خطوات في الليل(3)

خطوات في الليل(3)

محمد الحسناوي*

[email protected]

يفاجأ حسان بأن الزنزانة الصغيرة التي لا تتسع إلا لخمسة سجناء في حالة النوم أو الاسترخاء... تحتوي الآن على ما يزيد عن عشرين سجيناً فيهم المسن والكهل والشاب والفتى.

كان نصف السجناء جالسين القرفصاء للراحة ونصفهم الآخر واقفاً على قدميه، لكي يتسع المكان للجالسين، على حين كان هناك سجين واحد متمدداً أمام الباب مباشرة حيث يوجد منخفض ضيق كالقبر، مخصص لوضع الأحذية. لم ينهض هذا السجين النائم فوق الأحذية حين نهض السجناء جميعاً لاستقبال حسان الذي عرفه بعضهم، ومنهم الأستاذ صبري، وجاره أبو سعيد. اكتشف حسان بعد قليل أن هذا النائم هو طالب من طلابه في ثانوية الكواكبي قد كسر عموده الفقري تحت التعذيب، وهو في حالة غيبوبة.

رحب سجناء الزنزانة بحسان. حاول أن يصافحهم واحداً واحداً، لكنهم أبوا إلا أن يعانقوه تعبيراً عن سرورهم البالغ بحضوره، لم تكن الزنزانة تتسع لهذا العناق، فاضطر إلى التسليم عليهم خارج الزنزانة بوجود الحارس العسكري وموافقته، لأن حسان يحمل كتاب توصية من مسؤول كبير. ثم سمح له بأن ينفرد بالأستاذ صبري، فيخرجه من الزنزانة، ويتمشى معه في باحة السجن الداخلية الصغيرة، حيث يوجد ممر من مادة الإسمنت على شكل مستطيل طويل تحيط به من الجانبين أزهار صيفية قصيرة السوق، أوراقها شديدة الخضرة، وتيجانها فاقعة اللون من أصفر وبرتقالي.

لم يكن هذا المنظر الخلاب جديداً على حسان فقد استمتع به صيف عام 967 حين سمح له ولإخوانه السجناء العشرة بالخروج إلى التنفس –هكذا يسمونه- والتمشي فرادى في هذه الحديقة لأول مرة ساعة العصر بعد اليوم السابع من أيام السجن.

- أعرف أن الحرية غالية وضرورية، وأعرف أن الطبيعة جميلة وممتعة، لكن لم أكن أعلم أن الحرية بهذه النكهة العذبة، وأن الأزهار والأطيار والهواء الطلق بكل هذه الروعة والسحر. أحس كأن كل مسام من مسام جسمي يتنفس بعمق، ويغتسل بهذا الفيض الغامر من الحرية والجمال. إن كل دقيقة تمر أجمل مما سبقها. لكنها دقائق معدودة نعود بعدها إلى الزنزانة.

هذه المشاعر هي المشاعر التي أحس بها حسان عام 967، ويتذكرها في لقاء الحلم مع زميله الأستاذ صبري ثانية كأنها هي هي لم تتغير ولم تتبدل، على الرغم من أنه جاءه زائراً وليس سجيناًِ مثله.

- كيف حالك يا أخي يا أبا عمر!

- لا تسألني عن حالي. ولكن خبرني عن حالك وحال عابد بعد اعتقالي.

- تركنا البيت مباشرة خشية أن ينتزعوا منك شيئاً عنا.

- فشروا. لم يستطيعوا أن يحصلوا على ذرة من غبار حذائي.

رفع صبري قدمه وساقه اليمنى عن الأرض، وأشار إليهما بيديه إشارة مباشرة مثل لاعب كرة قدم يضرب الكرة إلى الأفق الأعلى من سماء الملعب.

- ولدك بخير. يسلم عليك ويدعو لك ولإخوانك بالفرج العاجل.

- بشرك الله بالخير. كان بالي مشغولاً عليه جداً. لم أسمع عنه شيئاً منذ اعتقلت. سمعت باعتقال بشير وباستشهاد أيمن. الله يرحمك يا أيمن. يا حبيبي يا أيمن. لم تخيب ظني فيك.

استغرق الأستاذ صبري بالبكاء. لم يكن حسان يريد أن يذكر صبري بجراحه: استشهاد ولده أيمن، واعتقال ولده بشير.كان يريد أن يطمئنه عن عمر الذي غادر البلاد وعاد إليها ثم غادرها وهو بسلام خارج الحدود.

إذا كان للجراح أنواع، فجراح الأستاذ صبري من الجراح الغائرة، فهو معتقل منذ شهر نيسان، وابنه بشير الطالب في الصف الأول الثانوي اعتقل بعد بقليل أي قبل دخوله الامتحان، وصهره اعتقل مرتين وما زال في المعتقل، وراتب كل منهما مقطوع وكل منهما يعيل ذويه لا سيما والد الصهر وأمه على قيد الحياة، ولا مورد لهما غير هذا الراتب الشهري.

- وصلتني قصة استشهاده بتفاصيلها.

ابنه أيمن في الثامنة عشرة من عمره ترك الدراسة ليعمل فيما يعين والده على سد نفقات الأسر التي يعيلها. كان شاباً وسيماًِ هادئاًِ باسماً جدياً. قليل الكلام عاكفاً على الجد والعمل. روي عنه أنه افتدى عدداً من زملاء العمل الملاحقين بنفسه، وتعرض لمخاطر جمة في أحداث حلب، ولم يكن يتأخر عن خدمة المطلوبين والمتوارين عن الأنظار رحمة بهم وتقرباً إلى الله تعالى بمساعدتهم، وحين حوصر عدد من المجاهدين في بيت من بيوت حي باب النصر بحلب كان معهم يقوم على خدمتهم، وأسهم في الدفاع عنهم وعن نفسه، حتى قال المواطنون: إنه صاحب الرصاصة الأولى والأخيرة، في معركة العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك.

- لم يؤلمني استشهاده بقدر ما آلمني تصرف المجرمين به. ألقوه من على سطح البناء الشاهق وما زالت فيه بقية من الروح.

- رحمه الله وأدخله فسيح جناته.

- أنا فخور به، وأرجو أن يثبتني الله تعالى بفضله ويتغمده برحمته.

- هل تذكر الحلم الذي رآه منذ سنتين؟

- كان يغط في نومه، وكنا نحاول أن نقص شعره الطويل كالخنافس، إذا هو يستيقظ ضاحكاً، فظننا أنه اكتشف محاولتنا، لكنه فاجأنا بأنه كان في حلم رأى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

- صلى الله عليه وسلم.

- وقلده السيف. وقال له: قم وجاهد يا أيمن!

- هل تعلم أن هذه القصة قد طبقت الآفاق.

- القضية بخير إذاً.

تهللت أسارير الأستاذ صبري، وأشرق وجهه الجميل بنور خاطف ما لبث أن غاب، وحلت محله سحابة حزن جديد.

- البيت يا رجل شبه محتل. المجرمون لا يكفون عن مداهمته واحتلاله بين حين وآخر. والعيال لا يستطيعون الحركة.

- الله تعالى لا يغفل عنهم ولا ينساهم. أهل الحارة كلهم يسألون عنك ويسلمون عليك ويقومون بواجب الأسرة.

- أنا مدين لأهل الحارة بالشيء الكثير.

- بل هم مدينون لك بتربية أطفالهم وأولادهم وبدروسك العلمية وبخدماتك الاجتماعية.

- هذا نحتسبه عند الله.

- هذا عهدي فيك.

- يبدو أنك نسيت السمان أبا سعيد.

- سمان الحارة. كيف أنساه يا رجل؟!

- لم تسلم عليه بحرارة. إنه معنا في الزنزانة.

- الله أكبر كيف لم أنتبه؟ واخجلتا! سوف أعتذر له حين الوداع.

- وتذكر أن ابنه سعيد سجين معنا.

- الله أكبر كيف لم أعرفهما؟

- تغيرت ملامحهما من شدة التعذيب.

