الزمن الجريح

نعماء محمد المجذوب

رواية: نعماء محمد المجذوب*

(13)

كانت ليلى تتلوى من الحزن على أختها التي اعتنقت أفكار الإلحاد دون أن تقدر خطورتها.

في أحد الأيام، والأختان في بيت عمهما، دخل العم خيري مسلماً، ثم اتكأ على الأريكة، قال لأحلام مداعباً:

- حدثينا عن وقتك كيف تمضينه، وأين؟ لقد مضى زمن طويل لم أشاهدك، وأسمع  فكاهة منك، أو ضحكة ترن في البيت.

قالت أحلام:

- حياتي يا عم كانت نكتة وفكهة، أما الآن فتغيرت.

قال العم:

- الحياة نحن نغيرها، وليست هي التي تغيرنا.

قالت أحلام:

- ألا تكلمني عن شيء جاد دون أن تسخر مني؟.. هل تعلم ما حصل من تغير في موازين حياتي؟.. أنت في عالمك المترف، تسعى لمصلحة أسرتك، وكأننا لسنا منها، جئت بنا إلى هنا نصارع الغربة مع أم هزيلة منهكة، في بيت بارد، بفرش ثلاث، وحصير من قش، يتساوى فيها الفصول.

عضت على إصبعها بغيظ، ودت لو تسحب الغليون من بين شفتيه وتحرقه به، بل تحرق كل ما في البيت.

نظر إليها ببرود قائلاً:

- غيري الحديث، أبهجينا بنكتة.

- الدنيا كلها نكتة يا عمي، كذب، افتراء، سخف، تجثم بسخرية فوق صدورنا.

- أهكذا انقلبت نظرتك إلى الحياة؟.. السخف في البشر، وليس في الحياة، في أذهاننا، وتفكيرنا نحن، الدنيا زمن، ووعاء نصب فيه نجاحنا أو فشلنا.

أسبلت جفنيها، ردت شعرها المنسدل إلى عاتقها، ثم بجرأة تحركت شفتاها بدعاية إلى أفكارها، تصبها في وعاء زمنها، تفتخر برائدها المحب، وتعتقد بأنها المنقذ.

بعجب سألها لماذا فعلت ذلك؟

هل تبلغين الاقتناع، مع الراحة النفسية بها؟

همهمت:

- أجل، عن اقتناع، وسرور.

زوى بين حاجبيه، قال:

- سعادتك في بيت مع زوج، وأطفال، وصديقات صالحات يردن لك الخير.

تنبهت لما يقول، كان كلامه صفعة على نفسها، زادتها ألماً، وتحسراً لقرب زواج ليلى، أشعرتها بالوحدة وهي تداري أمها المريضة، لم تستطع المكوث أكثر، هربت إلى البيت.

كانت الأفكار تتناوشها وهي في الطريق، أبوها فهمي، وعمها خيري أخوان، كل منهما شق دربه بطريقة مختلفة، لم يهتم أبوها بعلم، اكتفى بالعمل لكسب الرزق، وسار في طريق المقاومة، لم يلو على شيء مهما كانت العاقبة.. قتل والبندقية بيده، أمام ابنته، تمنت لو تلامس خده، وتقبله، وتمسح دمه،  وتلقي برأسها فوق صدره، كانت تحبه رغم كل شيء، وكانت الصدمة الأولى التي زلزلت مشاعرها.

ثم تبعتها حقبة جديدة في حياتها بعد الهجرة، فيها الحرمان، إلا من نقود يسيرة يلقيها عمها إليهن بداية كل شهر،.. هزلت الأم، لم تقدر على الكسب، أخذت عافيتها تتلاشى، حتى أصبحت أشبه بالمعقدة، كان ثمن الصدمة باهظاً، تلجلجاً في المشاعر، واضطراباً في النفس، حتى ضعف لدى أحلام التركيز، والتخطيط لمستقبلها، وتبدد شعورها بالأمان، رغم أن الحياة تفور في جسدها، ونفسها.

لم يعد البيت يشعرها بالاستقرار والحب، فرياح المرض تنهب ما بقي من جسد أمها، وتقتلع منها الحياة بتمهل، وإلى أمد قد لا يكون بعيداً، ووعود الأقدار لم تعد تنبئ برؤية جميلة للمستقبل، وكسدت مشاعر الأمل، وظهر اليأس في نفس أحلام يصرخ بوجع شديد.

كانت ليلى النور في البيت، تتلقى المصائب بحمد الله، وتندمج بعملها بروح عالية.

حاورت أحلام قائلة:

- فكري في بناء مستقبلك، اطردي الأوهام من نفسك.

أجابتها أحلام:

- لا أقدر، نفسي مكبلة، ذهني ملبد، لا أستوعب ما أقرأ، كان علي أن أعمل، وأنت تتفرغين للدراسة.

- لم هذا التفكير؟ لقد قطعت شوطاً طويلاً في الجامعة، سنتان كي تتخرجي، ابتعدي عن الهواجس، يكفي أننا أختان متحابتان.

تنهدت أحلام وهي تشير إلى أمها المتهالكة فوق الفراش، وبهمس قالت:

- أخشى عليها، أرى نهايتها تقترب.

- سلمي الأمر لله، لا تخشي شيئاً، لكل إنسان أجل.

- أود لو أسيطر على نفسي، وأكوم ركام الأحاسيس المتهالكة، وألقي بها في أتون الحياة لتحترق!.. ولكن، لا أقدر، أشياء تسيطر علي، وتكبلني.

- أدري، أفكارك السوداء الإلحادية، تحرقك قبل أن تحرقيها.

صمتت أحلام قليلاً ثم سألتها:

- هل الدين مسألة خاصة أم عامة؟

- تجمع الأمرين، نحن نعيش في مجتمع له معايير خلقية، وموازين مستمدة من ديننا الحنيف، للأسف تخرجين بإرادتك عن أكثرها.

- لا أنكر هذا، إن روحيي تتمرد في صدري، أتساءل بحيرة:

هل دخلت عالم الصدف والأحداث، ولبستها، أم هي التي لبستني، لا تنفك عني؟.. أشعر بألم، وعذاب.

- إن الروح عندما تتشبع بالإيمان، تصل إلى حال من الصفاء، تخلص النفس من اليأس والألم، وتشعرنا بالحياة فرصة سانحة لننقي أنفسنا بالمواجهة، والتحدي للصعاب، والعقبات، ستستمر الحياة، ونغتنمها بما يسعدنا في الدنيا، والآخرة.

- لقد سجنتني الأحداث، لم تدع لي فجوة أعبر منها، كانت الهجرة صعبة.. إلى أين يأخذ بنا المصير؟

- ماذا تقصدين؟

- لم أتينا إلى ها هنا؟

- لأننا مهجرون من الذبح، والفناء في أرضنا، ما حصل في دير ياسين، ثم في قبية، وما جاورهما من القرى كان رعيباً، أصاب الرجال الجزع، وهم يرون القتل ينال كل واحد.

تقلصت ملامح وجه أحلام، أغمضت عينيها بقوة، تصورت الأحداث، قالت:

- كان اليهود يصورون المشاهد، ويفخرون بما يعملون من ذبح ليخوفوا السكان، ويدفعوهم للتشرد.. ثم ليكون مصيرنا في أرض غير أرضنا، لننجو بأجسامنا.

اقتربت منها ليلى، هتفت في أذنها:

- هيا اذهبي معي إلى الدرس في المسجد، لتهدئي، ولتتعرفي على المؤمنات الصالحات.

بتأفف قالت:

- أما قلت لك بأنني لا أؤمن بهذه الترهات؟ ولن أؤمن بها يوماً ما.

ملأت الدموع عيني ليلى، ودت لو ترخي سيلها، وتبكي بحرقة، لما ألم بأختها من تحد للقدر، واستسلام لوساوس الشيطان، تساءلت: هل تصيبني الخيبة في توجيهها نحو سلام الإيمان، وسلام النفس؟.. أم هل أتركها تتخبط في أفكارها كمن أصابه المس؟

أخذت ترنو إليها بطرف خفي، تحدث نفسها:

"جمال أختي يفوق الوصف، نجاحها في الجامعة كان متفوقاً، الناس يحبونها لعذوبة حديثها، وفكاهتها، ولا يدرون أنها في البيت شخص آخر، كزهر الصبار الأصفر في جماله، ويأسه، وهو يظهر من خلال الأشواك، لا يرى الناس منها إلا جمال الزهرة المتفتحة، في أحضان وخز الشوك، ولا يقدر على المقاومة.

صممت ليلى على الصبر، في توجيهها، وتذكيرها بالله، تعلم أنه العلاج الوحيد لحالتها المتأزمة، ثم انبثقت منها صرخة ألم: يا ويلتي.. أختي تضيع.. سمعت الأم صرختها، وكانت تسمع تحاورهما، فتأسف على حالة ابنتها، وتعلم الأسباب الكثيرة في ضياعها، فتبرر ما أصابها.. وتتسع الأزمة النفسية لدى أحلام، وتنتشر العتمة في صدرها، وهي تقفل قلبها أمام أي نور ينبعث في نصح ليلى وأمها.

سألت ليلى شيخ المسجد:

- إن الأمة العربية إسلامية بامتياز، لماذا إذن تكون مهيأة لليسار وغيره، ولا تكون مهيأة للعودة إلى الإسلام؟

أجاب الشيخ:

- كان العرب يشكلون أمة واحدة متصلة، يبدو أن دوام الحال من المحال، والأمور تتجه –كما البشر- إلى مصير التفرق، فأمتنا انقسمت وتشكلت أجزاء في دول، انقسامها سبقته أعاصير زمن الاستعمار.

قالت بألم:

- شيء رهيب.. سلسلة من الانقسامات، رجت بالحروب ضد المستعمر، ثم خمدت، وبردت، لتستقل الأجزاء.

