فوضى الفصول (6)

فوضى الفصول (6)

“ خاتمة فصول الدهشة “

محمد باقي محمد

[email protected]

 - 1 -

 وقعّت "مصر" اتفاقية "كامب ديفيد"! وكان قد سبق للناس أن جلسوا إلى أجهزتهم بذهول، وهم يتابعون زيارة رئيسها للقدس، فانقسموا حول تلك الزيارة، واشتطّوا في أحكامهم بين من رأى فيها الخيانة بعينها، ومن رأى فيها جرأة ووضوحاً، على مبدأ أن "ليس بالإمكان أفضل ممّا كان"! ومن قبل كانوا قد اختلفوا حول تفسير دوافعه في طرد الخبراء السوفييت، فضحكتَ من تناقض اللوحة، مؤكّداً أن ّشرّ البلية ما يضحك!

وقلتَ : هي الأمور سواء!

ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي تفلت فيها هذه الجملة منك في الآونة الأخيرة، فهل كانت تعبّر عن قناعتك في المسألة، أم تسليمك بها!؟

كان السياق الذي أخذ اليومي الرتيب يحفر فيه الأعصاب يشير إلى الشقّ الثاني من التساؤل الممرض، بحيث ما عاد أيّ شيء يهزكّ من الأعماق! حتّى تعيين "إبراهيم" بصفة نائب لرئيس المكتب التنفيذيّ لم يحرّك فيك تلك المشاعر التي كانت تشتعل بالفرح من أجل الأصدقاء، ربما لأنك أخذتَ تتفكّر في الأمور بصورة مغايرة، إذْ هاهو صديق آخر ينهض بينك و بينه حاجز، بل حـاجزان! الأول ابتدأ بتخرّجـه مـن كليّة الحقوق، فيما انتهيتَ

ـ أنت ـ إلى الأزقة، والثاني راح ينهض مع هذا التعيين الذي رفعه إلى علييّن، ولكي تتحاشى جوّاً شبيهاً بذلك الجّو الذي خيّم على حفلة "خليل" هنّأته في مكتبه! ذلك أنك أخذتَ تشعر بالضيق من تلك الأجواء مُؤخّراً، ربّما لأنك بدأت تعي بأنكم أولاد اليوم ، أنّ الماضي لن يعود، وأنّكم لم تعودوا أولئك الأنداد الذين جمعتهم مقاعد الدراسة ذات يوم!طبعاً أنت لم تلحظ في سلوكهما شيئاً مباشراً يومىء إلى ما ذهبتَ إليه في وهمك، لكن الواقع يفرض سياقه ومفرداته بعيداً عن لغة العواطف، لذلك فلقد آثرتَ الابتعاد قليلاً، لكنهما افتقداك لبعض الوقت، فلمّا تأخّرتَ فاجآك بزيارة خاطفة!

ـ أهلاً …أهلاً، تفضّلا!

بارداً كان الجّو في الخارج، وكانت النجوم ترتعد في سماء ليلكية!

ـ افتقدناك مُؤخّراً!

وتداريتَ بالترحيب في محاولة لإخفاء تحرّجك:

ـ أهلاً بكما، تفضّلا بالجلوس!

 كيف الحال!؟

ـ لا بأس، الحمد لله!

وراء تلك السيماء ثمة سرّ!

وعلى عادته حينما يكون لديه ما يقوله، تنحنح "إبراهيم":

ـ أحمد، نحن أصدقاء أليس كذلك!؟

وباغتك السؤال المدهش الذي لم يكن يخلو من بعض فجاجة!

ـ طبعاً نحن أصدقاء، ولكن ما الأمر!؟

وبدا حائراً، فأكمل "خليل" ما كان قد بدأه:

ـ لا شيء ولكن حالك في الفترة الأخيرة لا يعجبنا! أحمد أنت لم تعد تأبه لشيء، لقد أدرتَ ظهرك للحياة، وهذا لا يجوز!

ـ و ماذا تريدانني أن أفعل!؟

ـ نريدك أن تفتح عينيك جيداً، لقد تغيّرت الأمـور مــن حولك، بيد أنك

لا تريد أن ترى، ولا أن تتحرّك من مكانك!

وكان كلامهما غريباً، فلم تلتقط ما يرميان إليه، وتساءلتَ بحيرة:

ـ ولكن ماذا كان بإمكاني أن أفعل!؟

ـ كنتَ تستطيع الكثير، ولكنّك أدرتَ ظهرك لكلّ شيء، وانزويتَ في دارك كراهب! حسناً، هل لك أن تفسّر لنا لماذا تحصّل الآخرون على شقق يسكنونها، بينما لم تتدبر أنت  شيئاً!؟ أنتَ لستَ مُوظفاً جديداً، وعدد أفراد أسرتك ليس صغيراً، فما الذي كان ينقصك سوى القليل من الحركة والرضا!؟ وفي وقت من الأوقات كنتَ قد جمعتَ من حولك الكثير من العمال، فما الذي غيّبك عن النقابة مُؤخراً!؟ ثمّ لماذا تتوهّم بأن العمل فيها أجدى، وأنت بعيد عن مركز القرار!؟ طيّب، هل كان ثمة ما يمنعك من أن تكون واحداً من أعضاء اللجنة النقابية مثلاً!؟ 

ـ ولكنكما تعرفان بأنني مختلف معهم في كلّ شيء!؟        

ـ لا شيء يدوم يا أحمد، ثمّ أن خلافك معهم لم يكن خلافاً شخصياً، وكانت تسويته ممكنة، وعندها كنتَ ستشارك في اتخّاذ القرارات بما يخدم مصلحة العمّال بصورة أفضل! بقي أن نسألك إنْ كنتَ قد فكرتَ في أولادك يوماً في هذه الحمأة!؟ انظر إليهم لترَ أيّ أسمال بالية تغطّي أبدانهم، وتذكّر بأنك كنتَ تستطيع أن تقدّم لهم الكثير، لكنك  لم تفعل!

الآن كانا قد غمزا لك من القناة الموجعة، وأظهرا ضآلتك، فرفعتَ بصرك نحو أولادك، وفاجأك مرآهم حقاً، حتى لكأنك تراهم للمرة الأولى! ففي تلك الزاوية من الغرفة كانت العيون الغائرة قد استكانت بلا نأمة أو رفّة، ومن الأحداق التي يغطيّها القذى راح حرمان طويل يفصح عن نفسه، فانداح على الوجنات الناتئة، والشعور المُشعثة، والقامات الضامرة! وعند الركب والمرافق والمؤخرات كان ثمة ثقوب في ثيابهم، وكان ثمة رقع غير مُتقنة ترتقّها بلا جدوى، ذلك أن القماش نفسه كان قد بلي، وحالت ألوانه، وما عاد يصلح لشيء! وفي تلك الليلة أخذ النوم ينأى! كانت تلك الثقوب قد انقلبت إلى جراح راعفة ومؤلمة، وراحت العيون المنكسرة تحفر في جدار كرامة مهيضة هدّها الفقر والزمن، فأجلتَ ناظريك في أرجاء المكان! كانت الغرفة الوحيدة ـ التي التصقت بجلودكم مع نزولكم بهذه البلدة ـ قد انحشرت بالأجساد المنطوية على نفسها، حتى كادت أن تغصّ بهم، ولم يكن ثمة أثاث بالمعنى الدقيق للكلمة، بل كان عبارة عن سقط متاع رثّ وكئيب!

