الكنـز (2)

الكنـز (2)

(رواية للفتيان والفتيات)

ضرغام فاضل

[email protected]

ورقة صغيرة ..قلبت الموازين

وقف سامي أمام مكتبته الجديدة ..يتأمّل رفوفها..وكيف يوزّع عليها الكتب..هل حسب أحجامها وقياساتها..أم بحسب الموضوعات..أم ..ماذا ..جلس قليلاً على الكرسي,وراح يحكّ رأسه مفكّراً ..هل يطلب مساعدة صديقيه من جديد ؟ أم يستعين بأبيه ؟لكنّه قرّر أخيراً أن يضع الكتب على الرفوف من دون أن يعير أهمية لالقياساتها ولا لموضوعاتها ..على أن يهتمّ بذلك في المرّة القادمة ..وبينما انهمك بالترتيب وإذا بأحد الكتب القديمة يسقط على الأرض لثقله..انحنى سامي ليتناوله ..لكن.. لاحظ أن ورقة قد خرجت من بين أوراقه .التقط الورقة التي اصفرّ لونها الأبيض ..وهذا مايدلّ على أنها ورقة قديمة,مضى عليها عشرات السنوات..فتح سامي الورقة وراح يقرأ مافيها ..وفجأة تغيّرت ملامحه,وصعق مما قرأه ..رجع ليجلس على الكرسي ويلتقط أنفاسه .راح يتمتم مع نفسه بشكل لاإرادي :

- هل يعقل هذا ؟؟!ماذا أفعل ..الأمر خطير !!

نهض بسرعة متوجّهاً نحو الهاتف..بعد أن قرّر إطلاع صديقيه الحميمين بدر وصهيب على هذه المشكلة الجديدة ..وماهي إلا دقائق قليلة حتى كان الصديقان في بيت سامي ..

قال صهيب ممازحاً هذه المرة :

-نعرف جيّداً أنك تصدّقت علينا بإفطار في أحد المطاعم ,ولكن ..عيب عليك  أن تذلّنا كل ساعة ..

ردّ بدر :

-ولاتنسَ أنه أكمل معروفه بأن دعانا على الغداء أيضاً قبل أن ننصرف ..

أجابه صهيب :

-أوه صحيح نسيت ذلك ..ولكن يبدو أننا مدعوّان على العشاء أيضاً .أليس كذلك أيها الصديق الكريم ؟؟

كلّ هذه الممازحات لم تحرّك في سامي ساكناً ..أو تجعله يبتسم ..

لاحظ الصديقان ذلك ..فاقترب بدر من صديقه ليسأله بجديّة :

-سامي ..ماذا هناك ؟يبدو أن الأمر جديّ هذه المرة ؟

دنى صهيب منهما سائلاً :

-هل من مشكلة عائلية ؟؟..أم أن ..رجاء ياسامي أنت تثير قلقنا..

أجاب سامي  وهو مايزال واجماً :

-الأمر أخطر مما تتصوّرون ..

نظر صهيب صوب بدر وهو يقول متلعثماً :

-ياساتر يارب ..

توجّه سامي نحو مكتبته..ومدّ يده ليتناول من الكتاب الورقة الصغيرة المطويّة داخله..وناولها لبدر وهو يقول:

-هذه الورقة وجدتها بين صفحات أحد الكتب القديمة التي اشتريناها اليوم  .

مدّ بدر يده وأخذ الورقة المطوية..فبدأ بفتحها, ونهض ليكون قريبا ًمن النور الذي ينبعث من خلال زجاج الشباك القريب منهم, وتبعه صهيب ليقرآ معاً:

(( حفيدي العزيز عبدالرحمن  مكتبتي هذه هي هديّتي لك.. أما الكنز فسأتركه لك

  لتنعم به وتعيش سعيداً، إّنه كل ما استطعت أن  أحصل عليه من هذه الدنيا.. وهو موجود في بيتي

    الذي تعرفه.. جدّك المخلص)).

أكمل الصديقان قراءة الورقة ..وراح الواحد ينظر في وجه الآخر..ومن غير أن ينبس أيّ منهم بايّ كلمة جلسوا يفكّرون ..سادت لحظات من الصمت المطبق ..وعندما طال هذا الصمت بادر صهيب بالقول:

-المسألة خطيرة يا شباب, وتحتاج إلى مزيد من التفكير..