قال الشيخ:

- فتيل التفجير في فلسطين لم يخمد.

سألته بخوف:

- تفجير؟!

ارتعبت، تشبثت بما فيه فضول ونشوة، نشوة الرعب، الأخبار لم تترك لها ولهم استكمال نشوة الرعب حتى الذروة، بترت النشوة بخبر قاطع، تراجع الثوار بحذر، وسرعة،.. هناك احتمال لخطر التهجير ثانية،.. أمام هاجس الموت لا تمكث أي نشوة، حتى نشوة الرعب، لذا لم يكن قرار الكثير منظماً، ولا حذراً، وإن تم بسرعة شديدة حتى إن بعض كبار السن، كانوا يتعثرون، وهم يفرون.

ذكر الشيخ، أن امرأة عجوزاً لعلها كانت في الثمانين، تعثرت أمام الفارين، ولما أنهضوها، رفعت وجهها في ضراعة، كأنها توشك على البكاء، وهتفت: (لا أريد أن أموت)، قبل أن تحرر فلسطين، ويطرد اليهود منها.

ردة الفعل بعد تلك اللحظات كانت مدهشة، إذ تعالت الأصوات، والضحكات، وراح كل واحد يتقرب إلى الآخر بمودة، والألم يجمعهم، وهم من أماكن مختلفة.

كلمات العجوز استرجعت الأمل في التحرير، وطرد البغاة.. بعد الضحك، والثرثرة تنبه الفارون إلى وجود ثوار مجاهدين في الأرض القلقة بين أشجار الزيتون، وفي صدوع الجبال،.. ساد الصمت، أرهفوا السمع إلى تبادل طلقات نارية، تتجاوب لها الأجواء من حين إلى آخر.. ثم لم يسمعوا شيئاً.

قال أحدهم:

- سنعرف الأسرار من الأخبار في الإذاعة فيما بعد، تقودنا إلى أعماق الحدث المتوهج.

ثم قال الشيخ:

- ستطول رحلة التفجير والأحداث.

- لا نشك بذلك.

لم تكن أخبار الثوار كافية لتهدئة الخواطر، وبعث الأمان في نفوس المرتعدين، تساءلوا:

- هل ينتهي الخطر بمغادرة الأرض؟

قالت ليلى:

- نحن نخطو بشعور من يمشي على أطراف أصابعه، حين كنا نغادر أرضنا، فالتراب الملصق بأقدامنا فيه شيء من الوطن، والتراب على أجسادنا، وفوق أشيائنا فيه الاحتمال نفسه، والمشردون يرتفع عددهم على مرور السنين.. هل ينفضون التراب عن أشيائهم، أو يتركونها في ذاكرة الزمن، وهم يعبرون بوابات الحرية المهجرة إلى أرض الله الواسعة؟ يصلهم بالوطن الحنين، والذكرى، ولا ينتهي الخطر إلا بالسلام الذي ننشده في حق العودة إليه.

قالت:

- والقوة، نحتاج إليها لنواجه بها العدو.

قوة إسرائيل ليست مساوية لأحقادها، وضغائنها، تزرع الموت في كل مكان في أرضنا.

قال الشيخ:

- ينبغي ألا نتكلم عن الموت.

قالت ليلى:

- نحن نتكلم عن الموت، ونكتشف أن الوعي بالموت قوة، وحافز للحياة. 

في إحدى جلسات الشباب المثقف جرى حوار بينهم.

قال أحدهم:

- الإعلام الغربي الحاقد، والمتصهين، يتبع أسلوب التعتيم على كل مآثر المسلمين، ومنجزاتهم، ويركزون على المساوئ، والأخطاء، ويتعمدون أن تكون الحضارة الإسلامية، والعربية منسية.

انبرى آخر قائلاً:

- العرب أمة ذات حضارة قديمة، قدم التاريخ، والمصادر تشير إلى وصول الفينيقيين من الجزيرة العربية إلى القارة الأمريكية، ثم ونحن في هذا العصر يقولون إن الدين سبب التخلف في أمتنا؟.. منطق غريب حقاً.

قال آخر:

- الدين الإسلامي جاء لتحرير العقل من كل القيود والأوهام التي علقت به منذ العصور القديمة، فالعقل إحدى الدعائم الأساسية التي تعتمد عليها المدارس الفكرية الإسلامية، نعمت الأمة بنهضة فكرية مميزة، ما زال الغرب يعيش على نتاجها حتى اليوم.

الآن يعمل الإلحاديون والصهاينة على تحطيم بناء الإسلام، الذي وجد لإسعاد البشرية كافة.

سبب التخلف أننا أهملنا حضارتنا، وبقيت حبراً على صفحات المجلدات المنسية.

قالت ليلى:

- يقول اليساريون: ينبغي أن نحذف من التراث الشيء الكثير، حتى نصل إلى فلسطين.

قال شاب بحماس:

- الوصول إلى فلسطين ليس على درب من حرير، وليس من حقنا أن نحذف تراثنا أو أي شيء منه، ذلك التراث الذي تعب به أجدادنا، لا يحق لأي مخلوق كائناً من كان المساس بما ذهبوا إليه، أو حذف مبدأ، أو فضيلة تحت أي ذريعة، إن تراثنا أرحب، وأعم من كل المبادئ والأفكار المستوردة، يسارية، أو غيرها.. إن للكون خالقاً يدبره، ويهتم بأمره، وليس لقوة أخرى أن تدبره.

كما اشتد الجدال في البيت، إذ اختلفت أحلام مع عمتها اختلافاً فظاً، استاءت العمة، لم تكن تحب أن يعارضها أحد، غضبت من أحلام، فسعت الأم بحب إلى رأب الصدع، ومحو غضب العمة، وطلبت من ابنتها أن تعتذر لها عن حدتها.. اعتذرت، فقبلت العمة الاعتذار بسماحة جميلة، ولم يفتها أن توصيها بحضور الاجتماعات الهادفة في المركز الثقافي مع أختها، والإقبال على قراءة القصص المفيدة، كقصة (إصلاح)، وغيرها من القصص الإسلامية.

في الطريق حدثتها ليلى قائلة:

- قد يلتقي أحد الطرفين بالآخر، ولا يلبث اللقاء أن يفسد، ويتعطل التفاهم أثناء الحوار، وينفجر الواحد منهما غيظاً من الآخر، وقد يسهم ذلك في دفع العلاقة بين الاثنين إلى الأسوأ، وقد تدفع الأمور إلى الضرب، كما حصل اليوم بينك، وبين عمتك.. وأحياناً قد يحدث أن يتفاهما بسرعة، وفعالية، وهو ما قد يسهم في تخفيف التوتر بينهما، هكذا الصراع  بين المذهبين المختلفين.

قالت أحلام:

- كما بين اليمين، واليسار؟

- أجل، بين عقيدة عمتك المبنية على الدين، وعقيدتك المبنية على الإلحاد.. كنت أرى الانفعال ينضح على جسدك الارتعاش، ويرتسم على وجهك.

سألتها أحلام:

- ألم تلاحظي عمتك وهي تميل إلى انتهاج خط هجومي مباشر؟ مستخدمة لهجة عدوانية معي، مما يحدث أثراً شديداً في نفسي.

قالت ليلى:

- ويظهر في إصرارك، وعنادك، ويظهر في صوتك تردد ورعشة.. هل كان لعدم اقتناعك بما تقول عمتك؟

- ربما..

- وكان العرق يسيل من وجهك، ويرتسم التوتر عليه.

- بصراحة، لم أستطع إخفاء حقيقة مشاعري.

قالت ليلى:

- مأساتنا تزداد تعقيداً بأفكارهم.. هل نحن بحاجة إلى تجربة جديدة، قد تنجح، أو تفشل؟.. إننا بذلك نقتل تاريخنا، وأنفسنا أفكاركم، وحضارتنا مختلفتان، رغم التشابه الظاهري، حضارتنا الإسلامية بنيت على هدم الفاسد، والتجديد، وأفكاركم تبنى على هدم الصالح، والإفساد إنكم تستدرجوننا إلى الغرق.. العودة إلى الدين عودة إلى النبع الذي بدأ منه العدل، والمساواة، وحب الخير لكافة البشر.

سألتها أحلام:

- لماذا يا ليلى تبدين هذا الكره الشديد لأفكارنا؟

- لأن منشئها هم اليهود، والصهاينة أنفسهم، يأتون إلى فلسطين بوجوه كئيبة، ونفوس حاقدة، ويخططون لأحداث، وأزمات تنتهي بتشريدنا، وانهزامنا، وتنفينا عن أحقاد ظلت دفينة في نفوسهم، يورثونها أجيالهم المتلاحقة.. إن هذه الأفكار اليسارية ستضطهدنا، وتحاول تدميرنا،.. أنتم الشبان والشابات السلاح الذي يحطموننا به،.. لماذا تموتون بلا ثمن؟!

بضيق قالت أحلام:

- منطق لا أتأثر به.

قالت ليلى:

- سيصيبك التجاهل.

تحت شجرة امتدت ظلالها فوق الأرض، جلست عجوز، تتأمل في الزمن الجريح، كانت من غمار الناس، بلا حسب، ولا ثروة، كانت كآلاف المهجرين الذين شردوا في هذا الوجود، ويكبر الأمل في صدرها، كآلاف آمال الذين هجروا، حتى يقتاتوا من خبز الشموس، ويتسكعوا في طرقات الحياة، ولا يروا في الدروب إلا الموحشات.. اقتربت منها ليلى، وجدتها تلهث بآلامها وراء السنين، تشم أخبار الوطن، ولم تسعد الغربة قلبها، بل تزيدها حيرة، ووجعاً، وظلت تغوص في سراديب الوطن، إلى أن عثرت على الحقيقة في داخلها، وعرفت أن الخالق ما خلقنا عبثاً، ولكن لنبني مملكة العدل، وتتساءل:

هل يتركنا اليهود هكذا في الظلمة؟

متى نخرج من سجن الغربة، ونحاسب حثالة البشر؟

أفٍّ من هؤلاء الأشرار الذين استولوا على الأرض المقدسة.