فهل كان الفقر مُقدّراً عليكم أباً عن جدّ!؟ أم أنه كان وشماً لا يفارق جلودكم حتى الممات!؟

ثمّ ماذا عن الغد!؟ ماذا أعددتَّ لهؤلاء الصغار كي تقيهم عاديات الأيام!؟ وأيّ مستقبل ينتظرهم!؟ هو ذا "خالد" يطأ عتبة الشباب على خجل وانطواء على الذات، فماذا بعد!؟ يا الله! ما أشدّ ما كسره الفقر، حتى بدا أشبه ما يكون بشبح، ثم ماذا يريد ذانك الرجلان أيضاً!؟ أما يكفيك ما أنت فيه!؟

وبإلحاح راحت جملٌ بعينها تزنّ في الأذن، بحيث أنشأت البقع المعتمة في الصورة تنتقل شيئاً فشيئاً إلى عالم الوضوح والعري الصفيق، فبدت الأسئلة كسراج ينير مشهداً غابت تفاصيله في دهاليز ذاكرة ملتاثة، وأخذتَ تستعيد البشرة الناعمة للرجلين الذين غادراك قبل برهة، والثياب الأنيقة التي كانا يرتديانها! وكان ثمة ما يُشكل في اللوحة، فإذا كان "خليل" قد ورث عن أبيه شيئاً من الأرض الزراعية، إلا أن "إبراهيم" لا يختلف عنك في شيء، فمن أين له كل ذاك البذخ!؟ وبالتدريج أخذ كل شيء يتضّح! إنّهما يلمحّان إلى شكل من أشكال التحالف، لأن وجودك في مفصل هامّ، سيمنحهما المزيد من القوة، وإذا كانا اليوم قادرَيْن على الوصول إلى ما يريدان، فإن ذلك الوصول سيكلّفهما مقابلاً سيكونان في حلّ منه إن كنتَ أنت في ذلك المكان!

كانت البلدة منقسمة على نفسها ما تزال، بحكم تركيبها السكّاني، وكان ذلك الانغلاق يشم الأحياء بطابعه، بيد أنّ الأحياء الحديثة ذات الأبنية الطابقية أرغمت الناس على الاختلاط في حدود ضيّقة، وفي كلّ الأحوال فإن القول بمجتمع مدنيّ كان ما يزال حلماً بعيد المنال! وربّما لأنك لم تكن تريد لصداقتك معهما أن تنتهي على مذبح المصلحة الخاصة بتلك الصورة، تمنيّتَ ألاّ تكون مصيباً في ما ذهبتْ إليه المخيلّة! أمّا كم كانت الساعة حين تمكّن النوم ـ أخيراً ـ من التغلّب على الهواجس المتطايرة في فضاء الغرفة، فأنت لم تعد تتذكّر جيداً، المهمّ أنك نمتَ بضع ساعات، لتفيق في صباح اليوم التالي متكسّر الأطراف، والصداع ما يزال مطبقاً على الجبهة ومؤخّرة الرأس! كانت الأسئلة ما تزال تنتظر، فقررّتَ ألاّ تذهب إلى العمل، وسحبتَ اللحاف إلى قمّة رأسك!

- 2 -

عندما استقرّ المهاجرون من الريف إلى المدينة في بيئتهم الجديدة؛ تفاجؤوا بوسط غريب ومعادٍ، أخذ يسخر منهم من جهة، ويتحايل عليهم لحساب مربحه الشخصي من جهة أخرى، لكنه في كلّ الأحوال لم يتقبّلهم ـ من فوره ـ في نسيجه الاجتماعي! كانت الحكومة قد نجحت إلى حدّ بعيد في كسر النواظم العشائرية، ومهّدت السبيل بشكل عميق لتقويض القيم الاجتماعية التي كانت تؤسّس لعلاقة الناس ببعضها البعض، إلا أنّها لم تنجح في إرساء بدائل عصرية، ربّما لأنّ صورتها تداخلت في أذهانهم بالهزائم المتكررة، أو لأنّهم ظلّوا يخلطون بينها وبين المشكلات التي كانت قد وعدتهم بحلّها، لكنها أخلفتْ، وراحت تلك المشكلات تتفاقم مع الغلاء، الذي أخذ يكوي الجميع بناره، فاحتار الناس في أمرهم، لكنّهم لم يترددّوا طويلاً، بل حزموا أمورهم، وأقلعوا مع الريح!

كانت الأرستقراطية الريفيّة التقليدية قد اهتزّت بعض الشيء، ولم تتمكّن الأرستقراطية المدينيّة من الحفاظ على مواقعها تماماً، فيما شهدت البلدة صعوداً سريعاً لشرائح أخرى على قاعدة الاستثناء، أو الموقع الوظيفي، راحت تعيش حياة باذخة، وفي الأساس من وجدان العامة كان ثمّة شعور جمّعي بأنّ المنطقة لم تنل حظّها من الرعاية والاهتمام، مع أنّها تمدّ القطر بجلّ إنتاجه من الحبوب والقطن والنفط، وكانوا على أمل بأنّ الأحوال ستنصلح، فلمّا طال انتظارهم؛ خامرهم الشعور بالقنوط، وما عادوا متصالحين مع ذواتهم، وفي غياب من المعايير أخذوا يطلبون كلّ شيء دفعة واحدة؛ من غير أن يتفكّروا في الوسائـل كثيراً! كـان الخطّ الذي يفصل مـا هـو ضروري،

عمـّا هـو كمالّي قـد وهى، ثمّ تقطّع لمصلحـة نمـط استهلاكيّ؛ بدا كـلّ شـيء ـ معه ـ برّاقاً ومغوياً، وتعاضدت إعلانات التلفاز مع الواجهات الزجاجية اللامعة على تعويم مزاج عام يلهث خلف كل مُنتج، بغضّ النظر عن جودته، أو الحاجة الفعلية إليه!

وكان أن تفكّر الناس في السبل التي تؤمّن لهم إشباع غرائزهم تلك، فنمط كهذا يحتاج إلى مال لا ينضب، لكنهم لم يتوقّفوا عند الأمر طويلاً، بل راحوا يؤجّرون الأراضي الزراعية التي كانوا قد تركوها وراءهم، تلك الأراضي التي كانت معادلاً رمزياً لكرامتهم يوماً، أمّا أولئك الذين لم يؤجّروا أراضيهم، فلقد أقدموا على ما هو أسوأ، إذْ أنّهم باعوا القمح المزروع أخضر ما يزال بثمن بخس قبضوه سلفاً، على أن يردّوه عند المجتنى بسعر الموسم، ليذهب ربحه الفاحش إلى جيوب المرابين، فاتّسعت ساحة البطالة المُقنّعة، وانتعشت أعمال مريبة على هامش تلك العمليات تحت اسم السلف، سلف القمح، أو القطن، أو النقد، وعبر شبكة من الوسطاء والسماسرة والنصّابين مدّت السوق السوداء جسورها نحو السوق! كانت الحمّى قد طالت الجميع، فضيّق الذين لا يمتلكون أرضاً زراعية على عائلاتهم، إذْ حشروهم في زاوية من بيوتهم، وافتتحوا في الزاوية الأخرى دكاكين، راحوا يبيعون فيها أيّ شيء! أو باعوا تلك البيوت من أصلها، ليوظّفوها في مشاريع من نوعٍ ما، وفي كلّ مكان كانت الوجوه منشغلة بذلك الهاجس، حتى لكأنّ الناس لم تكن مطمئنّة على مستقبلها، فوضع التجّار والسماسرة يدهم على ذلك المنجم، وراحوا يروّجون الشائعات حول فقد سلعة كانوا قد خبؤوها، لترتفع الأسعار من بعد ارتفاعها! ولأول مرّة جلست النسوة أمام "سوق الهال"، وشرعن ببيع الدخان المُهرّب، أو علب الكبريت، أو أزهار "البابونج" التي كنّ ينتقينها من البرية! ناسيات كلّ ما يتعلّق بالخفر، ربّما لأن الأنوثة المُفتقدة كانت آخر ما تتفكّر فيه أولاء النسوة، ذلك أن الحياة كانت تضغط ، فطال ذلك الضغط بنيان الأسرة إلى حدّ كبير، وراح يخلخلها!

