مدائن التيه 1

مدائن التيه

ذ حسن الرموتي – المغرب –

[email protected]

الرؤية الأولى -1-

أركض خلف الوطن المسجون

في غابة الأعراس ، في طفولة الأجراس

أدونيس

غرباء نحن ، غرباء في هذا الوطن ، هذا الوطن الذي أعطانا قفاه و انصرف ، غرباء عن هذه المدينة التي سرقت أحلامنا كما تسرق النجوم . و أنت حين تقف على مشارفها ، ينتابك سحر خاص ، يخلخل جوانحك ، فتقف سادرا ، مندهشا ، تبدو لك المدينة من بعيد هادئة ، لكنها تخفي بين أسوارها ، و بين جدران بيوتها أسرارا كثيرة ، أحيانا غامضة ، بعضها يضل خفيا ، بعضها الآخر تلوكه الألسن فتزيد عليه إنها طبيعة البشر . من الأعلى يبد و البحر كسوار من فيروز الشطآن ، يطوق معصم غادة حسناء حزينة ، و أنت لا تدرك هذا الحزن ، إلا حين تكشف أسرارها ، و مفاصلها ، فيبد و لك البحر يركض نحوها خصوصا عندما يغضب ، و المنازل كأنها تفر و تتراجع .

أشياء كثيرة تغيرت في هذه المدينة ، بل أشياء كثيرة تكسرت مثلما يتكسر زجاج السيارات إلى رذاذ يشبه حبات البرد . الأيام تواصل رحلتها في هذه المدينة التي فقدت كل شيء من ماضيها ، بعد أن غزاها البرابرة الجدد ، و سوف تمضي سنوات عديدة قبل أن يكتشف الناس ذلك ، سنة تمر ثم سنة أخرى ، فتتحول المنازل القديمة و التاريخية إلى فنادق ، أما المنازل البسيطة فتأكل الرطوبة جدرانها ، و يعلو الصدأ شبابيكها ، كل شيء تغير ، الأشجار ، البحر ، البشر حتى النوارس تغيرت ، أصبحت تحط وسط الساحات العمومية و عندما تقترب منها تنظر إليك في تحد ، في عدوانية ، أي إحساس يعتريها اليوم ، لم يعد البحر هو البحر ، أصبح شحيحا ، و لم تعد النوارس تحلق فوق الميناء كما تعودت أن تفعل ، فقد أدركت أن البحر فقد إحساسة بها ، فأصبحت تطير فوق السطوح تقتات على بقايا خبز يابس ، و تسترق النظر إلى سراق العشق من أبناء و بنات الجيران .

مدينة تسير نحو حتفها ، بلا ضجيج و لا طبول ، مستسلمة إلى الغزاة الجدد ، تحاول أن تصرخ ، فيخرج صوتها مكتوما ، مختنقا ، أناسها الأصليون يتيهون في دروبها الضيقة ، يسيرون بتثاقل و بحزن دفين يشعرون بالقرف ، يطاردون أحلاما ، يطاردون الريح ، و الذي يطاردهم أياما طويلة من السنة ، ما أقسى هذه المدينة و هي تأكل أبناءها كل ليلة ، ما أقسى هذا الكابوس الذي تعيشه ، هذا الكابوس الذي يفتض بكارتها بعنف ، يستبيحها ، ثم يكتب تاريخا جديد لها ، تاريخ يكتبه القادمون من وراء البحر،هنا أو هناك ، لا فرق ، مادام هذا التاريخ يتسلل كل فجر إلى عقول البسطاء من أبناء هذه المدينة و يعشش فيها.

ولي من أولياء هذه المدينة الصالحين ، رفع كفيه ذات يوم ، و دعا على هذه المدينة بالثبور ، لأنها سرقت أحلامه و أبناءه ، و هاهي اليوم تموت بالتقسيط يأكلها اليأس ، و يسقط أبناؤها مثل الورق اليابس في حين تكبر أحلام الغزاة الجدد ، يبيعون ذاكرة هذه المدينة ، ثم يستعيرون من ألاشيء ذاكرة أخرى على مقاس الزمن الجديد ، مدينة لم تعد أبوابها الكبيرة تغلق ، فقد أصبحت مفتوحة على الهذيان على التيه ، على القبح ، الهواء القادم من البحر لم يعد ينفد إلى الرئتين ، أصبح مرا ، فقد عنفوانه ، الموت وحده سيوقف هذا الهذيان ، هذا القبح . موت هذه المدينة ، لتنبعث من جديد ، من رمادها كطائر الفينيق .

مدينة تخلت في لحظة عن بدايتها و نهايتها ، و منحت نفسها بالمجان للبرابرة الجدد ، مدينة سنحتاج ذات يوم إلى جواز السفر للدخول إليها ، إثبات هوية ، هوية فقدتها قبل أن نفقدها نحن ، مدينة مفتونة بعشق الآخرين لكنه عشق كاذب ، حين تخلو إلى نفسها تخنقها العبرات ، حارة كالجمر ، فتغرق في حالة من اليأس و الحزن تنقلب الصورة رأسا على عقب ، فتشعر كأن شرخا كبيرا قام بينها و بين ماضيها ، بينها وبين أ بنائها ، غير قابل للرميم . أشياء عديدة تغيرت، سنوات قليلة تفعل في الإنسان و الحجر الشيء الكثير، مدينة تحتاج لقليل من الفرح ، قبل سنوات كنا نركض نحو البحر ، نغسل براءتنا في موجه ، نقاسه غضبه حين يحمر ، اليوم لم يعد البحر بحرنا ، أمواجه أصبحت رتيبة ، تسكنها الخيبة و الفراغ ، تتقدم في حزن و انكسار ، وهي تئن ، من بعيد ، تبدو لك رائعة ، وحين تقترب منها تحس بمعاناتها ، بآلامها ، فتنتابك الرغبة في البكاء ، الرغبة في الرحيل ، تحاول أن تبحث عن قبر يسع جسدك النحيل ، أن تكتب على الرمل وصيتك الأخيرة . أن تجالس أصدقاءك القدامى، أن تحكي لهم ذكرياتك مع البحر ، مغامراتك البريئة ، رسائل الحب التي كتبتها . تتوقف فجأة عن مناجاة نفسك ، تقرأ على وجه البحر همومك ، تتراجع مفزوعا ، تخالجك تساؤلات كثيرة ، تتذكر حكايات السندباد ، رحلاته السبع ، تتمنى لو كنت السندباد ، تتمنى لو أسرتك آلهة البحار ، تتمدد على الرمل ، تحس به ناعما ، طريا ، يخفق قلبك كطائر جريح ، سقط من عشه فجأة تحاول أن تحلم ، تنظر وراءك ، لا شيء سوى الفراغ .