كان يراودها حلم كبير واسع في العودة، ومحاكمة القوم السوء، ومن يساندهم، ويتركون دماءهم في أعناق من أمروهم ببناء دولة إسرائيل، ومن أمروهم بالهتاف ضد الشعب الفلسطيني.

وتصحو من الحلم، لتجد نفسها قابعة تحت الشجرة.. تهزها ليلى، تساعدها على النهوض، تمسح دموعها، وهي تقول:

- الجو بارد يا خالة، هيا معي إلى البيت.

بلهفة تسألها:

- من أنت يا حبيبتي؟

- أنا مثلك من الأرض السليبة، آلامنا واحدة.. لا تحزني، سلمي أمرك لله.

- وأبنائي الذين قتلوا؟

- شهداء في الجنة يرزقون.

- لذا أنظر دائماً، أفكر، أبحث عن خلاص من الشر الذي استولى في ملكوت الله.

كانت مأساة هذه المرأة قد انتقشت في ذهن ليلى، وعذابها لن يفارق ذاكرتها، تماماً كصوتها المرتعش، الذي كانت تلقي بنبراته صوت أحلامها، التي يصعب نسيانها، لا يعرف الصراخ سبيلاً إليها، مهما تلونت نبراته بتلون أحلامها، وانفعالاتها.. نهضت هادئة، كأنما أفرغت منه صدرها ما يعذبها، وأسلمت نفسها لاختيار القدر، قالت ليلى:

- مشكلتك يا خالة امتداد لمشكلاتنا جميعاً، هوني عليك.

نظرت إليها متسائلة:

- لماذا لا يطرد العرب اليهود من فلسطين؟

- آه يا خالة، شغلتهم مشاغلهم عن تحقيق ذلك.

قالت ليلى في نفسها:

"هل قالت هذه العجوز شيئاً جديداً يلصق بالذاكرة، التي انزلق عليها كلامها إلى وادي النسيان المطمور باللاوعي؟"

أمسكت بيدها، تحثها بقولها:

- هيا معي إلى بيتي يا خالة.

- لا، أفضل السير وحيدة إلى منزلي في الحارة هنالك.

رافقتها ليلى، تركتها تحكي عن عذاب رحلتها الطويلة.. كانوا يدفعونها دفعاً بعد استشهاد أبنائها، وهدم بيتها، ولم يبق لها إلا ابنتها التي آوتها.. قبل أن تودعها قالت:

- العذاب يا ابنتي وجد أصداءه في سهر الليالي، وأنا أنتظر العودة إلى بيتي، وحقلي.. هل هذا ممكن؟

بيأس ممزوج بالأمل، أجابتها ليلى:

- بعد أن يموت اليهود.

في صباح يوم، وجدت المرأة ميتة.. ماتت بلا ثمن..

قالت أحلام:

- آلمتني قصتها.. أرى طفولتي تخرج من رماد الذاكرة، حاملة مشاعري الحزينة، ضد القهر، واغتيال الطفولة البريئة، والرثاء من أجل الإنسان المهجر من بيته، وأرضه.

قالت ليلى:

- الطفولة في الوطن لها معنى آخر، أطفالنا ليسوا كأطفال العالم، لأنهم من شعب لا يُرضع أبناءه سوى الكرامة، والتحدي، والمقاومة، لم يتعلموا اللهو بألعابهم، كما يلهو الأطفال، لأن دبابات الاحتلال، وشظايا قذائفه لم تترك لهم سوى الحجارة، هي اللعبة في أيديهم، يقاومون بها رجس الاحتلال.

قالت أحلام:

- في فلسطيننا يولد أطفالنا ثواراً، يعلمون ببطولاتهم، ورجولتهم قبل الأوان، الرجال كيف يكون الصمود، والشموخ، يعلمونهم أساليب القتال، والمقاومة بسلاح لم يصنع، لا يعدو أن يكون عقيدة، وحجراً مرتدياً برداء التحدي، والإصرار على البقاء والصمود.

هكذا طفولة أطفالنا في فلسطين..

- الصهيونية لم تبق لهم سوى بيوت مهدمة، ودماء مهدرة، وأسلاك شائكة، وخيار واحد للمواجهة، هو المقاومة.

- كلما وقعت عيناي على قصيدة في الحنين إلى الوطن، أقرؤها بانبهار، وتتفتح أمامي أبواب الذكريات على مصاريعها، وأدخل في عالم واسع من الأشخاص، وأتابع أحداثاً تقاطعت تداعياتها داخل الوطن، وأحسب أن بلدي هو الحجر المتقد في صدره، ثم أتساءل:

هل أصبحت الحكايا المسلية، منسية في زمن القهر؟

شاركت الصديقة ابتهاج في جلستهما، فقالت:

- كان الإنسان يستطلع صوراً ثقافية زاهية من البسطاء، وكبار السن، المتسمة بالمعلومات المتنوعة، عن الحقول، وشجر الزيتون، وبيارات البرتقال، والعادات الشعبية، وغيرها تحفز السامع إلى التتبع الدقيق للمعلومات، وتدفع دفعاً إلى المساءلة، وتستفز الذاكرة.

مالك يا أحلام؟ أراك في ذهول؟

سألت أحلام:

- كيف نتحدى الهزيمة؟ هل بالإمكان ذلك؟.. سؤال يلح على ذهني كلما أقبلت الأيام الأولى من تهجيرنا، وكان قبلها قد اندفع اليهود إلى أرضنا، يدّعون أنها أرض الميعاد، ويقترفون المذابح، وعمليات الإبادة تدور رحاها في أرضنا المغتصبة كل يوم، نتيجة طبيعية لهذه الفكرة المصطنعة، ويقف العقل حائراً أمام هذا الغزو الصهيوني، عاجزاً أمام جريمة إنسانية، وأخلاقية.

إن عقولهم متخلفة.

قالت ابتهاج:

- الذكريات تتكأ الجراح، وتدمي القلوب، تتداعى في ذهني وأنا أسمع أخبار الوطن من بعيد، والحقيقة، لي هنالك ذكريات أتصفحها، فأستمتع بها، وأخرى تتملكني لأنها جاءت في وقتها تماماً، وأتساءل:

كيف نفكر ووطننا تحت الاحتلال؟

بتأوه قالت ليلى:

- فلسطين تنادي، كمن يستغيث حبيباً تولى عنه.

انبهرت ابتهاج قائلة:

- سأحكي لكما عن نفسية اليهود العنصرية، وبغضهم لما سواهم، في مقالة قرأتها في إحدى المجلات:

"على مقربة دقائق من "بريتوريا" العاصمة السياسية لجنوب إفريقية، ثمة منطقة تدعى الأرض الزرقاء، نسبة إلى لونها الضارب إلى الزرقة، الذي يكتنز في أعماقه أغزر مناجم الماس في جنوب إفريقيو، ويسيطر عليها اليهود.

اليهودي الإنجليزي "بارني إسحاق" كان قد وصل إلى جنوب إفريقية، وسرعان ما تحول من جرسون تافه في إحدى خمارات أفقر أحياء لندن، إلى مالك مناجم وبلدات، وشريك لـ "سيسل رودس" الذي لعب لعبة الماس، وهي في بدايتها، مستخدماً كل أدوات المستعمرين البيض، من مكر، وخداع، وقسوة مع أبناء البلاد الأصليين السود، وتحكم في إنتاج وتجارة الماس بالعالم، ومات وهو يمتلك دولتين من دول إفريقية الجنوبية، حكمهما بالنار والحديد في أبشع صور العنصرية التي عرفها التاريخ، ونسبهما إلى اسم عائلته: "روديسيا الشمالية، وروديسيا الجنوبية".

قالت ليلى:

- إن الانتقال من الفقر إلى الثراء شيء مقبول في عالم البشر، عندما يكون ذلك عبر وسائل شريفة، أما عندما يكون الثمن مدفوعاً من لحم ودم المقهورين كما حصل في بلدان الجنوب الإفريقي من أجل السيطرة على ثروات تلك الأرض، فأمر راعب.

تابعت ابتهاج:

- هكذا يهود، عنصريون، من أجل السيطرة والمال يذبحون، يبيدون، يدمرون، ولا تنتهي عمليات الإبادة.

قالت ليلى بحزن:

لا يزالون يلجؤون إلى وسائلهم هذه في فلسطين، وإلى أنواع التهجير، لتنفيذ خطتهم في تفريغها من أكبر عدد من سكانها، ويعتبرون التهجير أحد المطالب العقائدية لإقامة دولة إسرائيل، ولا تغيب هذه الفكرة عن أذهانهم يوماً ما، ليفسحوا المكان لاستيراد المزيد من يهود العالم، لأنهم يزعمون أن فلسطبن أرض الميعاد، وأن الدولة اليهودية هي دولة كل اليهود في العالم، وأن الله أعطاهم إياها، وبقاء العرب في فلسطين يحطم الفكرة الدينية، لبقاء الدولة اليهودية، وتجانسها، لذلك يبيحون قتل الفلسطينيين، ولا يمكن ليهودي أن يتنازل عن عقيدة أرض الميعاد، لأنه بذلك يتنازل عن دينه، ولا يبقى له مبرر للاستمرار على يهوديته.

بانفعال قالت أحلام:

- ونحن لا نتنازل عن فلسطين، ولا نبيعها بوطن آخر، وهل نبيع أرواحنا؟

قالت ليلى:

- ومن ثم لم نتوقف عن اجترار أحزاننا، ولم نتوقف عن إلقاء اللوم على بعضنا، ألا نكف عن التعاتب والتلاوم؟.. ينبغي أن نتأمل بأهداف، ونتحرك، ونعمل، الوقت ضيق، علينا أن ننفذ بأقل قدر من الأخطاء.. فالسنوات ستكون سريعة جداً، والغزو الثقافي، والانتصارات العلمية قد تدوس كل من يتوقف.