- ما سبب اعتقالهما؟ إنهما من الناس البسطاء العاديين. لا يعرفان سبب اعتقالهما ولا نحن نعرف.

- فلماذا التعذيب إذن..؟!

- وهل هذا سؤال يسأل في هذه الأيام؟!

- عشنا وشفنا!

عاد البريق إلى وجه الأستاذ صبري، ومال برأسه على معصم يده اليمنى، ومسح حبات الدموع المتبقية في أجفانه ومحجريها. انتبه حسان إلى أن الأستاذ صبري قد اتسخت ثيابه، وأن حذاءه بلا رباط، وأن بنطاله متهدل بلا حزام، وهو الحريص على الحد الأدنى من النظافة والترتيب والأناقة الضرورية.

- خبرني كيف غامرت وجئت إلى زيارتنا وأنت مطلوب بشدة أكثر منا.

- خبرني أنت عن أحوال السمان أبي سعيد.

- ذكرتني. هذا الرجل وابنه احتملا صنوف العذاب من جوع وعطش وضرب بالسياط المطاطية (المجدولة) بالأسلاك، والتغطيس بالماء الحامي، والوضع في الدولاب، وأبو سعيد ممتلئ الجسم ناصح كما تعلم، وكاد يلفظ أنفاسه أكثر من مرة.

- ما السبب؟!

- تأكد أنه لا يوجد سبب حقيقي. فأنا أعرف الناس بهما.

وأشار الأستاذ صبري بكلتا يديه، وقد ضم كلاً من السبابتين والإبهامين في كلتا يديه- كعادته حين يريد التأكيد.

- هل يحدث التعذيب لمجرد التعذيب؟

- شيء كثير منه!

- ألم تخمن أي سبب؟

- إن كان فهو التشابه بالأسماء.

- كم اتسعت الدائرة في الاعتقالات حتى اختلطت الأسماء؟!

- أكثر مما تتصور ومما يخطر على بالك.

- يا لطيف.!

تألق وجه الأستاذ صبري مرة أخرى، وضحك، وتوقف عن المشي في وسط الممر. وقف تجاه حسان، كأنه يريد أن يدلي بشيء مهم خطر له في تلك اللحظة.

- أحكي لك نكتة رائعة؟

- هات.

كان يفتش حسان عن وسيلة يسري بها عن نفس صديقه صبري، ويخفف عنه بعض ما هو فيه من سجن وغم، ولما انفرجت أسارير صبري سرَّ هو نفسه لهذه البادرة.

- النكتة رواها لنا جارنا أبو سعيد الزمان. ونحن نتذكرها بين الحين والآخر، فنستعيدها ونغرق في الضحك.

- في هذا السجن تضحكون؟!

- الله رحيم بنا يا رجل. ألسنا مؤمنين بالقضاء والقدر؟

- هنيئاً لكم. فرج الله عنكم.

- يقول سعيد إنك استلمت رسائلك منه عصر اليوم الذي سبق مداهمة المخابرات لبيتك، على أمل اعتقالك، فأخبرك أبو سعيد بأن هناك أشخاصاً غرباء سألوا عنك، واستفسر منك أبو سعيد عن السبب، فأجبته بكل هدوء: إنهم يريدون أن يعينوني وزيراً. فصدق كلامك هو وابنه سعيد، لأنهم لم يعهدوا منك إلا الصدق وعدم المزاح. وفي اليوم التالي فهموا أن الذين سألوا عنك يريدون اعتقالك لا تعيينك وزيراً.

غرق حسان وصبري من الضحك الشديد، لدرجة استدعت انتباه الحرس المنتشرين في الباحة. وأشار أحدهم إلى ساعته يريد أن يلفت نظر حسان إلى انتهاء مدة الزيارة. هز حسان رأسه وأشار بجمع يده إشارة استمهال.

- إذن صدق كلامي؟!

- فعلاً.

- يا ترى هل يمكن أن تكون هذه الحادثة هي سبب اعتقاله وتعذيبه؟

- ما أدري. إنهم لم يذكروها له.

- تصور مثل هذا الإنسان العادي يعتقلونه، ويعذبونه هو وولده معه!

- كيف أتصور وقد رأيت وسمعت ما هو أعجب وأغرب؟!

شرع الأستاذ صبري يروي مشاهداته، بينما انصرف خيال حسان إلى أيام اعتقاله في هذا المكان عام 967.

تذكر حسان زيارة زوجته سعاد له بعد مضي أسبوع من اعتقاله. كانت الزائرة الأولى من ذوي المعتقلين آنذاك. وقفت هي والطفل ولده مجاهد وراء القضبان الحديدية التي تفصل باحة السجن الداخلية عن الممر الموصل إليها، ووقف هو من الطرف الآخر على بعد أربعة أمتار وحارس من الشرطة العسكرية برتبة عريف يراقب حديثهما وحركاتهما.

كانت زوجته بلباسها المحتشم الأسود المعتاد. تتكلم وتتصرف بهدوء واتزان واضحين. كان هو حليق الشعر حتى درجة الصفر، يلبس (شحاطة) بلاستيك. بنطلونه مستعار من أحد زملاء السجن، لأن بنطاله الخاص قد تمزق بشق طويل. كان هذا البنطال فضفاضاً وأطول من قامته، وهو بلا حزام يمسكه جيداً من وسطه.

نادى حسان ولده مجاهد الذي يبلغ من العمر أربع سنوات. كان يتردد في المجيء إلى والده، فسمح له الحارس بالالتفاف حول القضبان الحديدية للاقتراب من والده، فعانقه عناقاً طويلاً، وسأله عن أحواله وعن أحوال زملائه في روضة الأطفال.

- كيف حالك يا أم مجاهد؟

- بألف خير. اطمئن، وطمئن إخوانك. زوجاتهم وأولادهم وأهلهم كلهم بخير. حملوني تحياتهم، وسوف يسمح لهم بزيارتهم قريباً.

- نحن بخير والحمد لله.

- نحن فخورون بكم. أنتم شرف لهذا البلد. لم يعتقلوكم إلا لأنكم شرفاء، مخلصون ترفضون الظلم والفساد.

- كيف عملت بشأن الراتب؟

- ولا يهمك. تذكر أنني التحقت بمستشفى دار التوليد قبل اعتقالك بأيام، وأنا الآن مواظبة على عملي بكل ارتياح.

- كيف حال أهلي؟!

- كلهم بخير. ومثلما طلبت من أمي اتصلت هاتفياً بوالدك وأخبرته باعتقالك، وهو الآن معي، لم يسمحوا له بالدخول، لأنني لم أستطع الحصول له على أذن بزيارتك. انظر لقد أرسل لك هدايا. قال: إنك تحب هذا الفستق السوداني المجبول بالسكر.

- سلمي لي عليه. واطلبي منه الدعاء لي ولإخواني المعتقلين.

حتى هذه اللحظة كان حسان يضبط أعصابه، ويتمالك من أن تظهر عليه أي علامة ضعف، لكن الحديث عن أهله ذكره بأمه وأبيه واخوته وأخواته وبمرابع طفولته وصباه في بلدته جسر الشغور، كل ذلك استجاش مشاعره، وأحس بالدموع تتسابق في مجاري عينيه تريد الانسياح، فكبح جماحها وتشاغل بمداعبه ولده البكر. وأخذ يتفحص ملابسه الصيفية: بنطال وردي اللون ذو (شيالات) على الكتفين وأزرار بيضاء. كنزة فضية اللون ذات أكمام طويلة على صدرها وردة طفلية مبسطة الشكل. الأوراق تشغل مساحة كبيرة من مساحة الصدر. ورقة حمراء وأخرى صفراء وثالثة بيضاء ورابعة برتقالية، تتوسط هذه الورقات دائرة بنفسجية شفافة. الألوان كلها زاهية مشرقة.

