الكنـز (3)

الكنـز (3)

(رواية للفتيان والفتيات)

ضرغام فاضل

[email protected]

ومرً الأسبوع

بطيئاً مرّ الأسبوع بانتظار يوم الجمعة،حيث سيحضر شخص ما مجموعة كتب,على أمل أن   يكون هو نفسه صاحب الكتاب الذي وجدوا بين  صفحاته الرسالة..

حضر الأصدقاء في المكان والزمان المطلوبين .لكنّ الشخص المزعوم لم يحضرمبكّرا ًكما فعل في الأسبوع الماضي..فهاهي الشمس المحرقة قد توسّطت السماء,والناس قد ملأوا السوق..أمّا سامي وصهيب وبدر ..فقد ملّوا الانتظار.قال سامي متذمّراً :

-     لقد تأخّر كثيراً..

ردّ عليه البائع :

-     لا تقلق.. فالنهار ما يزال في أوله..

وبينما هم في انتظار صاحب الكتاب..وإذ بشخص يقترب منهم سائلاً البائع:

-     هل تبيع روايات بوليسية مترجمة ؟

أجابه البائع وهو يشير للكتب المفروشة على الأرض:

-     أعتقد ذلك ..الكتب أمامك ويمكنك البحث عمّا تريد .

مدّ بدر رأسه ليهمس في أذن صهيب :

-     أعتقد أنّني أعرف هذا الشخص

ردّ صهيب:

-     وجهه مألوف .

ثم انبرى سامي ليؤكّد:

-     هذا الشخص هو نفسه الذي رأيناه في الأسبوع الماضي ..

قال بدر :

-     آه تذكّرت..ذلك الذي رمى الكتاب على الأرض.

جلس الرجل إلى الأرض قريباً من الكتب وراح يقلّبها..من غير اهتمام منه بعنوان الكتاب أو محتواه ..بدى هذا واضحاً من عينيه اللّتين كانتا تبحثان بين الوجوه عن شيء ما .ممّا أثار الريبة والشكوك في قلوب الأصدقاء.لم يدم الأمر طويلاً حتى اقترب منهم شخص يحمل عدداً من الكتب ضمّها إلى صدره متّجهاً نحوهم.وحين وصل ألقى التحية على الجميع..وما كان منهم إلا أن ردّوا  بمثلها,إلا الشخص الجالس,,فقد راح يتطلّع في وجه هذا الفتى,الذي لم يتجاوز السادسة عشرة من العمر..أي أنّه بمثل أعمار سامي وبدر وصهيب.تقدّم الفتى من البائع وسأله :

-     مابالك ياعمي!! ألا تتذكّرني ؟؟

أجابه البائع :

-     نعم,إنه أنت..أنت الذي أعطيتني مجموعة من الكتب لأبيعها في الأسبوع الماضي,كنّا بانتظارك ..

نظر الأصدقاء إلى بعضهم..أما الشخص الجالس إلى الأرض فقد نهض فجأة..ليرتطم بالكتب التي يحملها الفتى,,فتساقطت الكتب متناثرة على الأرض..شعر الرجل بالحرج ممّا سبّبه..ومع هذا لم يكلّف نفسه بالاعتذار.وإنما اكتفى بالنظر في وجوه الجميع مرتبكاً,ثم مالبث أن غادرهم بسرعة..استغرب الفتى تصرّف الرجل..لكنّ سامي ربت على كتفه قائلاً :

-     إنه غريب الأطوار..وله سابقة في الجمعة الماضية..لاعليك سنساعدك ..

ثم جلس سامي مع صديقيه صهيب وبدر,وراح الجميع يجمعون الكتب المتناثرة..نظر الفتى إلى الأصدقاء الثلاثة وقال لهم :

-     أعتذر لقد شغلتكم عن متابعة انتقاء الكتب .

أجابه سامي مبتسماً:

-     لاعليك ..

ثم نظر الفتى إلى البائع سائلاًإياه :

-     لكنّك لم تخبرني ياعمي..لم تخبرني لم كنت بانتظاري..رغم أنني وعدتك بالحضور ..

ردّ البائع :

-     لست أنا ياولدي..وإنما هم ..

