الغيمة الباكية(1)

عبد الله عيسى السلامة

الغيمة الباكية(1)

رواية: عبد الله عيسى السلامة

الفصل الأول

نهار يبتسم

كان بيت الشعر ذو الأعمدة التسعة، الذي يدعونه المتوسع، يهتز من أطرافه، بتأثير الرياح الغربية الندية، حين دخل العبد نهار ابن لافي يحمل بيديه حزمة صغيرة من الحطب، وجلس بجانب موقد النار، وهو يبتسم، ثم بدأ بتكسير الحطب ووضعه في الموقد، لإشعال نار القهوة.. قال الشيخ طراد وقد لحظ ابتسامة العبد نهار: خير إن شاء الله يا ابن لافي! أراك تبتسم.. أضحك الله سنك!

قال نهار مستبشراً: كل خير إن شاء الله يا أبا عقاب.. الغيم يا أبا عقاب.. الغيم.. الخير مقبل علينا إن شاء الله.

قال الشيخ طراد: الله يبشرك بالخير يا ابن لافي.. لكن والله ضحكتك ما هي ضحكة غيم.. لا بد أن يكون عندك شيء.

قال نهار: والله ما ضحكني غير الغيوم يا عمي شيخ طراد.. المطر يا عمي شيخ طراد حياة الأنفس.. حياة القبيلة والإبل والغنم والخيل.. حياتنا ما تساوي شيئاً بلا مطر يا أبا عقاب.. وأنت عارف..

قال الشيخ طراد: إي والله.. صدقت يا ابن لافي.. لكن.. الله يكب الظالمين..

قال الشيخ طراد عبارته الأخيرة بحرقة ثم أطرق صامتاً..

كان الوقت ضحى، وكان المجلس يضم قرابة أربعين رجلاً من وجهاء القبيلة وعامتها.. وكان اليوم هو السادس عشر من تشرين الأول من عام ألفٍ وتسعمئة وأربعين ميلادية..

كان الصمت يلف جميع من في المجلس، ولا يسمع إلا طقطقة العيدان في النار، وخفق الجبال التي تثبت بيت الشعر بواسطة الأوتاد المربوطة بها، المغروسة في الأرض..

كان الكثيرون ممن في المجلس يعرفون المشكلات التي يعاني منها الشيخ طراد، كلها أو جلها، بحسب قرب كل منهم من الشيخ أو بعده عنه.. وكثيرون يعرفون الهموم التي تؤرق الشيخ وتقض مضاجعه، ولذا بدأ كثير منهم، يفسرون عبارة الشيخ الأخيرة "الله يكب الظالمين" كل حسب معلوماته عن مشكلات الشيخ وهمومه.

الشيخ طراد هو الابن الأكبر للشيخ منصور المطلق الحردان، وقد ورث زعامة قبيلته، قبيلة المداعيس، عن أبيه عن جده.. ورثها بصفته الابن الأكبر، بحسب السنة المتبعة بين القبائل.. إلا أنه لم يرث الزعامة وحدها، بل ورث ما يلابسها ويرافقها من مسؤوليات ومشكلات وهموم.. وهذا أمر طبيعي لا غرابة فيه.. إلا أن الشيخ طراد قد ورث مشكلات إضافية خاصة، تتعلق بظروف خاصة بقبيلته، بل وبأسرته بالذات.. إن اثنين من إخوته يتمردان عليه، ويرفضان الخضوع لزعامته.. وإن ابنة أحدهما ترفض الزواج من ابنة الشاب المقدام عقاب، بحجة أنه جبار مجرم قتال قتلى، وذلك بعد أن لعب بعقلها أخوها وأغراها بالتدين، وصارت هي وإياه تابعين من أتباع الشيخ عباس المدلول، الذي يعتبره مريدوه من الأولياء.