وفي خضمّ تلك الفوضى كان الجميع ـ بصورة ما ـ قد حملوا ما يفوق طاقتهم، حتى إذا تباطؤوا بالدفع، أو امتنعوا، اكتشف الجميع إلى أيّ حدّ كانت القوانين قد تخلّفت عن زمنها، وإلى أيّ مدى تمكّن الفساد من استغلال ثغراتها، بحيث بدت كمجموعة بنود لا قيمة لها، وكان الاستمرار على ذلك النحو محالاً، فانكمشت الناس، وأخذت الثقة تُفتقد! لكن الجميع أدركوا ـ بعد فوات الأوان ربّما ـ بأنّ النكوص عمّا اقترفوه بحقّ أنفسهم يكاد يكون مستحيلاً!

ومع ذلك فإن البلدة لم تعدم مجنوناً مثلك، ينجب لها ما يقارب دزيّنة من الأطفال، ويلقي بهم في وجه الريح، من غير أن يفكر في مستقبلهم! بيد أنّ "السكرة ذهبت ـ كما يقولون ـ وجاءت الفكرة!" وها أنتذا تقلّب المسألة على وجوهها، لكنّها لا تتكشّف إلاّ عن وجهها المرمض! هذا كلّه من غير أن يغادرك وجه "خليل" و "إبراهيم" الناعمَيْن الحليقَيْن، اللذين يوحيان بالشبع، أو أن تغيب عنك صورة الشقتيّن الفخمتين اللتين خُصصَّتا لسكنهما، والثياب الزاهية التي يرتديانها، الطعام الذي يدخل بيتهما بغير حساب، والزوجتين اللتين خرجتا من جلديهما، وأخذتا تشتريان كلّ ما تشتهيه النفس، الأولاد الذين أخذت النعمة تظهر عليهم جليّة، والسيّارتين الفارهتين الواقفتين بالباب في انتظار إشارة منهما، والمستخدمين الكثر الذين يخدمونهما في الدائرة والبيت بآن! وما كانت المسألة لتندرج في باب الحسد، بقدر ما كانت تندرج في حسابات جنى العمر، تلك الحسابات التي يرجع إليها المتقدّمون في السّن عادةً؛ بفعل من شعورهم المُوارب بأنّ النهاية قد أوشكت! أو في باب المقارنة بين أتراب بدؤوا معاً، ثمّ اختلفت بهم الدروب والسبل، في الوقت الذي كانوا يتوهّمون ـ فيه ـ بأنّهم ما زالوا على الدرب ذاته، وبكلّ المقاييس كنتَ أنت تنحدر؛ فيما كانوا يصعدون! ثمّ ماذا بعد!؟ هي ذي الأمور تجري على عواهنها؛ من غير أن يؤثّر موقفك منها في مسارها! إنها تسير بك، أو من دونك، تاركة لك مشاعر الضآلة والصَغار، فما الذي كان سيتغيّر لو أنّك وقفتَ في صفّهما!؟ أما كنتَ ستودّع الخسران الذي وشم الفقرات المتصرّمة من عمرك!؟ ولكن لا بأس! فالمهمّ في الأمر هو أنّك اتعظّتَ، وإذا كانت تلك الصحوة قد جاءت متأخّرة، فذلك خير لك من لو أنّها لم تجيء، إذ أنّ في الوقت مُتّسع ما يزال، وعندها؛ فقد يجد أولئك الأطفال لقمة نظيفة يأكلونها، وثوباً بلا رقع يلبسونه!

-3-

 ثمّ خرجت البلدة عن ضفتيّها، وأخذت تعدّ نفسها للإقلاع مع المدن الكبيرات، رغم أنّ طوق البيوت الترابية التي ارتضتها لنفسها على مضض كان يكبح تلك المحاولات، فأنشأت البلدية توزّع الشقق التي ابتنتها على الناس في منطقتي المساكن والنشوة! كانت الجمعيات التعاونيّة تعمل ببطء على إسكان أعضائها من ذوي الدخل المحدود، لكنّ حجم المخالفات والمناطق التي كانت تتطلّع إلى خدمات الماء والكهرباء والإسفلت لم يكن في حدود طاقة تلك الجهات، ولم يُقيّض لمشاريع العمل الشعبي أن تسهم في حلّ تلك المشكلات إلا في نطاق محدود، بما لا يؤسّس لقاعدة تتعاون بموجبها  البلديّة مع السكّان!

كانت البلديّة قد فرغت لتوّها من توزيع الدفعة التي بين يديها، من قبل أن تتفكّر أنت في الاستفادة منها، ولم تتح لك الظروف فرصة تتدبّر فيها أمر انتسابك إلى جمعيّة سكنيّة ما، كما أنك لم تتمكّن من تشييد دار في منطقة المخالفات كالآخرين، إذْ ما أكثر الذين وصلوا من قراهم ذات مساء، فعمدوا من  فورهم إلى ابتناء غرفة من اللبن، ثمّ سقّفوها بالخشب والتبن والتراب، وسكنوها في الليلة ذاتها، لتتفاجأ البلدية بالواقعة المُستجِّدة عند الصباح، ويُسقط في يدها، فتغضّ النظر عنهم، لترى ما تستطيعه معهم في ما بعد! وهكذا بقيتَ في الدار التي كان أهلك قد استأجروها، بيد أن أجرتها لم تبق على حالها، لأنّ صاحبها كان قد وضع يده على طريقة ماكرة يرفع بها تلك الأجرة بين وقت وآخر، فراح يطالبك بالإخلاء، مرة بحجّـة أنّـه يـرغب فـي سكناهـا، ومـرة بحجّـة أنّـه يزمـع علـى تزويـج ابنه،لتنتهـي  المؤامـرة

الصغيرة تلك إلى ارتفاع في الأجرة راح يبهظ  كاهلك!

ولمّا تكاثر الأولاد، كانت الصورة قد اتضّحت تماماً، فإذا كانت الظروف قد حالت دون تأمين دار لهم عندما كان عددهم محدوداً، فإنّها اليوم لن تسمح لك بذلك!   وشيئاً فشيئاً أخذت تلك الصورة المقلقة تقضّ مضجعك، متحوّلة إلى حلم عزيز المنال أخذتَ تلهج به، وكان أن وضع" إبراهيم "يده على حساسيّتك نحو المسألة، فلم يتركك لتردّدك طويلاً، بل راح يراودك عن نفسك في تلك النقطة المرّة تلو المرّة، مؤكّداً بأن الأمور ـ اليوم ـ اختلفت، ولم تعد كما كانت بالأمس، ذلك أنّ عدد المتعلّمين الذين أكملوا دراستهم يتزايد، وأخذت الكفاءات ـ في ظلّ تلك الظروف ـ تعرض إمكاناتها بشروط يسيرة! كان كلامه عن الظروف المُستجِّدة واقعاً ملموساً إلى حدّ كبير، بما ضغط على الأعصاب الموتورة! وإذن فالوقت لم يعد في صالحك، لذلك كان عليك أن تقرّر بسرعة، وإلاّ فإن الفرصة قد لا تسنح فيما بعد!

حول كأس من الشاي اجتمعتم لتتدارسوا، وتتفّقوا على التفاصيل! كان الأمر بقضّه و قضيضه جديداً عليك، فكان عليهم أن يشرحوه لك بشيء من الإسهاب، ثمّ جاء الوقت الذي كان عليكم أن تقوموا فيه بجولة صغيرة على الدوائر صانعة القرار، وعلى أحرّ من الجمر أخذتَ تنتظر أن تُطرح مسألتك، لكن الأمور جرت بصورة مغايرة، بحيث بدت الجلسات كلقاءات عادية بين أصدقاء قدامى، إلاّ أنك ـ في ما بعد ـ وعندما قُيض لك أن تلتقط الرموز والمصطلحات والدلالات الخاصة بذلك العالم الجديد؛ عرفتَ أن مسألتك  كانت وقتها  قد طُرحت على بساط البحث!    