تنظر حواليك ، تتحسس أطرافك ، لتتأكد أنك لازلت حيا ، تمد بصرك بعيدا تصدمك البنايات ، كتل من الاسمنت، محطة البنزين ، مبنى البريد ، بعض المقاهي ... تصاب بالدوار تأتيك الرغبة في الغثيان تستعرض أمامك وجوه الرفاق ، رفاق الدراسة ، الذين رحلوا مبكرا ، الذين غادروا هذه المدينة ، تنكروا لها ، كما تنكرت لهم ، لم يعودوا يفصحون عن انتمائهم لها ، الذين يتسكعون الآن بين دروبها ، يستجدون رفاق الأمس ، الذين أصابهم مس من الجنون ... يوقظك البحر من جديد ، تنظر أمامك ، البحر هو البحر لازال في مكانه ، صورته فقط تغيرت في عينيك ، ترنو بعيدا .. بعيدا . أسراب النوارس تحلق عاليا و أنت وحدك، تريد أن تستلقي عاريا ، أن تترك حرارة الرمل تلفح جسدك ، توقظ فيه شهوة التحدي ، و البحر أمامك لتطفئ نار الغواية .

تسير وحيدا ، يأتيك صوت المؤذن من كل الجهات ، تنظر إلى البحر نظرة أخيرة ، بقايا شفق أحمر في الأفق تشتعل الأضواء ، الأعمدة الكهربائية المتباعدة لا تكاد تضيء حتى على نفسها ، بعضها معطل ، و أنت تسير وحيدا ، بين الفينة و الأخرى تلتفت وراءك ، كأن أحدا يتعقبك ، تترك الحرية لقدميك لتقودك ، ترفع عينيك للسماء ، بقايا سحب شاردة . و نجوم فقدت بريقها .

ما أقسى هذه المدينة ! حين غزاها الجراد ، أتى على الأخضر و اليابس ، لم يترك لأبنائها سوى التيه ، و أنت واحد منهم ، الدهشة تملأ عينيك ، و التيه مصيرك ، تتيه في الشوارع المتثاقلة بالأوساخ و البرك النتنة ، و هذه المنازل التي تنبت كالفطر ، هذه الوجوه التي ترتبط بالمدينة ، تعتقد أنها لا تستطيع أن تعيش خارجها ، وحتى عندما تغادرها ، فإنها لا تلبت أن تعود ، تعود بسرعة ، كأنها فارقتها لسنوات طويلة ، وأن تصادف هذه الوجود ترى هذه الحيرة على محياها ، شيء خاص يميزها ، قد تقابلها للمرة الأولى فتعتقد أنك تعرفها ، أحيانا أخرى ، تترسخ في الذاكرة إلى الأبد تكتشف أحيانا هذا الشبه بينك و بين هذه المدينة ، بل هذا التطابق بينك وبينها ، يصل إلى حد الذوبان ، تنسى أخطاءك كما نسيت هذه المدينة أخطاءها ، تسكنك الهزيمة ، تتعدد أمامك الدروب ، فتتيه كما تاهت عن ماضيها. لا أضواء برتقالية تدعوك إلى الانتباه ، أو حمراء تجبرك على الوقوف ، لا أضواء خضراء تدفعك إلى المرور ، أنت حر أن تتوقف أنى شئت ، كطائر ضل طريقه إلى عشه ، أو أضاع سربه ، تواصل طريقك ، تخترق الأحياء القديمة ، سوق العطارين ، سوق الخبازين ، الحدادين ، بائعي النعناع ، لا أحد ، كل شيء تغير ، تتذكر طفولتك ، في هذه الأزقة ، التي كانت تبدو لك أكثر اتساعا ، ضاقت اليوم ، كما ضاق قلبك .

في هذه المدينة يفقد العالم شكله ، و تفقد أنت إحساسك بوجودك ..

آه ! ماأشد حظ هذه المدينة بالأمس ! و ما أتعسها اليوم ! استفاقت ذات يوم ، فوجدت نفسها بين أحضان البحر ، تستنشق عطره ، تستلقي على صخوره ، تستحم فيه كل لحظة ، خيط شفيف يربطها بهذا البحر تمنحه مفاتنها ، فيجود عليها بكثير من الرزق .

اليوم البحر لم يعد هو البحر ، أصبح شاردا ، هاربا من زرقته ، يعيش لحظات الانكسار ، إحساس بالهزيمة ، شعور بالفجيعة ، ما أعمق جرح هذه المدينة ، سوف تحتاج إلى سنوات قبل أن يندمل الجرح ، و تستعيد توازنها .

مدينة تبتعد عنا الآن ، تغادرنا ، أو نغادرها ، لا فرق ، الأمر سيان ، حين تسرق أحلامنا ، لم تعد لنا ، تنكرت لأسمائنا ، أسماؤنا المنقوشة على جدرانها ، على أبوابها ، مدافعها التي فقدت هيبتها ، أصبحت ديكوروا يؤثث هذه المدينة ، يأتي أبناؤك إليها ، يجلسون على مشارفها ، كأنهم يتهيأ ون لحرب من الحروب القديمة أو يتخذون مكانا قصيا ، يتأملون البحر ، يحلمون بالسفر ، السفر إلى ماوراء البحر ، يرنون إلى شفق أحمر، يسترجعون الأيام الخوالي ، حين كانت هذه المدينة مدينتهم .