قالت ابتهاج:

- لندع التأمل البطيء ونضع الأهداف، ونسعى لتحقيقها.

- الفلسطينيون اليوم صامدون، استفادوا من تجاربهم، يرفضون تكرار ما حصل في عام 1948 و 1967.

قالت ليلى:

- للأسف نرى الكثيرين يحلمون بالهجرة إلى الغرب، يتصورونه جنة، وقد يكون جهنم، وأمريكا، وأوروبة تيسر لهم الهجرة.

أليس من أسرار خفية وراء ذلك التيسير؟

قالت ابتهاج:

- لينسوا فلسطين، ولا يفكروا بالعودة.

إن هذا الزمن أمريكي، يهودي أكثر من اللازم، فلسطين لم تزل محتلة، وأجزاء من الوطن الكبير ترفع الراية البيضاء، وأخرى الراية الحمراء، ويخرجون من حضارتهم وتاريخهم.

وبأسف شديد، نسأل: ماذا تبقى؟

إنه سؤال قديم يتكرر.

قالت ليلى:

- والإعلام الغربي؟

أجابت ابتهاج:

- علينا ألا نتأثر بما يقول إعلاميو اليهود، والغرب، فعصرنا مليء بالمهازل، والسخريات، تتضاعف يوماً بعد يوم، ونشهد تصعيداً في الهجمة اليهودية والأمريكية على الإسلام، والمسلمين، نسمع ذلك في الإذاعات، ونقرؤه في الصحف والمجلات، ويتناوله الناس في الجلسات، ويأخذنا العجب مما نسمع ونقرأ، نضحك بمرارة، وقلوبنا تعتصر بالألم، وتهيج بالمشاعر.. الاستعمار يريد أن يقصي الإسلام من الحياة نهائياً، ويفضلون التشريع الجاهلي الجائر عليه.

قالت ليلى بتعجب:

- سبحان الله، لنستمع إلى قول الله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون).

 (14)

لم تدر أم عبد الكريم أن ابنها من ينشر الأفكار اليسارية في البلد بعد رجوعه من روسيا، يجمع الشباب من الجنسين، ويثورهم على الدين والقيم، واستطاع بمهارة أسلوبه إقناعهم بضرورة التغيير، والتجديد، وأن يكون حزباً يترأسهم، رداً على تعسف الأثرياء، واستعبادهم الضعفاء والفلاحين، واغتصاب الأراضي المشاع.

كانت أحلام كغيرها من الذين احتوتهم الأفكار الجديدة، وأسرتها من البلبلة والقلق، ومن الصدام مع الأهل، وبالتدريج أحسوا وكأنهم في عالم غير عالمهم، ينقادون إلى رائدهم، كالغنم مع الراعي، تدفعهم الرغبة في التطور.

أدى اهتمام أحلام بهذه الأفكار إلى صراع في نفسها بين القديم والحديث. ربما كان بسبب حاجتها لشعورها بذاتها في دنيا جديدة، وهواها في الميل إلى الاجتماع مع رفاق في الفكر، وصداقات ضمن هذا الإطار، وحب الحرية، والتحرر، والانطلاق.

تحت مظلة اليسار، واختلاط الجنسين، تقع أحلام في حب سمير الذي يشاركها الميول، وأحلام المستقبل، والتحرر من سلطة الأهل، ورقابة المجتمع.

استسلمت للشعاع الذي تسلل إلى روحها عبر نوافذ الهوى.. كان سمير يحدق في وجهها بصمت، ثم قال وهو يزرع نظراته الثابتة في عينيها:

- أيمكن أن نكون رفيقين؟

- لا مانع لدي.

أهدته ابتسامة، مع لفتة دلع..

في البيت تمددت في فراشها، تطوف في ذهنها أحلام.. الأحلام ترتمي على الجدار، تتحرك في كل اتجاه.. استرخت في لذة حالمة.. ثم أغمضت عينيها في صمت رهيب احتل المكان.

في الصباح سألت نفسها:

لم انتابني هذا الشعور المفاجئ؟

لم شعرت باندفاع في الاقتراب منه؟

كانت تستعيد كلماته، تستشف منها مشاعره، تذكرت قوله لها بأنه يعرف عنها، وعن أسرتها كل شيء، تنهدت، وتساءلت:

"أحقاً يعرف كيف نعيش، وما نعانيه؟.. يكون مخطئاً إن ظن أنني كمنال المدللة".

شكّت في أن يخلط بين صورتها وصورة منال، عكّر مزاجها هذا التصور، توقف الاسترسال مع الشعاع الرقيق، وخفقات القلب، ثم بدأت تفيق من أحلامها كيلا تتعرض لمزيد من الهواجس.

ثم تفاجأ به بعد أيام عند منعطف الطريق، كانت ملامحه قلقة، يخشى الصد إن اقترب، فرحت، سرى أمل في نفسها، وحلم دافئ.

كان تفتحها الاجتماعي عاملاً في سرعة الانجذاب إلى سمير دون روية، فلديها الجسارة والجرأة، وكأنهما خلقا معها.. في داخلها عالم مشحون بأسى الذكريات، وطفولة متوترة، وإيمان بحقوق المرأة، وانشغال بالمقارنة مع ابنة عمها.. فكان لهذا الشعاع المتسرب في عتمة حياتها تلذذ وتمتع، أبعد عنها كوابيس الليلة، وبقي سمير ساكناً في صدرها لم تخذله، احتوته ببهجة، ونامت على بشر وفرح.. ثم أشرقت نفسها بإشراق الصباح، وهو ترجو ألاّ تكون قد خدعت.

نشطت في دراستها، وفي التعبير بالرسم عن عمق الجراح في الوطن، وما يلاقي الأطفال من خوف، وذعر، من زمجرة المدافع، وقتل آبائهم أمام أنظارهم، الذكرى تستدعي الذكرى، يسعفها الخيال، فكان أن استردت شيئاً من العافية النفسية.

تمر الأيام والشهور، ولم تعد ترى سميراً، أحست بخمود الشعاع، تساءلت بحيرة:

"ماذا جرى؟.. هل للأبد؟.. فلأنس ما حصل، يكفي أنه النور أضاء صدري، وابتعث همتي للتحصيل، وأسعدني.."

لاقت التشجيع من أساتذتها، نسيت آلامها، وأفرغت إحساسها في لوحات تهدئ من روعها، وكان أن نالت الجائزة في مسابقة الرسم، كانت اللوحة تعبر عن طفلة في الوطن البعيد تحت الأنقاض، تفرك عينيها بكفيها الصغيرتين، والدموع تتناثر منهما، وتمتزج بالتراب، وبجوارها دبابة ومدفع، تأملت ما رسمت، وقالت:

"أرى قضية الوطن تنمو في لوحاتي".

اكتشف مدرس الرسم موهبتها، أخذه الحنان بشأنها، فكان يوجهها نحو التعبير عما تحس بروح شفافة، ومزاج عاطفي.

بانبهار سألتها ليلى:

- ما هذا يا أختي؟.. لوحة رائعة فيها إبداع.

- أرى الإبداع لا يتأتى للإنسان إلا بعد معاناة.

- اطلعي على أعمال الآخرين في لوحاتهم، وابذلي جهدك في تحريك فكرك، وبعث خيالك، واستغلي وقتك بأن تخصصي أوقاتاً للمرح واللهو المباح، مما يساعد عقلك، ويحفزك للإبداع ويريحك من تراكمات في التقلب متعبة.

- هذا ما أحس به الآن.. وهناك شيء آخر.

- ما هو؟

- لا شيء.

- هل من سر تخفينه عني؟

- فقط أفكر.

زادت اهتمامات أحلام بالرسم، وبدت ميولها في الظهور، ولكن يبدو أنها ميول غير مستقرة، وغير ثابتة.

سألتها ليلى:

- هل علمت عن أنباء الوطن من الإذاعة؟

- هل من جديد؟ لقد أرهقني التفكير به.

- المقاومة تسجل إنجازات ناجحة كل يوم، تؤكد أنها الخيار الوحيد الناجح في مواجهة الاحتلال.

صمتت قليلاً، وسافر بها الخيال إلى أرض الوطن، مع المقاومين، بصوت خافت قالت:

- في لحظة الإحساس بالموت، سوف يودع الأب أبناءه.. أكيد.

- ماذا تقولين؟

- أقول: كل أب يقول قصيدة حقيقية ملأى بالعواطف، يختم بها حياته.. أريد أن أسألك يا ليلى، أجيبي بصراحة" هل أحببتِ؟

ابتسمت ليلى وهي تخفي وجهها بيديها، تخفي شيئاً عزيزاً، صمتت.. باستغراب قالت أحلام:

- الحب صعب في زمن الإعصار، أليس كذلك؟

- هل؟..

- فقط أسألك.

كانت أحلام تقلل من فسحة النوم، من أجل إكثار فسحة الأحلام، كانت الشمس في الصباح تنام إلى جوارها في شريط دافئ ممدد بطول السرير، تغمض عينيها، تحاول الاسترسال في الأحلام الرقيقة، ولكن الضوء الشديد كان يؤلم جفونها، ويدفعها إلى أن تفتحها، وتفركها.

بتكاسل شديد قالت:

"إن الماضي يفوت، والحاضر يفوت، وكل شيء يفوت.. لماذا أهتم وأقلق لأي شيء أو لأي إنسان؟.. لا داعي لذلك.. هل ما أحس به حب حقيقي أستحق أن أعيش من أجله؟".