وأشار بسبّابته صوب الأصدقاء الثلاثة .ابتسم الفتى ابتسامة خفيفة ثم نظر للثلاثة ليسألهم:

-     أنتم من كان ينتظرني إذن !! خيراً إن شاء الله ..هل تعرفونني ؟؟

فكّر سامي بالردّ المناسب,فارتأى أن يجد طريقة تبعدهم عن زحمة الناس والمتطفّلين..فماكان منه إلا أن يجيبه:

-     سمعنا أنّك تنوي بيع مجموعة من الكتب القديمة .

هزّ الفتى رأسه قائلاً:

-     هذا صحيح..إنّنا في البيت نحاول التخلّص من بعض الكراكيب القديمة..ومن بينها مجموعة من الكتب القديمة..لأنّني بصراحة لست من هواة المطالعة..وإن احتجت لقراءة موضوع معيّن فإنني أبحث عنه في الأنترنت.لذلك طلبت مني أمّي أن أتخلّص من هذه الكتب,التي أكل عليها الدهر وشرب .

ثم تناول سامي الكتاب الذي بين يديه وسأل الفتى :

-     يعني هذا الكتاب كان واحداً من الكتب التي أعطيتها للبائع ليبيعها ؟

مدّ الفتى يده ليتفحّص الكتاب ..ثم أعاده لسامي وهو يقول :

-     أعتقد ذلك..لست متأكّداً..لأننّي لست مهتمّاً أو مطّلعاً على تفاصيل هذه الكتب..ومن أجل هذا ترونني هنا  ..

نظر سامي لصديقيه بدر وصهيب..وتبادلا ابتسامة..وكأنّ لسان حالهما يقول( عثرنا على الخيط الأوّل )). ثم تابع سامي كلامه:

-     ولذلك نحن هنا بانتظارك,كي تصحبنا معك إلى موقع الكتب,علّنا نشتري منك مجموعة كبيرة منها ,بدل أن تتعب نفسك بحملها للسوق ..

تبادل صهيب وبدر الابتسامة,وكأنّهما يريدان أن يقولا لبعضهما : ياللفكرة العظيمة !! استحسن الفتى هذه الفكرة التي تفيد الطرفين ,ثم قال :

-     أنا موافق..ولكنّني أتساءل عمّا ستفعلونه بهذه الكتب,التي شبعت من الغبار..وتكاد أن تكون أوراقها الصفراء قد تآكلت واهترئت .

اقترب بدر من صهيب وهمس في أذنه,من غير أن يحسّ به الفتى ,وقال:

-     مارأيك في أن نسأله عن اسمه ..بعد أن نعرّفه بأنفسنا ..؟؟

هزّ صهيب رأسه موافقاً..فابتسم بدر وهو يشير بيده إلى نفسه :

-     عفواً أيها الصديق ..نسينا أن نعرّفك بأنفسنا,فأنا بدر وهذا صديقنا صهيب ..والواقف إلى جانبك هو سامي ..

مد ّالفتى يده مصافحاً الأصدقاء وهو يقول:

-     أهلاً وسهلاً بكم ..تشرّفت بمعرفتكم ..وأنا اسمي عبدالرحمن ..

كانت المفاجأة كالصاعقة للأصدقاء.أيعقل أن من يقف أمامهم هو صاحب ثروة كبيرة..وهو لا يعرف بذلك ؟! انتبه الفتى عبدالرحمن لردّة فعلهم عندما سمعوا اسمه..فاستغرب ذلك مما دعاه للسؤال:

-     عفواً ..هل هناك ماهو غريب باسمي ؟؟

تدارك سامي الأمر وهو يربت على كتف عبدالرحمن قائلاً:

-     لاياأخي بالعكس..أما سمعت أن خير الأسماء ماعبّد وحمّـد؟؟ أماسبب استغرابنا الذي بدى واضحاً على وجوهنا فستعرفه بعد قليل إن شاء الله..سنحكيه لك ونحن في طريقنا لبيتكم .

ابتسم عبدالرحمن وهو يقول :

-     ولمَ في الطريق ..بل قل في البيت..أيعقل أن تدخلوا بيتنا من غير أن نضيّفكم ..

ضحك الأصدقاء الأربعة..لكنّ سعلة عالية قطعت ضحكهم..التفتوا ليتبيّنوا مصدرها..وإذا بالشخص غريب الأطوار يقف إلى جانب شخص آخر..نظر سامي لبدر وصهيب..وسألهما :

-     أتلاحظان معي ما ألاحظ ؟

ردّ عليه صهيب :

-     نعم..أكاد أشكّ في أنه يلاحقنا أو يتعمّد مضايقتنا..ثم إنّ شكله يبعث على الريبة, وكذلك من معه.

