الغيمة الباكية 8

عبد الله عيسى السلامة

الغيمة الباكية

عبد الله عيسى السلامة

الفصل الثامن

شوكان بين الورد والشوك

كانت مناسبة الخطبة هذه فرصة ذهبية لشوكان، وعليه أن يعرف كيف يستغلها. فمنذ انتبه إلى أن الكولونيل شوفان الإنجليزي، يراقبه ويشك في أمره، ولا سيما حين التقت عيونهما لقاءً حاداً ومباشراً قبل صعود الكولونيل إلى السيارة.. منذ ذلك الحين، أحس شوكان بالخطر، وصمم على فعل شيء ما، ينقذه من الخطر الوشيك، الذي صار متوقعاً بين لحظة وأخرى.. وجاءته الفرصة المناسبة.

لم يخب ظن الكولونيل الإنجليزي بشوكان، ولا خابت فيه فراسة البدو.. إنه ليس عبداً، ولا تعرف العبودية إلى نفسه سبيلاً.. لكن ما الذي كان عليه أن يفعله، كي ينجو من مطاردة الإنجليز في المستعمرة الشرقية، ومن كيد حلفائهم في المستعمرة الغربية، المتاخمة لبلاده.. لقد أمضى شهوراً عدة، منذ أجهضت الانتفاضة الأبية في بلاده ضد الإنجليز، متنقلاً من مكان إلى آخر، من شيخ إلى شيخ، ومن عشيرة إلى أخرى، ومن ديوان إلى ديوان.. مرة ينتحل شخصية رجل بعينه، ومرة يتزيى بزي عبد، وثالثة يعمل أجيراً، ورابعة راعياً للغنم.. ولا يكاد يستقر أمره في مكان حتى يشعر أن فراسة البدو بدأت تحاصره.. فبواطن الرجال، لا تسترها الأزياء المزيفة، ولا الأسماء المستعارة، ولا الشخصيات المنتحلة إلا ضمن ظروف خاصة جداً، تمارس فيها عمليات تجسس من طراز معين.. وهذه مرحلة جديدة من مراحل الهرب والتشرد.. وعليه أن يبتكر لها صيغة مقبولة مقنعة، تساعده في الخروج من مأزقه الجديد، إذ يجب عليه مفارقة هذا المكان إلى أمد لا يعلمه الله..

أفاق مبكراً قبل الفجر بحوالي ساعة، فتوضأ وصلى ما شاء الله أن يصلي، في مكان منزو قرب ديوان الشيخ.. وظل يسبح الله ويدعوه ويستغفره، حتى بدأت تباشير الفجر تطل من الشرق.. فصلى الفجر، وانتظر في مكانه قليلاً حتى انتشر ضوء الصباح في المكان، فقام وأحضر شيئاً من الحطب، وأشعل نار القهوة، حتى إذا سخنت القهوة رشف منها فنجاناً، وتفقد ما بقي في الدلال من قهوة الأمس، فوجده وفيراً، ولا يحتاج الشيخ إلى قهوة جديدة هذا اليوم..

ليس لديه شيء يأخذه معه، إلا مصحف صغير الحجم، يتلو فيه شيئاً من آيات الله حين يواتيه ظرف مناسب، ومسدس يدافع به عن نفسه عند الضرورة.. أما لباسه فعلى جسده.. بدلة عربية قديمة غير ممزقة، وإن كانت باهتة اللون قليلاً بفعل الطبيعة.. مكونة من قطعتين، ثوب طويل يصل إلى ما تحت الكعبين، وفوقه معطف صغير فضفاض واسع الكمين، يسمى \"دراعة\".. وتحت الثوب الثخين، ثوب رقيق، يصل إلى الكعبين، وسروال أبيض طويل يصل إلى القدمين.. وعلى رأسه كوفية بيضاء قديمة، وعقال أسود غليظ قليلاً.. وفي رجليه حذاء قديم بلا جوارب.. هذا هو لباسه الذي خرج به من بلاده، شريداً متنكراً، يتوارى عن عيون الإنجليز حيناً، وعن فراسة البدو حيناً، وعن عملاء فرنسا حيناً.. أما الملابس الأخرى الاحتياطية، فهي قليلة خفيفة برغم تنوعها.. منها ما يلبسه تحت ثيابه ومنها ما يضعه في جيبه، مثل منديل يرمز إلى زي بلد معين، أو شال، أو شروال أسود، أو عقال من الوبر.. وهذه كلها، إنما يحملها معه للتنكر في زي بدوي نجدي، أو فلاح كردي.. أو نحو ذلك، مما تساعده عليه الظروف والأجواء المحيطة به.. وقد يحملها في صرة صغيرة، وقد يلبس بعضها، ويشد بعضها على وسطه ويضع بعضها في جيب من جيوبه أو أكثر، حسب مقتضيات الحال.. أما الآن فلن يحمل معه صرة، لأنه لا يريد أن يظهر للشيخ وابنه، أنه سيفارق الديار إلى غير رجعة، ويعطي الدليل من صرة ملابسه التي لا يحتاجها في سفرته القصيرة هذه، ولا بد أنه يحملها لفراق طويل..

أفاق حمود قبيل طلوع الشمس، وأعد نفسه للسفر وشرب فنجانين من القهوة، وامتطى الرجلان الفرسين اللتين أعدهما شوكان للسفر.. وانطلقا..

كان جو البادية جميلاً جداً.. أنواع الأزاهير المختلفة الأشكال والألوان والأحجام، تمتد على مرمى البصر، وتتمايل يمنة ويسرة مع نسمات الصباح الندية، وقطرات الطل تتراقص فوق أكمامها وأوراقها وأغصانها الخضر الطرية.. وأشعة الشمس الدافئة الخجول، تزحب ببطء مع زحف الشمس من الشرق، وهي ترسم فوق بساط السندس البديع، أشكالاً هندسية بارعة من الظلال الطويلة والقصيرة، والمضلعة والمستديرة.. حسب أشكال أصولها وجواهرها المنتصبة تحت أجفان الشمس الربيعية الفاترة الكسلى..

كل ما على ثرى البادية من نبات، ومن فراش وديدان وحشرات أنيسة لطيفة بديعة.. يمور بالحياة.. الحياة السعيدة البهيجة.. ومع ذلك، كان شوكان يحس بحاجة شديدة إلى البكاء.. لابكاء الفرح والبهجة، بل بكاء الحزن العميق، والألم الممض، والحسرة القاتلة.. كل أرض البادية مفعمة بالورد، فلم قلبه مفعم بالشوك؟ أين هو من أرض بلاده التي تلطخها كل يوم، بل كل ساعة أحذية عسكر الإنجليز، وترسم على صفحاتها الطهور أشكالاً من الذل والقهر والهوان، لا تطيقها نفس فيها ذرة من إباء..

وأين هو من أهله، الذين يحنون لجند الروم، صفر الشوارب، رؤوساً ما عرفت الانحناء لغير الله..

وأين هو من إخوانه الأباة، الذين تأججت في صدورهم جذوة الحق المقدسة، فهبوا كالليوث الكاسرة ضد جند الروم، أحفاد قيصر ونقفور برغم قلة العدد وضآلة العدة، فأصبحوا بين ليلة وضحاها بين قتيل وسجين وشريد..!؟

وكم من إخوانه البواسل الآن، حاله مثل حاله، لا تقله أرض، ولا تظلمه سماء، ولا يستقر له قرار في زاوية من زوايا المعمورة!؟

كان شارد اللب يستعرض أسماءه التي انتحلها لنفسه، في أثناء فترة تشرده وتخفيه، حين سمع صوت حمود يخاطبه بابتسام ورفق: أراك شارداً يا شوكان! أما ترى هذا الجمال البديع الذي سكبه الله على وجه البادية؟

قال شوكان متضاحكاً: وكيف لا أراه يا عمي؟ عيوني الحمد لله مثل عيون النسر، ترى الإبرة من مسيرة ساعة..