تذكرت صديقتها أميّة، رفيقتها في الهجرة، كان لها حب تعيش من أجله، رجل تهواه، وابنة جميلة تعشقها، والدنيا ملء يديها، ولكن الموت لا يختار ضحاياه، اقتربت نهايتها، رحلت إلى الأبد.. وقتئذ ذهلت أحلام من الخبر، كم بذل زوجها من جهد ليخرجها من بين فكي الموت.. لم يستطع، ولم يعلم أحد عن مدى حزن أحلام وصمتها، وانطوائها، ولكن دون جدوى.. لم يكن أحد يعلم ما تعانيه.. وما كان أحد يسمع صوت لهاثها، وصوت قلقها.. أرادت أمية أن تعيش.. أن تحب، وتتزوج، وتنجب، ثم.. يا لألم الفراق، فارقت الدنيا، لم تودعها.

سلسلة متلاحقة من المآسي والمحن صاحبت أحلام، ساهمت في تشكيل شخصيتها، سألتها ليلى وهي في خلوتها:

- مالي أراك مهمومة؟

- أحس بروحي أسيرة في بئر عميقة، أرغب في إطلاقها.. تذكرت الآن صديقتي أمية، وتذكرت دارنا في نابلس، وقطتي تتمسح بي، وتنام بجواري، وفي الدار كان هناك دجاج، وبيض كثير، وفراخ، وعصافير، في الغربة هنا تبقى عنقي ملوية إلى البيت الأول.

كل شيء اندثر.. الغزوات الصهيونية تتلاحق، ثم هجرة بعد هجرة، وسمة قديمة من سمات الوطن، وهي أنه وطن الترحال والغربة.

متى ينتهي منطق الصراع الذي ساد طويلاً من قبل أن نولد، ليحل محله منطق الحوار، وتتفتح العقول، وتتحرر الأفكار من ورائه؟

بفخر قالت ليلى:

- الإسلام مئذنة، وعدل، وحب، وسلام.. والغرب والصهيونية صاروخ، وفتيل، ونار.. عالمنا العربي يتخبط في موجات متواصلة من القلق، والاضطراب.. نحن في حيرة، فعلاً في حيرة لا تنتهي تجاه الغرب وتصرفاته، نجده معنا أحياناً، وعلينا أحياناً أخرى، ونخاف من الذوبان في الحضارة الغربية المتألقة، القوية، الواثقة من نفسها، إن استسلمنا إلى الصداقة، والمودة، ونخاف من قدرة إيذاء الغرب تجاهنا إذا عاديناه بشكل متواصل.

يجب أن نصبح أسياد أنفسنا حتى لا نحتاج إلى الحماية، والإرشاد الخارجي.

قالت أحلام بثقة:

- الاختيار فرض نفسه علي وعلى أمثالي من الشبان والشابات، أقبلنا على التيارات الفكرية اليسارية، لأننا حملنا في داخلنا جمرة شهوة إصلاح العالم.

قالت ليلى تنصحها:

- إنكم ترمون أنفسكم في الجحيم، ولا تدرون.

كان اللقاء بسمير نقطة تحول في حياة أحلام، اتجه تفكيرها حيث تقودها مشاعرها، توهجت نار الهوى بين الاثنين، زادتهما الأفكار الإلحادية ترابطاً، ثم تطورت إلى التنزه جهاراً في وضح النهار، وعلى أرصفة الطرقات وفوق رمال الشاطئ، يغرقان في بحر الهوى، ولا يصغيان إلى همس الناس، ونقدهم، وأقوالهم التي تخدش سمعة أحلام.. ويجنح بها الخيال، وتحلم بعش جميل، وأطفال.. وترجع إلى البيت بجناحين مهفهفين، وكلمات مبللة بعذوبة المشاعر.

حولها الهوى إلى إنسان جديد.. قد تستولي عليها الكآبة أحياناً حين تذكر نهاية صديقتها أميّة.

قالت لسمير:

- لا أريد حباً عابراً.. لا أريد أن أكون ساذجة في ثوب مراهقة.

كان الجدال مع أمه حاراً، فيه خوف الرفض، وأمل الرضى، وهي تقنعه بقولها:

- إن الحب لا يكفي، الحياة مراحل، تسير بها مرحلة تلو الأخرى، والزواج هو المرحلة الأخيرة.

- ولكن الحب يلبسني كشرار نار، لا أستطيع أن أخمده، ويستولي علي القلق.. كيف أواجه أحلام بالخيبة؟.. ماذا أقول لأبهجها؟

انزوى في ركن الغرفة، رحل بخياله إلى عينيها وهما تلمعان بفرح طفولي، وضحكتها ذات الرنين المتقطع كزقزقة الحساسين، وإلى كفيها، وهما تخفيان في باطنهما الحنان، في لمسات استشعار بالنوم الهادئ.

بالرغم من رفض الأم، كثرت اللقاءات، واستغرقت فيما لا جدوى منه.

بلهفة سألته أحلام:

- هل اتخذت قراراً؟

لم يهمس بشيء، كان صمته طويلاً.

- تكلم، فجّر الصمت.

- لا شيء عندي.

- سأنتظر القرار.

ثم يمضي في حديثه عن انبهاره حين لقيها.. اهتزت بخوف، وارتعاش، وهو يلوي الحديث، كانت بادية الذل والانكسار، قالت بهلع:

- لم تتهرب، ولم تثبتْ على شيء؟

- أمي..

- أتريد أن تتزوجني بموافقة أمك؟

- أجل، هكذا أخلاقنا.

- أنا التي أقرر، وليست أمي، وأنت الذي تقرر وليست أمك، ما هكذا مبادئنا.

استدارت نحو الشاطئ، كانت أقدامها تغوص في رماله، وتنقلها بصعوبة، وتتنفس تنفساً عميقاً، وتتلاعب بها الحيرة، وتحاول أن تتخلص من صور الماضي مع سمير، ولكن الماضي يتنفس مثلها في الصخور، والرمال، والأشياء، وتعود الصور إلى ذهنها، كانت تجتر آلامها وأحزانها.. لم ترد أن تفضي ما بنفسها إلى أحد، وهي تتجول بين الأماكن، هربت من صوتها الضحكات، فلم تعد تتناثر كالسابق، دمعاتها الآن هي التي تتناثر، وتصفعها الريح في مواقع الذكريات، بحيرة تساءلت:

"هل أتذلل لسمير؟.. هل أستطيع أن أجذبه وأرغمه كما جذبني؟".

كان سمير متقوقعاً على نفسه في ذهول، تمنت لو أفاق من ذهوله، وأبصر حالتها التي آلت إليها، وهي تحيا بلا حياة، وتموت بلا موت، بدهشة تساءلت:

"هل أنا وحدي الطرف الخاسر؟.. لم أكن أحسب حساب هذه العاقبة.."

بعد رفض أمه لها، وجدت نفسها فجأة في صحراء خالية، ولا واحة فيها، ولا ماء، ولا زاد، ولا رفيق، وجف قلبها، وكلمات حالها تصرخ:

"أين الرفيق؟.. أين رفيق اليسار؟.."

صممت على النسيان، هدأت نوعاً ما.. ولكن لم تقدر على النسيان؟ رأت أن النسيان شيء صعب، الذاكرة دائمة التوهج، تتراقص أمامها، مظللة بالدكنة.. بصيص من نور رحب لم يستمر، ولم يفلح، زرع سمير ومشى، تساءلت:

"هل كنت تجربة لمشاعره، ومحطة استراح عندها، ثم غادرها؟".

في البيت، تكورت حول نفسها، كانت ترتعش، باردة، والجو غير بارد، وحدها جسماً، وسمير معها بكل تفاصيله.. تتصور شفتيه ترتجفان بالقرار الخائب.. صرخت بصوت مخنوق:

"أموت بلا موت، حياتي موت.. بؤس، حزن، ألم، أليس هذا هو الموت بعينه؟ ضاعت ابتسامتي، صارت رمادية بعد احتراقها.. حلم كان يراودني ثم تحطم فجأة بكلمة، قرار أسود... كم كنت أود أن أسافر بجناحي طائرة مع من أحب سفراً طويلاً، نعيش معاً".

ارتعشت من هذه الفكرة، تحطم الحلم، وقعت في قمته إلى وهدة الأرض.

"يقولون إنني عنيدة.. كيف عرفوا أنني عنيدة؟.. لم أكن أدري أنني أعيش الوهم، الذي أبعد عني الواقع.. لماذا أسافر في مشاعري، وتبعثرني في كل مكان؟".

في صباح ربيعي ناعش، تفجرت أنوار الضحى، تلألأت بعد ليل حالك الظلمة، والهواء يحمل تصفيق ماء الجدول وهو يجري، ويسلم على الأعشاب، والأشجار، ويغسل أقدام الصخور، والآكام، ثم يستسلم لأحضان البحر، والموج يزحف إليه مستقبلاً ومزغرداً.. التقت بسمير، بقيا صامتين، تساءلت:

"أتراه الملل؟.. أو توقف الحديث عن الحديث؟".

بكت بصمت، وهي تلمس كفه بمنتهى الانكسار، وتحتضر النظرة على عتبة عينيه، وهي تسحقها، وتقول كمن يعلن عن موت:

"كم هو ساخن دمع الرجال!.."

علمت الجواب دون أن يعرفها عنه.

الصوت في داخلها ينفجر، والدمع في عينيها ينفجر، وصرخات الأنين تئن في أعماقها، همست:

"هل أنسى الومضات، والحفقات أم أتناسى؟

هل أدافع صارخة عن حقي في الحياة؟ أم تصدني هجمات من معايير وقيم؟..

هل أخطأت بخروجي معه؟

لمن أشكو؟".

لا تريد أن تعلم من في البيت بمأساتها الجديدة، حتماً سيصبون اللوم عليها صباً.. ليس لها إلا الأوراق تملؤها برسومات لا يفهمها إلا هي، وأقلام تئن أطرافها، وتتكسر.