في اللحظة نفسها كانت سعاد تحس بمشاعر حسان مضافة إلى مشاعرها هي الأثنى منذ دخولها هذا السجن النائي الضخم ورؤيتها زوجها على غير عادته: شعر حليق. ثياب متسخة غير منسجمة. حذاء بلا أربطة. فاصل من قضبان حديدية ورقيب غريب عليهما. ومسافة أمتار لا يسمح بتجاوزها. احتمالات غامضة حول مدة السجن، حول مصير السجناء. بل إنها كتمت في صدرها حزناً عميقاً وخبراً تداولته زوجات المعتقلين، عن إحداهن حين استأذنت المخابرات بزيارة زوجها، فقال لها الملازم أول ممدوح، لا تنتظروا أزواجكم. ابحثوا عن أزواج آخرين غيرهم!

تذكرت سعاد كل هذه المعاني، وكادت تنفجر بالبكاء، لكنها استدركت نفسها وقالت:

- طمئن الأستاذ فاروق بأن زوجته قد ولدت بالسلامة، ورزقت غلاماً ذكراً.

هذه المحاولة لتحويل مجرى المشاعر بتغيير مجرى الحديث لم تكن موفقة، بل كانت تراكماً جديداً يضغط على مشاعر الزوجين. فقد تذكر كل منهما أن الأستاذ فاروق الذي اعتقل مع حسان في ليلة واحدة، قد حصل اعتقاله بعد منتصف الليل، وهو في الشارع يبحث عن قابلة لتوليد زوجته التي أخذها المخاض، فلم تسمح له عناصر المخابرات بتأمين القابلة قبل نقله إلى السجن.

كما أنهم داهموا البيت بمجموعة أخرى قلبت أثاثه والمكتبة والفرش رأساً على عقب. والمرأة تتلوى وتتقلب تحت وطأة المخاض. اجتمع عليها ألم المخاض، وفقد الزوج وحضور رجال غرباء بأسلحة وبتصرفات وألفاظ نابية قذرة.

- إذن ولدت بالسلامة؟ الحمد لله. طمئنيها عن زوجها، فهو بخير، ويسلم عليها وعلى أولاده وعلى أمه وأبيه واخوته. كل الأخوة الذين معي بخير، ويسلمون على زوجاتهم وأهلهم وأولادهم وأقاربهم.

استطاع الزوجان تجاوز الأزمة الانفعالية وسيطرا على مشاعرهما، وشرعا يتحدثان في تأمين بعض الحاجات مثل لباس النوم ومنشفة الحمام حتى انتهى الوقت المحدد للقاء، فقال حسان:

- مع السلامة. مع السلامة.

فوجئ حسان أنه كان شارداً عن حديث صديقه الأستاذ صبري. والذي جعله يفطن إلى ذلك أن الأستاذ صبري دهش من هذه العبارات (مع السلامة) برغم أن حديثه لم ينته بعد. قال صبري:

- إذا كان وقتك ضيقاً.

- لا مؤاخذة كنت شارد الذهن.

- هذه عادتك.. لن ألومك.

- هل تأمرني بخدمة. هل توصيني بشيء؟

- أحيطك علماً بأن الأخبار المتسربة عن أركان السلطة أنني سوف أنقل تقريباً إلى سجن تدمر. ويبدو أن هذا التدبير سوف يشمل الكثيرين من أمثالي.

- صل على النبي يا رجل.

- اللهم صل وسلم وبارك عليه. ومع ذلك الخبر مؤكد.

- وإن يكن. فالله قادر على أن يغير الأحوال.

- لا راد لمشيئة الله تعالى. ومن مشيئته أيضاً أنه جعل سنناً في الكون والبشر، ورتب النتائج على الأسباب. وأمرنا أن نأخذ بالأسباب.

- هل هناك أخذ بالأسباب أكثر من حمل الناس السلاح لتغيير الواقع؟

- صحيح. وهذا مؤشر خير. ولكن هل أحكمت المسألة؟ أرجو ذلك.

- توكل على الله.

- توكلنا على الله. كل الأخبار مرضية. نرجو الله عز وجل أن يتمم بالخير.

مد الصديقان كل منهما ذراعيه للعناق فالوداع. شم حسان من عناق صديقه رائحة لم يعهدها فيه من قبل. إنها رائحة يتذكرها جيداً. رائحة العفونة المؤتلفة مع مطاط الاسفنج. خجل من أن يعجل بفك العناق بسرعة، لكنه اكتشف أخيراً أنه لا يعانق الأستاذ صبري، بل يعانق وسادة الاسفنج.

-2-

مساء يوم السبت دعي مجاهد إلى التحقيق للمرة الثانية بصحبة الرقيب الأول الطويل. أغلقت الكوة الحديدية في أبواب الزنزانات تمهيداً لمروره. قرر مجاهد هذه المرة إلا يستجيب لطلباته بالهرولة والاستعجال، فيصل إلى غرفة التحقيق مرتبكاً منقطع الأنفاس:

- لو أنني تمهلت لأضطر هو أيضاً إلى التمهل لأنه يمشي أمامي. هكذا أستطيع أن أنظر يمنة ويسرة.

اكتشف مجاهد خارج مبنى الزنزانات فسحة على الجهة اليمنى تنتهي إلى درج يؤدي إلى خارج المبنى العام. قال في نفسه:

- إنه مكان صالح للهرب. هل أستطيع ذلك؟! وإذا هربت فماذا يكون مصير هذا المرافق الطويل ذي الكرش الضخمة المتهدلة التي لا يحيط بقطرها زنار.

دخل مجاهد غرفة التحقيق الصغيرة التي دخلها البارحة على يسار الداخل إلى المبنى الآخر. لم يكن المحقق الأشقر وحده. كان معه محقق شاب آخر أسمر البشرة. قام المحقق الأشقر عن المنضدة. طلب من مساعده الأسمر أن يقعد مكانه وأن يستعد للكتابة. بعد أن استقر السجين على الكرسي مباشرة قطب المحقق الأشقر جبينه وزمجر قائلاً له:

- أنت كذبت علينا!

- أنا لم أكذب أبداً.

- بل كذبت. لا تنكر!

- ...كيف؟ لم أفهم؟

قال المحقق الأشقر ملوحاً بيده في وجه مجاهد.

- المرأة التي معكم في البيت من هي؟ إنها زوجة خالك وليست والدتك.

- أنا أعرف والدتي. وأصر على أنها والداتي.

قال المحقق الأسمر:

- طيب. كيف تفسر التشابه بين اسم والدة والدك ووالدة امرأته؟!

قال المحقق الأشقر:

- ما هو اسم والدها أي والدة امرأة خالك إذن؟!

قال مجاهد على الفور:

- هل تعرف أنت اسم والدة امرأة خالك؟

ضحك المحقق الأشقر مكرهاً. ثم قال:

- إذن هل تستطيع أن تجيب بسرعة على اسم كل من أطلبه منك؟

- نعم أستطيع.

- ما اسم والد والدك؟

- مجاهد.

- والد خالك؟

- بكري.

- زوجة خالك؟

- مهدية.

- أمك؟

- سعاد.

- عدد أولاد خالك؟

- سبعة.

- كلهم صبيان؟

- خمسة صبيان وبنتان.

- اسم الولد الأول؟

- بسام.

- الثاني؟

- فتحية.

- من هو أبو حسن؟

- شاب طويل كثير العبوس. شاهدني مرة أدخل غرفة العمل مع والدي عبس بوجهي بشدة، فما دخلت إليهم ثانية. لذلك لا أعلم ما يصنعون.

- هل هناك مواصفات أخرى تلفت النظر؟

تظاهر بالتفكير ثم بدا وكأنه اكتشف شيئاً خطيراً.

- أبو حسن له أذنان صغيرتان.

اهتم المحقق الأسمر بهذه الصفة فدونها. على حين ضحك مجاهد في نفسه.

- هل هو علي فستق؟

- لا أدري.

- هل خالك من الجماعة؟

- لا.

- لماذا؟

- إنهم قرروا عدم الخروج من سورية. وخالي كما ترى جالس هنا.