واستدار صوب بدر ليسأله رأيه..لكنّه فوجيء بأنه قد أغمض عينيه,وكأنّه يعيش في عالم آخر..فهرع إليه ليعيده إلى وعيه..لكنّ بدر فتح عينيه فجأة ..وهو يقول :

-لاتخشيا..فأنا ما أزال في وعيي..لكنّني كنت أتخيّل كيف يكون شكل الثروة ..

قال صهيب موبّخاً صديقه :

-يا أخي خذ الأمر بجدية .الأمر أخطر من أن تمزح ..وتعال لنفكّر كيف نتصرف .

عاد بدر ليشارك صديقيه مناقشة الأمر بجدية..وهو يقول :

-سامحاني..فالصدمة كانت شديدة علي..وفعلا ًعلينا أن نكون دقيقين في اتخاذ أي قرار,قبل أن نقدم عليه . 

تبادل الثلاثة أفكاراً كثيرة ..دونما فائدة ..إلى أن صرخ سامي فجأة :

-وجدتها .

اقترب منه الصديقان ..وهما متشوّقان لسماع ماتوصّل إليه سامي..فاستعجلاه بطرح فكرته ..إذ قال:

-هل تتذكّران الجملة الأخيرة التي قالها لنا البائع عندما طلبت منه أن يهيء لنا مجموعة من الكتب ؟

ردّ صهيب وهو يحاول استذكار كلمات البائع الأخيرة :

-نعم ..قال ..قال ..بصراحة لم أعد أذكر .

فتدخّل بدر ليقول :

-أنا أتذكّر..لقد طلب منا أن تكون زيارتنا له في أيّام الجمعة فقط ..

فتابع سامي القول :

-وهذا يعني أننّا لو ذهبنا للسوق في يوم الجمعة القادم ..فسنجده هناك !

ثم سأل صهيب بسخرية :

-ومالذي سيفيدنا البائع هذا ؟

أجابه سامي :

-لنسأله عن صاحب الكتاب الذي اشتراه منه ..اوكلّفه ببيعه ..

قال صهيب :

-رغم أنني أشكّ في أنّه يتذكّركل من باعه كتاباً..إلا أنّنا مجبرون ولسنا مخيّرين ..فلا طريقة أخرى لدينا..سوى هذه..علّه يرشدنا لخيط يقودنا للطريق الصحيح.

و أضاف بدر :

-إنها محاولة...لن نخسر شيئاً..

ثم توقّف عن الكلام فجأة..ونظر لساعته ..ثم اكتشف شيئاً غاب عن بال صديقيه ..فقال:

-أتعرفون ؟؟المفاجأة جمّدت تفكيركم ..ولكن الحمد لله ما أزال أنا بكامل عقلي وتفكيري ..

ردّ عليه صهيب :

-ادخل بالموضوع مباشرة ياعبقري زمانك .

قال بدر :

-لم الانتظار حتى الجمعة القادمة؟؟ ..مايزال الوقت عصراً,والشمس لن تغيب قبل أقلّ من ساعتين .

طرق سامي بأصبعيه وقال بعد أن تأبّط الكتاب :

-ياه ..إنه أحسن شيء قلته اليوم ..كيف غاب هذا عنا؟؟ .هيا بسرعة قبل أن يغادر مكانه .

* * *

زيارتان للسوق ..في يوم واحد 

خلال دقائق فقط..كان الأصدقاء الثلاثة في السوق، خطواتهم كانت سريعة جداً..بحيث إنها جذبت انتباه الكثير من روّاد السوق..ولكن على مايبدو أنّ السوق كانت أقلّ زحمة بالناس بكثير..وهذا ماسهّل عليهم المشي بخطوات سريعة..كان الثلاثة يخشون الشيء نفسه ..وهو أن يكون البائع قد غادر مكانه ..ولكن عندما صاروا قريبين منه استطاع سامي أن يلمحه من بعيد, رغم أنّ عدداً ممّن يشترون منه قد غطّوا وجهه.فصرخ:

- الحمد لله ..مايزال موجوداً..بداية تبشّر بخير.