خفت ضوء الشمس، حجبتها دكنة الغيوم، هدأت الريح بعد أن مزقت الغيمات، ومزقتها في الأجواء.. ثم تراكمت سحباً يضيء البرق من طياتها، ويسمع من ورائه هدير قوي، لا يلبث أن يظلم.. تغيرت الأشياء، بقيت الشمس وراء الدكنة، تنتظر الظرف المناسب لتعود سيرتها..

كانت أحلام ترى أمها في البيت، تستسلم للصمت الموجع، لذكريات متقطعة، حتى الخيالات وهنت بوهن جسدها، وابنتاها تتمنيان أن تبقى، أن تعيش ولو من خلال المرض.. كانت المحور لهما، ولو كان متخلخلاً ولكن يبقى الملاذ.

كانت أحلام تنظر إلى معلم الرسم كأب حان، ناصح لها، أفصحت له عن حبها لسمير، لم يتفوه بشيء.. ترك الأمر معلقاً يتلجلج في نفسها، صمته كان له مغزى، كأنه يقول لها:

"لا تتهالكي، حافظي على نفسك".

في الليل كانت تغرق في صمت رهيب، احتل المكان، خذلتها أنفاسها، استشعرت دبيب خدر في جسدها، استسلمت له، تذكرت أباها، تساءلت:

"أهو الموت بدأ يزورني؟

أم هي الذكرى تخطر أمامي؟"

زفرت بضيق، تملكها خوف، نهضت، اتجهت صوب أوراقها، نثرت محتوياتها في ضوء المصباح، أفرغت مشاعرها بألوان فوقها.. وجه سمير يحدق في وجهها بصمت، دونما قرار مريح.. تبللت عيناها بالدموع، حاولت أن تقاوم البكاء بابتسامة ساخرة.

حارت كثيراً في صمته، فكرت في لحظة شجاعة أن تسأله بعد أن أعيته الإجابة.. تعثر في كلماته طويلاً إلى أن امتلك الجواب.

- لقد أحببتك بكل وجداني، ولكني مشتت الفكر، ولا أدري لماذا تضيق الدنيا في عيني حين لا أراك، كأنها مقفلة أمامي، أرى كل زهرة ظلاً منك.

- أيزعجك عدم صبري، وأنا أحدق طويلاً في شفتيك أنتظر الجواب؟.. أتمنى أن أريك رسوماتي، لتكتشف سري، ووجودي المختبئ بين طيات الأوراق.

- ماذا أفعل إن كانت أمي ترفض زواجي؟.. هل لك رأي آخر؟

اتسعت عينا أحلام دهشة، تملكتها الحيرة، مالت نحوه بدلع شديد، وهي تقول:

- والأفكار التي اعتنقناها؟.. الحرية، بناء الذات، الانطلاق..

انقبض صدره، انتابته حيرة، كيف يوفق بين صوت قلبه، وصوت أمه الرافض؟.. يعرف أمه بصلابتها، ورفضها لأحلام، حجتها في ذلك استهتارها، وتحديها لتقاليد البلد بمظهرها، وجرأتها في التحدث مع الشباب إلى حد الوقاحة، وحاول أن يقنعها بمخالفة مظهرها لجوهرها.

قالت ليلى لأختها:

- نشيج أمي يؤلمني أكثر من صمتها، لا أستطيع أن أنام.

بتأثر بالغ قالت أحلام:

- ما أصعب أن يهاجمنا النوم حين تقيدنا مشاعرنا، وتقيدنا الرياح الباردة بالصفير والارتعاش.

فتحت الأم عينيها، أشارت إليهما كي تناما..

طمرت أحلام رأسها بالوسادة، تذكرت اللحظات السعيدة مع من منحها الحب بتأثيراته المعنوية، ثقة بالنفس، وصفاء في الصدر.. كانا يقتاتان بالبوح، ويستظلان بالخفق، ويتبردان بالوصال، ويتراشقان باللقاء العابق بشذى الأزهار، ورطوبة البحر، ونسمات الغدران.

لم تلق بالاً إلى القيم والتقاليد.. أن تخرج فتاة مع شاب، ذلك عار وحرام، ولافت للأنظار، ويحصل الشقاق بين المحب وأهله، ويحولون دون تحقيق رغبته في الزواج، مظاهر وقيم يصعب التخلي عنها.. فأسهمت في موت الحب وهو في أوجه.

عامان وهما ينعمان بشذى عبير الأزهار، وخفقات الفؤاد، وتنسى أحلام في ظلها أوجاعها، ولطائف النسمات ترتاد عواطفها، وترقى بها إلى التعويض عن حرمان عاطفي.. ثم ماتت خطى الحب، ابتلعتها رمال الشاطئ، وأعشاب البرية، ونقشت ذكراها على الصخور والمنحنيات، وجذوع الشجر، وورقات الورد المتناثرة، تجرفها الريح في القيعان، وفوق ألواح الصبار، هوى ردح من الزمن معطر بالأريج، وبقي شخص أحلام متمثلاً في الأفق البعيد، يمتزج الحزن بالفرح، والبكاء بالضحك، وبريق العينين باليأس.. كانت زهرة متفتحة، أو عنقود دالية متلألئاً، كانت وحدها مهرجاناً أحلامياً في كوكب الأرض، في بيئة مسيجة بالتقاليد.

في غفلة رحل سمير إلى الخارج، بحيرة تساءلت:

"أين يرسو وجهه الآن؟"

أقفل قصيدة حب، واستوى على الصمت، كأن شيئاً لم يكن".

سألت أختها:

- متى يكون الإنسان ميتاً؟

ببرود ضحكت ليلى، وقالت:

- عندما تتوقف ضربات قلبه.. لم هذا السؤال؟

- لا شيء، فقط أسأل.

سرت رعشة القلق داخل كيان أحلام الإنساني، وتضاعف عذابها.. كانت التجربة قاسية عليها، ما كان الحب في حياتها إلا ومضات عذبة، لم تكتمل لتكون نوراً دفاقاً في عش زوجي متألق بالمشاعر، تجربة ذات بعد عاطفي، تحول إلى مرارة في الحياة.

لم تدرك أحلام قيمة الشائعة في خلخلة سمعتها، وفي النتائج التي تترتب عليها، قد تكون قاصمة، ولم تدرك جدية الموقف، وأن كلمة عابرة، وفلتة لسان قد تجر من العواقب على الشخص ذاته، وعلى جماعته كلها مالا يخطر له ببال، كثيراً ما حذرتها أمها من إيقاع الشيطان، الواقف بالمرصاد، الكفيل بإفساد القلوب.

همست ليلى بأذنها قائلة:

- قصتك مع سمير انتشرت في كل مكان، وأنا وأمك آخر من يعلم.. هكذا تفعل الحرّة، أنسيت أننا غرباء مهجرون، في بلد له فضائله، وأخلاقه؟

بتحد انبرت أحلام تقول:

- إنها سيئة، سيئة جداً.

سألتها ليلى:

- لم تنظرين إلى البلد بمنظار قاتم، بعنينين أصابهما الرمد؟ إنك تعيشين في جو رهيب خلقته لنفسك، ولم تسمحي بمد يد العون لك.

بضيق قالت أحلام:

- لا مساواة هنا، ولا عدل، أرى جهنم في هذا البلد.

أجابتها ليلى:

- العالم كله جهنم، زاخر بالحقد المنفر، المثير للاشمئزاز القاسي، المهتاج بعذاب نار الطمع، ونار القهر.

بتحد قالت أحلام:

- الشباب يهربون إلى بلاد الحرية.

بتأوه قالت ليلى:

- ويحلمون بالهجرة للثروة، وبلادنا ملأى بالثروات.

- لا تتهربي، وتلوي الحديث، سأستمر.. إنك بسلوكك تتجاوزين الحد المأمون، وتنطلقين من السياج الحافظ، وتمضين في التيه بلا دليل.

خفضت أحلام نظرها، همست:

"لياليّ كانت هائمة بالنجوى مع من أحب، انتشر أريج حبي في البلد، وتحول عاراً عليّ، وفر المرح من وجهي، وحل الحزن ممزوجاً بالقهر، وطويت أحلامي".

بصوت عال قالت:

- لم أكن أتوقع الظلم ممن منحته حبي، ومشاعري، وأغلقت عليه في قلبي.. أهكذا الظلم في كل مكان؟.. في الوطن، ومع من نحب، ومع بيت عمي؟... هل كانت حريتي الصادقة سبباً في البعد عني؟.. آه.. إني أذبح مع كل ذكرى.

قالت ليلى لائمة:

- الحب له حدود في الطهر والتقى، والاستقامة، وإلا ظلمنا الحب.. الحب يكون في الصمت، هو لغة المشاعر، وليس بالتباهي، والتفاخر.

- تحول حبي إلى خوف، وقلق، وأصبحت نفسي مزروعة بالشك.

- ليس الأمر كذلك.

- سئمت من إخفاء مشاعري، فأخبرت صديقاتي بالحقيقة.

كانت الدموع تخالط أشواقها، وآلامها، طوى سمير أحلامها، ودفنها في أعماقها.

سألت أختها:

- هل الحب جريمة يعاقب عليها المجتمع؟

- إنما هي الخشية على المجتمع من التحلل.. التقاليد حارس ورقيب صارم.

كانت الأم وهي في فراشها تناجي ربها، وتدعوه أن يحيي موات القلوب، والأرواح.. التفت إلى ابنتيها لتقول:

- مالنا إلا الصبر والصلاة، يكفي ما بنا تحسر على فلسطين، فالرعب ينشب أظفاره في قلوبنا، ويتحكم الخوف في حياتنا، تغيرت الليالي في الوطن بعد الاحتلال، غدت ليالي ماجنة، وسهرات فاسدة، لا يعرف اليهود معنى القدسية.. فهل نكون مثلهم؟ إذن لبقينا فيها، ولم تكن قبراً للأحرار.