صارت خطوات المحقق الأشقر قصيرة وسريعة. يمشي دائرياً حول مجاهد وبشكل قريب جداً. توقف فجأة وقال:

- لماذا تهز قدميك؟

- لأني مضطرب.

- لماذا أنت مضطرب؟

- لأنني في وضع غير طبيعي.

فوجئ المحققان بالأجوبة. كان الغضب بادياً على الأشقر. كاد يصفع السجين أكثر من مرة. لكنه تمالك نفسه. قال:

- هل لك أخوال أو خالات غير خالك هذا.

- نعم خالتان متزوجتان.

- قبل أن يتزوج خالك وشقيقاته كيف كانوا يعيشون. يعني كان أبوهم حياً ينفق عليهم؟

- توفي جدي بمرض السكر. خلف لأولاده مبلغاً من المال لا يستطيعون تثميره لأن الولد الأكبر خالي كان دون سن الرشد وأخواته بنات. فوضعوا المال أسهماً في شركة الغزل والنسيج المشهورة في مدينة حلب. وصاروا يعيشون على الأرباح الشهرية لهذه الشركة. استطاع خالي وخالتي أن يتابعا الدراسة. خالي تخرج من الجامعة. وخالتي تخرجت من دار المعلمين الابتدائية.

- هل تكفي أرباح الأسهم في شركة غزل ونسيج أن تعيل مثل هذه الأسرة؟

- هذا هو الواقع وإن كان خالي قد عمل أحياناً مع أعمامه في سوق الهال.

ودرست أمي القبالة والتمريض على حساب الدولة، واكتفت خالتي بعد تخرجها في دار المعلمين الابتدائية.

- مع ذلك لم تحصل القناعة.

- أنت لا مؤاخذة لا تعرف شركة الغزل والنسيج المشهورة في حلب، وليس غريباً أن لا تعلم تقدم الحركة الصناعية في سورية في تلك الآونة.

- أنا أعلم عدداً من أصحاب المعامل والمصانع في سورية قد خرجوا وأسسوا مصانع أخرى في عدد من الأقطار العربية المجاورة.

- هذا صحيح في السنوات الأخيرة. واليوم هناك ما هو أعجب وأغرب.

- مثل ماذا؟

- مصانع بكاملها تغلق من الإفلاس.

- عجيب!

- تصور أن إدارة بعض الشركات –بسبب التأميم- عمدت من أجل دفع الرواتب المتراكمة للعمال... إلى أن طلبت من كل عامل أن يقتلع الآلة آلة النسيج التي يعمل عليها، ويبيعها مقابل الأموال المستحقة له.

- هل تمزح؟

بلغ الارتياح لدى مجاهد مداه. استعاد هدوءه. توقف اهتزاز قدميه وساقيه الممدودتين. اعتدل في جلسته واضعاً كفيه على ركبتيه.

- هذه أمور لم تعد خافية في بلدنا على أحد. أين شركة الغزل والنسيج المشهورة؟ أين معامل النسيج الأهلية؟ أين معامل صايم الدهر والحريري والباقي؟ تصور. من هوس التأميم كان هناك معمل كبريت محلي صغير لا يكاد يفي بمعيشة أصحابه فشملوه بالتأميم.

- هل التأميم شر؟

- أنا لست خبيراً بالاقتصاد. لكن السرقات من الأرباح أولاً، ومن رأس المال ثانياً، ومن إحراق الإنتاج لتغطية السرقات ثالثاً وسوء الإدارة والمحسوبية رابعاً وخامساً...

- هل تتحدث المعارضة عن هذه الأمور في منشوراتها.

- لا أدري؟

- لكن من أين جئت بكل هذه المعلومات.

- أؤكد لك بأن هذه الأمور متداولة لدى المواطنين لأنها تمسهم جميعاً.

- هل يعقل أن تتراجع الصناعة السورية بمثل هذه السرعة؟ كانت المنسوجات السورية تنافس المنسوجات الأوروبية.

- الحرير السوري كان ينافس الحرير الفرنسي. حتى المواد الزراعية والتموينية التي كانت تصدرها سورية صارت تستوردها.

جلس المحقق الأشقر بجوار مساعده الأسمر على الكرسي، وأشعل سيجارة. ثم قال:

- أليست هناك غرابة في أن تعيش أمك وأولادها هنا مع خالك، على حين تبقى زوجة خالك وأولادها السبعة في حلب؟

أحس مجاهد بحراجة في هذا السؤال. لكنه مجهز نفسه للجواب عليه منذ زمن.

- ليست هناك غرابة.

لم يستطع المحقق الأشقر الاستمرار في جلوسه. قام يتمشى في الغرفة الصغيرة بين المنضدة والسجين.

- وضح.

- والدي غاب فجأة. لا نعلم مصيره. هل توارى بنفسه أم اختطف؟ لا ندري. خالي خاف على نفسه لشدة علاقته وصداقته بوالدي، فخرج إلى هنا. زوجته لا تستطيع الخروج معه لكثرة أولادها. خالتي خديجة المعلمة اعتقلت. لا ندري السبب. ربما لأنها وبخت عناصر المخابرات لما جاءوا يفتشون عن خالي أو والدي الغائبين. أمي خافت لاعتقال أختها وغياب أخيها وزوجها فجاءت إلى هنا.

توقف المحقق الأشقر قبالة مجاهد، وقبض قبضته، وأفرد أصبعه السبابة في وجهه قائلاً:

- أحذرك من الضحك علينا.

- اطمئن. أنا لا أكذب

مد مجاهد ساقيه. صار يهز قدميه. تظاهر بالابتسام.

- إن السبب الذي أوردته لاعتقال خالتك غير مقنع إن كانت معتقلة حقاً. ثم لماذا تعتقل النساء؟ امرأة متعلمة معلمة. ولعلها متزوجة.

- نعم متزوجة ولها أربع بنات وصبي في مثل عمري.

- هذا يزيد الأمر غرابة.

- نحن مستغربون كلنا. نستغرب أن هناك سجوناً خاصة للنساء في قطنا والآخر في تدمر.

- في تدمر يقال سجن عسكري. ما علاقة النساء به؟

- نحن نسأل أيضاً هذا السؤال! لكن خالتي. الله يفرج عنها. ليست المعتقلة الوحيدة. هناك نساء اعتقلن مع أطفالهن أو بناتهن الصبايا. هناك أب هدد بهتك عرض ابنته الشابة العذراء أمامه في المخابرات. إذا لم يدل على مكان ابنه المجاهد المتواري عن الأنظار.

- في حلب؟

- نعم في حلب. أمّ المساجد والمآذن والعلماء والمدارس الشرعية!

انشغل المحقق ومساعده بتقليب بعض الأوراق. استيقظت في مخيلة مجاهد ذكريات بيت خالته حدث نفسه:

- في مثل هذا الوقت من كل صيف كانت أسرتنا تخرج مع أسرة بيت خالتي في نزهة سياحية من حلب إلى ادلب فأريحا فجسر الشغور فاللاذقية فجبلة بانياس طرطوس دمشق حمص حماة، ثم نعود إلى حلب. السيارة التي نركبها ملك خالتي. وفرت ثمنها بحسن تدبيرها. إنها سيدة بيتها. لا يكاد زوجها يتدخل في شؤون البيت. هي تبيع وتشتري وتربي الأولاد. لم يبق لها إلا أن تقود السيارة. راتب والدي أكبر من راتبها، وأسرتنا أصغر من أسرتهم مع ذلك ليست لنا سيارة. نحن نملك مكتبة ضخمة. هي تملك البيت الذي تسكنه أيضاً. استطاعت أن تشجع أولادها، فحفظوا أجزاء متعددة من القرآن الكريم. إنها سيطرت على استخدام التلفزيون الذي يملكونه. يمكن أن تحجبه أياماً أسابيع. نحن لا نملك التلفزيون. ما أجمل الأيام التي كنا نقضيها عندهم في سهرات مشتركة! خالتي تحب أمي كثيراً. زوجها يحب والدي كثيراً. نحن نحب بيت خالتي. الله يذكرك بالخير يا خالتي العزيزة. الله يفرج عنك. ما أصعب السجن على مثلك! ماذا جرى لأولاد خالتي بعدك؟! بالتأكيد أنت الآن تذكريننا.. تذكرين رحلتنا إلى مصايف جسر الشغور. تذكرين زيارتك لنا في البيت الذي استأجرناه منذ سنتين هناك. تذكرين نزهتنا البحرية مع صديقة والدتي في جبلة. ثم انتقالنا إلى دمشق وجولاتنا في مصايفها الجميلة. والدي يحكي الحكايات والقصص الأدبية، وأنت ووالدتي توزعين الفواكه والنقول، على حين لا نكاد نحس بوجود زوجك المنصرف لقيادة السيارة، والاهتمام بشؤونها.