شيء مـا يشبه عمليـة إعـادة التصنيع كـانت تُجرى لـك! إذْ كـان  على "أحمد" الخشن أن يختفي، ليحلّ محلّه شخص جديد، شخص ناعم ومرن بلا حدود! وفي النهاية، وعلى مضض انضممتَ إلى اللجنة النقابيّة التي كثيراً ما اختلفتَ معها، ربّما لأن مواقفك منها ما تزال حيّة في الذاكرة! لكن البشاشة التي استقبلك بها أعضاؤها، نجحت في إزالة تلك الرواسب بسرعة، وشيئاً فشيئاً أخذت المناخات تتقارب، والنفوس تأتلف متناسية خلافاتها السابقة، ثمّ أنشأت الصلات تتوثّق عبر زيارات منزلية! ومرة أخرى عادت المرارة الممضّة تغرغر في الحلق، إذ أن تلك الزيارات أعادت مسألة الدار إلى واجهة منغصاتك؛ بسبب من ضيقها و إملاقها في وجه الضيوف، وكان عليك أن تتحرّك بسرعة، فأجريتَ اتصالات مُكثّفة بهذا الشأن! كان الإحساس المرمض بأنّ الزمن قد فاتك يحقن الأعصاب بتوتّر تأبّى ـ معه ـ الهدوء، ولم يألُ "إبراهيم " جهداً في مساعدتك، إلى أن أسفرت جهودكما عن شقة صغيرة خُصصّت لكم!

وعلى عجل تركتم الدار القديمة، مُطاردين بحسّ الفوات رّبما، بحيث لم تُعط النفوس وقتاً كافياً توّدع ـ فيه ـ ذكرياتها! كانت فرحتكم بالدار الجديدة قد طغت على كلّ شيء، فنسيتَ أن تلك الدار كانت شاهداً على موت عزيزَيْن، وأنّك إنّما تودّع تاريخك الشخصي فيها إلى غير رجعة،  على ظنّ منك بأنّها نقلة صغيرة بين حييّن، لكنّها تكشّفت ـ فيما بعد ـ عن نقلة بين عالمين متباينَيْن! ذلك أنّ كلّ شيء في الحيّ كان على سجيتّه ما يزال، وكان أناسه مفطورين على صلات وثيقة لا تكلّف فيها، فيما راحت الشقّة تفرض نظامها الخاص، إذْ أن أرضية شقّة هي سقف لشقّة أخرى، والأبواب الخارجية ضمن الطابق الواحد متقاربة ومتقابلة، بحيث يتحتّم على السكان إغلاقها باستمرار، رغم أنها لا تحققّ الاستقلال عن الآخرين؛ لأن الجدران المُشتركة تسّرب الكثير من الأصوات المُبهمة! أمّا الناس هنا، فهم منكمشون على أنفسهم ، بحيث لا يلتقي الجار بجاره إلاّ مصادفة، في الوقت الذي تُكرِههم فيه المرافق المشتركة لأن ينسّقوا بعض أمورهم، كأن يخصصّوا يوماً لتنظيف الدرج، وأكثر فأكثر بدت الغرف الثلاث سجناً صغيراً يطالبكم بأن تكيّفوا أنفسكم وفق نواظمه إلى أن تعتادوه!

- 4 -

كانت القوى الأصولية قد أعادت تنظيم صفوفها التي تبعثرت منذ أمد، ربّما لأنّ الهزائم التي توالت كانت قد هزّت الناس، وكسرت أحلامهم في مسائل كبيرة، أو لأنّ تلك القوى توهّمت بأنّها تستطيع أن تنظّم مشاعر الإحباط العامة في خدمة أغراضها، فرتّبت لسلسلة من التفجيرات التي استهدفت منشآت عسكرية في الأساس، بيد أنّها طالت مدنيّين أبرياء أيضاً، ولم تجد الحكومة مناصاً من الردّ السريع والحازم عبر أجهزتها ومؤسساتها، لتضع حدّاً لنشاطهم، فكان أن قتلت منهم مَنْ قتلت، وألقت بالكثيرين في غياهب السجون، بينما فرّ البعض منهم بجلودهم إلى خارج البلاد! كان الردّ قد طال آخرين أيضاً، ورغم قسوة الضربات التي وجهتّها إليهم، لم ترجع الأجهزة التي كانت قد انطلقت من معاقلها إلى تلك المعاقل، بل ظلّت مُسلّطة على الرقاب تحسّباً ربّما!

لم تكن البلدة قد شهدت حوادث من ذلك النوع، لكن هذا لم يمنع أبناءها من تتبّع ما يحدث من بعيد، أمّا أنت فلقد انشغلتَ بأمور أخرى جرفتكَ معها، إذْ مَع أوّل صدام بزملائك في اللجنة تكشّف الموقف لك على حقيقته، فبدا كلّ شيء عارياً صفيقاً لا يستر عريه حجاب! كان أحد العمّال قد أُصيب أثناء العمل إصابة بالغة، تماماً كما حدث لك منذ سنوات مضت، ولم يكن ثمّة أمل في شفائه، إلا أن الإدارة ضربت صفحاً عن مشكلته، فلم تجد له عملاً إدارياً يناسب وضعه الصحيّ الجديد، وراحت ذكرى تلك الأيام الكريهة تتململ! كان التماثل في الحالتين قد أنساك وضعك الراهن، فاختلط عليك الأمر، بحيث ما عدتَ تدري إن كنتَ تدافع عن نفسك، أم عن ذلك العامل المسكين، فيما بدا بقية الأعضاء غير مبالين بالمسألة، بل أن حماسك الزائد كان يُشكل عليهم!

عند المساء زارك " إبراهيم"، فتهللّت أساريرك لزيارته تلك، لكنك سرعان ما اكتشفتَ بأنّ المسألة ليست مسألة زيارة فقط، أنّ ثمة ما ينغل تحت الجلد، لكنّه ليس بالأمر السار في كلّ الأحوال! كان هذا واضحاً في الجبين الذي انحرثت خطوطه بالغضب، والحركات العصبيّة التي راحت تصدر عنه! ولم يدعك تنتظر كثيراً، بل دخل في صلب الموضوع من توّه، فسألك عمّا وقع لك مع بقية أعضاء اللجنة، وكتلميذ مذنب أخذتَ تشرح له ما حدث، ثمَّ تنبّهتَ فجأة إلى أنّه لم يكن يصغي إليك، بل كان ساهماً طول الوقت، فأُسقط في يدك، ولم تعد تدري إن كان عليك أن تستّمر في الكلام، أم تتوّقف، وتابعتَ متحرّجاً من الصمت ربما! لكنه لم يعلّق عليه بشيء، فعاد الصمت بثقله يحفر المسافة بينكما، إلى أن نطق أخيراً، مبيّناً لك ما غاب عن ذهنك، فأنتَ الآن في طور جديد، طور لا يحتمل تصرفّات خرقاء كالتي بدرت منك اليوم ، إنّما تُحلّ المسائل ـ فيه ـ بين الإدارات واللجان النقابية بالتنسيق والتفاهم! لقد لملم الموضوع بصعوبة، وعليك أن تتصرّف بحكمة ورويّة في المرات القادمة! كانت الكلمات تتدافع من فمه كطلقات تتساقط على الرأس، فلم تدرِ ماذا تفعل، ثمّ صمت بشكل مفاجئ  تماماً كما ابتدأ الكلام بصورة مفاجئة، رافضاً أن يحتسي شيئاً، فهل كان يريدك أن تفهم بأنّ أوان الفروسية قد انتهى، أنّكم قد اتفقتّم على كلّ شيء، وأنّ التراجع ما عاد  ممكناً!؟ غبّ خروجه تهاويتَ على المقعد!

وإذن، فهذا هو الموقف على حقيقته!