تضاحك رجلان، وقال حمود مشيراً إلى طير صغير، يقف فوق نبتة طويلة من نبات الصحراء: أتعرف نوع هذا الطي يا شوكان؟

قال شوكان مداعباً: والله يا عمي ما عشت في أيام النبي سليمان عليه السلام، حتى أعرف كل أنواع الطيور ولغاتها..

ضحك الرجلان مرة أخرى، وقال حمود: سبحان الله ما أبدع خلقه! جعل حتى لون الطيور بلون نباتات الأرض، حتى يساعده على التنكر والاختفاء عن عيون الصيادين..

أحس شوكان برعدة خفيفة في جسده.. الطير الأعجم يستطيع التنكر والاختفاء عن عيون الصيادين، وهو الذكي العاقل، يعجز عن حجب حقيقته عن فراسة البدو وخبث الروم..!؟

كان شوكان قد جاوز الخمسين من عمره، إلا أن لديه حيوية الشباب، ونباهة البدو الأصلاء، وحنكة الساسة المخضرمين.. فضلاً عن حذر الشريد المطارد المحكوم بالإعدام الذي يملأ بحثه عن الأمن كل جوانحه..

عاد إلى استعراض أسمائه المتنوعة: هلال الخابوري.. سراي الشريد.. متعب بن رحال النجدي.. عاثر بن طويسان الراعي.. غريب بن صحينان الجوال.. وأخيراً شوكان بن ظاعن الوراد..

ضحك في سره وقال: الحمد لله.. صار عندي كنز من الأسماء.. هذا من بركاتك يا رشيد عالي الكيلاني..

ثم خطر في باله خاطر.. ترى لو أن شوفان تأكد من شخصيته تماماً، وناداه فجأة: تعال يا مجرم، يا إسماعيل بن وائل القطاع.. أنت محكوم بالإعدام لاشتراكك في فتنة المجرم الكبير رشيد عالي الكيلاني.. ترى لو حصل هذا، هل سيخطر في بال شوكان أنه هو إسماعيل بن وائل القطاع، أم يظن المنادى شخصاً آخر..؟ وهل سيتذكر فعلاً أنه كان من الرجال البارزين في ثورة رشيد عالي الكيلاني، الذين رصدت السلطة ألف ليرة إنجليزية من الذهب الأحمر، لمن يأتي برأس واحد منهم، أو يرشد السلطات الإنجليزية إلى مكانه..!؟ إن في الأمر شكاً كبيراً.. إنه ليس إسماعيل القطاع.. ولا يعرف صاحب هذا الاسم، ولم يسمع به من قبل.. قد يكون شوكان الوراد.. أو متعب بن رحال النجدي.. أو عاثر بن طويسان الراعي.. أو.. أو.. أما أن يكون إسماعيل ابن وائل القطاع، فهذا مستحيل.. ويجب ألا يكون أبداً.. وإلا.. وإلا ماذا؟ حبل مشنقة.. ومئات الصور المختلفة الأشكال في الصفحات الأولى من جرائد لندن ومجلاتها، وقد كتب حولها بحقد وتشف: إعدام المجرم الهارب إسماعيل بن وائل القطاع، أحد أركان فتنة المجرم المتمرد رشيد عالي الكيلاني.. لا.. لا.. شوكان الوراد هو الاسم الحقيقي.. وسيظل كذلك، في كل مكان، فيه رجل واحد ممن زاروا الشيخ مسلط ورأوه عنده..

انتبه من شروده مرة أخرى على صوت حمود يقول له مداعباً: يبدو أنك لم تنم الليلة يا شوكان.. أرى رأسك ثقيلاً على غير العادة..

قال شوكان باسماً: وكيف لاحظت ذلك يا عمي؟

قال حمود: أراك لا تسمع النداء، إلا بعد مرتين أو ثلاثاً..

قال شوكان: ظنك في محله يا عمي.. إن نومي الليلة لم يكن طبيعياً.. كان خفيفاً ومتقطعاً.. ومملوءاً بالأحكام المزعجة..

قال حمود: خير إن شاء الله يا شوكان.. هات أسمعنا بعض أحلامك..

قال شوكان: رأيت يا عمي في الحلم أن هذا الملعون الذي يدعونه فهرور ألمانيا، انتصر على الإنجليز والفرنساويين، وطردهم من بلادنا وحزنت كثيراً لهذا الأمر.. وبعدها نظرت حولي فما رأيت سعادة الكولونيل لوفلتان الذي تغدى عند عمي الشيخ مسلط البارحة.. وتألمت كثيراً لأنه رحل عن البادية وتركنا، هو الكولونيل فوشان هذا الإنجليزي الناعم الذي جاء معه، وطلب مني أن أسقيه ماء، وعكف شواربه حتى ما تغط في كأس الماء..

ضحك حمود طويلاً لهذا الكلام، حتى كاد ينقلب عن فرسه.. وقال بعدها مداعباً: سبحان ربك يا شوكان ما أخف دمك..

قال شوكان متظاهراً بالجد: إذا رأى الواحد منا حلماً مزعجاً يكون خفيف الدم يا عمي..؟

قال حمود، بلهجة المتعالم على شوكان:

لا يا شوكان ما قصدت هذا.. لكن أنت غلطت بأسماء الضباط.. فسميت الفرنسي لوفلتان.. وهو اسمه لوفنتال.. وسميت الإنجليزي الذي طلب منك الماء: فوشان.. بينما اسمه: شوفان.

قال شوكان بحسرة ظاهرة: إيه.. سبحان من أعطى العلم لناس والجهل لناس يا عمي.. أنا إنسان جاهل.. ما أعرف أسماء الأجانب..

قال حمود: لا تتحسر ولا تهتم يا شوكان.. هذي أمور بسيطة.. أنت رجل عاقل مدرك، وتتعلمها بسرعة..

لم يكن سهلاً على شوكان أن يتظاهر بالجهل والغباء.. فهو رجل مثقف، يحمل شهادة جامعية في الآداب، قسم التاريخ.. فضلاً عن ذكائه وألمعيته.. إلا أن ظروف التشرد والتنكر، علمته أشياء كثيرة.. منها ضرورة التظاهر بالجهل والغباء.. مع ضرورة إتقان دور الغبي الجاهل.. إلا أنه لا يتمكن من النجاح دائماً في هذ الدور الصعب.. فالصفات النفسية والعقلية تعكس صمتاً ظاهراً على الحركات ومظاهر السلوك يتلاءم معها، ولا بد من التوفيق تجنباً للمفارقات.. وهذا ما جهد شوكان في السعي إليه.. إلا أنه لم يوفق تماماً.. فقد ظلت رصانته واتزانه والذكاء المتقد في عينيه، عوامل تساعد على كشفه بالنسبة لكل ذي فراسة وخبرة بالرجال..

واستأنف حمود كلامه قائلاً: ثم لماذا تحزن يا شوكان لانتصار الفهرور ورحيل الفرنساويين والإنجليز عن بلادنا؟

قال شوكان بجدية تخالطها رنة أسى: هؤلاء حكامنا يا عمي.. أسيادنا.. إذا رحلوا عن بلادنا عمن سيحكمنا؟ كان قبلهم يحكم بلادنا العثمانلي هذا الذي يذكرونه ويتحدثون عنه في مجلس عمي الشيخ مسلط.. ويقولون عنه: إنه ما يفهم، وما يعرف يحكم البلاد.. وكانت بلادنا في زمانه ما ترى الخير.. ولما ذهب العثمانلي، جاءنا الفرنساوي وحكم بلادنا، حتى يمدنها ويكثر لنا الخيرات.. فإذا ذهب الفرنساوي من سيحكم بلادنا بعده يا عمي؟ والله حكم الفهرور ما نريده يا عمي، ولا نشتريه بمتليك.. تعرف المتليك يا عمي هذا عملة عثمانية رخيصة.. والله ما نشتري حكم الفهرور وأصحابه الطليان بمتليك يا عمي..