- هيه. بماذا تفكر يا مجاهد؟

ابتسم مجاهد.

- أفكر بذكريات خالتي المعتقلة.

- هل لها انتماء سياسي؟

- كانت معجبة بالرئيس جمال عبد الناصر إعجاباً شديداً. ومثل ذلك زوجها. لكنها تخلت عن هذا الإعجاب. انكبت على الكتب الإسلامية. وانصرفت لتربية أولادها.

- هل لها دروس؟

- هي معلمة.

- أقصد خارج المدرسة.

- إنها كتلة حركة ونشاط وتربية داخل المدرسة والبيت في كل مكان.

- هل زارت بعض الأقطار العربية مثل بلدنا؟

- أدت فريضة الحج منذ سنوات مع والدتي وخالتي الثانية في سيارة يملكها بيت خالتي ويقودها ابن خالتي أنور.

- أنت هل جئت إلى بلدنا قبل هذه المرة؟

- لا.

- أبوك؟

- لا أدري.

- خالك؟

- لا أدري.

- لا أدري. لا أدري. هل هذا معقول؟

*    *    *

حين عاد مجاهد إلى زنزانته نهض شريكه سليم يستقبله مستفسراً:

- حنطة وإلا شعير؟

تنهد مجاهد قليلاً. لم يجب على الفور. جلس على فراشه. أسند ظهره إلى الجدار. حرك يده اليمنى حركات عدة وهو يقول:

- حنطة وشعير وشوفان وعدس وحمص وما شئت.

- خير. خير. إن شاء الله؟

- الله تعالى ما عنده إلا كل خير.

- ماذا سألوك؟

- سألوني عن والدي وخالي وخالاتي والصناعة والاقتصاد والتأميم.

- لا يهمك. كله فاضٍ.

- كيف فاضٍ؟ والدي مختفٍ. خالتي معتقلة. الاقتصاد منهار!

- السبب ليس التأميم طبعاً.

- المهم. حتى الاقتصاد منهار. تريد حقيقة أخرى. العمال أنفسهم لم يستفيدوا من هذا التأميم. بل قلت لهم إن معامل بأسرها أفلست، وأغلقت أبوابها، ودفعت الأجور والتعويضات المتراكمة في حلب على شكل خلع الآلات وتسليمها لمن يعمل عليها ليبيعها بنفسه.

- ليس صحيحاً. هذه دعاية رأس مالية.

- أنت بوسعك أن تقول ما تشاء. لكنني أقول ما أعلمه علم اليقين. من شاء فليصدق ومن شاء فليذهب يستطلع بنفسه.

- المعمل ملك العمال.

- ألم أقل لك إنها صارت ملكهم فعلاً. طلب من كل واحد منهم أن يمتلك الآلة التي يعمل عليها. ويبيعها إن أراد.

- ليس هذا ما أقصد. هذه ملكية خاصة. هذا انتحار.

- سمه ما شئت هذا ما حصل.

أصيب سليم بصدمة. إنه أراد أن يواسي شريكه في الزنزانة. أن يعينه على تسديد أجوبته في التحقيق، إذا هو يطعن في أعز معتقداته عن الاقتصاد الاشتراكي وعن ملكية العمال للقطاع العام وعن نعيم التأميم.

أحس مجاهد بعظم المفارقة بعد قليل. قطع الصمت واقترب من شريكه قائلاً:

- يا أخي سليم. لو كنت في محلي لما تحدثت إلا بما تحدثت به أنا.

- العمال يا مجاهد. العمال! الطبقة المظلومة المسحوقة لا تؤازرهم في ظلمهم. أنت تشطب على الأمل مرة واحدة.

- أنا أشطب على الأمل يا سليم. أم السلطة التي شطبت على الشعب، على العمال والطلاب والفلاحين والمثقفين؟! أنا أتمنى أن يفرج الله عنك وأن تذهب إلى سورية لتسمع ما هو أعجب وأغرب.

- هل هناك أعجب وأغرب من هذا؟

أحس مجاهد بأن موازين الصداقة قد اعتدلت، وأن جسور الاتصال قد استعادت عافيتها. عاد إلى مجلسه فعاد سليم ليجلس قبالته.

- أحكي لك واقعتين وأترك تفسيرهما.

- تفضل.

- بالقرب من بيتنا تسكن أسرتان عماليتان. الأسرة الأولى ربُّها قد اتخذ من إحدى غرف منزله مشغلاً. نصب فيه آلة نسيج يعمل عليها ليل نهار. يعاونه بقية أفراد الأسرة: الزوجة والأولاد في استكمال المنسوجات التي تنتجها تلك الآلة التي لا تتوقف إلا ساعات قليلة في الليل. هذه الأسرة محبوبة في حارتنا. سيرتها حسنة. الزوج في عمله منهمك لا يرى إلا في الأعياد. الأطفال غير عدوانيين. ابنهم البكر تخرج مهندساً. أحد الأولاد نصفه مشلول يمشي على عكازتين، لا تكاد تحس بهما لخفة ظله. الأسرة الثانية بالعكس: ربها عامل أيضاً لكنه شيطان في صورة إنسان. بياض بشرته وشقرة شعره من دواعي غروره ليتحرش بنساء الجيران العفيفات الطاهرات. يطلق لهن القبلات في الهواء تظرفاً ومجوناً، فيبصقن عليه لوضاعته، وقبح هيكله الذي يشبه هيكل الممثل شارلي شابلن الساخر اليهودي في الأفلام الصامتة. إنه متخصص في حارتنا بسرقة الدراجات الهوائية. سموه (أبو البسكليت). أولاده لا يقلون عنه وضاعة ونذالة. الكذب. السرقة. الغش. اختصم الأب مرة مع صهره. فقال له مهدداً:

(لا تعرف من أنا؟ أنا مخبر. سوف ترى مصيرك!).

يعني أنه عنصر في المخابرات. كنا نتساءل: من أين هبطت عليه الثروة. إنه لص دراجات هوائية. عامل شبه متبطل. إذا هو يملك ثمن مسكنه، ويبتني منزلاً جديداً في الحارة القريبة. يدعو إليه القاضي الذي سوف يبت في القضية التي رفعها ضد صهره. حضر المحامي الدعوة إلى البيت الجديد. هل أحدثك عن الأطعمة الفاخرة عن الخمور التي قدمت في تلك الدعوة؟ عن رقص ابنته العروس الجديدة في احتفالات الشبيبة وفخره بذلك؟ ما أدري إن رقصت أيضاً للقاضي والمحامي.

- كلهم ضحايا.

- نعم. لكن ضحايا من؟ السلطة ممسكة بمقاليد الدولة والمجتمع منذ عام 1970 في الأقل. إنها تشدد قبضتها باستمرار، ومن خلال عملاء أمثال هذا الجار الكادح الأشقر لتطحن أمثال جارنا الآخر وأسرته المجدة. الطبقة العاملة مسحوقة أيضاً لكن من يسحقها غير السلطة؟ إن أشد أنواع السحق والتخريب الأخلاقي والتشويه النفسي تسليط المواطنين على بعضهم...

- ممكن. ممكن!