كان الهواء يوشك على الوجوم! كلّ شيء في ذهنك كان مختلطاً، مُضّبباً بالحيرة، وكان "إبراهيم" قد لمّح ـ في معرض حديثه ـ إلى شيء ما يتعلّق بوضع الشقة، لكنك  لم تعد تتذكّر ما قاله بالضبط، فهربت الدماء من وجهك، وأنشأ غضب عارم يمور في الصدر، مستهدفاً الجميع في البداية، لكنّه ما لبث أن انقلب على النفس يعنّفها، ويتّهمها بالغباء، بأنّها متحجّرة، ومتخلّفة، وغير قابلة للتطوّر! ولم تهدأ هواجسك حتّى وقت متأخّر من الليل، فقررّتَ أن ترجئ كلّ شيء إلى الغد لتراه في ضوء النهار! وخارج رتوشها بدت الصورة أكثر عرياً عند الصباح، لقد تنازلتَ عن نفسك! بعتها! وهاهم اليوم يلوّحون لك بالعصا، يهشّون بها عليك كما لو كنتَ دابة حردة! إنّها معادلة، لكنّها معادلة من نوع غريب، فالبيت وعضوية اللجنة إنْ تصرفّتَ بحكمة "إبراهيم"، ولا شيء، مجرّد لا شيء إنْ سلكتَ درباً آخر، فهل كنتَ تدرك حجم ما أقدمتَ عليه، حجم ما اقترفته!؟

وما كانت الإجابة على سؤال كهذا سهلة! إذْ أنك كنتَ قد وضُعتَ على المحكّ، امتُحنتَ، لكنكّ خسرتَ، وفقدتَ احترامك لنفسك، بل فقدتَ نفسكَ ذاتها، فما أفدحها من خسارة! والآن!؟ هل تتراجع وكأنّ شيئاً لم يكن!؟ وإذا فعلتَ فهل تقبل زوجتك!؟ هل تضحّي بالغرفة التي تحصّلتْ عليها أخيراً، لكي تختلي ـ فيها ـ بك بعد طول انتظار!؟ ثمّ ماذا عن الأولاد!؟ هل يقبلون بأن يرجعوا إلى تلك الحالة المزرية التي عانوا منها لسنوات!؟ لقد تغيرّت الحياة، ومضت بعيداً تلك الأيام التي كان الجدّ وأبناؤه وزوجاتهم وأحفاده وحيواناتهم ـ أيضاً ـ يعيشون في دار واحدة، وجاءت أيام من نوع آخر، جاءت أيامهم، فهم اليوم شباب، يرون غير ما كنتم ترونه، وما كان جيلكم يعدّه ترفاً يمكن الاستغناء عنه، يراه جيلهم من صميم الأمور وجوهرها! إنّهم يريدون كلّ شيء، بغضّ النظر عن واقع الحال أو النتائج، وليس لديهم استعداد لأن يسمعوا أيّ نصيحة! لقد ملّوا الأعذار، وفوق هذا وذاك فهم برمون بكلّ شيء، متأففّون، ثمّ من يجرؤ على مطالبتهم بأيّ أمرٍ مهما صغر!؟ حتى الزوجة لم تعد على استعداد لتقديم كأس من الشاي في هذه الأيام!

صعقك الاكتشاف، وزلزل أغوار النفس! كانت الانهيارات في الداخل مدويّة وغير قابلة للترميم، فلقد أدركت ـ وبصورة غامضة ـ  أنك ما كنتَ لتتراجع حتى لو تراجعتْ أسرتك! لقد سبق السيف العذل، وباتت العودة إلى ما قبل في حكم المستحيل، لكنك كنتَ تحتاج إلى شيء من التوازن لتتحصّل على النفس المتشظّية حتى أعمق أعماقها، فلم تجد أمامك سوى الخمرة تنادمها، وتخفي إحساسك الحادّ بالانكسار في عبّها! لم تكن تشرب لتنتشي، بل كنتَ تشرب لتنسى، لتتحاشى لحظات اليقظة الحادة، أو ترأب تلك الصدوع العميقة، فكيف تحلّ المشكلة داخل البيت!؟ أنت لم تتعوّد على اصطحاب الشراب إليه، فيمـا الحاجة إلى شيء منه تضغط، وكان لابدّ من حسم الأمر، فعرفت الزجاجــة طريقها إلى البيت بعد لأي، ولم يحاججك أحد في المسألة برغم علامات الاستفهــام المقروءة فــي عيونهم! ربّما لأنهم أدركوا بأنك تمرّ بأوقات عصيبة، فلم يطالبوك بأيّ تفسير! ثمّ أنهم ما كانوا قد ألفوا مساءلتك في ما تفعله! وأخذت تلك السهرات تأكل من جيبك، من غير أن تستطيع منها فكاكاً، وشيئاً فشيئاً أخذت تلك الأجواء تروق لك، لأنها كانت تنأى بالنفس عن همومها إلى حين، بيد أنّ معضلة صغيرة راحت تعترض متعتك تلك، إذْ أنّ تلك السهرات كانت تتطلّب مزيداً من المال، وكان لا بدّ من حلّ! 

- 5 -

وكمن مسّه مسّ انتفضّتَ متراجعاً، إذْ من أين لفكرة غريبة كهذه كلّ تلك الجرأة والوقاحة، وكيف طفت على السطح بمائها الآسن الكريه، بما لم تفلح معه محاولات الكبح، وأخذ النفس بالشدّة!؟ ومن الماضي البعيد قفزت تلك اللوحة النائية إلى شاشة المخيّلة بإلحاح! يومها بدا الفلاّح الذي تقدّم منك مرتبكاً، وكنتَ أسير امتنانك لكريم استقبالهم لكم، فلم تفهم الكلام الموارب الذي صدر عنه، طبعاً أنت لم تعد تتذكّر ما قاله على وجه التحديد، لكنّك عند عبارة بعينها؛ وشت بما انطوت عليه النوايا، أوقفتَه، وثرتَ في وجهه أيّما ثورة، فانصرف عنك وهو أكثر تلعثماً واضطراباً! كان مجرّد التفكير بذلك الاتجاه غير وارد آنذاك، فرفضتَّ عرضه المتداري بلبوس الهدية، أو سمّها ما شئتَ، لكنّك اليوم ـ وهنا مكمن العجب ـ تتفكّر في الموضوع ذاته من وحي حاجتك إلى المال، ولا تستطيع إقصاءه عن ساحة ذهنك، وهاهي الفكرة تضغط، متلمّسة لك الأعذار، وتسدّ عليك المنافذ ساخرة من عقليتّك المتحجّرة! كانت الأغلبية قد عرفت دربها من غير أن يدلّها عليه أحد، فهجستَ:

إنْ أنت إلاّ بشر! واحد من عرض الناس، ولا أنت من الأنبياء في شيء، ولستَ رسولاً! فحتاّمَ تظلّ على ما أنت فيه!؟

أمّا كيف حدث الأمر، وامتدّت يدك المرتعشة لتقبض على بضع ورقات ماليّة رماها أحدهم في طريقك! وهل كنتَ تعي ما حدث!؟ فإنّك اليوم لا تبدو متأكدّاً من شيء! أمر واحد كان يبدو كحقيقة واضحة لا لبس فيها، ذلـك أنّ الأوراق الماليّـة التي كـانت تخشخش فـي الجيب، راحت تؤكّد أن

الواقعة قد وقعت، وأنّها ليست من أضغاث أحلامك!