جثت أحلام على ركبتيها قرب أمها، سألتها:

- هل سلوكي هذا نزوات طائشة؟.. أمي.. أكره القيود، وأرغب في الانعتاق، والانطلاق بأمنياتي.. وأمنياتي كثيرة، وكبيرة.

- كلها من صنع أفكارك الغريبة، وخيالك.. أين قيود العقل؟

- أريد الثراء، والكساء الجميل.. أفنبقى فوق الحصير الذي لا يمنع حراً، ولا برداًَ؟.. لم التفرقة بيننا وبين أسرة عمي؟

وضعت إصبعها على فمها، وقالت:

- اصمتي، لا ترفعي صوتك، هذا قدرنا، ولا نملك إلا الشكر لله، والصبر.. لا تتمردي على القدر، اسعي بدراستك لتأمين مستقبلك... ثم، لم تستعجلين تحقيق الأمنيات بوسيلة قذرة؟ أما تزالين تأملين بهذا الشاب الغني المستهتر الذي غرر بك؟

- خدعني يا أمي.

- لا تأمني لرجل، نحن في زمن الخداع والنفاق، في زمن الحق الضائع، عايشنا البلايا، كما ترين حصيلتي من الحياة مرض، وقلق، وأدوية.. أنت وأختك ضياء عيني، وأملي، فلا تثقلي علي برعونتك.. عندما أتذكر طفولتك ومرحك، وأنا أضمك، وألثم وجهك الوردي، تنتعش عابقة في نفسي الآمال، وأعيش على ذكرى عابقة بالحب والحنان.

بيدين مرتعشتين جذبتها إلى صدرها، غمرتها بحب كبير، ودعوات، قالت أحلام:

- أراك يا أمي تنحدرين في صحتك، وهذا ما أخشاه.

- هذه حال المخلوقات، لكل يوم رواح، ولكل عمر غروب، بعيداً كان أم قريباًَ، كل ما أتمناه أن أراك وأختك سعيدتين في حياة آمنة.

أتى أحلام سمير في الخيال، والدمع يجري منها، ويرطب شوقها، وتردد روحها هواه، ويخفق به قلبها، عادت بها الذكرى إلى أيام حلوة شجية عند الشاطئ، يراقبهما الأفق البعيد، وتجابه بلقائهما دمدمات الرعود.

- أمي ادعي لي باللقاء مع من أحب.

- دعي هذه الأحاسيس المعربدة، والعبث الذي يدغدغك.. ماذا أقول حتى أقنعك؟

- قولي ما تشائين؟

- نحن يا ابنتي من أمة تؤمن بحب الروح، وتنظر إليه بإكبار، أما حب اللقاءات، والهمسات، واللمسات، فهو من وسوسة الشيطان، الذي يردي الإنسان إلى مهاوي الموت.

صمتت برهة، ثم قالت:

لو كان أبوك حياً لما ارتضى لك هذا السلوك، وهذا الاتجاه في الفكر... ما كان هذا من أخلاقنا،.. انسيه يا ابنتي، هداك الله.

- لا أقدر على النسيان، إنه يعيش في دمائي.

- هكذا حالك، كل ذكرى تعيش فيك، لا تستطيعين التخلص منها.

- إنه في سمعي، وبصري، في كل مكان كنا فيه معاً.

- سراب، وهم، تلقين بنفسك في تيه ضلال الحب، وضلال المبدأ.

(15)

كانت أحلام تغرق رسوماتها في الماضي، ومسحة في الحاضر، مع الذين أحبتهم، والذين كرهتهم، وينتابها توتر، تصوغه عبارات بالألوان لأحلام جديدة، قد تحبس نفسها، وتظل ترسم، ويطول الوقت، ثم تكون اللوحة مشوشة كتشوش نفسها، فالرسم كان وسيلة للتعبير بأشكال تجريدية تنطلق مع خيالها، وأعماقها المضطربة الجائعة إلى العاطفة، فكان انعكاساً لحياتها.. وضعتها التجارب في رسومات أمام ذاتها، متفحصة مدى تجاوبها، وتيقنت من كل تجربة مرت بها بأنها أسيرة زمان ومكان محددين، وظروف لم تصطنعها.

كانت لياليها تمر موحشة أحياناً، تحاول أن تجمع فيها مقومات الحياة بالتفكير في المواقف والأحداث التي رقدت في ذاكرتها، لتحصل على شرارة الحياة في الأشخاص، والأمكنة التي فقدت الحياة... ومن ثم كانت تتابع دراستها في نفس لا تشعر بلذة الحياة، ومتعة الدراسة.

كثيراً ما كانت أحلام ترى وحيدة، وهي تمشي فوق رمال الشاطئ، تجمع ذكرياتها من فوق الصخور، وسعادتها من الأفق البعيد، وصفحة البحر، بنفس أشبه بالميتة.. وعلى بعد ترى منال مع زوجها، تتشابك أصابعهما، ويتبادلان الكلمات العذبة، وأقدامهما تنغرس في الرمال... كانت تنظر إليهما بعينين تترقرقان فيهما الدموع، ثم تفر بذعر، تحمل أساها وحزنها على فرحة ما تمت،.. ويخمد شرار النار، وفي صدرها رماد ميت.. صنوان يتصارعان، ثم صوت ينبعث من أعماقها:

"لن أستسلم أبداً"

تواردت إلى ذهنها خواطر، وتساءلت:

"هل أرادني سمير لعبة بين يديه؟.. هل أراد أن أكون له تجربة مسلية؟.. ربما".

أخذت تلوم نفسها وهي ترى في كل موقع ذكرى، وفوق كل لحاء شجرة نقشاً، وفي رمل الشاطئ آثار خطواتهما، ومع النسيم أنفاسهما، وأوراق الأزهار المتناثرة فوق الأشياء تحمل وعودهما.. كثيراً ما زرعت من بذور الأحلام والآمال، وطارت على أجنحة شفافة في الأصيل، والإشراق، سيجت حاضرها بالأحلام الوردية، حتى غدت الدنيا في عينيها أجمل دنيا، وهمساتها أعذب الهمسات، ثم فجأة تخبطت في الشك، وهي تنتظر قرار سمير.

تذكرت حاله قبل السفر، وكيف كان يلازم الصمت لرفض أمه لها، رغم جمالها، لتحررها وسمعتها التي تلوكها الألسنة.. كانت تجربة لن ينساها، ولم يقتل الأمل في نفسها.

قبل الوداع قالت له:

- سأنتظر مهما طال غيابك.

سألتها ليلى ذات يوم:

- مالي أراك تذبلين كزهرة خريفية؟

- تركني سمير أتعلق بأمل واه، وانطفأت حماستي في الدفاع عن أفكاري، وأشعر باختلال في توازني النفسي، الصدمة كانت صفعة قوية..

- ابتعدت عن الله، فابتعد عنك، قادتك مبادئك إلى التحرر من القيم، وسوء الظن بها، فجرفتك إلى هذا المصير، وتزايدت أحزانك.

- هل يذكرني كما أذكره؟ أم سأنداح من حياته، وأصبح نسياً منسياً.. لقد طال انتظاري، أحيا على كلمات نثرها في سمعي، كان ملء الدنيا ضوءاً، والآن أعيش في أسى غربتين، غربة عن الوطن، وغربة عمّن لعب بمشاعري، ولا تزال مبادئه تطحنني طحناً.. أعطاني الوعود، ومدّ لي اللذة في الوعود، ثم تركني أتخبط في متاهات مظلمة، وأعيش على الأمل الكاذب، ترسو عند شاطئه الأماني.

- أنت المسئولة عن فشل حبك.. ماذا أقول لك وأقول؟ لقد دست كرامتك، وغصت في حفرة من الوحل.. كم صرخت: يا أختي، يا حبيبتي، أقدامك تتعثر في الوسخ، كم صرخت وجلجل صوتي لينقلك نحو الهدى، فكنت تسخرين، وتديرين ظهرك.

- أرجوك، لا تكثري عليّ من اللوم، ما فيّ يكفيني.

- فقط أذكرك، ولا أزال، ليس لك إلا أن تتخلي عن وساوس أفكارك، وتلتحفي بالإسلام، دين نبينا محمد عليه أفضل الصلاة، ليس بالشيوعية، دين لينين، وستالين، وغيرهما من شيطانين الإنس.

*  *  *

ملأت أحلام الورق برسوماتها المعبرة عن خيالاتها المحمومة، بدءاً من مرابع طفولتها، ثم في دروب حبها، وولهها بحبيب مخادع.. سنو عمرها الفضية المتلألئة تعيشها في طاقة من المشاعر، ملونة بألوان نابلس، والبيئة الجديدة.. غريبة مع حبيب ساه، لهيبها الشوق وقيثارته لم تزل مرنقة بنداوة دموعها.

إنها تعيش في لهب الحب، ولوعة الحب.. والسهد، وتسيل روحها على أوتار مشاعرها، ترسمها ظلالاً على الورق، تدور ذكرى حبهما مع الزمن، يأخذها أريج الأزهار، وشدو الطيور، تسري إلى الذكرى لتحييها.

قالت أمها:

- إنك في عين عمك، وفي لحظة خاطفة سينقض عليك، هل لديك المقدرة في المواجهة؟

- أجل، ولا أبالي.

- جادّة؟

- بجدية مفرطة.

- لا تصغين إلا إلى شيطانك.

- لا تقلقي، واجبك أن تعلميني الصبر.. لا تلوي عنقي.

- ستذهبين إلى الجحيم، وينساك الجميع.. لست أدري.. أشيطانك الذي يهزك، أم أنت التي تهزينه؟

ألزمت نفسها بالصمت، ثم قالت:

- إنه مرارة السؤال، وزفرة النفس.