- الاعتقال والاضطهاد للأحرار للشرفاء. والجلادون من أمثال أبي البسكليت.

- أنصحك أن لا تكثر من ذكر الاعتقال والمعتقلين لأن ما تذكره أكثر مما يتوقع أو يعقل.

- وإن كان صحيحاً مئة بالمئة؟

- وإن يكن.

- هل أكتم عنك أن ابن جارنا المهندس ابن العامل الكادح أصبح نجماً لامعاً في نقابة المهندسين، وأن أمثاله من النقابيين وأعضاء مجالس النقابات قد أصبحوا أيضاً في غيابات السجون.

- النقابيون أيضاً؟

- نعم.

تألق وجه سليم فجأة كأنه تذكر شيئاً مهماً.

- تذكرت. لقد احتفظت لك بحصتك من العشاء. ألا تتعشى؟

- شكراً. شكراً. كيف سمح لك الحارس بأن تحتفظ بالعشاء؟

- أبو نملة؟

- نعم.

- ولا يهمك. سوف تكتشف أن كثيراً من مواقف الغلظة والقسوة إنما هي قشرة ووظيفة رتيبة يؤديها الناس على الرغم منهم. أبو نملة طيب طيب جداً، وسوف ترى.

- لا أكتمك بأنني اكتشفت أشياء أخرى. اكتشفت قدرتي على النقاش.

- أنت رهيب. من أين لك كل هذه المعلومات في مثل هذا السن؟

- ليست المشكلة في المعلومات لأنني مطالع نهم. المشكلة في تذكر هذه المعلومات في الوقت اللازم وبالطريقة المناسبة.

- أنا معجب بك.

- وأنا كذلك.

 

النهار الرابع

الأحد 8 حزيران 1980

في ساعات الضحى العالي استيقظ حسان من نومه، فقد ألف قبل أيام الاعتقال أن يطيل السهر في العمل، وأن يعوض عن ذلك السهر بنوم الضحى، وقد تمكنت هذه العادة منه في السجن، حتى كان يقضي لياليه سهراً ونهاراته نوماً. من عاداته في النوم أن لا يهتم بإطفاء المصباح، وإن كان يميل إلى الظلام في توفير النوم المريح، لكن النور الشديد المنبعث من مصباح الزنزانة لا يساعد على تسهيل النوم، فهو إذا اجتمع مع القلق والذكريات ومواصفات الفراش غير المريح، وحاجات الجسد الضرورية لم يبق للنعاس نافذة يطل منها، ولا للرغبة بالنوم أنامل تستمسك بحوافه الملساء.

فتحت الكوة الحديدية في الباب، وأطل الحارس النشيط، وقال:

- أنت مستيقظ؟

- نعم.

- خذ هذا.

فتح الباب. وناوله الحارس كتاباً مخلوع الغلاف، مجعد الزوايا.كانت مفاجأة عظيمة لم تخطر على بال حسان.

- سجن وكتاب؟ إنها نعمة عظيمة. بل إنها أمنية من الأماني. لكم وددت أن أسجن للتفرغ للمطالعة!

إن مجرد استلام كتاب أحدث في نفس حسان شعوراً خاصاً. ولم يكد بعد يتعرف على مضمونه لضياع أوراق كثيرة من أوله وآخره.

- أيا كان مضمونه فهو كتاب. يا الله. إنه كتاب أعرفه. كتاب في تفسير القرآن. بل هو مجلد يضم عدة أجزاء في كتاب واحد.

لم يحس حسان بوجود الحارس ولا بانصرافه، فقد استغرقه الكتاب الضيف حتى شغله عن كل ما عداه.

دق حسان دقات خفيفة على باب الزنزانة ليشعر الحارس برغبته بزيارة دورة المياه استعداداً لصلاة الظهر وتناول الغداء، ولما طال انتظاره الدور أخذ يتمشى في الزنزانة، وهو يمضغ المتع والموحيات التي جاء بها هذا الكتاب الضيف.

- صحيح أنا تمنيت السجن للمطالعة، لكن ليس سجناً سياسياً أو سجناً مجهول العاقبة والمصير. ثم إنه كتاب واحد. بل مجلد. كم تستغرق مطالعته؟ هل هناك ضمان بمطالعة كتاب آخر، فضلاً عن اختيار كتاب بعينه؟ هذا لا يهم. المهم أن السياسة فن إتقان الممكن. فلأفد من هذا الكتاب ما دام متيسراً. ولكل حادث حديث.

عاد حسان إلى الكتاب. فحصه وقلب صفحاته:

- إنه المجلد السادس من تفسير ظلال القرآن. فيه بالتأكيد تفسير سورة (العنكبوت). يهمني من هذه السورة آيات الافتتاح وآية الختام:

)ألف. لام. ميم.

أحسبَ الناسُ أن يُتركوا أن يقولوا: آمنّا. وهم لا يُفتنون.

ولقد فتنا قبلهم الذين من قبلهم، فليَعلمنَّ اللهُ الذين صدقوا وليعلمنَّ الكاذبين(

وفي نهاية السورة:

(الذين جاهدوا فينا لنَهدينَّهم سبلنا، وإن الله مع المُحسنين(.

يا ربِّ. اجعلني من المجاهدين فيك.

يا ربِّ أعنّي لأكون من المحسنين.

اللهم اجعلني من الصادقين. يا رب. يا رب. يا سميع الدعاء. يا مجيب المضطر. يا جبار السموات والأرضين.

أطل الحارس من الكوة وقال:

- استعد للتصوير.

- ودورة المياه؟

- لا مجال الآن.

هذا (التصوير) مفاجأة أخرى لحسان. حين جاء دوره وجد المصور شاباً يقف في رواق الممر ممسكاً بيده آلة تصوير ذات (فلاش). سلمه المصور الشاب لوحاً صغيراً مما يستعمله طلاب المدارس. كُتب عليه بالحوار الأبيض رقم (252)، وطلب منه المصور أن يمسك باللوح وأن يضعه تحت وجهه ليظهر وما فيه من كتابة ضمن الصورة. استدرك المصور وسأله عن اسمه، فأجابه باسم مطابق لما معه من أسماء. فسجل الاسم بجوار الرقم، ثم أعطى تعليماته لاتخاذ الموقف المناسب للتصوير.

انتهت عملية التصوير في لحظات، وبدأت في نفس حسان التساؤلات:

- لماذا التصوير؟ هل يعتبروننا مجرمين تؤخذ صورهم تحسباً للمستقبل؟ وهل يتوقع أن نخرج من السجن، وأن ندخله مرة أو مرات أخرى؟

حين عاد حسان إلى زنزانته لم تنقطع تساؤلاته حول التصوير:

- هناك فرق بين السجين السياسي والسجن الجنائي، ويجب أن يكون هناك فرق أيضاً بين الجرم السياسي والجرم الجنائي. ثم هل ارتكبت أنا جرماً سياسياً؟ وإذا كان لا بد من الدقة فأنا ممن يقاومون الإجرام السياسي والجرائم السياسية، لدرجة اضطررت معها إلى ترك عملي وبلادي. على كل حال سوف يتبين هذا بوضوح لرجال التحقيق، ولكن ماذا تنفع الحقيقة بعد حصول التصوير، وإدراج الصورة في ملفات المجرمين أو أصحاب السوابق أو الخاضعين للرقابة أياً كانت؟

مما يخفف المصيبة أن الاسم الذي أعطيتهم إياه هو الاسم الحركي، ولكن إلى متى أظل مختفياً وراء هذا الاسم المستعار. وإذا عرفوا الاسم الحقيقي، فكيف يتصرفون بالصورة والاسم؟! أظن الجواب واضحاً!

لماذا لم أرفض التصوير؟ لا يمكن الرفض. لماذا لا أعترض؟ لماذا لم أحتج أو أطلب التأجيل؟ ما أظن أن بإمكاني الاعتراض أو الاحتجاج أو التأجيل. إن التصوير لا بد منه، وربما كان أمراً رتيباً (روتينيا) يخضع له كل زائر لهذه الزنزانات ولو كان رئيس دولة. بل ربما بسبب كونه رئيس دولة!