متوهمّاً بأنّ الجميع يعرفون ما اقترفته يداك؛ أخذتَ تتحاشاهم،  تاركاً زوجتك لمخاوفها من أن تكون مريضاً لا سمح الله، إذ أنّك لم تكن خائفاً من الآخرين فحسب، بل كنتَ خائفاً من نفسك أيضاً، فلم تعد قادراً على مواجهتها، ولم تعد قادراً على النظر في وجهك عبر المرآة! طويلاً تقلّبتَ في فراشك ليلتها، وألحفتَ في طلب نومٍ راح ينبو، كان شعرك قد تشعّث بشدّة، والتصقت خصلات منه بجبهتك من فرط ما تعرّقتَ! وامتدّت يدك المرتجفة إلى كأس الماء، بينما راحت مواعظ أبيك تورق في المخيّلة؛ مستعيدة الصوت ذا الجرس الخاص، وهو يتفنّن في الحديث عن الحلال والحرام، والجنّة والنار، والهيكل العظميّ المحترق بناره، والشفرات والمدى التي تعمل في خاصرة المذنبين وصدورهم وظهورهم، وأخذتَ تبسمل وتحوقل، وتطلب صباحاً بعيداً لعلّه يرحمك من تلك الهواجس والعذابات! لكن الأيام مرّت على ما حدث وطمسته، وبالتدريج أنشأت الذاكرة تتراخى، وبالتدريج أيضاً أخذتَ تكتنه ذلك العالم بإشاراته ومصطلحاته التي كنتَ تضرب عنها صفحاً في ما مضى، فعرف المال طريقه إلى جيبك، لتبدأ أشياء كثيرة من حولك بالتبدّل، ذلك أنّك أخذتَ تتخلّى عن ملابسك القديمة لصالح ملابس جديدة وغالية، كما عرفت قدماك نعومة الأحذية الإيطالية الفارهة والمريحة بآن، وشيئاً فشيئاً أخذ الحذر الذي وشم علاقتك بالمرآة يتراجع، فلم تعد ترى غضاضة في التوقّف بين يديها مُطوّلاً، ولم يفُتْك التغيير الشديد الذي طال شكلك، بحيث أنكرتَ على نفسك الشاب النحيف الذي كنته يوماً! وما كنتَ وسيماً في الأصل، ربما لأنّ أنفك الكبير كان يأكل جزءاً من وجهك، وكانت عيناك تحيلان إلى حول خفيف، لعلّه لم يكن حولاً بمقدار ما كان أثراً خفيفاً للجدري الذي مرّ بك في طفولتك المبكّرة، وكان ثمّة خصلة من الشعر في جبهتك تعاند التسريح، فتعطي لوجهك طابعاً خاصاً! واليوم، فإن بطناً متماسكة ـ ما تزال ـ أخذت ترتفع، بحيث غدا من الصعب على بنطالك أن يستقّر فوقها، بل راح ينزلق نحو الأسفل، بما اضطرّك لرفعه كلّ حين، وانسحب عمودك الفقري خلف تلك البطن قليلاً، فأعطى لمشيتك الفلاحيّة البسيطة ـ أصلاً ـ شيئاً من السذاجة! بقي أن تعترف مُكرهاً بأنّ ذوقك في الانتقاء أيضاً ظلّ ريفيّاً، ينقصه الاتّساق والتناغم في انتقاء الألوان، ممّا كان يثير تعليقات الأصدقاء! ألا أنّ هذا كلّه لم يعد مهمّاً الآن، فأنت لم تعد ذلك الشاب الرومانطيقيّ الحالم والمنكسر، بل أخذتَ تنحى منحىً حسيّاً قائماً على مبدأ اللذّة في الطعام والشراب وسواهمـا، ربّما لأن السنّ التي كنتَ تأبـه ـ فيها ـ بظاهر الأمور واتّساقها قد تصرّمت، وأشهدتك الحياة وجهها الآخر، وجهها الدميم والمتناقض، فاستوت في ذهنك الأمور، وتعادلت النقائض بما هي وجهان لعملة واحدة! أو هكذا أخذتَ تفلسفها للآخرين في جلساتك، وربّما لنفسك من قبل! وأنشأتَ تتوقّف أمام المرآة من غير حرج، مدقّقاً في التفاصيل التي تطالعك، وفي الزّي الذي ترتديه، ثمّ تبتسم لنفسك ابتسامة المهنّئ ربّما، الرابت على الكتف، حتى لكأنّك تهنئّها على التقدّم الذي أحرزتْه، بعد أن أضحتْ تعرف تماماً من أين تُؤكل الكتف!

-6-

كانت رياح التغيير قد طالت زوجتك أيضاً، فأنشأت ملامحها تغيب تحت طيّات بدانة مفرطة، وانطمست تفاصيل الجسد الأنثويّ في ثنايا الكتل الشحمية التي غطّت كلّ شيء، فيما راحت الولادات المتكرّرة تفتّت ما تبقّى  في جرمها من تماسك لمصلحة ترهّل مقيت! كان الأولاد قد تكاثروا عليها، وسلبوها وقتها وراحتها وصحّتها، ومن غير أن تأبه بنفسها راحت تقضي معظم أوقاتها في المطبخ، فأخذت رائحة البصل تنبئ عن مقدمها سلفاً، وأضحت المقارنة بينها وبين تلك الحورّيات الفاتنات اللواتي كنتَ تراهنّ كلّ يوم غير ذات جدوى، ولكن كيف لك أن تتحصّل على واحدة من أولاء!؟ واحدة تنسيك رائحة الثوم والبصل والعرق، وتعيد إليك الشباب والحيويّة!؟ لقد تحصّل أصدقاؤك كلّهم على عشيقات، فلماذا لا تكون لك ـ أنت الآخر ـ عشيقة ترتاح عندها، وتسرّ إليها بهمومك ومشاكلك الصغيرة!؟ وإذا لم يُقيضّ لك أن تتحصّل على واحدة، فلماذا لا تتزوّج ثانية!؟ إنّك ما تزال شاباً، وزوجتك طراز قديم من النساء؛ لا يصلح إلاّ للطبخ والإنجاب، وأنت اليوم تحتاج إلى امرأة من طراز آخر، امرأة تشاركك دنياك الجديدة، فتقف إلى جانبك، وتدفعك إلى الأمام! ثمّ أين المشكلة في كلّ ما تفكّرتَ به!؟ لقد حلّل الله الزواج مثنى وثلاثاً و رباعاً، فما لك وللآخرين!؟

كانت علاقتك بأقربائك قد بدأت تعود إلى سياقها السابق على حادثة القتل تلك، إذْ كان أحد أبناء عمومتك قد أقدم على قتل أحد القروييّن بطريق الخطأ، فتفرّقتم في القرى بتلك الصورة الدراماتيكيّة، وأنت طفل ما تزال! بيد أنّ القضية سُوّيت في ما بعد،  ورجع أقاربك إلى قراهم، لكنك فضّلتَ البقاء في البلدة، ربّما لأنك لم تكن تملك أرضاً تعود إليها، ولمّا تسلّمتَ موقعك الجديد راحوا يلجؤون إليك في المصاعب والمشكلات التي كانت تعترضهم في الدوائر والمؤسّسات المختلفة، ولم يفُتْكَ ما يمكن أن تحمله تلك البادرة من فوائد جمّة في غد قريب، فلم تألُ جهداً في حلّ تلك المشكلات، وما تصرّم وقت طويل حتى بدأت جهودك تأتي اُكُلها، فصاروا يفسحون لك مكاناً متقدّماً في مجالسهم  وما عادوا يتجاهلونك عند الخريف، آنَ كانوا يعمدون إلى ذبح الخراف المُسمّنة من أجل الشتاء! كان اسمك قد أخذ يتصدّر قائمة المدعوّين في أعراسهم، وراحوا ينتظرونك بفارغ الصبر في مآتمهم، وفي البلدة كانت أقدامهم قد عرفت طريقها إلى بيتك، من غير أن يبخلوا عليك بالبيض، أو اللبن، أو السمنة، أو الديكة الروميّة، أو الخراف!

كان بعض أفراد عشيرتك البعيدين قد استقرّوا في البلدة، وراحوا يعملون في تجارة الماشية أو الحبوب، في الوقت الذي افتتح بعضهم "محلاّت" سمانة في أحيائها، فشكّلوا منجماً احتياطياً لك، ذلك أنّك اهتبلتَ الفرصة، فعقدتَّ معهم ما يشبه معاهدات غير مُعلنة مركّزاً في ذلك على من احتّل وظائف رسمية، فتمكنّتَ من حلّ كثير من المعضلات، ليس على صعيد المؤسسّات فحسب، بل على الصعيد القبليّ أيضاً! وفي الوقت الذي كنتَ تتوهّم فيه بأن العلاقات القبليّة قد اندثرت، كانت تلك العلاقات قد عادت إلى الصدارة في تسيير مصالحها، ومصالح المتنفّذين بآن! ويبدو أنّك لم تكن محروماً من هذه، ولا من تلك!