وليت الأمر وقف عند هذا الحد، إذن لهان الأمر، بل إن ابنه الثاني "صالح"، ابن زوجته الثانية، أصبح هو الآخر من أتباع الشيخ عباس، وبات يأتمر بأمره، ولا ينفذ من أوامر أبيه إلا ما يقتنع بأنه ليس حراماً، ولولا حياؤه من الناس، وخوفه من الفتنة، أو من بطش أخيه عقاب، لتزوج بنت عمه المتمردة، التي لا يعجبها منه إلا صلاحه وخلقه المستقيم.. لكن ماذا يقول الناس عن "ظبية" إذا تزوجت "صالح" الصغير الهادئ، وتركت "عقاب" الكبير الشجاع الذي تهابه القبيلة بأسرها..!؟

لقد ورث الشيخ طراد ظاهرة التمرد في قبيلته وفي أهل بيته.. (ظبية) بنت العشرين وأخوها (منادي) ابن السابعة والعشرين، يتمردان على قوانين القبيلة بتأثير الشيخ الصوفي عباس المدلول.. وهواش والدهما، يتمرد على زعامة أخيه بتأثير ودعم من أخواله زعماء قبيلة السراحين، ويستقل بزعامة عشيرة الساعور، التي دعمه وجهاؤها والتفوا حوله.. وأخوه الثاني (غزوان) ينحو منحى شقيقه هواش، بدعم وتأييد كذلك من أخواله السراحين، ويستقل بزعامة عشيرة البشارات التي تؤيده وتلتف حول زعامته.. وإذا كان أخواه الشقيقان "مسعود" و "مرهج" قد ظلا على ولائهما له، وإذا كان أخواله وأخوال شقيقيه، زعماء قبيلة المصاطيم قد دعموه وأيدوه، وعززوا مكانته في مواجهة أخويه ابني السرحانية، فإن هذا ليس خالياً من البلاء، إذ أن اثنين من أبناء شقيقيه، قد دخلا دائرة التدين مع ابنه صالح ومنادي ابن هواش، وهما عفار بن مسعود، وفداوي بن مرهج، وقد شكل كل منهما أزمة في بيت أبيه.. فصار كل منهما يحلل ويحرم، ويفتي للقبيلة حسبما يتلقاه من الشيخ عباس المدلول..

هذي بعض المشكلات التي يعاني منها الشيخ طراد المنصور، فضلاً عن صراعه مع القبائل الأخرى.. ومشكلات أخرى كثيرة لا يعرفها إلا المقربون جداً من الشيخ طراد...

قال أحد الوجهاء، محاولاً التسرية عن الشيخ، والتخفيف من وطأة الهموم التي يعانيها:

كل عقدة ولها حلال يا أبا عقاب..

التفت الشيخ طراد إلى جهة المتكلم، وابتسم ابتسامة مجاملة صفراء وقال:

صدقت يا ابن محيدير صدقت.. كل عقدة ولها حلال.. لكن والله يا ابن محيدير أنا شايف لك أني كل ما انحلت معي عقدة، رماني الدهر بعشرين عقدة جديدة.. أنا ابن محيدير شارفت على الستين، ومر علي حلو وحامض، لكن والله ما رأت عيني قط، مثل العقد التي أراها في هذه السنيات الأخيرة..

قال ابن محيدير مداعباً:

وما رأيك يا أبا عقاب في أن تستشير صفر الشوارب، هؤلاء الملازمين لركابك من خمسة شهور..

قال الشيخ طراد مستفهماً: ها.. أي شيء تقول يا ابن محيدير؟ تقصد البواحيث!؟

قال ابن محيدير: إي والله يا أبا عقاب.. أرى عيونهم تلمع ولد العفون.. ولعل الله يهيء فرجاً على أيديهم..

ابتسم الشيخ طراد ابتسامة مرة، وقلب كفه اليمنى، ثم عاد إلى إطراقه..

كانت بعثة الدراسات الشرقية التي أرسلها مكتب الاستشراق التابع للفاتيكان مكونة من ثلاثة عناصر..

الأول: نوبار لوسوان، وهو مختص بعلم نفس الجماعات، وقد أرسل في بعثة علمية من قبل مكتب الاستشراق، لدراسة نفسيات القبائل البدوية في بادية الشام، وتقديم بحث مفصل عنها.. وهو فرنسي وقد حرف البدو اسمه، فتصرفوا بلقب عائلته (لوسوان).. فأصبح يدعى بينهم (لوصان). وهو متوسط الطول، أحمر الشعر والشاربين.. تلوح في وجهه وعينيه الصغيرتين الزرقاوين سماء تفكير عميق جاد، تغلفه طبقة رقيقة من المرح والدعابة وخفة الظل.. وهو في الرابعة والثلاثين من عمره.. وقد ألف منه البدو ظاهرة زم الشفتين، تجاه المواقف التي تحمل إثارة، أو تدعو إلى تأمل.. فسموه "لوصان الزمام".