عندما وصلوا إلى البائع ..استغرب تكرارهم لزيارته..فقال مبتسماً :

-كنت متوقّعاً أن تكرّروا الزيارة ..ولكن ليس بهذه السرعة ..

ردّ عليه سامي :

-في الحقيقة ياعمي ..جئناك من أجل أن تساعدنا في شيء مهم وخطير ..

اندهش البائع من كلام سامي ..فحاول أن يستفسر منه..لكنّ صهيب قال:

- لاتستغرب ياعم..فالمسألة تتعلّق بأحد الكتب التي اشتريناها منك صباح هذا اليوم..فبعد رجوعنا اكتشفنا أن أحدها يحتوي على ورقة تشير إلى وجود كنز في بيت صاحب الكتاب ..

تغيّرت ملامح البائع ..بعد أن أخذ الموضوع منحى آخر,وصرخ ناسياً أن رجالاً قريبين منه من الممكن جداً أن يسترقوا السمع :

-كنز؟؟ أتقولون كنز؟؟

أشار له سامي بأن يخفض صوته كي لايسمعه القريبون منهم..ولكن يبدو بعد فوات الأوان.فهاهو رجل غريب الشكل يحاول أن يتقرّب منهم,بحجّة الوصول إلى كتب بعيدة عن متناول يده .

فاضطرّ البائع أن يخفض صوته ويعاود السؤال:

- طيّب ..ومالمطلوب مني ؟؟

أخرج سامي الكتاب ليريه للبائع ..وسأله :

_ انظر ..هذا هو الكتاب ..تمعّنه جيداً,وحاول أن تتذكر الشخص الذي باعك إياه ..

أمسك البائع بالكتاب..ثم هزّ رأسه ليقول :

_ هذا صعب..صعب جدّاً أن أتذكّرصاحبه..ربما يكون قد مضى على شرائي لهذا الكتاب أسابيع ..أو شهور بعيدة ..

وأضاف بدر :

_ أو ربّما  أيّام قليلة ..

ثم سأل سامي البائع :

_طيّب ياعم ..حاول أن تتذكّر متى كانت آخر مرة اشتريت فيها كتباً, وممّن؟

اقترب الشخص المتطفّل أكثر..ليسترق السمع بشكل أفضل ..لكنّ البائع لم يلحظ ذلك .

فكّر البائع قليلاً..وهو يتمتم :

- متى ..متى ....قبل حوالي ....

ثم تذكّر البائع شيئا ًمهماً ..فقال:

-لا أعرف كيف غاب عن بالي ذلك ..يبدو أن العمر له أحكام .إيه..حفظ الله شبابكم ..

حاول سامي استعجال البائع ..فسأله بصوت منخفض:

-قل ياعمي رجاءً ماذا تذكّرت ؟؟

أجاب البائع :

-بعد أن أكملت فرش الكتب على الأرض صباح هذا اليوم ...

 ثم فجأة غيّر الموضوع ..ليقول:

-بالمناسبة..أنا أوّل من يبكّر بالحضور لهذه السوق في صباح كلّ جمعة.

  ثم يداعب ذقنه بسبّابته..وهو يحاول أن يستذكر:

-يعني يكون وصولي هنا حوالي الساعة الثامنة إلا...لا لا ..تقريباً السابعة والنصف ..

نظرالأصدقاء إلى بعضهم,وليس أمامهم سوى أن يسايروه ويجاملوه,رغم أنّهم بأشدّ حالات القلق ,وانتظار  ماستسعفه  به الذاكرة..على أمل أن يتذكّر الشخص الذي أعطاه هذا الكتاب.لكنّ سامي لم ينتظر البائع حتى ينتهي من  موضوع حضوره المبكّر للسوق ..فقال:

-أرجوك ياعم ..حبّذا لو تحاول أن تتذكّر ماذا حصل معك بالضبط عندما حضرت هذا اليوم ..