مساءً جـاءك "إبراهيم " و "خليل" فاستقبلتهمـا بالترحـاب، لكـن مسـار الحديث سرعان ما كشف لك عن أغراض مواربة انطوت عليها الزيارة، فضحكتَ في سرّك، وقلتَ بأنّ الرجلين لا يضيّعان وقتاً، إذْ أنّهما لمّحا إلى تلك الذيول التي لمّا تمحّي بعد، إثر موقفك المشهود من قضيّة العامل المصاب، إلا أنّ مثل ذلك الأسلوب ما عاد لينطلي عليك، فوعدتهما خيراً، وقلتَ:

هي الأمور سواء!

وأخذتَ تماري النفس بأنّك ما كنتَ تستطيع شيئاً لذلك العامل حتى لو أردتَّ، لكنّك لن تقف ضدّه، وهذا أضعف الإيمان، وعندما قصدك مستغيثاً متسائلاً عمّا سيحلّ به، أعيتك الكلمات، فتلعثمتَ، وصدر عنك كلام غير مترابط، شيء ما من قبيل أنّك صوت منفرد، أنّ يداً واحدة لا تصفّق، وأنّ الآخرين ليسوا في صفّه، وأنّ الحشائش الصغيرة ينبغي لها أن تنحني لهبوب الريح ريثما تمّر، وأنّ الحركة تكون في حدود الممكن، ولا شك أن الترابط المُفتقد في كلامك قد ضيّع عليه القصد، لكن تلجلجك وارتباكك أفصحا، ففهم، وانصرف عنك بطيف دمعة عزيزة كابَرتْ! إلاّ أنّك سرعان ما أقصيتَ الموضوع برمّته عن ذهنك، بعد أن تعلّمتَ فنّ الإقصاء أيضاً، ثمّ ما الذي كنتَ تستطيعه لوحدك!؟ غير أن المسألة لم تقف عند ذلك الحدّ، إذْ أنّه لجأ إلى آخرين من أعضاء اللجنة، ومن غير أن يقصد تسرّب بعض كلامك إليهم، فاستاؤوا، وكان أن نصحّك "إبراهيم"  بأن تتخلّى عن دور البطل والضّحية، فالقضيّة ـ أولاً وأخيراً ـ قضيّة مصالح، وهي أكبر من الأفراد مهما كانت مواقعهم، ولم يبقَ لك إلاّ أن تمتثل، فتفكّرتَ:

هاأنتَ تنصح الآخرين، وتنسى نفسك!       

وبالتدريج أخذتَ تنسّق مع زملائك في اللجنة والإدارة موقفاً مُوحّداً من القضايا التي تعترضكم، بعد أن دفنتَ أحمد القديم إلى الأبد، وبدلاً عنه وُلد رجل جديد، بارد كمشرط، قاسٍ كمعدن صلب، رجل يتخّذ القرارات  من غير أن تهتّز في بدنه عضلة، وضربتَ يداً بيد، وقلتَ:

هي الأمور هكذا، فماذا كنتَ تستطيع!؟

بيد أنك لم تسّر بها هذه المرة للآخرين، بل همستها لنفسك!

- 7 -

ضاقت الشقّة بالنسوة المتبرّجات من كلّ لون، وأخذت الزغاريد المنطلقة من أفواههنّ تعلو؛ ممزّقة رداء الهدوء والسكينة وحيادهما! كنتَ تغالط نفسك بالتساؤل أنْ متى، وكيف!؟ متوهّماً بأنّ المسألة كلّها لا تعدو أن تكون حلم يقظة، أو مزحة ثقيلة، لكن العربات التي اصطفّت بباب البناء راحت تؤكّد أنّ ما يحدث حقيقة واقعة، وأنّ "سورية" القريبة من قلبك ستُزفّ إلى عريسها بعد قليل! لقد كبر الأولاد في غفلة عنك، وعلى الرغم من أنّ "خالداً" يكاد أن ينهي دراسته الجامعيّة، فإنّ جوهر المسألة كان قد فاتك لتوزّعك على مشاغل عديدة ربّما، أو لأنك ككّل الناس لم تتفكّر فيها أصلاً، إلى أن قصدك عريس الغفلة هذا، فتلفّتَّ حولك مندهشاً، وعندها فقط عرفتَ بأنّ الأولاد قد كبروا!

كان الشاب الذي تقدّم لخطبة "سورية" غريباً عنكم، إلا أنّك لم تجد فيه ما يعيب، فلم تدققّ في التفاصيل كثيراً، وعلى عجل تمّت الأمور، حتى  لكأنّ تلك العبارة؛ التي كانت أمك تكررهّا دوماً؛ من أنّ أمور الزواج مُيسرّة لحكمة من ربّ العالمين؛ صحيحة في كلّ زمان!

أعادتك الأصوات المنطلقة عن أبواق العربات السيّارة من أخيلتك، فهجستَ: لقد وصلوا!

وكان عليك أن ترى ابنتك قبل أن ترحل مع زوج المستقبل، فدخلتَ إلى حيث كانت تنتظر، لكن زوجتك خلطت الأوراق ببكائها، بصورة أنستك ما كنتَ قد حضّرته من كلمات في هذه المناسبة! كان عليك أن تختصر، إذ أنّك أحسستَ بأنّ المسكينة توشك أن تذوب في ثيابها من شدّة الخجل، فطلبتَ إلى أمّها أن تتماسك قليلاً، وأمسكتَ بيد الصغيرة البارد مشفقاً، محاولاً أن تبيّن لها معنى الزواج، ومسؤوليّة الزوجة نحو زوجها وبيتها بسرعة، تاركاً الباقي لزوجتك! ثمّ غابت "سورية"، رحلت الأبنة الأليفة إلى بيت زوجها، مخلّفةً وراءها فرحة وغصّة بآن!ولمّا انصرف الناس عنكم بدت الشقّة فارغة وموحشة، حتى لكأنّكم لم تخلّفوا ستة أولاد آخرين، وراحت زوجتك ترتّب ما حولها وسط وجوم الآخرين في محاولة منها للتخفّف ممّا تحسّه، فأخذتَ تهوّن عليها الأمر، فـ:"سورية" تسكن في البلدة ذاتها، وأنتما تقدران أن تطمئنّا عليها كلّ يوم!

لم تدرِ كم من الوقت مضى، لكنّك اكتشفتَ فجأة بأنك تدور حول النقطة ذاتها، بحيث لم تعد تدري فيما إذا كنتَ تخفّف عنها، أم أنّك كنتَ تخفّف عن نفسك! كان التعب قد نال منك، ومع ذلك راح النوم  يجافيك، ربّما لأنّ المسألة أخذت تتبدّى بصورة مغايرة عن تلك التي جاءت في متن كلامك! لقد كان الكيان الذي استلزمك بناءه طويلاً في طريقه إلى التفكّك، ليذهب كلّ واحد في حال سبيله، ويندغم في كيان جديد! صحيح أنّ ما يحدث يرسم سنّة في الحياة، لكنك أخذتَ تتفكّر في الأسباب التي حدت بالحياة لأن تترتّب بتلك الصورة، وعليه، فأيّ حكمة في أن يتعب المرء ويشقى، ثمّ يذهب كلّ شيء هباءً أو زبداً!؟ أما كان للأمور أن تنتظم وفق سنن مغايرة، بما لا يورث الناسَ الكثيرَ من المرارة وحسّ الفقد!؟

وهرباً من تلك الأسئلة جرّبتَ أن تقصيها، بـإحلال أسئلة من طبيعة مختلفة محلّها، بيد أنّك لم تنجح، ربما لأنّ أساك كان عميقاً هذه المرة وشاملاً! 