ضحك حمود مرة أخرى ضحكاً قوياً، لحديث شوكان في السياسة.. وقال له: لا تهتم يا شوكان.. لا تهتم الله أكبر من الفرنساويين والإنجليز.. وأكبر من الفهرور وطليانه.. ونحن عرب في البادية.. ما لنا غرض بالحكومات والحكام.. والذي يأخذ أمنا ندعوه عمنا.. نحن الآن في سفر من أجل قضية، ونرجو الله أن يساعدنا على تحقيقها..

كما كانت أحاديث شوكان في السياسة تسري عن صاحبه، كانت تسري عنه هو قليلاً.. إلا أنها كانت من ناحية أخرى، تترك في صدره جراحاً، تُنكأ بين حين وآخر.. وكانت عبارات \"عمه\" المتعالم، ابن شيخ القبيلة التي تعد عشرات الآلاف من الرجال القادرين على حمل السلاح، كانت هذه العبارات تدمي فؤاده، وتعمّق حاجته إلى البكاء، الذي يأخذ أمنا ندعوه عمّنا\".. عشرات الآلاف من الرجال القادرين على حمل السلاح، يقودهم هذا الشاب وأبوه وأعمامه.. وجنود الفرنسيين يجوسون خلال الديار، يعربدون ويفسقون ويسكرون وينهبون، ويذلون البلاد والعباد.. و\"عمه\" حمود يردد ببلاهة \"الذي يأخذ أمنا ندعوه عمنا\".. أين يجدي البكاء إن لم يجد هنا.. رشيد عالي الكيلاني تصدى للإنجليز بحفنة من الرجال.. ويوسف العظمة تصدى لزحف فرنسا بحفنة من الرجال.. وإبراهيم هنانو قاوم الاحتلال الفرنسي بحفنة من الرجال.. أفليس في بلاد المسلمين سوى هذه \"الحفنات\" الصغيرة..؟ أين مئات الآلاف من حملة السلاح، بل أين المئات الذي يقتلون في البوادي، من أجل ناقة أو بعير، أو خروف، أو كلمة طائشة في كل عام؟ وأين الذين يحملون بنادقهم ويهجمون بالمئات، على إحدى القبائل لأن سفيهاً من سفهائها أسقط عقال الشيخ فلان عن رأسه أو نتف شعرات من طرف شاربه، فتحدث مجزرة ترتع الضباع في أشلاء ضحاياها شهورا طويلاً؟ أين أشباه الشيخ شامل، وعبد الكريم الخطابي، وعبد القادر الجزائري، وعز الدين القسام، في هذه البادية..؟ ترى لو وزن شعر الشوارب المعقوفة حول أنوف القوم، أما كان يثقل كواهل مئة بعير ضخم من بعران البادية!؟ إن كلمات \"عمه\" مسلط، ما تزال ترن في أذنيه، حين جاءت سيرة لوفنتال في مجلسه منذ أسابيع وما يمارسه من نذالات، إذ قال لأحد شباب القبيلة الناقمين على الضابط الفرنسي الخبيث وأفعاله الدنيئة: \"لوفنتال يا ولدي في بلادنا سلطان.. والسلطان ما يقف في وجهه أحد..\" يا الله..! نظر إلى السماء.. ثم سرح بصره في جنات البادية، وتنهد هامساً في أعماقه: أهؤلاء الليوث على بعضهم، الأرانب في مواجهة الكفرة، يستحقون هذه النعم التي غمرتهم بها رحمة الله!؟

قال له حمود: لم تقل لي يا شوكان، ماذا تتوقع حول مشروع أفريقيا تضرب بالرمل، لذلك لم تصلني هذه النعمة بالوراثة، ولا استطعت كسبها بالتعلم..

قال حمود باسماً: ليست القضية قضية رمل ولا ودع يا شوكان.. أنت صاحب خبر بالناس وظروفهم ومواقفهم.. وتستطيع من خلال خبرتك أن تتوقع إجاباتهم على بعض القضايا، كقضايا الزواج وأمثالها..

قال شوكان باسماً: أرجو الله أن يوفقنا إلى الخير.. ليرتاح عمي الشيخ مسلط من دلال عمي حامد.. فإذا رزقه الله بنت حلال تصوم وتصلي مثله، فعسى الله أن ينشئ في البادية جيلاً يفرق بين الدم الحرام والدم الحلال..

قال حمود: ماذا تقصد يا شوكان؟

قال شوكان: أما رأيت يا عمي البارحة ماذا جرى..؟ أما سمعت ما فعله عقاب بن طراد المنصور بالهشاتي، من أجل كلمة طايشة؟

قال حمود: أراك تميل إلى الهشاتة ضد المداعيس يا شوكان!

قال شوكان: أنا يا عمي ما أميل مع أحد.. أنا عبد من عبيد عمي الشيخ مسلط، الذي يعجبه يعجبني، والذي يقوله هو القانون عندي.

قال حمود: هل تعرف شيئاً عن المداعيس يا شوكان؟ يقولون إنها قبيلة قوية، كثيرة الزجال والمال..

قال شوكان: إذا كنت أنت يا عمي لا تعرف، وأنت ابن الشيخ مسلط الذي يزور ديوانه آلاف الناس كل سنة، من كل أنحاء البلاد.. فمن أين أعرف أنا العبد المشغول بالقهوة ودلالها وحطبها ونارها..

قال حمود: ولكنك تجولت في البلاد كثيراً، وتعرف كثيراً من أخبارها وأخبار قبائلها وعشايرها وزعمائها..

قال شوكان: والله يا عمي أسمع الناس يقولون إن المداعيس قبيلة كبيرة، عددها حوالي مئة ألف إنسان.. والرجال الذين يحملون السلاح منها يعدون عشرة آلاف رجل.. وعندهم أموال ما تأكلها النيران.. لكن..

وسكت شوكان، فرانت فترة الصمت، قال بعدها حمود: لكن ماذا يا شوكان؟

قال شوكان: لكن سمعت أنا السلطة الفرنسية ما هي راضية عنهم تماماً.. وتحاول أن تضغط عليهم..

قال حمود: وما السبب حسب علمك، يا شوكان؟

قال شوكان: يقولون يا عمي إن السبب هو رجل اسمه عباس المدلول، شيخ عالم متدين.. كان يزور القبيلة بين فترة وفترة، وأثر في بعض شبابها ونسائها، فتمسكوا بالدين..

قال حمود: وما علاقة فرنسا بالأمر..؟ وهل فرنسا تحارب الدين؟

أحس شوكان بخنجر ينغرس في صدره، أمام سذاجة \"عمه\"، إلا أنه ظل متظاهراً ببساطته وعفويته، فقال:

أنت يا عمي أخبر بفرنسا مني، وتعرف ما إذا كانت تحارب الدين أم لا.. لكني سمعت أن الشيخ مدلول، كان يفسر لهم آيات من القرآن الكريم، ويقول لهم إن هذه الآيات تأمرنا بمحاربة الكافرين، وعدم السماح لهم بإذلال المسلمين والسيطرة على ديار الإسلام.. وحين يسألونه عن حكم فرنسا، يقول لهم إنها دولة كافرة..

قال حمود: ها.. إذن السبب هو محاربة فرنسا، وليس التمسك بالدين..

ظل شوكان محافظاً على تجلده وتماسكه، برغم إحساسه بالغثيان أمام هذا المنطق لأبله، وقال:

والله يا عمي ما أدري.. هذا هو الشيء الذي سمعته.. والله أعلم بالصحيح.