طلب عبدالرحمن من أصدقائه الجدد أن ينتظروه ريثما يتحاسب مع البائع..ثم يتوجّهون إلى بيت عبدالرحمن .فوقف الأصدقاء جانباً وهم  يراقبون الشخصين الذين كانا يرمقانهم بنظرات غريبة .

* * *

صاحب ثروة ..وهولايعلم

جلس الأصدقاء الثلاثة مع صديقهم الجديد عبدالرحمن في بيته,بعد أن تناولوا العصير الذي قدّمته لهم والدة عبدالرحمن والتي رحّبت بهم أشدّ ترحيب..فبادر سامي بالسؤال بعد أن ألقى نظرة إلى محتويات الغرفة التي يجلسون فيها ..                  

-      هل تعيش في البيت مع والديك فقط ؟

أجابه عبدالرحمن:

-     مع والدتي فقط..أمّا والدي فقد توفّاه الله منذ أن كنت صغيراً,إثر إصابته بنوبة قلبية بعد خسارة فادحة ألمّت به .

سأل بدر :

-     كان تاجراً إذن ؟؟

أجاب عبدالرحمن :

-     لابل مزارع..يملك أرضاً زراعية يزرع فيها البقوليات..لكنّ كلّ شيء ضاع ,والأرض بيعت لتستردّ الديون التي تراكمت علينا بعد وفاته.

ردّ سامي متـأثّرا:

_ إنا لله وإنا إليه راجعون ..

ثم استأنف عبدالرحمن قائلاً:

-     كنت ماأزال صغيراً..لاأفهم شيئاً ممّا يجري حولي ..

نظر بدر إلى سامي وكأنه يريد أن يعاتبه لما سبّبه لصديقهم الجديد من موقف مؤثّر..فقال :

-     نعتذر لأنّنا أثرنا مواجعك..لم نكن نقصد ذلك.

فتدارك سامي الموقف قائلاً:

-     والآن..دعونا نغيّر هذا الموضوع، ونرى مجموعة الكتب..

نهض عبدالرحمن برفقة الأصدقاء الثلاثة..وخرجوا من الغرفة التي كانوا يجلسون فيها,ليدخلوا  في مستودع صغير جمعت فيه الأغراض والكراكيب القديمة والأثاث الفائض عن الحاجة..كان منظر هذه الغرفة الصغيرة موحشاً..ربما بسبب الإنارة الخافتة,أو سقفها الواطيء..سيّما وأنها مبنيّة في الحديقة الخارجيّة للبيت..على أساس أنّها صمّمت لتوضع فيها الأدوات الخاصة بالحديقة أو ماشابه ذلك .

دخل الأصدقاء الأربعة إلى هذا المستودع ..وإذا بهم أمام كدس كبير من الكتب .تطلّع الأصدقاء الثلاثة سامي وبدر وصهيب إلى وجوه بعضهم,لأنهّم في الحقيقة لايريدون من هذه الكتب شيئاً,سوى اختلاق حجّة ليتأكّدوا من شيء ما.لذلك تناول سامي أحد الكتب الفخمة والذي كان ملقىً بشكل عشوائي,وفتحه وراح يقلّب صفحاته .وهو  يوجّه حديثه لعبدالرحمن :

- كتب مهمة ونفيسة .وبصراحة ياعبدالرحمن لو كنت مكانك لما ضحّيت بهذه الكتب أبداً ..بل على العكس,كنت وضعتها في مكتبة أنيقة تتصدّر البيت,لأفتخر بها, لاأن أرميها هذه الرمية المهينة .

أجابه عبدالرحمن خجلاً :

لقد سبق وأخبرتكم يا أصدقاء..أنّني لست من هواة المطالعة أبداً..وكذلك أمّي..وليس في البيت أحد سوانا ؟

فما كان من بدر إلا أن سأله :

_ إذن لمن هذه الكتب ؟

أجابه عبدالرحمن :

-إنها لجدّي رحمه الله..فقد كان مهتماً بالمطالعة والقراءة,كما إنه كان أديباً,يكتب القصة والرواية,وله اهتمامات أدبية وثقافية .