في بلدي كان يطلب منا خلال العام الدراسي تقديم ثلاث صور شخصية أكثر من مرة مع تعريف بالاسم والعمر وتاريخ الولادة، وإلحاح خاص على عنوان البيت، وتذكير بالإعلام عن تغيير العنوان في حينه. وكنا نراوغ، ونتأخر. ومع ذلك كنا في النتيجة ننفذ الطلبات والتعليمات مكرهين، كما كنا نشعر بأن هذه الصور مطلوبة من جهات أمنية. لم نكن نشعر أننا صرنا مثل المجرمين. هل لأن الطلب كان موجهاً لكل موظفي الدولة؟ أم لأنه إجراء تكرر مرات عدة حتى تطبعنا عليه، ثم إن الصورة التي نقدمها هناك تتم في مكان خاص بالتصوير وبالألبسة المعتادة. أما هنا، فإن الصورة تتم في السجن وبالألبسة وبالأوضاع غير المألوفة.

باختصار، عملية التصوير لم ترق لي أبداً أبداً. بل آلمتني، وهي مؤشر غير حسن. ثم هل تقديم كتاب للمطالعة موازنة بين حسنة وسيئة؟ ثم هل يحسبون مثل هذه الحسابات؟

قضاء وقع، فما العمل؟ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

أراد حسان أن يشغل نفسه عن هذه الحادثة لكي يتفرغ لما هو أكبر منهما. إنه معرض للدعوة إلى التحقيق في أي لحظة. إنه لا يرغب أن يدخل حلبة التحقيق مشتت الذهن، خالي الفكر من استعدادات معينة واحتياطات معينة. إذا استطاع الاحتفاظ بالاسم الحركي فإن ذلك أمر مهم كما يقدر.

تذكر كتاب التفسير، فأقبل عليه وفتحه على مكان يعرفه من تفسير سورة العنكبوت وقرأ:

"ومحور السورة- كما أسلفنا- هو الحديث عن الفتنة والابتلاء لمن يقول كلمة الإيمان، لتمحيص القلوب وتمييز الصادقين والمنافقين بمقياس الصبر على الفتنة والابتلاء.. وذلك مع التهوين من شأن القوى الأرضية التي تقف في وجه الإيمان والمؤمنين وتفتنهم بالأذى، وتصدهم عن السبيل، وتوكيد أخذ الله للمسيئين، ونصره للمؤمنين الذين يصبرون على الفتنة، ويثبتون للابتلاء. سنة الله التي مضت في الدعوات من لدن نوح عليه السلام. وهي السنة التي لا تتبدل، والتي ترتبط بالحق الكبير المتلبس بطبيعة هذا الكون، والذي يتمثل كذلك في دعوة الله الواحدة التي لا تتبدل طبيعتها."

وضع الكتاب جانبا، ثم نهض يتمشى في طول الزنزانة ويتأمل ما قرأ:

- ما أحلى هذا الكلام، وما أعظم هذه المعاني لكأني أقرؤها لأول مرة، وكأنها كتبت من أجلي أنا. لكن هل أنا مبتلى في الله؟ أرجو ذلك. هل يكفي الرجاء؟ لا بد من مراجعة المواقف كلها، ومراجعة تفاصيل المعركة، وفوق ذلك لا بد من إخلاص النية.

أنا ما أشك في أن المعركة في سبيل الله، وكل ما يقلقني هو الإخلاص لله في هذه المعركة، النية أولاً وآخراً. إذن فلأبذل الجهد منذ هذه اللحظة في إخلاص النية.

النية أصل. وأصل آخر لا بد منه هو الصبر، لأن الآية الكريمة جعلته معياراً على الصدق وإخلاص النية (فليعلمن الله الذين صدقوا، وليعلمن الكاذبين). ألا لعنة الله على الكاذبين.

لا بد إذن من النية والإخلاص في النية، ولا بد من البلاء والصبر على البلاء. سوف أفعل ذلك وأحمل نفسي عليه حملاً، ولكن ما الضمان بالنجاح؟!

في تقديري هذا جزء من الضعف البشري، وأنا بشر، ولا يحسن أن أتعجب من نفسي واضطراب مشاعري. الكمال لله عز وجل. هل هذا هو تسويغ لضعفي وعجزي؟ لا، لا، هذه محاولة للفهم، ولصقل النفس والمشاعر إن شاء الله.

منذ فترة طويلة، وفي السنوات الأخيرة بشكل خاص، كان دأب حسان تدبر القرآن على هذه الشاكلة، يفهم النص القرآني، ويحاول أن يطبقه على نفسه وأهله ومجتمعه، فيتم له التفاعل بدرجات تتفاوت، بحسب الجو النفسي الذي هو فيه، من حيث الراحة والتعب، ومن حيث الصحة والمرض، ومن حيث السلامة والابتلاء، وفي كل مرة يتفحص مواقع قدميه ويراجع حساباته، لتصحيح النية والمسير والمواقف، لكنه يحس هذه المرة بأن التفاعل أشد وأن المحاسبة أعمق. ولا سيما أن مواقفه تنسحب على كثيرين جداً ممن وراءه، من أهله ومعارفه وطلابه والذين اقتدوا به وبأمثاله، مع كرهه الشديد لأن يكون قدوة لأحد.

- أنا أكره القدوة والزعامة أيا كانت، فلماذا رضيت بها؟ إنها من جملة الابتلاء. إنها تكليف ابتليت به على الرغم مني، وإن رفض التكليف مع الرافضين يدخل في باب الجبن والفرار من الزحف، والعياذ بالله. فلأدفع الثمن، ولأروض نفسي بكل ما أوتيت من قوة.

هل يحب الأنبياء وأولو العزائم الابتلاء والمحن؟ بالطبع لا. لكنهم حملوا أمانة، فدفعوا تكاليفها. هذا شأن نوح وإبراهيم ولوط وشعيب مع أقوامهم أمثال عاد وثمود وقوم فرعون وهامان على امتداد الأجيال. فلما صدقوا الله تعالى وصبروا حتى زلزلوا زلزالاً شديداً لدرجة اليأس أتاهم نصر الله وأزال العقبات، ومحق الأعداء المرصودين في وجه الحق والهدى.

)فكلاً أخذنا بذنبه، فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً، ومنهم من أخذتْه الصيحةُ، ومنهم من خسفنا به الأرضَ، ومنهم من أغرقنا.)

كل هذه المعاني يعلمها حسان حق العلم، وهو يتفاعل معها في المحن والشدائد تفاعلاً أعظم، بل هو يؤمن بصحة المعادلة، وبنصر الله للمؤمنين، وبشدة ضعف الظلمة والطغاة والمعتدين، وكما وصف الله تعالى ضعفهم وهوانهم ببيت العنكبوت:

)مثلُ الذين اتخذوا من دون الله أولياءَ كمثل العنكبوت اتخذتْ بيتاً، وإن أوهنَ البيوت لبيتُ العنكبوتِ لو كانوا يعلمون(

خارج السجن كانت اهتمامات حسان بمعاني القرآن ممتزجة باهتماماته بجمال القرآن من موسيقى وتصوير. أما الآن فإن هذا المثل المصور الذي يجسم وهن القوى المعادية وتفاهتها لا يلقى من نفس حسان الاستمتاع الجمالي وحده، بل يلقى منه اهتماماً عميقاً بالمدلول الحقيقي أو الحرفي للألفاظ والمعاني، لأن المسألة لم تعد ذوقاً فنياً أو متعة جمالية أو تأليف رسالة جامعية، بل هي تقرير مصير في الدنيا والآخرة، والآخرة أهم وأبقى.

- من يشك في أن بناء الذين يعادون الله وأنبياءه مثل بناء العنكبوت وأشد وهناً؟ ولكن من يضمن أنه ينصر الله وأنبياءه؟ من يضمن أن الله تعالى معه؟ تلك هي المسألة؟ وهذا ما يقلقني. يارب. إنني اتخذت الأسباب فوفقني إلى الصواب والسداد.