كان في فضاء صحن الدار طائران يتخاصمان، أحدهما يهرب من الآخر، بحيرة تساءلت:

"لماذا يتخاصمان؟"

قطع الصمت سؤال أمها:

- أأنت أوقعت بسمير، أم هو أوقع بك؟

- سيان.

- انظري، أحد الطائرين يطير وحده، والآخر يقف على حافة النافذة.

- أجل، يطير وحده بلا رفيق، ويترك شيئاً من ريشه فوق الأرض.

- لم أشأ أن أثير قلقك، هل تحبين الطيور؟

- أحب الأطفال.

- ما بك؟ هل أنت بخير؟

- مجرد تشوش بالأفكار.

- أنت طائر مجروح.

- وأنزف كثيراً.

أشرق الصباح مزخرفاً بالأحلام، وهوى ليلى شجو، وأرق تشق فيه روحها في عالم بعيد الآفاق، يهيم بعالم المناجاة لربها، فترجع في صدرها نشوة في فرح، ويغمرها الألق، إن قارنت بين دنياها وآخرتها رأت تنافراً بين متاع قليل، وخير كثير.. فالدنيا ليست نهاية المطاف، وليست المرفأ الأخير، هي محطة وداع، يشتتنا موج الفناء، ولكل امرئ في الأرض حكاية محيرة بلا نهاية.

روى أهل البلد عن حب أحلام حكايات منمقة، صدقوا فيها أحياناً، وكذبوا أحياناً أخرى.. امتلأت أوراقها بآهاتها، وما رفق الناس بها، فضحها حبها، وكشف أسرارها.

تنهدت وهي تقول لليلى:

- مهما حصل فلن أقدر على إخفاء مشاعري، إن حاولت فضحتني ريشتي ودمعي فوق الورق، أمشي والحب يمشي معي، ويحرقني لهيبه، باستغراب أتساءل: لماذا لم يتقدم إلى عمي لخطبتي؟

ضحكت ليلى ضحكة باهتة، وقالت:

- متى كان للرجل المتنكر للدين وفاء، وخلق؟.. هو كالنحلة يتنقل من زهرة إلى أخرى.

- لم أدرك أين يكمن الخطأ، هل فيّ أو فيه، أو في المحيط المحافظ الذي يفرض معاييره على المجتمع؟

تركتها ليلى تفرغ ما في صدرها قائلة:

- كانت الأمكنة التي نلتقي فيها الباعث لسرورنا، وحديثنا، ثم صارت مسرة لذكرياتنا، كانت الأحاديث تشق عن روحينا، أو هكذا كان يخيل إليّ.

قالت ليلى:

- ربما عن روحك وحدك فقط، فوثقت به، وابتسمت ملء قلبك، وغمرتك النشوة وأنت معه.

- هذا ما حصل، كنت أود أن نطير معاً في عالم مليء بالفرح والسكون.

- وهو؟

- لا أدري.

- هو نفى عمق النشوة، وودّ لو يهرب، ويتجرد من الكوابيس المثقلة عليه.

- وإن سألته عن شروده أحياناً، أجابني ببرود: لا شيء مطلقاً، لا شيء.

- صدقيني كان يريد أن يخفف من جموح النشوة الغامرة التي تملأ كيانك، ليعلمك أن هدفه السفر، ومتابعة الدراسة، وتأمين مستقبله، وأن عليك أن تستسلمي للقدر.. قد تنتظرين طويلاً.

- لا أملّ الانتظار، سأنتظره إلى آخر العمر.

تذكرت أحلام اللحظة الأخيرة، حين صمت بألم، واضطربت شفتاه ثم باح بما لديه:

- سنفترق، قد.. لا نلتقي.. لست أدري.. ربما.

سألته:

- ولكن ماذا عن..؟

بهتت ليلى، سألتها:

- عن ماذا يسأل؟

- لا أدري، لا أدري، كان متشائماً.. سألته:

- هل هو الفراق الأبدي؟ هل هو قرارك النهائي؟..

شعرت وكأني ألقى في محيط، ودوامة من الموج تدور بي، تصعد بي، ثم تلقيني في القاع.. كدت أختنق، فراق: كلمة موجعة، فراق الوطن، فراق الأب، ثم فراق من وضعت فيه أمل اللقاء.

سألته بدهشة:

"إلى أين؟.. الغربة تزداد كثافة في نفسي، أبعد هاتيك اللقاءات نهاراً، وتحت جناح الليل، واللمسات والوعود وشيء آخر غير قادرة على البوح به، ترحل؟؟"

بتعجب سألتها ليلى:

- ما هذا الشيء الآخر؟ هل هو ما أفرزته الحرية المطلقة، والأفكار الإلحادية؟.. تكلمي.

صمتت أحلام بذهول.. ردّد الصدى الحوار في نفسها، حين قالت له:

- أتذكر الورود التي حملتها إلي في ميلاد حبنا؟

- لا أنسى.. لماذا تسألين؟

- أحمل شذاه في جسدي.

بهسترية ضحك، وقال:

- طبيعي جداً، هذا ثمرة الحرية المطلقة التي ننادي بها، دون قيد أو شرط.

كانت الآمال التي رسماها معاً للمستقبل كاذبة.. تلاشت.. الفتاة تخدع، ويثمر الخداع.. الشاب يهرب، لا يتحمل المسئولية، ويقع اللوم على الفتاة وحدها، وهما في الوزر مشتركان.

 قال لها:

- هل سعادة عابرة تبني مستقبلاً؟.. اصغي جيداً.. كل شيء في البلد سيتغير، سيتطور، أليس هذا ما ندعو إليه في اجتماعاتنا؟.. تابعي دراستك، واكتمي ما كان.

- هل يتلاشى الحب بهذه السهولة؟ أم كان حلمي وحدي؟

سألته:

- لم تهرب من نظرات عيني؟.. سأنتظرك.

- ....

- حملتني عبئاً ثقيلاً، مبادئك الخرافية، عطرك الذي يسري في أحشائي، إن رحلت فسوف أتمزق، ثم سأرحل.

- إلى أين؟

- إلى المجهول.

دفنت صرخة ألم في أعماقها، ارتعد منها جسدها، ضغطت على بطنها، تمنت أن تفتته، أن تقتل كل شيء فيه.. أطرقت، انسدل شعرها فوق وجهها كشلال من ذهب، وتحته تتقاطر دموعها.. عمرها يتلاشى.. والآمال تتساقط مع قطرات الدمع، وفي النفس حديث وشجون:

"أنت يا سمير الرجل الأقوى على التحمل، أما أنا فسيذوبني الصبر".

اخترقت رعدة عظامها، عطره فيها رجس، كان نتيجة كسر القيم والعرف.. أخذت الريح تعصف، وطائران في الفضاء يتخاصمان، ضرب أحدهما الآخر بجناحيه ضربة قاسية، ألقاه فوق الأرض، رأته يتحشرج، أخذته بيدين مرتعشتين، مسحت على رأسه، كانت قطرات من الدم تسيل من بين فكيه، ثم لفظ الروح بين يديها.

رأت سميراً يتسلل بهدوء من بين طيات العاصفة، ويرحل بعيداً، والريح تعصف بشعرها، والغيوم تساقط قطراتها فوقها، ألقت نظرة على الطير الضحية، وبكت.

كانت خطواتها ثقيلة فوق الرمال المبللة، تنغرز معها آمالها وأمنياتها، وتسير بقلب محطم، حطمه العبث والغدر.. رددت:

"لقد كسرت طوق النجاة بيدي.."

في البيت ألقت نظرة إلى أختها وهي تسجد لله في صلاتها، وبصمت قالت:

"هنيئاً لك، كلانا من جذر واحد، ولكن اختلفت طريقانا.. أهكذا تسترد الدنيا ما تهب؟".

سلبها الحزن روح الدعابة، والفكاهة، وسلبها حب الوطن عقلها، وأتم عليها سمير فسلبها فؤادها، ولم ينصفها، وانصرف الذين كانوا أصدقاء لها، تنهدت بعمق، وبصوت خافت تساءلت:

"أهكذا شأن الدنيا والناس؟".

حدثت أحلام ليلى، فقالت:

- أحس برأسي يكاد ينفجر، وبتفكيري يتلعثم به بياني.

- توبي يا أختي إلى الله، عسى أن يقبل توبتك بعد عصيانه.

- آلامي وأشجاني تمزقني، وهواجسي تؤرقني، وظنوني تنضم إلى وساوسي وتزيدني أرقاً.

- أفي الله تشكين؟

- في كل شيء، أحيا في ضياع، تجرفني البلايا، أنا مثقلة..

- بوسوسة الشيطان.

- ضائعة في الغربة والشتات، وسماع أخبار الموت في الوطن، أغرق، لا أستطيع أن أنجو من الغرق، والموج عات، وحياتي غدت مقفرة لا رجاء فيها، وأرضنا ملوثة بالدماء والشقاء، لم تعد تصلح لبقاء الأحرار فيها.

- أمور نتوقعها، تتكرر دائماً، في وطننا الهوان، والغزو الآثم يزرع الموت، والعرب يتفرقون عنا.

- ومن النساء أسارى، من يصغي إلى صرخاتهن، ولوعتهن؟

- مات صوت الضمير في العالم، والعرب تفرقوا مرغمين، وحق الضعفاء يضيع، ويكثر المتزلقون والمنافقون.

- الوطن مستقر بوعينا، يفجر في داخلنا الجمال، والشجن، وعشق الحرية.

تنهدت أحلام بصمت، وقالت:

- أهكذا ينطفئ سراج الحب بعد لهب ودخان، ثم أعيش في خوف؟

- ولكن سمير يعيش في الخارج مع الحب بلا خوف، لا يحتاج كي يتسلق سياج القيم والأخلاق، ولا أن يمشي على أطراف أصابعه، أو أن يسرق الخطى في ظلام الليل.

          

* أديبة سورية تعيش في المنفى