغرا بلا تفكير أو منطق، وهو نفسه من اخترع المنطق! يقهقه من جديد.. بضحكات الغرور واليقين بالنصر المظفر، كانت ضحكات تشبه صهيل الخيل وزئير السباع، ثم تحولت إلى عواء كالذئاب الجائعة.. صمت فجأة .. رمقها بعينين كالجمر وقال: أسمعك أيتها الخرفة الشقية.. أفصحى عن رهانك أيتها الخاسرة.

- اعلم قدرتك الفائقة على زرع بذور الشر بين الناس، وتفريقك بين الزوج وزوجته، بين الأخ وأخيه، وانك أحلت القرية إلى ظلال وأشباح و ضغائن وأحقاد، لم تكتف ولم تقنع، بل ما زلت تنشرها  إلى باقي القرى والبلدات، لكن قدراتك محددة ؟ ذات طابع واحد هو الشر، و رهاني معك باختصار عكس هذا تماما ؟

- كيف؟ أوضح كلامك، واختصري حديثك معي، ولا تراوغي كثيرا فقد ضاق صدري، ويكاد صبري ينفذ، وحينها سأصب حمم لعناتي عليك إن لم تقنعيني بما جئت من اجله.

-اسمعن للنهاية ولا يضق صدرك، فمعي من القول ما يسرك !

- يسرني أيتها الشمطاء! يقهقه، ثم يصمت : أكملي، لن أقاطعك حتى تنتهي، وإياك أن تتلاعبي فلا تقنعينني.. فالويل والثبور.

- تعلم جيدا الشيخ حسان  تاجر الأقمشة، تعرفه جيدا وتشترى منه أفخم القماش.. وقد فشلت معه أنت في الإيقاع بينه وبين زوجته، وخابت قدراتك وانهزمت أمامه، ولذت بأذيال الخيبة والقهر، وحزنت كثيرا، وما زلت تتألم من فشلك الذريع.

- هذا صحيح أيتها الخرقاء، أكملي ..

- كيف تكرر صفة الخرقاء على مسامعي إذا! وأنا من أوقع الخلاف بينهما، وقد طلق زوجته وهى الآن في بيت أهلها، بعد عشرين سنة من زواجهما،كانا يعيشان بسعادة وهناء، وأولاد ونعيم، في عيشة رغده، يملؤها الحب والوئام، والعفة والشرف .

- اللعنة ..أأنت فعلت هذا ؟ ونجحتى حيث فشلت أنا! ثم انفجر كالبركان يزمجر ويهذى بكلمات غير مفهومة، لكنه طرب لخبر طالما أرق منامه وما يزال.. وكم مرة حاول دون فائدة، ليعود إلى بيته في كل مرة يجر ذيل الخيبة والفشل، مقهورا ذليلا لكنه استدرك قائلا:

- ما الفرق بيني وبينك إذا أيتها الداهية؟ فلنعمل معا، فنحن على طريق واحده، وأهداف مشتركة، يقهقه عاليا من جديد، يزعج الطير والحيوان، يلوث الهواء برائحته الكريهة المنبعثة كلما ضحك.

- صحيح ما تقوله يا سيد الشياطين، فقد برهنت لك على قدراتي الشريرة، والتي عجزت أنت على فعلها.

 يحس بضعف أمامها، وانحسار ومحدودية لقدراته الخبيثة، وعدم تميزه أمام بني ادم. ابتسمت أم فاطمة  فقد استطاعت استفزازه، وقد نجحت في ضمان قبوله للرهان وتبعاته، نتيجة لشعوره بعدم التميز عن بني البشر.. فها هم يفعلون الشر وينجحون، حيث فشل هو بذاته وعظمته.

لقد اهتدت أم فاطمة، تلك المرأة الحكيمة المجربة والخبيرة، بذكائها وقدرتها على استفزاز الشيطان للرضوخ لرهانها عن قناعة، بل وعن زرع التحدي لها في عقله.. فهي تعلم بان شرط الرهان هو أصل التحدي ؟ وسبب مجيئها إليه بأقدامها، وهى تعلم أنها في حالة فشلها في إقناعه سيكون حتفها لا محالة، وستوقع نهايتها المحزنة بيدها.. فالخاسر من الرهان، سيترتب عليه أمور عظيمة، وعواقب فادحة على سكان القرى جميعهم، وعلى قريتها على وجه الخصوص، سواء بالنفع أو الضرر.

- اتفقنا إذا أيتها الداهية، ولكن ما هدفك من هذا؟ وماذا تريدين؟

- اعلم أنك ذكى وماكر، و أدركت لا شك بان ما وراء الرهان أمر محدد، انه شرط وحيد لا غير، يسرى علينا الاثنان معا على السواء.

- انطق رهانك أيتها الداهية الماكرة في الحال، والشرط الذي يتبعه وإلا...

- لا لا تستشط غضبا، إليك الرهان وشرطه: من يستطع الإصلاح والتوفيق بين الشيخ حسان وزوجته المصون، الشريفة بنقاء الشاش الأبيض، ويجعله يعيدها إلى ذمته، والى بيتها وأولادها يكون قد كسب الرهان.. وأما شرطه الوحيد: يتمثل في أن المهزوم يغادر فورا القرية، وعليه أن لا يسكن في أي قرية أخرى، ولا يجاور الناس، بل يذهب إلى الجبال حتى آخر عمره، يبقى وحيدا هناك حتى يموت.

صمت برهة.. ثم راح يطلق ضحكاته المتتالية المزلزلة والمغرورة، موافقا على الرهان وشرطه....

- يتبع –

إلى اللقاء.