البحر لم يعد هو البحر ، أصبح سجينا لأحزانه ، فرحه غدا وهما ، مثل أوهام هؤلاء البحارة ، عيونهم مليئة بالأسى ، وهم يعودون ، خاويي الوفاض ، أي أسى عميق يرتسم على ملامحهم ، ملامح لفحتها شموس البحر، و أنهكتها الحبال، والتي حفرت في الأيدي وشما ... كل صباح يعودون ، مطأطئ الرؤوس ، يحملون رايات الهزيمة ، ينتقمون من سجائر التبغ الرخيصة ، يستلقون على شباك الصيد ، يثرثرون ، يسترجعون  حكاياتهم مع البحر ، مغامراتهم مع الأسماك الكبيرة ، مع نساء المدينة ، يبالغون أحيانا ، يبتسمون ثم يتمددون ، يستسلمون لنوم خفيف .

آه ! يا صاح ، الأيام تتكرر رتيبة ، أصداء الأحزان تملأ العيون ، تدرك لحظتها ، و بحدسك الطفولي ، أنك تسير نحو الانزواء ، و بألمك يولد من الخوف ، تحاول أن تصمد ، أن تنسى كل شيء لكن تكتشف أن صورة هذه المدينة ، موشومة في ذاكرتك ، تحاول أن تنظر إلى برج ساعتها ، يصيبك الإحباط ، تشعر بالخيبة ، عقارب الساعة متوقفة ، أصابها الصدأ منذ وقت بعيد ، لم يعد للزمن قيمة ، القيمة في هذه المدينة لمن يدفع أكثر ، و يأخذ أكثر ، أنت الآن تعد أيامك الأخيرة ، وأنت أيتها المدينة تحتضرين في صمت ، فتأتي لوعتك حارقة ، تنتظرين فارسك الأخير على حين غرة ، حين يستسلم الغزاة الجدد إلى نوم وثير .

مدينة بلا روح ، أنهكتها مساحيق التجميل ، وفارقها المطر ، في أيام الطفولة ،كان المطر يأتي مبكرا ، جميلا ينهمر بمقدار ، ويمنحك الفرصة للعب ، لكي تبتل ، وحين تظهر الشمس تركض ، تلتمس دفئها ، وفي أماسي ليالي الخريف الطويلة ، تعود مبكرا إلى البيت ، تنتظر حكايات الجدة بشغف ، تحلم بالبطولة ، تضم ركبتيك الى صدرك تلتمس الدفء ، و الجدة تحكي ، تصارع النوم لتكمل الحكاية ، حكايات كثيرة ، لم تعرف نهايتها وحين تطلب من الجدة صباحا أن تكمل لك الحكاية ، تبتسم بمكر ، وتقول ، إذا حكيت نهارا فإن أبنائي يولدون صلعان ، كنت تقبل حجتها بصدر رحب ، وتنتظر المساء . سنوات طويلة انقضت ، لكن ذلك ظل موشوما في ذاكرتك ، كأنه حدث بالأمس .

في هذه المدينة ، تفر الدروب من أسمائها ، تبحث عن أسماء جديدة ، تحاول أن تغتسل من خطاياها ، فلا تجد غير خطايانا ، تتراجع ، تعجز عن التفكير ، تعود إلى ظلمتها ، تضيق ، تملأها الأشباح ، تنفرط أحلامها كحبات رمانة ، تعود فترضى بأسمائها ، تلك التي أطلقها البسطاء من الناس عليها .

أيتها المدينة، لتخرجي من قلبك كل هذه التفاهات ، لتطردي من ذاكرتك كل هذا الجراد الملون ، البرابرة الجدد يعدون الآن العدة ، لم يتركوا لك لحظة حميمية ، أني أراهم يتربصون بك على أطراف الشوارع ، ينتظرون لحظة الانقضاض، الانقضاض على ما تبقى منك ، عيونهم مليئة بالحقد و الطمع ، و أنت تغرقين في الهذيان كل طرق ألإحزان صارت تؤدي إليك ، وأنت تعيشين هذا الخراب ، أرى هذا الأسى يستوطن عينيك ، يكسر ما تبقى من أحلامك المجهدة ، و أنت تستسلمين ، أي حزن هذا يتمدد في صدرك ، نهارك كليلك ، فراغ في فراغ .

و أنت يا سندباد جزر المحار ، أي منفى ينتظرك ، أي إعصار يكشف قناعه لك ، ذاكرتك المثقوبة معضلتك ، أما آن لكلماتك أن تنفجر ، أن تؤسس تاريخا جديدا ، على الأقل تاريخك الفردي ، و أن تكشف سر هذا الحزن أن تعيد ترتيب ملامح وجه أمك ، التي رحلت ، قبل أن ترى قبح هذه المدينة ، أن ترى قبح الغزاة الجدد القادمين من وراء البحر . ذاكرتك يا سندباد الرحلات السبع، تحتاج إلى معاول ، لتسترجع طفولتك ، براءتك و تتذكر قبر أمك الذي نسيته . ما أقسى هذا الغياب ! و ما أقسى هذا الحضور .