بهذا الجواب تأكّد الأصدقاء الثلاثة,أن الكتاب الذي عثروا على الرسالة بين صفحاته,هو أحد الكتب التي تخصّ جد عبدالرحمن,وأن الرسالة هذه موجّهة لعبدالرحمن نفسه,ولكن يبدو أنه لم يقرأها أو يعرف شيئا ًعنها أبداً .

وضع سامي الكتاب الذي كان بين يديه,ليقف بعدأن فرك يديه ليتخلّص مما علق بها من غبار.. أما بدر وصهيب فقد راحا يعطسان العطسة تلو الأخرى..أشار عبدالرحمن إلى الكتب وقال:

- أتريدون أن نتعاون على حملها إلى الخارج لتنتقوا منها ماتريدون ؟؟لأنني أعتقد أن المكان لايسمح لكم بذلك .

اقترب سامي من عبدالرحمن ووضع يده على كتفه..ثم تبادل مع صديقيه نظرات,كأنهم  يريدون أن يقولوا لبعضهم: (( حان الوقت لنصارحه بالحقيقة ) ..

قال سامي :

_ نفضّل أن نجلس في الحديقة لنفاتحك بموضوع مهمّ ياعبدالرحمن ..

ابتسم عبدالرحمن وهو يسأل :

_ والكتب ؟!

ردّ سامي :

_ اتركها الآن ..

استغرب عبدالرحمن ..ووقف لحظة ليستنتج :

-     إذن المسألة ليست مسألة كتب..كنت أشكّ في هذا .

ابتسم صهيب,ثم أجابه :

-     لاتقلق ياعبدالرحمن..فبعد قليل ستسمع خبراً يسرّك !!

سأل عبدالرحمن :

-     خيراً إن شاء الله ؟؟

أجابه بدر :

-     الجو رائع هذا اليوم,ولن نتنازل عن جلوسنا في الحديقة الرائعة مهما حاولت ياصديقنا ..

ضحك عبدالرحمن وأشار لأصدقائه بمغادرة الغرفة الصغيرة والخروج إلى الحديقة..بينما راح هو يضع قفلا ًكبيراً على الباب الحديدي ..

على أرجوحة بيضاء كبيرة توسطت الحديقة .جلس صهيب وبدر ,بينما جلس سامي على كرسي مقابل,وبجانبه كرسيّ آخر جلس عليه عبدالرحمن.كان الكتاب الذي وجد سامي الورقة بين صفحاته مايزال بين يديه..مرّة يتأبّطه ومرّة يضمّه الى صدره,ومرّة يحمله بيده اليمين,وأخرى في اليسار,هذه المرّة انتبه عبدالرحمن للكتاب الذي وضعه سامي على حجره ..فسأله مستنتجاً :

-     إذا لم يخنّي ذكائي فأنا أعتقد أن هذا الكتاب له علاقة بالموضوع..أليس كذلك ؟

ابتسم سامي بعد أن وزّع نظرات استعجاب لبدر وصهيب..ثم قال :

-     ماشاء الله!!..أنت فعلاً ذكي ..وهذا الأمر سيسهّل علينا مهمّتناً كثيراً ..

ضحك عبدالرحمن ضحكة خفيفة,ثم سأل:

-     مهمّة ؟!! ياه ..يبدو أن المسألة خطيرة..ومن كلّفكم بالقيام بهذه المهمّة ؟؟هل أنتم مجنّدون لصالح جهة ما؟

ثم أطلق ضحكة عالية,ثم مالبث أن شاركه الأصدقاء بقهقاتهم.بعد أن خفتت الضحكات وساد الصمت ,تناول سامي الكتاب من على حجره وقرّبه من عبدالرحمن ليسأله :

-     سأعيد عليك السؤال الذي سبق أن وجّهته لك عندما كنّا في السوق (هل هذا الكتاب من بين الكتب ألتي كلّفت البائع ببيعها ؟؟)).

ابتسم عبدالرحمن وهو يقول :

-     وأنا بدوري سأعيد عليك الجواب نفسه الذي أجبته في السوق,وهو أنّني لست متأكّداً من هذا ,لأنّني لم أطّلع على تفاصيل هذه الكتب قبل تسليمها للبائع ..