أما العضو الثاني في البعثة، فهو "جورج كاردوج" وهو مختص بعلم الأجناس وطبائع الشعوب. وقد كلفه مكتب الاستشراق الفاتيكاني بإعداد دراسة مفصلة عن البدو في بلاد الشام، من حيث أنسابهم، وصفاتهم الجسمانية، وعاداتهم وأخلاقهم، والمؤثرات البيئية والجغرافية في طباعهم وأنماط سلوكهم.. ومدى التشابه من حيث الشكل والطبع، بين أبناء القبائل في المنطقة الواحدة، وبين أبناء المنطقة والمناطق الأخرى التي يعيش فيها البدو في بلاد الشام.. وهو في السابعة والثلاثين من عمره، عريض المنكبين، ضخم الرأس واليدين والرجلين.. أصفر الشاربين، متهدلة أطراف شاربيه فوق فمه، يلمح في عينيه الزرقاوين الواسعتين، بريق حاد، مشحون بمكر وخبث.. وهو ذو ضحكة عالية مجلجلة.. سريع الانفعال، إلا أنه يكتم انفعالاته الغضبية أمام البدو بقوة وصرامة.. فإذا انفعل احمرت عيناه، وشغل نفسه بأمور بسيطة عادية، كيلا يدفعه انفعاله إلى تصرفات تؤذي مهمته.. وقد عود نفسه على إطلاق انفعالاته الغضبية بالضحك العالي أحياناً وحسب تقديره للموقف.. وهو إنجليزي..

وقد حور البدو لقب عائلته "كاردوج" إلى "كردوش"، وخلعوا عليه ألقاباً أخرى مثل "أبو طباع" نظراً لاختصاصه في علم الطباع، كما لقبوه بلقب "ثخين العظام" نظراً لضخامة رأسه وأطرافه..

وكان العضو الثالث في البعثة، باحثاً هولندياً يدعى "زوكريت كوتيت" وهو مختص بالدراسات الإسلامية في بلاد الشام، وقد كلفه مكتب الاستشراق بكتابة بحث علميي عن تأثير الإسلام في حياة البدو، من حيث العقيدة والعبادات والمعاملات والأخلاق.. وهو في الثانية والأربعين من عمره، متوسط القامة ممتلئ الجسم، أبيض البشرة، أصفر الشعر والشاربين، هادئ، دمث، كثير الابتسام، واسع العينين.. تبدو في زرقة عينيه ملامح إنسانية وذكاء ولطف..

وقد حرف البدو لقب عائلته "كوتيت" فصار يدعى عندهم "قطيط".. ولما كان مختصاً بالإسلاميات، فقد خلعوا عليه لقب (ملا)، فصار يدعى "ملا قطيط".

أما مترجم البعثة، فهو نصراني سوري الأصل، متجنس بالجنسية الفرنسية.. وعمره خمس وثلاثون سنة، حنطي الوجه رمادي العينين، طويل القامة نحيف الجسم، في أعلى جسمه انحناء يسير إلى الأمام، طويل الأنف، طويل أصابع اليدين.. يجيد اللغتين الفرنسية والإنجليزية.. ويدعى حنا.. وقد خلع عليه البدو لقب "اللقلق" نظراً لطول يديه ورجليه وأنفه.. كما ينادونه أحياناً باسم "حناوي"، ويدعونه "الدرجمان" بدلاً من الترجمان. وكان البدو يحترمون أعضاء البعثة بصفتهم ضيوفاً ويكرمونهم على هذا الأساس، إلا أنهم من ناحية أخرى يستهينون بهم بصفتهم أجانب أغبياء لا يعرفون شيئاً من العادات العربية، ولا يعرفون شيئاً من أخلاق البدو وقيمهم وتقاليدهم، فهم في نظر البدو كالدواب التي اختصها الله بطبائع وغرائز معينة، وأساليب معينة للتفاهم فيما بينها..