الآن تتذكر ، صديق الطفولة ، حين كان يمازحك ، في هذه المدينة ، يا صاح ، إما أن تكون ثملا على الدوام أو تكون رياضيا ، و أنت لا هذا و لا ذاك ، تنغمس في سواد ذاتك ، أو ترتاح الى شتاتك هو ذا قدرك ، تتذكر البحر مرة أخرى ، تقول هو منبتي و جذوري ، تحاول أن تهرع إليه من جديد ، تسري قشعريرة في جسدك ، تنسى جوعك و عطشك ، تركض في الطرقات ، أنت لست ثملا ، لست رياضيا ، لذا كان الكتاب ملاذك الأخير ، تذكر فرحك الطفولي ، وأنت تتأبط كتاب النظرات ، كان المنفلوطي رفيقك الاول ، قبل أن تسكنك حكمة و صوفية جبران ... تنصت إلى همساته ، ... يكبر وعيك قليلا لتكتشف شيئا اسمه الشعر، تدرك في النهاية أن الشعراء يموتون مبكرا ، ولّما يكتبوا بعد قصائدهم الأخيرة ، فلسفة طرفة بن العبد ، كانت فلسفتك ، معاناة الشابي ، كانت معاناتك ، أمل السياب في العودة إلى جيكور ذات ضحى ، كان حلمك ، انتحار حاوي كان انتحارك ، الشعراء يا صاح ، فراشات لا تعمر طويلا ، تحترق لتمنحنا قليلا من النور ، كان المتنبي بطلك ، شاعرك الأثير ، في نفسك ، كنت تقول ، من حقه أن يكون نبيا ، أن يكون خير من تسعى به القدم ، الكتاب ملاذك الأخير لتنفض عن نفسك قبح هذه المدينة ، أن تجد لها صورة أخرى في قراءتك ، تتذكر قليلا كان بحر هيمينجواي بحرك ، و كان العجوز قدوتك ، شيخ ، عيناه كانتا في صفاء البحر ، ظل صامدا لم يستسلم ، لم يعترف بالهزيمة ، صراعه مع البحر ، هو صراعك أنت مع هذه المدينة ، أنت تدرك الآن أن الهزيمة تقترب ، و الغزاة الجدد ينتظرون سقوطك ، قاوم ، حاول أن تستعيد ذكرياتك ، و أنت مغمض العينين أن تشعل في دواخلك كتلا من المشاعر الملتهبة ، أن تزيل هذا القبح ، هذه المساحيق الرخيصة المستخلصة من بؤسنا، و أن تعرف من أي مكان جئت ، و أي سلالة جاءت بك إلى هذا العالم .

متى تشرق على هذه المدينة شمس جديدة ، لتطهر هذه الابتسامات ، و تبعث الدفء في العروق ، لكن ما أصعب الانتظار ! كم هو مر هذا الانتظار ! أنت عاشق هدته رحلة البحث عن معشوقته ، تحاول أن أخذ نفسا عميقا، أن تتمطى ، تندس في حلمك ، كما يندس الخيط في سم الإبرة ، تحس بالزمن يفقد توازنه يوشك على الانهيار، فتصمد ، أي أحلام طوباوية تجتاحك ، تبعدك عن هذه المدينة كلما اقتربت منها ، وتقربك كلما ابتعدت عنها ، تحولها إلى طيف ، إلى خيط دخان ، تحاول الإمساك بها ، فتخرج الآهات كأنها جمرات . مدينة ترتجف ، تنتفض ، كطائر مدبوح ، مجبرة على الخضوع ، هذه المدينة التي فتحت قلبها ذات يوم ، لجيمي هاندريكس ، اورسون ويلز ، ادونيس ... ها هي تمنح جسدها للغزاة الجدد ، للقادمين لمهرجانات الزيف ، للتائهين ، خليط من البشر ، خليط من القبح ، و في لحظة ما تتذكر المدن الجميلة التي زرتها ، فينتابك إحساس بالغبن ، فتستكين إلى نفسك ، تتمنى أن تصحو ذات يوم ، فتجد هذه المدينة قد عادت ثلاثين سنة إلى الوراء ، لتعيد ترتيب حلمها ...

الليل في هذه المدينة ملح ، يتهالك فرقها ، يرخي سدوله عليها ، يتكرر بشكل رتيب ، يتضخم ، تحس به ثقيلا على صدرك ، يتناهى إلى سمعك صوت الريح ، كأنه يطارد ما تبقى من أحلامك ، الليل و الفراغ يشعرانك بالوحدة ، تنظر إلى سقف الحجرة ، يبدو لك بعيدا ، تتذكر العار الذي لحق هذه المدينة ، تسائل نفسك ، هل تواصل السير أم تنزل في المنتصف الطريق لتعيش هذه التغريبة ، تتذكر تغريبة بني هلال ، رحلتهم الطويلة أبو زيد الهلالي ، الجازية ، دياب ، استنفروا الهمم و الرجال ، من العراق إلى سوريا ثم مصر حتى تونس من أجل تحرير ثلاثة أسرى ، شهور طويلة من الجوع و العطش و الحروب ، أي إباء هذا ، و أنت ترى في هذه المدينة الآلاف من الأسرى و المنبوذين ، في حاجة لمن يحررهم ، وجوه أعياها الذل و الانتظار ، و أنت يا فارس هذه المدينة ، لم يتركوا لك الاختيار ، لتخرج سيفك من غمده ، لتجعله يتنفس هواء الدنيا ، لتجعله يسمع صهيل الخيول ، و صليل السيوف ، و أنين الجرحى ، ليدرك أنه لازال حيا ، تتطلع مرة أخرى الى سقف الغرفة ، تلصق وجهك بزجاج النافذة ، الشارع خال من المارة ، فقط بعض السكارى يترنحون ، يحملون قنينات الخمر الرخيص ، تصلك قهقهاتهم ، يسبون بعضهم ثم يتعانقون ، يجلسون على الطوار ، يشتمون النائمين ، تعود إلى فراشك ، تتثاءب ، يبدو لك عمرك غيمة شاردة ، أو نكتة بلهاء ، ترنو قليلا إلى الصور المعلقة على الجدار ، تشي غيفارا ، عبد الكريم الخطابي ، غارسيا لوركا... تدرك أن الاشجا ر الناضجة تكون هدفا للرشق ، تستلقي تحاول أن تستجدي النوم ، يذهب سعيك سدى ، تفكر في أن تشغل قارئ الأقراص تمد يدك بصوبة ، تبحث عن أغان لجاك بريل ، تفكر في النوم مرة أخرى ، ثم تسحب الغطاء و تغمض عينيك مستسلما للنوم.