كان شوكان خلال فترة تخفيه في البادية، يتقصى أخبار القبائل، وينصت بوعي عميق، إلى ما يسمعه مما يتناقله الركبان، وما يذكره الناس في مجالس الزعماء والشيوخ، من أخبار هذه العشيرة أو تلك القبيلة.. ومن أخبار الحكومة وما فعلته بهذا الشيخ أو ذاك الوجيه.. وكان يحرص على تتبع هذه الأخبار لأسباب عدة، أهمها حرصه على معرفة القوى البشرية والاقتصادية وتوزعها في البادية، لرسم صورة واضحة تساعده في تجسيد بعض الآمال في ذهنه، حول ما يمكن فعله، ضد فرنسا وحليفتها بريطانيا، فيما لو استثمرت هذه القوى البشرية والمالية الهائلة استثماراً جيداً، ووظفت توظيفاً مناسباً باتجاه هدف محدد.. إلا أن آماله هذه، لا تزداد مع الأيام إلا ضبابية وغموضاً وضعفاً، كلما التقى بشيخ قبيلة أو شيخ عشيرة، أو وجيه أو زعيم، وسمع منطقه، وعرف طريقته في التفكير.. والسبب الثاني المهم، الذي يدفع شوكان إلى تقصي أخبار البادية هو حرصه على معرفة مناطق الأمن، ومناطق الخطر، بالنسبة لأمنه الشخصي.. ومعرفة البدائل المحتملة، فيما لو اضطر إلى مغادرة مكان هو فيه نتيجة لخطر داهم..

تنهد، وعاد بذاكرته إلى ما قرأه في بعض كتب التاريخ عن بعض الثورات التي قامت ضد حكم بني أمية، وبني العباس.. ومصائر بعض الرجال الذين اشتركوا في هذه الثورات.. وما مارسه بعضهم من أساليب في التخفي والتنكر، للتواري عن أعين السلطات، وجواسيسها المنبثين في كل مكان من البلاد.. ثم توقف عند شخصية الشاعر الخارجي عمران بن حطان، واستعرض بعض أساليبه الطريفة في التنكر.. ثم وازن بين حاله وحال عمران وابتسم بمرارة.. ذاك ثار ضد حكومة كافرة، غريبة عن البلاد وأهلها، حاقدة على الإسلام والمسلمين.. تعمل جاهدة صباح مساء، لمحو اسم الإسلام على وجه الأرض.. فأيهما أحق بالثورة؟ هو أم عمران؟ وأيهم أحق بالثورة، الحسين بن علي بن أبي طالب، وقطري بن الفجاءة ومحمد ذو النفس الزكية، ومحمد بن الأشعث.. أم طراد المنصور، وعريفج بن دلوان، ومسلط بن سطام، وشماط ابن جازي، ومرشد بن حازم التوهان.. أي هؤلاء أحق بالرفض والتمرد والثورة؟ وأين الرجال من الرجال..؟!

أهي أقدار الله التي رتبت له هذا الترتيب؟ قتل عقاب للهشاتي، والاحتكام عند مسلط، وشك الضابط الإنجليزي في شخصيته، ومعرفة مسلط بوجود بنت متدينة عند هواش المنصور تناسب ابنه المتدين، وإرساله في تقصي الأخبار مع حمود لأجل الخطبة، والفرصة المواتية للهرب من عيون شوفان.. وما يدري بعد ذلك ما الله صانع به..!؟

أهذا الترتيب كله مجرد مصادفات اعتباطية، أم أقدار ربانية تحرك الناس وترتب النتائج على الأسباب..!؟ ذكر الله وتذكر عظيم حكمته، وما فيها من أسرار لا تدرك العقول مداها.. ففي الغيب المجهول، ما هو أعجب من هذه الموافقات اليومية البسيطة الظاهرة، وأغرب وأشد إثارة للتأمل، واستنفاراً لقوى الذهن والنفس والخيال..

ما الذي شكك الضابط الإنجليزي فيه؟ هل رأى صورته في إحدى الصحف ذات يوم؟ هل وزعت صورته على القوات البريطانية بقصد ملاحقته والتعرف عليه..؟ هل اشترك شوفان في قمع ثورة الكيلاني، ورآه في هذه الأثناء..!؟ كل الأمور محتملة.. وبعضها أكثر احتمالاً من بعض.. إلا أنه من المؤكد، أن شوفان لن يتخلى عن شكه في شوكان، أو ينساه، حتى يصل إلى قناعة مؤكدة بشأنه.. إن يعرف الإنجليز.. يعرفهم جيداً، ويعرف أساليبهم الماكرة في محاصرة أعدائهم ومراقبتهم من بعيد، ونصب المصايد والأفخاخ لهم، واستدراجهم إليها، حتى يقعوا فيها، وهم يظنون أنهم في مأمن من عيون الصيادين.. وهنا تذكر المثل القائل \"من مأمنه يؤتى الحذر\" وتذكر كيف اصطاد الإنجليز بعض أعدائهم وخصومهم، في ظروف كانوا يحسبونها ظروف أمن ممتازة بالنسبة لهم.. وهمس لنفسه الآية الكريمة: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا..) وبدأت تلح على ذهنه فكرة التعرف عن قرب على بعض أتباع الشيخ المدلول.. من هم؟ وماذا يريدون؟ وما ظروفهم الحالية.. وذلك لغايات كثيرة في نفسه.. لكن.. لا بد لذلك من إقامة طويلة بالقرب منهم.. فكيف؟ سيدرس الأمر لاحقاً، وعلى مهل، وعلى ضوء الظروف والأوضاع الراهنة.. لا بد أن يعرف ما إذا كانوا رجالاً يعرفون ما يريدون ويعملون له بدأب وصمت، أم أطفالاً يعبثون بالنار، ولا يعرفون مع من يتعاملون، ولا من يصاولون وينازلون.. لا بد من ذلك.. ولا بد من تهيئة الظروف المناسبة لذلك..

التفت إلى حمود وقال:

ألا ترى يا عمي أن الطريق طال علينا.. وأن حرارة الشمس بدأت تزداد!؟

قال حمود باسماً: أتريد أن نسرع قليلاً يا شوكان؟

قال شوكان: إن كنت تريد ذلك، فيبدو أن الإسراع أفضل..

قال حمود: خير إن شاء الله.. شد ثيابك جيداً، وشد منديلك على رأسك بقوة، حتى لا يضيع المنديل والعقال.. وليس أمامنا سوق نشتري بدلاً منهما.. تضاحكا قليلاً، وشد كل منهما ملابسه على جسمه، ومنديله على رأسه، ثم وكز كل منهما فرسه، وانطلقت الفرسان تعدوان بقوة..

كان الوقت قريباً من الظهر، حين أشرفا على منازل القبيلة، تلوح على مسافة مئات الأمتار عنهما، فشد كل منهما لجام فرسه، وكبح جماحه عن الركض العنيف، وعادا إلى السير العادي البطيء، كانت الفرسان قد ركضتا حوالي ساعة، بين ركض سريع جداً وسريع.. وكان العرق قد بدأ يتصبب منهما، وصوت زفيرهما يسمع على بعد أمتار عدة.. كما أن الرجلين عرقا عرقاً غزيراً كذلك، وحين توقف الركض بدأ كل منهما يمسح وجهه، ويخلخل بين ثيابه، ليتسرب إلى داخلها الهواء، فيجفف ما فيها من عرق..

قال حمود: ها قد وصلنا تقريباً يا شوكان.. فما رأيك؟ أنتجه أولاً إلى منزل هواش والد الفتاة، أم إلى ديوان الشيخ طراد، شيخ القبيلة، كما هي العادة؟

قال شوكان: الرأي لك يا عمي.. لكن أنت تعلم أن زيارتنا هذه ليست زيارة خطبة، وإلا لكان الواجب زيارة طراد أولاً.. زيارتنا هذه لجس النبض، ومعرفة الأوضاع..

قال حمود: حسن.. وأنا رأيي أن تزور والد الفتاة أولاً.. لكن يجب معرفة بيته.. فاسأل لنا عن بيته يا شوكان، أول من تراه في طريقنا..

وعلى بعد أمتار عدة، كان صبية يلعبون ويتصايحون.. فتقدم شوكان باتجاههم، ونادى أحدهم، وكان غلاماً في الثانية عشرة من عمره، وسأله: أين بيت هواش المنصور يا ابن أخي؟

نظر الغلام متفرساً في الرجل، وقال له: هواش المنصور منازله في آخر منازل القبيلة من جهة الشرق يا عم.. وبيته أول بيت من جهة الجنوب، أمامه فرس حمراء لها سيالة بيضاء في جبهتها، ووراءها فلو عمره شهران، وبجانب مربطها، حصان أبيض محجل الذراعين، عال طويل الذيل.. وهذا حصان ابنه منادي.. و.. وحين أراد الغلام أن يستطرد في وصف علامات البيت، قال شوكان: حسبك يا ابن أخي حسبك.. اكتفيت.. وأدار ظهر حصانه، فناداه الغلام: وبيته مسوبع يا عمي متجه إلى الجنوب..