ولهذا كله، فقد كان أعضاء البعثة موضع تندر وتهكم واستخفاف من قبل البدو.. وكانوا يسمونهم "البواحيث"، ويسمون الواحد منهم "الباحوث"..

كانت البعثة غائبة عن مجلس الشيخ طراد في تلك الساعة، خارجة في مهمة بين مضارب البدو..

ولقد أثارت نصيحة ابن محيدير للشيخ طراد بأن يستشير البواحيث، مشاعر شتى في نفس الشيخ، وأحس بأن هذه النصيحة، برغم كونها أقرب إلى الدعابة منها إلى الجد، تفعل في نفسه فعل الخنجر المسموم.. كيف لا، وهو الزعيم الكبير، الذي ينظر إلى من حوله ومن عداه من الناس، نظرة الصقر الجارح إلى العصافير والغربان والبوم..!؟ أبلغ به الأمر أن يستشير دواب عجماء لحل مشكلاته القبلية أو العائلية..!؟ إن هذا هو الهوان بعينه.. صحيح أنه لم يأخذ النصيحة بعين الجد، إلا أن مجرد طرحها على مسامعه يشعره بإخفاقه وعجزه وقلة حيلته..

قلب الشيخ يديه مرة أخرى، وضحك ضحكة ساخرة مكتومة.. ثم نظر إلى الفضاء الواسع أمامه، خارج بيت الشعر.. وتمتم: كل الأمور تهون..

***

كانت الغيوم الداكنة في شهر تشرين الأول، والرياح الباردة الندية، تعني أشياء كثيرة بالنسبة إلى الشيخ طراد خاصة، وأبناء القبيلة عامة.. منها ما ذكره نهار بن لافي ومنها ما لم يذكره، وكان مما لم يذكره، أن فصل الشتاء على الأبواب، وهو يحتاج إلى ملابس ثخينة دافئة، وإلى أطعمة دسمة وأخرى حلوة، لتبعث الحرارة في الأجسام، حين تداهمها زخات المطر ولفحات الزمهرير.. كما يحتاج الشتاء إلى أعلاف للإبل والخيل والغنم؛ إذ لا كلأ في البادية ترعاه الدواب، كما يعني قدوم الشتاء، عودة القبيلة إلى مساكنها الطينية على أطراف البادية، التماساً لدفئها وثباتها تحت زمجرات الرياح.. وربما كان بعض هذه البيوت بحاجة إلى إصلاح أو ترميم، أو تحسين في السقوف، أو شراء أعمدة جديدة بدلاً من الأعمدة المنخورة التي لم تعد تستطيع حمل ما فوقها من قش وطين يابس.. كان هذا كله قائماً في ذهن الشيخ طراد، وكان يوجه تفكيره باتجاهات شتى، بحثاً عن شيء ما.. شيء لا تقوم حياة البدوي دون وجوده.. إنه كالمطر ال حدث عنه العبد القهوجي نهار بن لافي.. إنه المال.. الدراهم.. أجل إنه المال.. من أين يأتي، وكيف..؟ يمكن بيع الصوف، والسمن.. ولكن أيكفي هذا؟ إن فصل الشتاء طويل وقاس.. ولا بد من أن تعيش القبيلة، ودوابها، حتى قدوم الربيع، فصل الخير والمراعي، وولادة الأغنام، وكثرة الخراف، ووفرة اللبن والزبد والجبن.. وحتى ذلك الوقت لا بد من مال.. مال كثير..