مدينة مخنوقة الأنفاس ، كأن على صدرها يجثم حجر هائل ، تحاول أن تزيحه ، تصحو من نومك تحاول أن تنظر إلى المرآة ، تخاف أن يفضحك حنينك ، أو ربما ترى في نفسك واحدا من شعراء الصعاليك ، تبتسم في قرارة ذاتك ، تتتذكر قولة صديقك ، في هذه المدينة إما أن تكون ثملا على الدوام أو تكون ممارسا للرياضة و أنت تقول في هذه المدينة إما تكون شاعرا أو مجنونا ، تأتيك الرغبة في الكتابة ، فتختلط عليك الحروف شريط الذكريات يمر أمام عينيك كتحية العجلان ، و تكتشف أن العمر يسرقك ، لماذا لا تكتب و لو قصيدة واحدة ، تؤرخ للوعتك ، لوعة هذه المدينة ، ألم يكتب إبن زريق البغدادي قصيدة وحيدة ، حين ضاق به الوطن راحلا عن بغداد ، مستودعا فيها قمرا ، و أنت ألم تضيق بك هذه المدينة ، ألم تترك فيها أحلامك و صباك ، أليس الشعر غربة في الذات و الوطن ؟ فما قيمة الذات و الوطن بلا شعر ! بل ما قيمة الحياة كلها بلا شعر ، الشعر يا صاح ملح طعامنا ، همنا اليومي ، سلاحنا لمحاربة هذا القبح ، لبناء عوالم لا ندركها في الواقع بل إن الشعر يؤسس ما تعجز عنه أحلامنا ، فكن شاعر هذه المدينة ، أو مجنونها ، ففي الجنون بعض الحكمة ، بالجنون قد و تفعل ما تريد ، أو تقول ما تشاء ، لا أحد يحاسبك خصوصا هؤلاء البرابرة الجدد ، و نحن صغار كنا نجالس هؤلاء المجانين – الحكماء – لازلت أذكر أحدهم كأن ذلك حدث بالأمس ، سؤالا واحدا كنا نطرحه عليه ، بشحال خسر المغرب ؟ جوابا واحدا كان يتكرر ، سبعة لزيرو ، كنا نبتسم و نواصل سيرنا ، حصة الأهداف لا تتغير ، بعد سنوات طويلة ، أدركنا أنه كان محقا ، هزائمنا توالت ، إخفاقاتنا لازالت مستمرة . و لا زلنا نشرب من معينها إلى اليوم .

هذه الضلوع التي تحملها بين جوانحك تحتر ق ، تنقطع شهيتك على فعل أي شيء ، تحس كأن أحدا يريد

أن يقتلعك من جذورك ، ويؤسس لنفسك نقطا و فواصل ، و أنت و حدك تحلم بسلالات جديدة ، تطهر هذا العالم ، سلالات تنتمي إلى بوشكين ، و أمل دنقل ، طاغور ، لوركا ، معين بسيسو.. لتكتشف في النهاية أن الحزن حلمنا الأبدي ، و أن إبداعنا العميق هو هذا الحزن الجميل . تنظر الآن إلى الشمس و هي تنطفئ في الأفق ا رويدا رويدا ، تستسلم للبحر ، في ردائها تعانق الشفق ، تتمنى أن تحملها كما حمل سيزيف على عاتقه صخرته ، لتعيد إليها توهجها ، ليقول عنك الرواة كلاما جميلا ، لكن طعنات الغزاة الجدد تغتال هذه الأحلام ، و أنت في منفاك ، في قلعتك تلوك الماضي ، تسترجع نظرات الفقراء ، الفصل الضائع من حياتك ، تفتح جرحك للريح ، تبحث عن أشلاء قصيدة ضاعت منك ، عن مناديل بيضاء تلوح لك في هذه اللجج ، من دواخلك تصعد تنهيدة حرى ، و تستسلم لماء العيون . ماذا يحدث الآن في هذه المدينة، يا صاح ، هل مفروض عليك أن تصمت هذا الصمت ، ألا تصرخ ألف صراخ هل تريد أن تنسحب وحدك ، هل ما تبقى من العمر يكفي لتزيل هذا القبح ، تلك هي حياتك ، دروب متقطعة ، و الرحيل يسكن ذاتك ، أنت تعترف بذلك ، لكن تؤمن أن الشمس قد تبزغ ذات يوم من صخر هذه المدينة ، و أن القمر ليس بهذا البعد ، و أن البحر ليس بهذا الحزن الذي يتراءى لك ، لكن مع نفسك تقول دائما ، يلعن أبو هذا الزمن ، و أنت تتدحرج بين دروب هذه المدينة ككرة شاردة ، غصة في حلقك و أنت ترى الأشياء الجميلة للقبح ، و أصبحت معلقة بين القلب و الذاكرة ، تعيش وسط العتمة ، تنتظر بصيص نور عّله يشرق من قداسة هذا الصمت أو من سواد هذا الفراغ. مدينة تلتحف السراب ، أيامها كأيام الجنود العائدين من القتال ، بياضها مشرع على البحر ، البحر الذي قدم منه جميع الغزاة في الماضي ، مدينة كانت هدفا للقصف ، لغارات القراصنة ، أما الغزاة الجدد لم يأتوا من البحر هذه المرة ، بل جاءوا من البر ، جاءوا نهارا ، استقبلوا بحفاوة ، كل أبواب المدينة فتحت لهم ، بما في ذلك باب البحر ، لم يكونوا ممتشقين سيوف القراصنة ، أو مدافع بونابرت ، بل يمتطون السيارات الفاخرة ، يدخلون المدينة آمنين ، يبتسمون للبسطاء ، يرفعون شارات نصر ، وأنت تقر باستسلامك  ماذا تبقى من ذاكرتك الآن ، غير ذاكرة مثقلة بأحلام الطفولة ، و أوشام حفرت في قلبك أحزانا لا تمحى ، و جسد اكتشف البحر في طفولة مبكرة ، فظلت رائحته عالقة بك ، أصبح البحر زنزانتك ، و هذه المدينة سجانك ، الحارس يا صاح يغلق الباب في وجهك بعنف ، و موتك قد يأتي فجأة كالمطر الاستوائي ، و أنت في قمة سقوطك في سديم الزنزانة تبحث عن قلبك ، تتلمس الأرض تجمعه كحبات القمح ، و تحاول إعادة تشكيله في هذا الظلام أن تعطيه شكلا لكي يتسع لأحزانك و أحلامك ، تتعود على ممارسة الحلم ، تتمنى لو تقطف القمر كما كنت تقطف في صباك شقائق النعمان ، تحس ببرد المساء يسري في جسدك ، و قطرات من العرق تنز منك ، تنهمر  العبرات من مقلتيك ، تتركها تنساب على وجنتيك ، تفتح في قلبك ممرات حالكة ، و تحس ببقايا ضوء يتلاشى من زنزانتك ، تفكر بدانكو أحد أبطال روايات مكسيم غوركي حين نزغ قلبه و وضعه فوق رأسه لينير الطريق لشعبه ، و أنت تصر مع نفسك ، انك مادمت ولت هنا ، فأنت لست لاجئا ، لكن ياصاح هل معنى ذلك أن هذه المدينة التي ولدت فيها هي وطنك ؟ أليست في الحقيقة هي منفاك ! و هؤلاء الغزاة الجدد يتناسلون ليعيدوا من جديد كتابة تاريخك ، وأنت عندما تسأل أستاذ التاريخ في وطنك عن هذه المدينة ، تتراجع مفزوعا ، افتراء و كذب ، تاريخ مزيف يحفر في ذاكرتك قيعان مظلمة . الوطن يا صاح هو اغترابك ، هو العودة إلى ذاتك ،