استغرب البائع وقال :

-صباح هذا اليوم !! وكيف عرفت أنت؟

ابتسم سامي وهو يوزّع نظراته على صديقيه بدر وصهيب.بعد أن أدرك أن البائع ..وبسبب تقدّمه بالعمر قد ضعفت ذاكرته..وربّما يكون من الصعب أن يسترجع ذكرياته..حتى لو كان قد مضى عليها فترة قصيرة..ولكن لابدّ لهم من المحاولة ..ليس أمامهم سبيل آخر..فعاود السؤال:

-لقد كنت بدأت حديثك..بأنك تذكّرت شيئا ًمهماً..وهو أنك عندما بدأت بفرش الكتب على الأرض صباح هذا اليوم..ثم توقّفت عن الكلام ..فنرجوك أن تتذكّر ماذا حصل بعدها .

أجاب البائع :

-نعم كنتم تسألون عمّن باعني الكتاب الذي معك..وبصراحة تذكّرت أنني لم أشترِ كتاباً منذ مدّة ..وإنما آخذ الكتب من أصحابها وأعرضها للبيع,ومن ثمّ أتحاسب مع أصحاب الكتب, وآخذ حصّتي من أثمانها ..

حاول سامي أن يطوّل باله حتى آخر لحظة ..فسأل البائع :

-طيّب ياعمي ..يعني أنك لاتشتري الكتب..بل تأخذ نسبة من بيعها ..حسن ..مَن الشخص الذي أعطاك هذا الكتاب ؟

ابتسم البائع وقال لسامي :

-انتظر يابني .. دعني أكمل بقية القصة ..لِم تقاطعني أنت دائما ؟؟

بادله سامي الابتسامة معتذراً :

-آسف ياعمي ..تفضّل .

استأنف البائع كلامه..أما الشخص المتطفّل فقد صار أكثر دنواً منهم  :

-قبل أن تجيئوا إليّ صباح هذا،كان قد حضر منذ الصباح الباكر فتىً بمثل أعماركم،وهو يتأبّط  مجموعةكبيرة من الكتب..وطلب مني أن أبيعها له..ووعدني بأن يأتي بمجموعة أخرى في الجمعة القادمة, فأرجو أن يكون هذا الكتاب من ضمن مجموعة الكتب التي أخذتها منه صباح هذا اليوم..

رفع الشخص المتطفّل عينيه من الكتاب الذي كان يتظاهر بقراءته ..ونظر صوب الأصدقاء الثلاثة..ثمّ سحب نفساً طويلاً..وكأنّه هو من كان يتعجّل معرفة صاحب الكتاب أكثر من سامي وصديقيه ..ثمّ انسحب بخفّة من المكان بعد أن ألقى الكتاب الذي كان يتصفّحة بقوّة على الأرض,مما أثار انتباه البائع والأصدقاء ,ثم هزّ سامي رأسه مستغرباً تصرّف الرجل عديم الذوق هذا ,وقال للبائع :

-نشكرك ياعم..يعني أنّ الشخص الذي باعك الكتاب سيحضر في الجمعة القادمة,ليأخذ حساب الكتب التي بعتها ..وليعطيك وجبة أخرى ؟

أجابه البائع :

-نعم تماماً,ولكننّي أنصحكم إذا أردتم رؤية هذا الشخص أن تحضروا مبكّرين جداً ..لأنّه ربّما يفعل مثلما فعل اليوم ..أقصد أن يبكّر جداً بالحضور .

سأل بدر البائع :

-بالمناسبة ياعمي ..مااسم هذا الشخص ؟

ردّ البائع بخجل :

-بصراحة ..لقد فاتني أن أسأله ذلك ..

استغرب صهيب ..فسأل :

-إذن كيف ستسلّمه المال..وأنت لاتعرف حتى اسمه ؟

ابتسم البائع وهو يقول :

-لا اطمئن ..لأنني أتذكّر وجهه تماماً, وأستطيع أن أميّزه من بين ألف وجه .

شكر الأصدقاء الثلاثة البائع ..وطلبوا منه أن لايتحدّث بالموضوع أمام أيّ شخص كان ,حتى تتبيّن لهم الحقيقة .ثم ودّعوه على أمل معاودة الزيارة في الأسبوع المقبل . 

يتبع إن شاء الله