ضحك شوكان لإصرار الغلام على دلالته بشكل دقيق، ثم أشار لحمود بيده إلى جهة الشرق، فسارا بين المضارب، حتى وصلا البيت الذي أشار إليه الغلام.. إلا أنهما لم يريا الفرس وفلوها ولا الحصان الأبيض، بل عرفا البيت من كونه الأول في جهة الجنوب، وأنه مسبوع..

نزلا عن دابتيهما، وربطاهما في مربطين متقاربين، ثم اتجها إلى الديوان، الذي لم يكن فيه أحد.. جلسا لحظات، وإذا امرأة عليها سماء الحشمة والاتزان والصلابة، تدخل عليهما مرحبة: يا أهلاً بالضيوف.. يا مرحباً بالدرب الذي جاء بكم.. لا تؤاخذونا.. الشيخ هواش ومنادي خرجا قبل قليل لزيارة رجل مريض من وجوه العشيرة.. وسنرسل خلفهما حالاً.. والبيت بيتكم على كل حال.. القهوة ساخنة، والماء في الخابية، والغداء بعد ساعة يكون جاهزاً..

كانت الساعة في حدود الواحدة ظهراً..

أرسلت نجدية غلاماً من غلمان العبيد، إلى الشيخ هواش ليناديه، وأرسلت أحد العبيد إلى راعي الغنم الذي كان يسرح بها، على بعد مئتي متر من المضارب، وعادت إلى الرجلين ترحب بهما، وتتوقع بحس المرأة البدوية المجربة، أن هذه الزيارة ليست زيارة عابري سبيل..

قامت فصبت لهما قهوة، وأحضرت كيساً كبيراً مملوءاً بالتتن، ووضعته بينهما مع قداحة الفتيل الجديدة.. وطلبت منهم أن يدخنا، فتناول حمود الكيس، ولف سيجارة وأشعلها، ووضع الكيس بجانب شوكان، فأشارت إليه المرأة بالتدخين، فاعتذر بأنه لا يرغب الآن، وحين ألحت عليه، لف سيجارة وأشعلها.. لم يكن مدخناً مدمناً، وإنما يدخن في المناسبات التي يفرض عليه فيها التدخين مجاملة، كيلا يلفت الأنظار إليه، في أجواء يندر فيها الرجال الذين لا يدخنون..

عرفت المرأة من لباس الرجلين، ومن جرأة حمود وتواضع شوكان، أيهما الشيخ وأيهما العبد.. وقد كانت هذه النظرة الأولى العابرة.. فحمود يلبس ثياباً جديدة وعباءة جديدة ثمينة جداً، وفي وجهه نضارة وعناية بشعر اللحية والشاربين.. ولم يكن صاحبه كذلك.. فمن يمكن أن يكون الحر منهما، ومن يمكن أن يكون العبد..؟ الأمور واضحة لا تحتاج إلى دليل..!

كان العبد الذي ذهب إلى الراعي على ظهر الدابة، أسرع من الغلام الذي ذهب لاستدعاء هواش، إذ أحضر الأول خروفاً سميناً وعاد، فتناولته نجدية وذبحته، وبدأت بسلخ جلده، تهيئة لتقطيعه ووضعه في القدر..

وبعد فترة وجيزة حضر هواش وابنه، فرحبا بهما ترحيباً شديداً.. ولا سيما أن \"هواش\" كان بالأمس ضيفاً عند والد حمود، وقد تعرف على الرجلين في مجلس التحكيم.. وإذا كان سروره بحمود كبيراً، بصفته ضيفاً عزيزاً.. فسروره بشوكان كان أكبر بكثير في أعماقه، ولا سيما بعد أحاديث الفراسة، وتكهنات المشايخ حول طبيعة الرجل.. فلعلها فرصة مواتية للتعرف عليه عن قرب، وبهدوء وإمعان..

طلب هواش من منادي أن يذهب إلى البيت لإعداد الغداء، فذهب وعاد يبتسم، ففهم أبوه أن نجدية قامت بالواجب، وهي بصدد إعداد الطعام، فبان السرور في وجهه، وعاد إلى الترحيب بضيوفه.. وقام فسقاهم قهوة، وعاد إلى مكانه وأشار إلي كيس التتن الذي بينهما ليدخنا..

سألهما هواش قائلاً: إن سفركم طويل، فهل استرحتم في الطريق؟

فابتسم حمود قائلاً: من الديوان إلى الديوان..

قال هواش: أتحبون أن تستريحوا الآن، أم بعد الغداء..!؟

قال حمود: لسنا متعبين كثيراً على كل حال..

قال هواش مداعباً: أنت شاب ولا يؤثر فيك السفر.. أما شوكان فرجل متقدم في السن مثلي، ويتعبه السفر..

تضاحكوا قليلاً وقال شوكان: أنت ما زلت شاباً يا عم هواش..

قال هواش مازحاً: عمك يا شوكان الشيخ مسلط.. أما أنا الآن فخادمك، لأنك ضيف عندي.. أنت عمي الآن يا شوكان..

سر الرجلان الضيفان لهذا الكرم الزائد، وهذه الأريحية الصادقة لدى هواش، وقال حمود:

جودكم معروف يا أبا منادي.. وما أتينا إليكم، إلا ونحن نعرف من أنتم..

كانت هذه إشارة لطيفة من حمود، فهمها هواش، وقد أن الرجلين قدما لحاجة لهما عنده.. ولكن ماذا عنده، مما يمكن أن يحتاجه مسلط بن سطام العليان؟ فليس الرجل بحاجة إلى مال، ولا إلى رجال.. وبدأ ظنه يتركز شيئاً فشيئاً حول ظبية.. لكن ليس هذا وقت الحديث في حاجات الضيفان.. لا بد من الطعام أولاً..

خرج من الديوان باتجاه البيت، فرأى زوجته نجدية وابنته ظبية، تعدان اللحم للطبخ، يساعدهما بعض العبيد ونسائهم وبعض الأجراء، فقال يخاطب زوجته مازحاً: أعرفك يا أم منادي.. تبيضين الوجه وتسدين غيبة الرجال..

قال نجدية مبتسمة، وهي منهمكة في العمل: أتمدحني على هذا الأمر البسيط يا هواش؟ وهل تتصور أن نترك ضيوفنا جياعاً..!؟

قال هواش: لا والله يا أبا منادي.. ما أتوقع منك إلا كل شيء يرفع الرأس..

ثم التفت إلى ظبية، فرأى فيها نحولاًً، كما رأى فيها شفافية وعمقاً، لم يكن قد انتبه إليهما في الأيام القليلة الماضية.. فقال يخاطبها:

كيف حال ظبيتنا اليوم؟

قالت بأدب جم: بخير يا أبي ولله الحمد..

كان يشعر بأنه يجب أن يسبر أعماقها، ليعرف ماذا بقي فيها من آثار الحزن الدفين.. الغيوم الآن كلها ربيعية خفيفة، إلا ما ندر منها.. وقد تحسنت أحوال الفتاة في أوائل الربيع.. فهل هذا التحسن قوي ودائم، أم عرضي طارئ، ما تلبث أن تبدده غيمة ليس يقينياً.. ومع ذلك لا بد من الاحتياط للأمر..