الوطن هو الحقيقة . حقيقة وجودك .الآن تتمنى لو فقدت ذاكرتك ، لترى هذه المدينة ، كما كنت تراها في طفولتك ، و تعود إلى الأماكن التي كنت ترتادها ، الأحداث و الوقائع التي عشتها لا زالت في ثنايا ذاكرتك ، لكن في رأسك بحر تتلاطم امواجه ،و أحلامك تنكسر على صخوره ، فتسمع لها صدى في أعماقك .

الرؤية الثانية - 2

سأكون حزينا إذا ما علمت أن مسرحياتي ستمثل بعد عشرين عاما ، فهذا يعني أن المجتمع الذي عملت على تغييره لم يتغير .

برتولت بريخت

ما أعجب هذه الذاكرة ، هذا القانون الذي يحكمها ، ذكريات كثيرة قصت مثلما تقص أجنحة طائر وقع في الأسر ، انمحت كما يمحو البحر في مدّه ما خططناه على الرمل ، أحداث أخرى وقعت لك لا تستطيع أن تذكرها بتفاصيلها ، أوهام تصر على أنها وقعت لك بالفعل ، و تسردها بيقين ، هكذا أنت ، و هذه ذاكرتك ، الوقائع لا زالت لكنها تتشابك مثلما تتشابك الطرق و تمتد ، و عليك أن تبحث في متاهاتها عن حقيقة وجودك . عن حقيقة وجود هذه المدينة .

 في الوجود عنصران لا ثالث لها ، الجمال و الحق ، الجمال في قلوب المحبين ، و الحق في سواعد الذين يحرثون الأرض ، هذا ما قاله جبران خليل جبران يوما ما ، و أنت ماذا تقول ؟ في هذه المدينة عنصران لا ثالث لهما ، القبح القادم مع الغزاة الجدد ، قبح يولد مع كل إشراقة شمس ، و الباطل الذي يسكن قرارة هؤلاء و يوزع مع كل ابتسامة خبيثة ، و أنت أحيانا تبتسم ، لكنها ابتسامة حارقة مثلما يحترق الإسفلت في يوم صيفي حار .

المقاهي في هذه المدينة تتناسل ، كافي دو فرانس – مقهى فرنسا - الذي تعودت الجلوس فيه منذ سنوات لم يتغير كثيرا ، الطاولات القديمة ، و الكراسي المتهالكة ، تغير زبناءها كما تغير المطارات مسافريها ، النادل لا يأتي إليك ، لأنه يعرف عادتك ، يسرع إلى زبائن أخر جاءوا بعدك ، يوزع ابتسامته الباهتة على زبائن المقهى ، يعرف أنك ستطلب قهوة سوداء سواد هذا الإسفلت تحت قدميك يضع النادل أمامك قهوة سوداء ، لا ينظر إليك ، لأنه تعود على وجهك من كثرة ترددك ، من كأسك ترتشف جرعات بمرارة ، في حلقك تحس بها كأنها علقم . يصلك ضجيج المقهى ، ضجيج الشارع ، تحدق في الوجوه، تكلم نفسك ، كأن مس من الجنون ركبك ، قوافل المدحورين تسير أمامك ، نظرات المارة تخترق  جسدك ، ذكرياتك في هذا المقهى مرت مثل نيزك أمام عينيك ، أناس كثيرون مروا من هنا و أنت  أمام المصير ذاته ، أناس يولدون ، يكبرون ، يتزوجون ، ثم ينجبون فيموتون ، آه يا صاح من جسد  طفولي ينضح بالحياة إلى شيخ هرم ثم إلى جثة هامدة ، الموت نهايتك ، تتساءل هل أدرك الموت يوما فقد أبيه ، من أعطى للموت هذا الإسم ، أنت لا تستطيع أن تجيب ، فقط عليك أن تِؤجل موتك قليلا لتعيد لهذه المدينة حياتها ، القهوة لا تزال أمامك ، تنظر إلى مستوى السائل الأسود في كأسك ، يطول  صمتك ، تكتفي بهز رأسك ، لهذا المقهى في نفسك نكهة خاصة ، كتاب و مبدعون ترددوا على هذا المكان .