تذكر الكولونيل.. الكولونيل (موريس لوفنتال).. ثم أطلق زفرة حرى.. "ماذا فعلت بي يا ابن مدلول؟ يا شيخ عباس.. يل ملا عباس.. ماذا فعلت بي؟ وأي شيء لك عندي؟ هل تطالبني بثأر يا رجل؟ ماذا فعلت لك حتى أفسدت علي معيشتي.. مردت عائلتي ضدي.. وسببت لي جفاء الكولونيل، مصدر رزقي، ومنبع المال الذي أعيش منه.. وهل أنا بحاجة إلى دروسك يا رجل!؟ ألم تجد أحداً في الدنيا تعلمه الدين غير أولادي وأولاد إخوتي؟ أليس في بادية الشام من تعلمه الدين غيرنا!؟الله يخرب بيت.. بيت الظالمين.. الله يسامحك يا ابن مدلول.." أطلق تنهدة طويلة ثم رمى نظرة إلى الفضاء المنبسط أمامه، وعاد إلى تفكيره.. عاد إلى الكولونيل موريس لوفنتال، المسؤول الفرنسي العام عن الجزيرة السورية وبادية الشام.. الذي ظل يمده بالمال مدة طويلة بلا حساب، ولا يطلب منه ثمناً لقاء ذلك، إلى المودة لفرنسا والولاء لها.. وهذا لا يكلفه شيئاً.. يأخذ ذهباً أحمر مقابل لا شيء إلا الولاء.. هه.. الولاء لصهب العثانين.. وماذا يعني الولاء.. وماذا يخسر لو أن قبيلته كلها والت صفر اللحى!؟ أليس يقبض مقابل ذلك ذهباً أحمر؟ أليس يعيش هو وقبلته ويتنعمون؟ أليس يشتري سلاحاً ليقاتل به القبائل الأخرى ويطوعها لسلطانه!؟ وماذا يريد منه لوفنتال؟ هل طلب منه أن يجند أبناءه في جيش فرنسا لقتال الألمان والطليان؟ ماذا طلب منه؟ لا شيء.. إلا الولاء.. هه سامحك الله يا ابن مدلول.

تذكر تلميحات الكولونيل له منذ شهور، بأن فرنسا لا تساعد أعداءها.. وإشاراته، بأن في قبيلة المداعيس عناصر تدعو إلى معاداة فرنسا، وأن هذا الأمر يجب تلافيه.. تذكر هذه التلميحات والإشارات، وتذكر نفيه القاطع لهذه المعلومات.. ولقد نفاها عن يقين وحسن نية، لأنه لم يعلم في حينها أن ابن مدلول حين كان يعلم بعض أبناء قبيلته الدين، كان يعلمهم أن فرنسا دولة كافرة عدوة الله ورسوله، تحارب الإسلام، وتحتل بلاد المسلمين وتنهب خيراتها وتذل أبناءها.. ويجب على المسلمين أن يحاربوها، ويحرم على أي مسلم أن يتخذ اليهود والنصارى أولياء.. وفرنسا دولة نصرانية صليبية معتدية متجبرة.. والحرب العالمية الدائرة بينها وبين الألمان والطليان هي حرب بين كفار لا علاقة للمسلمين بها..

لم يكن الشيخ طراد يعلم شيئاً من هذا، حين كان ينفي للكولونيل لوفنتال عداوة قبيلته لفرنسا.. إلا أنه بعد أن تأكد من ذلك، وبعد أن جاءه إنذار الكولونيل واضحاً في مرات لاحقة، بأن فرنسا ستقطع كل مساعداتها عن القبيلة وستضعها في دائرة الأعداء.. بعد هذا كله، وجد الشيخ طراد نفسه يخبط في بيداء مظلمة على غير هدى، لا يعرف ما يفعل، ولا كيف يعالج الأمور.. هل يطرد الشيخ المدلول، ويمنعه من دخول مضارب القبيلة، فيثير ضده بعض أبناءه وأبناء إخوته وأبناء عمومته الذين تأثروا بفكر الشيخ؟ هل يستدرجه إلى المضارب، ويسلمه إلى الكولونيل بتهمة التحريض وإثارته الفتنة ضد فرنسا!؟ هل يحارب المتدينين من أبناء قبيلته، أو يطردهم من مضارب القبيلة!؟ هل يعود إلى محاورتهم مرة أخرى ومحاولة إقناعهم بالعدول عن أفكارهم التي سببت عداوة فرنسا، بعد أن حاورهم مرات عدة وسمع آراءهم وكاد يتأثر بهم، لولا أن خبرته بالحياة، وإدراكه لأهمية الذهب، وإحساسه بخطر القبائل البدوية المجاورة.. منعته من استمرار السماع لتلاميذ الشيخ، وأعادت إليه توازنه (ورجاحة عقله..!)