لم يجد سامي بدّاً من أن يخرج الورقة من بين أوراق هذا الكتاب..وليبدأ بفتحها رويداً رويداً..انتبه عبدالرحمن لهذا الأمر فسأل باندهاش:

-     ماهذه الورقة ؟!!

أمسك سامي الورقة التي فتحها وراح يهزّها بيده قائلاً :

-     هذه الورقة وجدناها في هذا الكتاب ..

ثم أردف بدر قائلا ً:

-     كما إن هذه الورقة لو تحقّق مامكتوب فيها لتغيّر مجرى حياتك بالكامل ..

ازداد عبدالرحمن حيرة ودهشة..وقال لسامي :

-     أرجوك..ادخلوا بالموضوع مباشرة..فأنا لاأحتمل الانتظار ..

تلعثم سامي وارتبك,,وحار كيف يبدأ الموضوع مع عبدالرحمن ,لكنّه أخيراً.. قرّر أن يسلّم الورقة له ليكون أمام الأمر الواقع,وليوفّر على نفسه هذه المهمّة الصعبة.. بيد مرتعشة تناول عبدالرحمن الورقة من سامي ..وقرّبها إليه وراح يقرأ ما فيها.أمّا الأصدقاء الثلاثة فراحوا يراقبون تعبيرات وجهه وعينيه ..وهو يبحلق في الكلمات المكتوبة..كادت عيناه تخرج من مكانهما ,ولونه الحنطيّ تحوّل إلى الأصفر .. ثم رفع رأسه مذهولاً ..وراح يتبلعم ريقه الناشف من هول المفاجأة .فضّل الأصدقاء السكوت,ريثما يستوعب الأمر صديقهم الذي أصبح مليونيراً بين يوم وليلة..وزّع عبدالرحمن نظراته على الأصدقاء.. مبتدءاً بسامي الذي يجلس إلى يمينه,ثم إلى صهيب,ثمّ إلى بدر..لكنّه مالبث أن أعاد قراءة الرسالة من جديد,وكأنّه يريد أن يتأكّد تماماً, أنّ ماقرأه صحيح .ثم طوى الورقة وأطرق برأسه إلى الأرض..وهو يتمتم :

_ رحمك الله ياجدّي..كنت تقتّر على نفسك لكي توفّر لنا الثروة التي تجعلنا نعيش بنعيم..لقد وافته المنيّة بعد وفاة والدي, إثر نوبة قلبيّة بسنة تقريباً..لقد كان لوفاة أبي المفاجئة الأثر الكبير لتدهور صحّة جدّي..حتى ازدادت سوءاً ليلحق بأبي إلى جوار ربّه...

ثم مسح عينيه من الدمعات التي انهمرت على خدّيه..تأثّر الأصدقاء ممّا سمعوه من عبدالرحمن..فربت سامي على كتفه مواسيا ً:

_ رحمهما الله..وجعل جنّات الخلد سكناهما ..

ثم نهض بدر من مكانه في محاولة منه ليغيّر مجرى الحديث..فقال :

_ بعد أن اطّلعنا على هذه الورقة,رأينا أن من الواجب والأمانة أن نسلّمك إياها..فقد أوصانا الله أن نردّ الأمانات إلى أهلها..وهاهي الرسالة بين يديك.ونحن مستعدّون لإبداء أي مساعدة في سبيل أن نبحث عن الكنز الذي يتحدث عنه جدّك .

أخذ عبدالرحمن نفساً عميقاً بعد أن استوعب الأمر جيداً,وقال:

- ولكن أرجو أن تعرفوا أنّه في كل الأحوال يجب علينا استشارة والدتي بهذا الأمر ..

ونهض صهيب هو الآخر من مكانه ليكون قريباً من بدر ,وليقول:

_ بدون أدنى شك..وعلينا أن نأخذ مشورتها في كلّ شيء .

ثم مالبث أن توقّف عبدالرحمن عن متابعة هذا الحديث,ليكتشف شيئاً مهماً..فانبرى قائلاً:

-     لحظة ..لقد تذكّرت شيئاً مهما ًجداً,وسيكون أول خيط سيقودنا إلى معرفة الحقيقة ..