في هذا المكان بدأوا مشروع رواياتهم عن هذه المدينة ، محمد زفزاف في روايتيه الأفعى و البحر ، ثم  الثعلب الذي يظهر و يختفي ، إدمون عمران المليح في أيلان أ و ليل الحكي ...تشير للنادل ، يأتي هذه المرة مسرعا ، تترك ثمن القهوة على الطاولة و تنسحب في هدوء ، و بخطواتك الوئيدة تتيه في الزحام أمواج من البشر يتيهون في شوارع المدينة ، و أنت تتفرق بك السبل التي تشبه أحلامك ، أين تسير ، إلى أين مرفئك ؟ الربيع و الخريف عندك سيان ، بين عينيك تتوالى صور من جراح الماضي و أنت تسير شاردا مثل الريح ، غامضا غموض كتابات جان بول سارتر ، أحيانا تود أن تتجول في هذه الأزقة التي تلفها العتمة ، أن تتوغل في أعماقها ، رائحة البول و العفن تغزو أنفك ، تتوقف ، و بحدسك تقول : أشياء

كثيرة تجري وراء هذه الأبواب ، أشياء لا يستطيع الشيطان نفسه أن يفعلها ، لو عرضتها عليه لتبرأ منها ، تبتسم في قرارة نفسك ثم تواصل سيرك ، الأزقة تزداد أحيانا ضيقا ، لا تكاد تتسع لشخصين  تصلك بين الفينة و الأخرى القهقهات من وراء النوافذ الواطئة ، و أحيانا أخرى تتوارد إلى سمعك كلمات ساقطة تصيبك بعدوى الضحك ، تأخذ زقاقا منعرجا يفضي بك إلى الساحة الواسعة و أنت غير مكترث بعيون المارة . في الساحة الواسعة يغمر ضوء الشمس عينيك ، تنظر قليلا إلى السماء ، بقع رمادية هنا و هناك ، فتحس بالدم الدافئ يسري في عروقك ، فتتوقف ، في حين يندفع المارة كأن أحد يطاردهم .هذه المدينة اغتيلت كما اغتيلت الكثير من أحلامك ، و أشجار كثيرة اقتلعت ، لم يعد لها أي أثر، مساحات خضراء تحولت إلى فضاءات مبلطة جرداء لمهرجانات الزيف و الرقص الرخيص ، فضاءات لجيل لا يحسن سوى تحريك الأرداف ، و حتى العصافير التي تعودت عليها رحلت ، بعدما لم تجد لها مكانا تعشعش فيه ، اختفت وشوشاتها ، بعيونك الظامئة تنظر حواليك ، ينتابك احساس من فقد حبيب فجأة دون أن يودعه ، يجيش فؤادك بالحنين إلى الأيام الخوالي ، تتنهد بحرقة لحاضر هذه المدينة الذي يجثم على صدرك ، أما مستقبلها سحابة سوداء طافحة باليأس و الحزن و الغموض ، سحابة تتسلل في غفلة منا ومن الزمن الموبوء إلى دواخلنا .

الفراغ بينك و بين هذه المدينة يتسع و يطول كليل خريفي ، و أنت تسير تناجي نفسك ، و تسائل هذه المدينة .

— ماذا أستطيع أن أفعل من أجلك يا سيدتي ؟

— لا شيء سوى أن ترحل عن هذه المدينة

— أرى الجراح توغل في مساحات جسدك ، و نحن أطفالك ، وهذا الزمن الداعر يغتالك .

— للإغتيال الغادر طعم الحياة ، و البحر وحده سيكتب سيرتي .

— السهم الذي أتاك من الخلف سيأتيني من ألف خلف .

— سوف أهد الجدران ، و أجتاح كل المتاهات التي بدت لك و لي وهما ...

— إذن لنؤجل كلامنا حتى ينام الغزاة الجدد .

— فتوسد حلمك الآن و هات البحر معك .

— البحر الآن في مده يا سيدتي

— من المد تولد الأشياء .

— و من الجزر

— من الجزر يولد انكساري و انكسارك

حين تنتبه لنفسك ، تجد خطواتك سريعة ، و أن المدينة أصبحت وراءك ، و البحر لا زال في حالة مّد جسد المدينة المغتال يبدو لك من بعيد ، و دم قـان ينساب نحو البحر ، تدرك أن هذا الدم هو حبرك الجديد ، هو مدادك الذي ستكتب به سيرة هذه المدينة ، سيرة انكسارات تتكرر بفداحة .

.سيرة هذه المدينة تتراءى لك منقوشة على جسد البحر ، صفحاتها مدونة في ثنايا موجه ، صفحات

أخرى مهملة كما يهمل الأثاث القديم ، يؤرقك ذلك ، تحاول أن تعيد هذه الصفحات إلى مكانها ، المد لا يترك لك الفرصة ، تخشى عليها من الضياع ، من البلل ، حقائق كثيرة ستضيع ، الرياح تزيد من من احمرار البحر ، الموج يسحب هذه الصفحات نحو القعر ، تحاول أن تتحايل على الموج ، لكنه يصدك بقوة ، قشعريرة العجز تهز كيانك ، معركة بينك و بين البحر ، بين الحقيقة و التاريخ المزيف ، صفحات من سيرة هذه المدينة تضيع ، يغتالها البحر ، البحر لم يكتب هذه السيرة كما كنت تظن مع نفسك، صفحات من تاريخ هؤلاء الغرباء ، المنبوذين ، صعاليك هذه المدينة ، شرفائها ...هؤلاء المنفيين كل الذين قتلوا غدرا ، طعنا في ظهورهم ، البحر ينتصر على تاريخ هذه المدينة ، يلتهمه ، كما تلتهم العناكب الحشرات الصغيرة ، تحاول أن تصرخ ، يخرج صوتك مكتوما كأنك في بئر عميق ، تكتشف أن التاريخ مسرحية هزلية ، المخرج اغتيل ، الخشبة دون أضواء ، أبطالها هؤلاء البرابرة الجدد ، و نحن نشاهد العرض ببلادة . تعايش الآن الفصل الأخير و أنت لا خيار لك سوى أن تتمم هذه المسرحية حتى النهاية ، لكن عليك أن تبقى صامدا صمود تضاريس و طنك ، بلا بندقية ، سلاحك الوحيد أشياءك الصغيرة ، و عليك في النهاية أن تنهي هذه المهزلة .