فتحت الكوة الحديدية، قال الحارس:

- استعد للحلاقة.

- والطعام، ودورة المياه؟

- كله بالدور. دورة المياه بعد الحلاقة مباشرة.

هجمت على مخيلة حسان ذكريات حلاقة الشعر في سجن الشرطة العسكرية بحلب عام 967 حيث حلق شعر رأسه ورؤوس زملائه حتى الصفر، ولم يكد يعرف بعضهم بعضاًَ بعد الحلاقة، وصارت ملامحهم أشبه بملامح المجرمين فعلاً، وكان ذلك مثار ضحك وألم بآنٍ واحد.

- ترى هل سوف تتكرر المأساة؟ وهل يمكن رفض هذا الإجراء؟ وهل سوف يعتذرون بعد التنفيذ كما اعتذر أولئك بحجة السهو؟!

منذ دخل هذا البلد قرر حسان ألا يتورط في مخالفة أنظمته. إن هذا المعنى تأكد لديه حين داهموا بيته في (الدارة) بقوة وبحشد من المسلحين بعد منتصف الليل، وسلمهم سلاحه الفردي بمحض اختياره.

- هناك عدو أول، أو عدو مباشر، لا بد من التفرغ له، ثم لماذا المعارك الجانبية أو الصغيرة. وخصوصاً إذا كانت تعرقل التفرغ للمعركة الكبيرة أو تعطلها؟

هكذا حسب المعادلة، وهكذا تابع استسلامه للتعليمات.

- أنا كنت أوصي غيري بفهم تعليمات السجون والتأقلم معها، لأن مخالفتها معركة خاسرة على كل حال، فلماذا لا أطبق ذلك على نفسي؟ احلق يا حلاق.

كان الحلاق شاباً وسيماً لطيفاً، يشبه المصور لكنه أكبر منه سناً. أبيض الوجه أشقر الشعر. عيناه عسليتان مؤنستان، وكانت أدوات حلاقته لطيفة، ليس فيها أداة جارحة. مقص، مشط، آلة (ماكنة) حلاقة كهربائية وحسب!

- كيف الحال؟

- بخير.

- هل ترغب بتخفيف الشعر؟

- نعم، وحلق اللحية.

- حلق اللحية ممنوع!

- شكراً!! خذ حريتك.

فكر حسان:

- أليست مفارقة عجيبة! أنا أطلب حلاقة لحيتي، وسلطة السجن تمنع ذلك. إن إطلاق اللحية في بلدنا مسألة كبيرة. ويكره الناس على حلاقتها كرهاً.

بعد الفراغ من الحلاقة سمح لحسان أن يزور دورة المياه.

تعتبر دورة المياه بالنسبة إلى السجين مكاناً حيوياً، وربما كانت حاجة حسان إلى هذا المكان أكثر من غيره لضيقه من الانتظار، وحرصه على النظافة، ودوام الطهارة.

- في كل السجون التي دخلتها شعرت بأهمية دورة المياه. في سجن حلب المدني كانت دورة المياه جزءاً من الزنزانة، وهي غرفة النظارة. على الرغم من ضيق شركاء الزنزانة من دورة المياه كنت سعيداً بها مع العلم أن حساسيتي من الروائح أكبر من حساسية غيري، لكن بعض الشر أهون من بعض.

أطال حسان مدة زيارته لدورة المياه بحجة غسل الشعر المتناثر بسبب الحلاقة، وهو يريد في هذه الإطالة عدم الاستعجال بالعودة إلى الزنزانة، كما يريد التعرف إلى موضع دورة المياه الكائن في وسط صف الزنزانات وتفاصيل بنائها وعملها حباً في الإطلاع والتعرف لئلا يندم على جهله يوماً ما. فقد يفرج عنه ويتاح له أن يكتب قصة أو رواية. أو يحاول الهرب منها.

- نعم هناك ناس استطاعوا الهرب من السجون عن طريق دورات المياه. وسمعت عدداً من القصص حول ذلك. لكن مثل هذا السجن، ما أظن. إن المكان يعادل حجم زنزانتين، نصفه مقسوم قسمين بحاجز لكل قسم باب قصير. وفي القسم الأمامي صنابير المياه والمغاسل.

- قال الحارس النشيط:

- عجل يا شيخ، غيرك ينتظر.

كلمة (غيرك) تهز حسان هزاً، لقد تعود التضحية من أجل الآخرين، وهو يخجل من تفضيل نفسه على غيره عادة. اختصر المدة التي كان ينوي قضاءها في المكان وعاد بسرعة إلى زنزانته.

كلمة (غيرك) دخلت معه الزنزانة.

- يعني لا بد من ضيف في الزنزانة الانفرادية. كتاب. ذكرى. حلم!

من فوائد السجن التي اكتشفها حسان أنه تساوى مع الذين سجنوا بسببه من أهل ومعارف وطلاب وزملاء. ومن فوائد السجن أيضاً أنه يؤدي إلى الزعامة أو يؤكد الزعامة. فجواهر لال نهرو خرج من السجن إلى زعامة الهند.

- لا أريد الزعامة. طبيعتي تأبى ذلك. والدين يحرم طلبها. وها هو ثمنها! ولكن ماذا أفعل للذين ألزموني بما لا أرغب، وبما ليس من طبيعتي أصلاً؟ طلب الزعامة رياء محض. والرياء حرام. ألم يقل رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأُتيَ به، فعرفه نعمته، فعرفها. قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استشهدت. قال: كذبتَ، ولكنك قاتلتَ لأن يقال: جريء! فقد قيل، ثم أُمِرَ به، فسُحبَ على وجهه حتى ألقي في النار."

لكن هل أتخلى عن الجهاد؟ إن أفضل الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر؟

لا بد من الجهاد. جهاد النفس الأمارة بالسوء وجهاد الطغاة. لقد صدق من قال: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما.

يا رب، يا متعال، عافني منهما.

إذا كان الإخلاص معيار العمل والتعامل والنية، فما معيار الإيثار والنزول عند رأي الآخرين؟ ما معيار الخروج من حظوظ النفس دون الوقوع في الضعف أو التفريط بالصواب؟!

أنا أعلم ضعفي. اضطررت إلى حمل عبء لا أطيقه حين تخلى عنه الأكفياء، وحين ألزموني بحمله من أحبهم وأثق بهم، مع قناعتي بعجزي، فهل هذا يجوز؟ وهل يجوز التلوم في السجن أو التهرب من المسؤولية؟!

يا رب خذ بيدي وسدد خطاي.

يا رب. إنني مقتنع بضرورة مقاومة الظلم والطغيان، ولا ألزم غيري بهذه القناعة. إنني مقتنع بالتكاليف الصعبة التي تقتضيها هذه المقاومة، وأنا لست شجاعاً، ولست جباناًَ أيضاً، فما العمل؟!

ما العمل؟! أليس هذا سؤالاً يسأل الآن! لقد سبق السيف العذل. لقد كشف الطغيان عن وجهه وبدأ الحرب، ولا بد من مواجهته. كانت السلطة –في تقديري- تتحاشى المواجهة في الماضي، وكنا نتحاشاها نحن أيضاً، ولكن ممارسات السلطة فضلاً عن بنيتها ونوعيتها شحنت الجو العام حتى بات قطبين متناقضين كسحابتين ضخمتين، شحنت إحداهما بالسالب والأخرى بالموجب، وكل منهما تسير نحو الأخرى بكثافة متزايدة، والانفجار قدر منتظر.

مع قناعتي بأن الظلم الغشوم المتغطرس لا يعالج بالنصح ولا بالكلام، وقناعتي بأن الانفجار قادم لا بد منه، وأن المواجهة مؤكدة مهما تأخر زمانها، مع كل ذلك حاولت وقف الانهيار.

يتبع إن شاء الله

           

* أديب سوري يعيش في المنفى