ماذا يفعل!؟ إنه في حيرة.. كل فكرة خطرت في باله لمعالجة الأمر، كانت تحمل في طياتها أخطاراً كبيرة.. إنه لا قبل له بمعاداة فرنسا.. وهو بحاجة إلى المال، فهو لا يفتأ يردد بين آونة وأخرى "المال عز الرجال".. فماذا يفعل؟ يتصل سراً بالكولونيل الإنجليزي "غبرييل شوفان" المنسق الأعلى بين القوات الإنجليزية والفرنسية في المنطقة؟ وماذا يستفيد؟ أليس شوفان نفسه قد وجه إنذاراً مشابهاً لأخويه ابني السرحانية المنشقين عليه، للسبب ذاته، لوجود أبناء لها متأثرين بالشيخ المدلول وينادون بعداء إنجلترا؟ ثم من يضمن صدق الإنجليز، ما داموا يتآمرون ضد حلفائهم الفرنسيين الذين يخوضون معهم حرباً واحدة ضد الألمان والطليان، ويتصلون سراً بأبناء القبائل السورية لشراء ولائهم لإنجلترا، ويعطونهم المال والسلاح لمقاومة القبائل الموالية لفرنسا!؟ وإذا كان الإنجليز يخونون حلفاءهم بهذا الشكل، فمن يضمن عدم خيانتهم لقبائل البدو في بادية الشام!؟

لا لا.. اللعبة مع شوفان ضد لوفنتال لعبة خطرة.. ولا بد من البحث عن طريق آخر.. فالشتاء قادم.. ولا بد من المال.. فأبواب لوفنتال لم تغلق تماماً.. وإن أغلقت فأبواب الله واسعة ومفتوحة لعباده جميعاً، لا لابن مدلول وحده.

أوقف تداعياته الذهنية، والتفت إلى العبد القهواتي نهار مداعباً، ها.. يا ابن لافي.. نشفت حلوقنا، نشف الله حلقك.. أين قهوتك!؟ قال نهار باسماً: جاهزة يا شيخ العرب.. لكن والله انتظرها حتى تثخن قليلاً.. أراها خفيفة..

قال الشيخ: تنتظرها حتى تثخن يا ابن لافي!؟ تريدها أن تكون أثخن من دمك يا عبد السوء..

قال هذا وضحك، فضحك معه العبد نهار وعدد من الحاضرين.. ثم التفت إلى بدوي نحيف في الخمسين، بجانبه ربابة، فقال له: وأنت أما تسمعنا قصيدك يا ابن عصيفير؟

قال ابن عصيفير: أمرك يا أبا عقاب.. أنا جاهز.. لكن إيش تحب أن تسمع؟

قال الشيخ ممازحاً: أما تعرف ما أحب يا مسبوع الأب يا ابن عصيفير!؟

قال ابن عصيفير: والله أعرف يا أبا عقاب.. لكن أحببت أن أتأكد من أنك راغب أن تسمع القصيدة ذاتها..

ثم أمسك ابن عصيفير بربابته، وبدأ يضبط وترها.. ليسمع الشيخ طراد القصيدة التي يعتبرها أحب القصائد إليه، المسماة "حمر المناهل" والتي تصف معركة عنيفة بين قبيلة المداعيس التي يرأسها الشيخ طراد، وبين قبيلة "المجاعيد"، التي يرأسها الشيخ رباع الحصين.. والتي انتصرت فيها قبيلة المداعيس انتصاراً ساحقاً، وقتلت العشرات من وجهاء المجاعيد بمن فيهم ابن زعيمهم رباع وأخوه وابن عمه.. وقد كسرت في هذه المعركة رجل الشيخ طراد اليسرى، وبعد تجبيرها ظل فيها قصر بسيط، تولد عنه عرج دائم عند المشي..

بدأت فناجين القهوة تدور، وابن عصيفير يغني على الربابة "حمر المناهل" وانتقل الشيخ طراد إلى عالم خاص من النشوة والسرور.. وصار شارباه الكبيران يهتزان عند سماع كل معني من معاني القصيدة الرائعة، التي تذكره ببعض أيامه المجيدة، التي مضى عليها ربع قرن من الزمان.. بينما صوت والده يرن في أعماقه، رصيناً هادئاً واثقاً، مفعماً بأمل جياش غامض: يا ولدي.. الذي شق أشداقها كفل لها أرزاقها..

يتبع إن شاء الله...