أعد الغداء وقدم للضيفين، ومن دعاء هواش من وجهاء العشيرة، وبعد الغداء وارتشاف فناجين القهوة، طلب حمود من مضيفه أن يتحدث معه على انفراد.. فخرجا سوية، وجلسا على بعد أمتار من الديوان، وعرض حمود الموضوع الذي حضر من أجله.. فسكت هواش قليلاً، ثم جامل ضيفه بكلمات لطيفة مؤدبة، قائلاً: أنتم أهل لكل خير.. وإذا خرجت ابنتنا من بيت أبيها وأمها، فلن تجد خيراً من بيتكم، بيت النسب العريق والكرم والحمية.. وإنه ليشرفنا أن نكون أقارب لكم، وأخوالاً لأولادكم.. لكن يا حمود البنت فيها بقايا مرض، أصابها في بداية الشتاء، وما زالت آثاره في نفسها حتى الآن.. جسمها سليم معافى ولله الحمد.. لكن في نفسها حزناً دفيناً، لا يخفف من شدته إلا البكاء.. وقد كانت رؤية الغيوم الماطرة تساعدها على البكاء.. أما الآن وقد ذهب الشتاء، وقلت للغيوم المثقلة بالماء، فما ندري كيف يكون شأنها.. إنها الآن في تحسن ظاهر.. لكن مع ذلك لا نضمن عدم إصابتها بنكسة قوية، تزلزل كيانها، وتعيدها إلى جو الحزن والكآبة..

قال حمود: أفهم من ذلك أنك لا تعارض في الزواج، وإنما بقايا المرض تجعلك تتردد في الأمر..

قال حمود: وما رأي البنت وأمها وأخيها..

قال هواش: لولا حالة المرض، لقلت لك إن سؤالك في غير محله، فالرجل إذا زوج ابنته فلا عبرة ولا أهمية لآراء الآخرين.. لكن حالة المرض، تجعلني مضطراً أن آخذ رأي الجميع، وأدرس الأمر بهدوء وعلى مهل، وهذا يحتاج إلى بضعة أيام..

قال حمود: وما رأي أعمام البنت.. طراد والآخرين؟

قال هواش: لا أظن أن في الأمر مشكلة، وإن كانت القضية مطوية منذ زمن طويل، منذ خطب عقاب الفتاة ورفضته لأنه تارك صلاة.. وتارك الصلاة له حكم شرع قاس عند ابن مدلول الذي أخذت العهد على يديه.. هذاً فضلاً عن عنف عقاب ودمويته وكثرة مشاكله.. وعلى كل حالن أظن الأمر منتهياً بالنسبة لطراد وأولاده، فعقاب هذا وضعه.. وصالح لا يجرؤ على الزواج من فتاة رفضت أخاه الكبير، ولا يجد ذلك مناسباً تجاه أهله والآخرين..، فضلاً عن أنه مسافر هو وابنا عمه الآخران، اللذان يمكن أن يقفا في وجه البنت.. ولا يبقى إلا ابن مسعود، وهذا لا أزوجها إياه، لو لم يبق في الدنيا رجل غيره.. أدفنها حية، ولا أزوجها لابن مسعود.. هذا رأيي في الموضوع عامة.. وإذا أحببت أن تطمئن تماماً، فبإمكانك استقصاء الأمر بنفسك.. فالقضية تهمكم أولاً بصفتكم غرباء، تخطبون فتاة، لها أبناء عم كثيرون..

قال حمود: خير إن شاء الله.. ما دام الأمر كذلك، فلا نرى ضرورة لمشاورة أحد من أعمامها الآن.. وإن جد شيء لاحقاً فلكل حادث حديث.. لكن متى أتلقى جواباً منك؟

قال هواش، في بحر مدة لا تزيد على أسبوع.. فإن وجدت الأمر مناسباً ومعقولاً أرسلت لكم مرسالاً.. وإلا فاعتبروا الباب مسدوداً..

قال حمود: هل ترى من المناسب أن أبقى عندكم العبد شوكان خلال هذه المدة، حتى يأتيني الخبر من طرفكم، كيلا تتعبوا مرسالكم في سلوك هذا الطريق الطويل؟

قال هواش مسروراً: يا مرحباً.. هذا أفضل حل.. لكن هل ترى من المناسب أن تعود وحدك؟

قال حمود ضاحكاً: نحن رجال بوادي يا شيخ هواش..

قال هواش معتذراً: ما قصدت الخوف عليك، لكن السفر الطويل يحتاج إلى مؤنس.. وعلى كل حال، سأرسل معك ابني \"منادي\" يرافقك حتى منتصف الطريق ويعود، لنتسليا معاً في هذه الفترة.

قال حمود: على خيرة الله.. فهل تأذنون لنا.

قال هواش: الآن الوقت ما عاد مناسباً، فقد مضى على العصر أكثر من ساعة، ومقبل عليكم ليل، والبادية متاهاتها كثيرة.. لكن في الصباح إن شاء الله تسافرون.. والليلة نسهر معاً.

قال حمود: خير إن شاء الله.. كما تحب يا أيا منادي.

كان هدف حمود من إبقاء العبد شوكان، واضحاً في ذهنه.. فشوكان ذكي ذو بصيرة وعقل.. ولعله يستطيع تحصيل أكبر قدر من المعلومات عن الفتاة وأهلها وأخوالها، وما فيهم من ميّزات وعيوب، ومن سجايا حميدة أو ذميمة.. ليساعده ذلك في اتخاذ قرار الإقدام أو الإحجام، إذ المعلومات لديه ولدى أهله عن المداعيس قليلة ومختلطة، بسبب بعد المسافة، وعدم الاختلاط والتزاور بين القبيلتين.

أما هواش فرحب بذلك، لمعرفة سر العبد وكشف حقيقته، ومعرفة المزيد من المعلومات عن الصواهيد عامة وأسرة مسلط خاصة، وما درى الرجلان أن ما فعلاه إنما هو توثيق رباني ساقه الله إلى شوكان دون أن يبذل فيه جهداً.

وفي الصباح انطلق حمود ومنادي.. وظل شوكان وحده قريباً في ديوان هواش.. بين مضارب عشيرة السواعير.. وعليه أن يعرف كيف يوطن نفسه على التكيف مع هذه المرحلة، من مراحل الغربة والتشرد والترحال.

الفصل التاسع

الجاسوس

ظلّت قضية تسريب المعلومات، تشغل بال منادي، وتقضّ مضجعه.. فالضابط الفرنسي لوفنتال، يلح على أبيه هواش باستمرار تلميحاً وتصريحاً، ويهدده ويستبطئ تعاونه وتعاون ابنه منادي معه.. وهو لا يريد أن يتخذ خطوات حاسمة في هذا المجال، فيطيح بزعامة هواش لعشيرة السواعير، لأسباب عدة، من أهمها أنه ما يزال يطمع بتعاون هواش معه، وتعاون ابنه منادي بشكل خاص، لأنه عنصر قيادي في جماعة مدلول، ويستطيع أن يقدم خدمات كثيرة للكولونيل، فيما لو تمكن من استدراجه أو شرائه.. ومن أهم هذه الخدمات، ترك منادي داخل جماعة مدلول، ليزوده بالأخبار الدقيقة والمفصلة باستمرار، ليعزز معلوماته التي تأتيه من مصادر أخرى، وليحصل على معلومات جديدة، من خلال الزاوية التي يتحرك فيها منادي داخل جماعته.. هذا فضلاً عن أن الكولونيل مرتبط بقائده الأعلى الجنرال موراي، الذي يطلب من ضباطه الكبار، المنبثين في المحافظات والمناطق السورية، عدم اتخاذ أي إجراء هام إلا بعد أخذ رأيه فيه.. والتقارير والاقتراحات التي كان يرفعها لوفنتال، إلى موراي، عن أوضاع البادية والجزيرة، كانت تدرس باستمرار، وتصل الكولونيل الملاحظات والتوجيهات بشأنها.. هذه الأمور، وأمور أخرى متعددة، جعلت لوفنتال يتريث في تنفيذ تهديداته لهواش، ويكرر على مسامعه هذه التهديدات باستمرار.. وكان هواش يستمهله حتى تحين الظروف المناسبة لفعل شيء ما، في الاتجاه الذي يؤكد عليه الكولونيل.. وكان هواش، ينقل إلى ابنه أولاً بأول أحاديثه مع الكولونيل، ومواقف الكولونيل وتصرفاته تجاهه.. وكان منادي حريصاً في البداية، قبل أن يصله نبأ تسريب المعلومات، على نقل كل ما يسمعه ويراه، إلى جماعته التي يلتقي بها لقاءات عمل مستمرة.. إلا أنه بعد أخبار صفقة السلاح المتسربة إلى لوفنتال، وبعد علمه بأن الضابط الفرنسي، قد اطلع على لقاءاتهم بالشيخ المدلول، وبشكل مفصل.. بدأ يتردد كثيراً في نقل أية معلومة إلى مجموعته.. وذلك خشية التسرب ومضاعفة المشكلات.. فيصبح أبوه، وسيط الخير الذي ينقل معلومات لوفنتال إليه وإلى جماعته، عرضة للضغط والإهانة من قبل الفرنسي، إذا بلغه عن طريق عملائه، أن \"هواش\" يقوم بهذا الدور..