تحلّق الأصدقاء الثلاثة حوله,مستفهمين عمّا يعنيه صديقهم,فتابع عبدالرحمن حديثه قائلاً :

-     عندما توفي أبي كنت في الصف الأول الابتدائي,وبعدها بسنة أو أكثر قليلاً توفّي جدّي..وكنت لم أُنهِ الصف الثاني بعد,أي أن عمري لم يتجاوز التاسعة, وهذا يعني أنّ ذلك حدث قبل حوالي سبع أو ثماني سنوات.

فبادر سامي بالسؤال:

-     وماذا يعني هذا أيضا ؟؟.

أجاب عبدالرحمن:

-     هذا يعني أن البيت الذي يتحدّث عنه جدّي هو بيتنا القديم, الذي كنّا نسكن فيه قبل أن ننتقل إلى بيتنا هذا .

سأل صهيب :

-     هذا ممتاز,,وأين هو بيتكم القديم؟؟

أجاب عبدالرحمن :

-     ليس في هذه المدينة أصلا ً,بل في قرية تبعد حوالي أربع إلى خمس ساعات.فكنت قد أخبرتكم قبل هذه المرّة..أن أبي كان يملك أرضا ًزراعية .ولأنّه كان يحبّ الأرض كثيراً فقد فضّل أن يكون سكننا في القرية,لنكون قريبين من الأرض دائماً.ولكن بعد المصائب التي حلّت بنا بوفاة أبي,وبعده جدّي,وبيع الأرض,لم يبقَ لنا مايبرّر بقاءنا هناك..فآثرت أمي الانتقال للعيش في المدينة,لتكون قريبة من أهلها .

اقترب سامي من عبدالرحمن وقال له :

-     لقد عانيتم ماعانيتم في حياتكم..أعانكم الله ..وعوّضكم عن أيّام البؤس والشقاء بأيّام تملؤها السعادة إن شاء الله..ولكن عليك ياعبدالرحمن أن تكتم السرّ حتى نتبيّن الأمر ويصير جليّاً.

أجاب عبدالرحمن :

-     طبعاً..وبالمناسبة ..أنا أعتذر فالمفاجأة أنستني كلّ شيء,,كان من المفترض أن أشكركم ,ولكنّني

  لا أعرف كيف أعبّر لكم عن شكري وأمتناني..إنكم مثال للأمانة..

أجاب صهيب :

- لاداعي للشكر ..ثم أتريد أن تشكرنا على أداء واجب فرضه الله علينا؟؟ إن الله يأمرنا أن نؤدّي الأمانات إلى أهلها يا عبدالرحمن ..

لم يجد عبدالرحمن مايقوله..سوى:

- جزاكم الله خير جزاء يا إخوتي..

ثم وضع بدر يده على صدره..وقال وهو ينظر لصديقيه سامي وصهيب:

-و لن ندّخر وسعاً في مساعدتك وتقديم العون لك .أنا وصديقاي سامي وصهيب .

شعر عبدالرحمن بالارتياح لموقف الأصدقاء الثلاثة,والذي لم تمض ساعات قليلة على تعارفهم,لكّنه أحسّ أن صداقتهم هذه سيكتب الله لها النجاح والديمومة,لأنها صادقة ومبنيّة على أسس صحيحة بعيدة عن أيّ مطامع.

طلب سامي من عبدالرحمن أن يسأل والدته عن العنوان الكامل لبيتهم الذي كانوا يسكنونه ,لأنّ عبدالرحمن لم يعد يتذكّر شيئاً عنه أبداً,ولأنّ عمره الصغير حينذاك لم يكن يؤهّله لأن يحدّد المكان بدقّة. ومن جانبه طلب عبدالرحمن من أصدقائه إمهاله فترة يومين فقط,كي يمهّد الأمور ,ويفاتح والدته بهذه المستجدّات,وحدّدوا يوم الاثنين القادم موعداً للانطلاق إلى القرية..عانق عبدالرحمن أصدقاءه الثلاثة.وكرّر لهم شكره وامتنانه على هذه الوقفة الشريفة,والشهامة والنخوة,التي تكاد تكون نادرة في هذه الأيام.وخرج ليقف عند باب البيت مودّعاً إياهم..مشوا عدّة خطوات مبتعدين عن البيت,ثم مالبثت أن تبعتهم أقدام أخرى.. ويبدو أنّ هناك من كان يراقبهم ,ويقف لهم بالمرصاد.

يتبع إن شاء الله...