- 8 -

كان المحصول الذي تحصّلتَ على ثمنه أخيراً وافراً، فيما كانت أمورك تسير وفق ما تشتهي، فعاد موضوع الزواج إلى مقدمّة اهتماماتك، وأخذتَ تقلّب الاحتمالات ممحّصاً، فالصحّة ـ والحمد لله ـ في أحسن أحوالها، وليس ثمّة مشكلة على الصعيد الماديّ، وأنت في السنّ المثالية لمثل تلك الأمور! طبعاً أنت كنتَ تفضّل أن تتدّبر أمورك مع صديقة ما، لأنّها كانت ستجنّبك الخلاف مع الأولاد وأمّهم، إذْ أنّهم لن يسكتوا على خطوة كهذه! ثمّ أنّها كانت ستعفيك من افتتاح بيت آخر، والتوزّع بين بيتين وزوجتين، ولكن يبدو أنّ ما باليد حيلة، وكما أسلفتَ، فما حللّه الله لن يحرّمه البشر!

كان أحدهم قد أقطعك قطعة أرض من لدنه لتزرعها، وقمتَ باستئجار قطعة أخرى،  تحت ضغط الإحساس بأنّ أعباءك العائلية ـ هي الأخرى ـ قد تضاعفت، "فخالد" يتابع دراسته الجامعيّة، والبقيّة يتناثرون بين المعاهد والثانويات والإعداديات! ثمّ أنّ المسألة في أسّها ربّما لم تكن مندغمة بحساب الحاجات، أو التحسّب للغد، بمقدار ما تمثّلت في استيقاظ وحش بدائيّ كان قد غفا، وحش لا يشبع إلى الجنس والمال! وإذن، فما المانع في أن تبدأ بحثاً حذراً عن فتاة ملائمة؛ تعيد لحياتك ألقها وبهجتها! لكن أحداثاً من مستوى آخر راحت تتوالى مستأثرة باهتمامك، إذ أنّ أعضاء اللجنة ما كانوا قد سكتوا على الخلاف الذي نشب بينكم منذ أمد؛ بسبب من قضيّة العامل المصاب تلك! فهل خامرتهم الخشية على مراكزهم، أم أنّهم توهّموا بأنّك لـن تتراجع عـن موقفك ذاك!؟ فعمدوا إلى مخـاطبة المركـز

سرّاً، وكان أن باغتتك اللجنة التي قدمت مـن حـاضرة البلاد للوقـوف علـى جليّة الأمر!!

كنتَ تتوهم بأنّ الموضوع قابل لأن يُطوى، أو يُحسم لصالحك لكنّك سرعان ما تبيّنتَ بأنّك واهم، وأنّ المسألة مسألة صراع غير متكافئ! إلا أنّ ما فاجأك تماماً، وأذهلك عن نفسك؛ هو موقف "خليل" و "إبراهيم" ممّا يجري، إذْ أنّهما أخذا ينسحبان من المسألة شيئاً فشيئاً، على أمل أن يتخلّصا من ذيولها بأقل قدر من الخسارة، ربّما لأنّهما لاحظا بأنّ الرياح تجري في اتّجاه آخر، فخشيا أن تنقلب عليهما! وما كان ثمّة وقت للتفكّر، أو الندم، أو حتى الالتماس، ذلك أنّهم كانوا على عجل!

صرخوا، وصرختَ!

ثمّ تفاجأتَ بقرار الاستغناء عنك في اللجنة! وأردتَ أن تحتجّ عليه، لكنّهم كانوا يقرؤون أفكارك، فبادروك بالإجابة من قبل أن تفتح فمك:

لقد أثريتَ على حساب موقعك في اللجنة، وتاجرتَ بقضايا العمّال؛ الذين كان حرّياً بك أن تدافع عنهم!

هل صُفعتَ!؟

أم انك طُعنتَ بأداة حادة!؟

هل ما يحدث حقيقة!؟

أم هو خيال عابث!؟

أو لعلّه كابوس ثقيل في ليلة صيف!؟

وأدرتَ ظهرك لهم، إذْ لم يعد ثمّة ما يقال! في الخارج كانت الشمس شعاعـاً تائهـاً فـي مـاء بـارد، بينما راحت ظهيرة ربيعيّة تخرج النـاس مـن 

بيوتهـم غبّ شتاء قاسٍ آخر، بيد أنّك كنتَ منقسمـاً،وفـوق الأرصفـة الصلدة راحت خطاك تبحث عن إيقاعها الرتيب، متفاجئة بالشوارع المزدحمة بالناس، ربّما لأنك كنتَ شديد الحاجة للانفراد بنفسك قليلاً، فيما أنشأت المفاجأة تكبر، وتسدّ عليك الأفق، فلم تعد ترى سواها! فجأة باغتك عطش حادّ، وداهمك عرق غزير وبارد، وشرع ألم حارق يضغط على الجهة اليسرى من عظم القصّ! ألم مبهظ كاد أن يشلّ كتفك اليسرى، بحيث لم تعد قادراً على السير، وعلى حافة الرصيف تهاويتَ متهالكاً، بينما أنشأ كلّ شيء يتماوج أمام عينيك ويغشى!

هل هي نوبة قلبية!؟

تساءلتَ، وجاءك صاحب المتجر الذي قعدتَ أمامه بكأس من الماء:

ـ ما بك!؟ هل تشكو من شيء!؟

ـ لا، لا شيء مهمّ!

وشربتَ شيئاً من الماء، ثمّ تحركّتْ شفتاك بكلمات الشكر! كانت حالتك قد تحسّنت قليلاً، فنهضّتَ، وراحت الذاكرة تسترجع شريطاً طويلاً من الذكريات، إذْ هاهو صبيّ صغير تتبعه أسماله بين غيضات "الزركان" في إثر قطيع صغير لم يعد موجوداً، فيما تحدّد عالمه بين تلك الغيضات وفخاخ القطا وأتراب اللهو البريء! وهاهي شاحنة قديمة تقلّ عائلة ريّفية صغيرة نحو بلدة صغيرة؛ في خطوة غريبة من نوعها آنذاك، بحيث لا تعود أسرة ريّفية كما كانت، ولا تنجح في الانقلاب إلى عائلة مدينيّة، وهاهو تلميذ صغير تجبره الظروف على التخليّ عن دراسته في منتصف المسافة؛ غبّ أن اشتدّ المرض بأبيه، ثم هاهو الأب يرحل إلى الملأ الأعلى؛ تاركاً وراءه أسرة صغيرة بلا مورد أو معيل، فلا يجد الابن الشاب عملاً سوى بيع أوراق الحظّ للآخرين، تاركاً نفسه من غير حظّ! وهاهو الشاب يقع على عمل في ظلّ محاولة لتوحيد صفّ طال انقسامه، لتبعثره القرى النائيات على دروبها الترابيّة، لكنّ الوحدة انفصلت عن جلدها، ورجع المنفصلون إلى ما كانوا فيه من انقسام وتشرذم، وظهرت حكومات، واختفت حكومات أخرى، إلى أن تزوّج الشاب، وأنجب، أنجب أطفالاً كثيرين من غير أن يحسب للغد حساباً! كان الدرب قد مرّ به على السجن لفترة قصيرة من الزمن، من غير أن ينساه المرض! وكان أن أسلمتْه موجة إلى موجة، وسكّة إلى أخرى خلف لقيمات من الخبز ربّما! كان الرجل قد انهزم عام ثمانية وأربعين وتسعمائة وألف، ثمّ انهزم عام سبعة وستين وتسعمائة وألف، وكانت الأم قد رحلت عن هذه الدنيا، بينما راح الأولاد يكبرون، فاقترف من أجلهم الكثير من الأخطاء، أو هكذا خُيّل إليه!

كلّ شيء كان جليّاً، واضحاً وكأنّه حدث في التوّ!

ثمّ ماذا بعد!؟ تساءلتَ!

كانت الشوارع تمور بالحركة!

كلّ هؤلاء الناس من أين يجيئون!؟

وكانت قواك قد بدأت تعاودك شيئاً فشيئاً، فتحاملتَ على نفسك، وأخذتَ تغذّ السير بين الجموع متفكّراً!

عليك أن تبدأ من جديد، أن تعيد النظر في كلّ شيء، نعم في كلّ شيء، فليس ثمّة سبيل آخر، ولكن هل بقي في العمر مُتّسع !؟

"تمّت"