ولقد وقع منادي في حيرة شديدة تجاه هذا الأمر في البداية.. ألا يخبر جماعته بتسريب أخبارها، وفي هذا ما فيه من الخيانة والإيذاء لهذه الجماعة ومبادئها.. أو أن يخبرها بالتسريب، فيتسرب خبرة هذا من جديد إلى الضابط الفرنسي وتتعقد الأمور.. ولقد ناقش الأمر في ذهنه طويلاً.. ووازن بين الاحتمالات، ورجح بضعها على بعض، إلا أنه لم يصل إلى يقين قاطع في هذا المجال.. وقد انحصرت دائرة الشك عنده في ثلاثة من مجموعته التي تقود العمل، هم: قائد المجموعة سراح بن سارح الدعيوي، وجلمود بن حايص اللهاط، ورماد بن نهتان اللفاط.. أما سراح فسبب وضعه في دائرة الشك، هو شراسة زوجته، وحرصها على معرفة كل حركة من حركات زوجها، سواء بالنسبة لغيابه عن البيت، أو بالنسبة للعناصر التي يستقبلها في بيته، وغير ذلك من أمور.. فهي تطلب منه دائماً أن يقدم لها شفوياً، لائحة أعماله اليومية، وتمارس معه دور المحقق، فيما لو لاحظت عليه ارتباكاً، أو محاولة لإخفاء شيء ما.. وهو مستسلم لها، خاضع لإرادتها، بسبب طبعه اللين من ناحية، وبسبب خوفه من أن تنفذ تهديداتها المستمرة له بترك بيته وأولاده الخمسة، الذين لم يجاوز عمر أكبرهم اثني عشر عاماً.. وهو على هذا يجد نفسه دائماً بين ضررين، وعليه أن يختار أخفهما.. حسب تقديره واجتهاده.. فإفشاء أسرار جماعته لزوجته، يحمل خطر تسريبها إلى الآخرين.. وهو خطر احتمالي.. وتهديد زوجته بترك البيت، يحمل كذلك خطراً، لكنه أكثر احتمالية.. فضلاً عن الخطر المؤكد، وهو تنغيص حياته داخل البيت بكثرة الثرثرة والصياح وإفساد نفسيات الأطفال.. وبناء على هذا كله، كان يؤثر اختيار الضرر الأخف، وهو إطلاعها على ما يفعل، لتهدأ ثائرتها، وتبرد حرارة دماغها..

أما جلمود بن حايص اللهاط، فوضعه معروف كذلك، وهو كثرة ثرثرته وادعاءاته الفارغة، ومثاليته الجوفاء، وانتقاده للآخرين على كل حركة أو سكنة، دون أن يكون متأكداً من خطئها أو صوابها.. وهذه النفسية المضطربة المشوشة، تدفعه أحياناً إلى الحديث الهامس مع بعض من يتصور أنه يثق بهم، من أصدقائه الخلص والمقربين لديه، بقصد رفع شأنه أمامهم، والحط من شأن الآخرين.. ولا ينسى طبعاً بعد كل حديث هامس مع العناصر التي يثق بها، أن يذكر هذه العناصر، بأن هذا الكلام سري جداً.. وخاص جداً، ويجب عدم ذكره لأي إنسان كان..

وأما رماد بن نهتان اللفاط، فسبب الشك فيه، هو ما ذكره والد منادي، حول أصل عائلته الصليبي، وتركيز السلطات الفرنسية على عنصر صليب بشكل عام، للتعاون معها، بأساليب شتى، منها اغراء العنصر الصليبي بالمال، ومنها تذكيره بأصله النصراني الصليبي، ومنها الضغط عليه وتهديده.. يضاف إلى هذا كله، ما يعرفه منادي شخصياً من سلوك رماد نفسه، ومن طبيعته الهشة، ونفسيته القابلة للخضوع لأي ضغط أو تهديد.. إذ لا قبل له بمقاومة صيحة أو زجرة.. أو كلمة قاسية أو نظرة عنيفة، أو عبوس وجه.. هذا فضلاً عن الاسم الغريب الموحي \"رماد\"، الذي لا يسمي به البدو أبناءهم.. فالبدوي يسمي أبناءه عادة أسماء فيها شيء من الحمية أو التوقد أو الحرارة، مثل: مسعر، وقاد، شرارة، مشعل، وما شابه ذلك.. أما \"رماد\"، فيدل على نفسية خابية مطفأة، مما لا يتصوره البدو في حال من الأحوال.. فهل الأب الذي سماه بهذا الاسم، يمكن أن يربيه تربية تخالف مدلول الاسم!؟ هؤلاء هم العناصر الذين انحصر فيهم شك منادي.. أما العنصران الآخران: زلاف بن مخبور المكعون، وسالم بن مهاجر الناطور، فليس له عليهما ملاحظة من الناحية الأمنية..

وحين حصر منادي شكه في الثلاثة، بدأ يدرس الموقف بعناية، للوصول إلى الحل الأمثل، في الخروج من مأزق تسريب المعلومات، أو ما يمكن تسميته بالاختراق، الذي يمارسه لوفنتال ضد جماعة الشيخ المدلول..

فكر منادي بالأمر طويلاً: لمن يتحدث؟ وبمن يبدأ؟ وهل يطرح الموضوع في لقاء يضم العناصر الستة؟ كل خيار له سلبياته وإيجابياته..

طرح الموضوع أمام سراح بمفرده، قد يسبب له حرجاً شديداً، بسبب الوضع الشاذ لزوجته، وتوقعه أن تكون مصدر التسريب، فيحس بعبء جديد خطير يثقل كاهله، إضافة إلى الخيارات الصعبة التي يعاني منها باستمرار، فيدفعه ذلك إلى نوع من التمرد على هذا الواقع الأليم، وهذا التمرد بحد ذاته قد يدفعه إلى ترك العمل مع جماعة مدلول، أو التماس ثغرات عند زملائه الآخرين، لإلقاء التبعة عليهم، أو الظن بأن \"منادي\" يريد أن يزايد عليه بالحرص على أمن الجماعة من أنه رئيسها، وربما كان ينفس عليه موقعه القيادي، فيحاول رد الحجر من حيث جاء، واتهام منادي بالعمالة لأبيه العميل لفرنسا.. وغير ذلك من حماقات، مما يمكن أن تتفتق عننه النفس المشحونة بالقلق، أو التوتر أو الألم..

والحديث مع اللهاط منفرداً غير مجدٍ كذلك، لما يعرفه منادي عن نفسية الرجل.. وحتى لو كان بريئاً، فسوف يثير زوبعة ضد الآخرين بلا تبصر ولا روية، مما يعقد النفوس من ناحية، ويؤدي إلى تسريب جديد من ناحية أخرى.. والظروف يحتاج إلى روية وكتمان.. أما إذا أحس بأنه متهم، فسوف يندفع بعنف إلى تعداد أخطاء الآخرين، ليثبت أن خطأه لا يعدل شيئاً إزاء تلك الأخطاء الفادحة.. وهذا يعني ببساطة، أن الآخرين عليهم أن يفكروا طويلاً، قبل أن يوجهوا إليه أي لوم..

أما الحديث مع رماد منفرداً، فأشدها خطورة، لأنه متهم بالتسريب بشكل مباشر، وعن عمد وتصميم.. بخلاف الآخرين المتهمين بشكل غير مباشر، ولا يتهمان بالعمالة لقوة خارجة البتة..

وأما طرح الموضوع أمام الستة، فيعيد خطر التسريب من جديد حتماً، لأن المشبوه سيكون بينهم، أياً كان..

فما الحل؟ لا بد من اختيار أخف الحلول ضرراً، وأكثرها انسجاماً مع مبادئ العمل وقوانينه، وأنظمته المتبعة فيما بينهم.. وعلى هذا، فلا بد من الحديث المنفرد والمباشر والمفصل مع سراح، قائد التجمع.. ولتكن النتائج ما تكون..

وعرض الموضوع على سراح.. وكان ذلك في مساء اليوم الثاني، من حديث والده معه حول تسريب الأخبار.. ونزل الخبر على سراح نزول الصاعقة، فتمتم بحزن شديد: نحن مخترقون حتى العظم.. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. واستعاد سراح الحديث بالتفصيل.. فأعاده عليه منادي بدقائقه وتفصيلاته التي سمعها من والده..

أطرق سراح طويلاً، ثم رفع رأسه إلى منادي قائلاً: ما رأيك في الموضوع؟

قال منادي: أرى أنه لا بد من تحقيق حذر واع، وعلى أعلى درجة من السرية والكتمان..

فكر سراح في الأمر ملياً.. بمن يبدأ؟ بزوجته الشرسة الغضوب؟ سوف تقيم عليه الدنيا وتقعدها.. باللهاط؟ سوف يفضح المجموعة كلها بثرثرته ونقده السمج.. باللفاط؟ ربما.. إنه ألين الجميع عريكة.. وقد يتحدث بعد ذلك إلى زلاف بن مخبور، وسالم بن مهاجر.. عله من خلال الأجواء الهادئة يصل إلى رأس خيط معين..

سأل منادي مرة أخرى: ما رأيك في أن نبدأ باللفاط؟

تبسم منادي وأطرق صامتاً؛ إذ لم يكن قد حدث \"سراح\"، بمطالعاته الشخصية حول كل منهم..

وحين رآه سراح يبتسم، قدر أن في نفسه شيئاً يخفيه، فاستحثه على الكلام، فعرض له رأيه بصراحة حول اللفاط، وحديث والده عن صليب، وتحليلاته واستنتاجاته حول الموضوع.. حوقل سراح مرة أخرى، وقال لمنادي:

وما رأيك بالآخرين؟ أقصد المكعون والناطور؟

قال منادي: لا أرى جدوى من التحقيق معهما، ولا خطر من مفاتحتهما بالأمر، على سبيل العلم وأخذ الرأي والمشورة..

قال سراح: فما رأيك بالمراقبة؟

قال منادي: مراقبة من؟

قال سراح بابتسامة مرة: صحيح.. مراقبة من؟

قال منادي: أما أحاديث الرجل الخاصة، مع من حوله، فلا سبيل إلى مراقبتها.. وإن كان ثمة جدوى في المراقبة، فيجب مراقبة المتهم المباشر بالتسريب العمد..

قال سراح: تقصد \"رماد اللفاط\"؟

قال منادي: نعم..

قال سراح: ألديك وسيلة إلى ذلك؟

قال منادي: إن أطلقت يدي في التصرف، فأرجو أن أتمكن من الوقوف على حقيقته، ومعرفة ما إذا كان مذنباً أم بريئاً.

قال سراح: توكل على الله.. واطلب مني أية مساعدة تحتاجها..

وافترقا على ذلك.. بعد أن اقترح منادي على سراح، إبلاغ الأربعة الآخرين بتجميد النشاط مرحلياً لعدم جدواه.. وبضرورة محافظة كل منهم على دينه وخلقه القويم، فاستصوب سراح الفكرة، ووعد بتنفيذها..

فكر منادي بأسلوبين لكشف حقيقة اللفاط، الأول: مراقبته الدقيقة، من خلال بعض العناصر، ممن يثق به من جماعة المدلول وغيرها.. والثاني: محاورته والضغط عليه، ولمس بعض الأوتار النفسية الضعيفة لديه، وأهمها عنصر الخوف المتأصل في نفسه، وسرعة انهياره أمام ضغط.. ففضل الأسلوب الأول مبدئياً، مخافة أن يصل الحديث المباشر مع اللفاط إلى لوفنتال، فتزداد الأمور تعقيداً.. ومع ذلك، يبقى الأسلوب الثاني احتياطياً، لا بد من المغامرة في اتباعه، إذا أخفق الأسلوب الأول..

وبث منادي العيون حول اللفاط، وبدأت المراقبة من بعيد، دون أن يشعر بها.. واكتشف أمره.. وثبت بالدليل القطعي أنه على صلة مباشرة بلوفنتال.. وكان لا بد من اتخاذ الإجراء المناسب بحقه.. وليس هناك عقوبة ممكنة بالنسبة لهم أقوى من الفصل.. الفصل من التجمع.. وإبلاغ الشيخ عباس بذلك.. وهكذا كان.. التقت مجموعة القيادة بعناصرها الخمسة الباقية، وقررت فصل اللفاط.. لكن لا يبلغ بقرار الفصل، بل يبلغ بحل التجمع كله، واللجوء إلى العبادة الفردية، وضرورة عمل الخير مع الناس، كل من جهته وفي محيطه.. كما يحاط علماً، بأن هذه الأوامر هي أوامر الشيخ عباس..

وهكذا كان.. فصل اللفاط قبل خروج القبيلة إلى البادية بأيام قليلة.. وحرصت مجموعة القيادة على أن يبقى النشاط الجماعي في أدنى مستوى له.. فتوقف النشاط تقريباً.. ووصل ذلك إلى علم الكولونيل الفرنسي.. وصله عن طريق اللفاط، أن الشيخ عباس حل جماعته.. ووصله عن طريق عيونه التي بثها في القبيلة، أن عناصر المدلول قد انتهوا، وانفرط عقدهم، وشغل كل منهم بشؤونه الخاصة..

لكن الكولونيل لم يطمئن تماماً؛ إذ لم يجد تفسيراً مقنعاً وقوياً لهذا الحل.. بحث عن سبب وجيه يناسب هذا القرار الخطير، فلم يجد.. فظل الشك يراوده.. وظل يتلهف لمعرفة حقيقة الأمر.. وظلت عيونه ترصد له كل زاوية وبيت في القبيلة..

حين خرجت القبيلة إلى البادية، قررت مجموعة القيادة استئناف النشاط العام، بشكل ضيق، وذلك للاستفادة من أجواء الحياة في البادية؛ إذ ينشغل أكثر الناس بالسعي وراء دوابهم، واستثمار خيراتها، من حليب وجبن وزبد ولحم.. وتأمين حاجاتها من مرعى وماء.. فضلاً عن العلاقات الجديدة مع القبائل الأخرى، وعمليات الاختلاط والتزاور والتنافس في المكرمات.. يضاف إلى ذلك كله عمليات التغيير المستمر في مواقع البيوت، بيوت الشعر، والتجاور الاختياري، لسهولة نقل الخيام وبيوت الشعر من مكان إلى آخر، فيبتعد جار القرية، في الصحراء، عن جاره الذي لا يرتاح إلى جواره، ويتقارب آخرون في منازلهم، لمودة تجمعهم، أو علاقة قربى، أو مشاركة في رزق.. أو نحو ذلك..

وبدأت الأخبار تتوارد إلى مسامع الكولونيل لوفنتال، بأن جماعة مدلول استأنفت نشاطها.. إلا أنها أخبار مشوشة مختلطة، من عيون ترصد من بعيد.. ترصد السهرة والزيارة، والسفرة، واللقاء العرضي، والحديث العابر..

يتبع..