ها أنت محاصر داخل نفسك ، داخل هذه المدينة ، هل حان الوقت لتعود إلى موتك ، أم تتجرع كأس الحزن حتى الثمالة ، إنها نهاية هذه المدينة ، كل الدلائل تشير إلى ذلك ، القبح ، الضجيج ، التيه ،

الناس لا يكفون على المجيء و الذهاب دون سبب ، الأحلام تتلاشى و تغرق في الملل ، المتاهات تقذف بك نحو البحر ، نحو هذه الجزيرة ، التي تتربع على المحيط كحارس يقظ نسي نفسه منذ قرون ، الحرب انتهت ، و الريح تعد أيامه ، الريح في هذه المدينة تهرول لاهتة ، تجري في كل الإتجاهات و حبيبات الرمال تندفع ، تباغتك ، تحس بها تلفح جسدك ، تتسلل إلى حلقك جافة ، طيور النوارس لا تعترف بالريح ، بل تطير عاليا ، عيونها حافلة بالحزن ، الفضاء يضج بصراخها الحاد ، اصـطفاق اجنحتها يطن في أذنيك ، ملاذها الوحيد هذه الجزيرة ، المملوءة بالأشباح و الشياطين ، و المحارات الفارغة ، و الصمت .

الصمت جزء من ذاكرة هذه المدينة ، جزء من تاريخها ، الصمت يجري في عروقها كما تسري الخمرة في الجسد ، مدينة وضعت على الهامش ، لفّها النسيان لعقود طويلة ، الآن يا صاح يتحول الصمت إلى ضجيج ، و النسيان إلى بهرجة رخيصة ، مواخير العالم تتناسل هنا و هناك ، براءة هذه المدينة تدوسها سنابك خيول الغزاة الجدد ، تتحول إلى ملجأ للغربان و الجرذان ، تنهش جسمها الطفولي ، آه يا صاح كيف نعود إلى حكايات هذه المدينة القديمة ؟ كيف نعود إلى هذه البراءة التي تسكن دواخلنا ؟ و المدينة تباع بابتسامة رخيصة ، و الأحداث تتعاقب بسرعة ، و أنت وحدك تسبح في هذه الفضاء الواسع من الهذيان ، لا لون لك و لا طعم ، الأشياء فقط تغيرت في عينيك ، لكن لا تريد أن تصدق هذه الحقيقة ، لكن عن أي حقيقة يتحدثون ؟ هل الحقيقة أن تقبل هذا التاريخ المعلب ؟ أن تكون لاجئا في وطنك ؟ أن يوضع سكينا حادا على عنقك لتعترف بها ، الحقيقة ليست صخرة صماء إنها بكل بساطة هويتك عندما يؤنبك ضميرك في لحظة صفاء صادقة .

أنت الآن تقتنع بلا بجدوى الأيام القادمة ، و تقتنع بأن حبك لهذه المدينة وهم في وهم ، وأن شهادة ميلادك لم تعد لها قيمة ، لا يهم أين ولدت ، و أين ستموت ، و قد يدركك الموت في زمانين مختلفين أو ربما في مكانين مختلفين ، عندها تعرف أن الموت أكثر رأفة من إخوة يوسف ، لأنه حق ، لم يتنكر لك ، لم يلق بك في غيابات الجب كما فعل إخوة يوسف ، موتك اعتراف بوجودك ، لكن بين رحم أمك الذي أسلمك إلى هذه المدينة و موتك بعيد ا عنها تكمن مأساتك ، تدرك كم هو مّر هذا الفرق بين الحضور و الغياب ، بين أن تكون و لا تكون ، بل حين تفلسف الأشياء تتساءل ما الفرق بين البندقـيـة و الغزالة . ما الفرق عندما تفرح في لحظات قليلة ثم تكتشف فجأة أن هذا الفرح يخونك .

وسط العتمة ، مشحونا بالخوف ، يأتي صوتك مفعما ببكاء داخلي ، بكاء يشبه صوت الحادي يسير في مفازة لا حدود لها ، و الحادي محملا باللوعة و الشكوى ، و حنينه كعشق من ينتظر زورقا لم يعد بعد ، و البحر هائج ، و الرياح تأتي من الجهات الأربع ، ترنو أمامك تكتشف أن البحر هو البحر ، و أن البر هو البر ، تسبح في جراحك من جديد ، تسير بخطى و ئيدة ، كأنك تطأ أراض ملغومة ، تحاول أن تحلم ، تستنجد بخيالك ، لكن هدير البحر يسيطر على مجامع قلبك ، فتفزع من حلمك ، هؤلاء العابرون يسيرون على الشاطئ بلا ظلال ، بلا وجوه ، فتتناسل في ذهنك وجوه كثيرة ، وجوه

قاتمة سوداء تسير نحو مصيرها ، وجوه بيضاء كأنها مصابة بالبرص ، وجوه منهكة ... تسترجع كل الوجوه التي تعرفها ، ثم وجه هذه المدينة الذي ينسل من بين هامات عديدة ليغسل ملامحه في البحر ، للبحر نفسه وجوه كثيرة ، حين يغضب و يهيج يمسح قبح هذه المدينة« .. في منتصف ليلة الخامـس عشر من ذي القعدة عام 1355 ارسـلت السماء مدرارا ... و هاج البحـر و تلاطمت أمواجه ثم تدفقت و أتت على براريك البلاية و أفسدت بعض المقهي ... و اتلفت معدات ... و أسقطت جدارين ...و بعض مخازن الزرع و الماشية . .و في صباح يوم الجمعة ... أقلعت الأمطار و سكن البحر» ً1 . هذا هو بحرك أيتها المدينة حين يغضب ، أيها الأطلسي ، يا بحر الظلمات ، أعطيني و لو قليلا من غضبك ، فقط ذرة من جبروتك ، لنغرق كل هذا القبح في قرارك . أيها البحر لماذا لا تتقدم الآن نحونا ، نحو هذه المدينة ؟ لتزيل في لحظة ، كل هذه البشاعة و الأوهام و هذا اليأس و هذا الهواء الفاسد .

الأيام هنا لا تتشابه ، كل يوم لا يشبه الآخر ، و أمزجة الناس تختلف من يوم لآخر ، مثل البحر و رياح الشرقي ، لا تستقر على حال ، هذا الاضطراب يفرض قوانينه على الطبيعة ،و البشر ، هذا التحول يولد الخوف و الحذر ، لكنه في نفس الوقت يدفع إلى الرغبة في السفر إلى الآفاق البعيدة ، أحيانا أخرى يفضي إلى الصمت و الإنزواء و الاستسلام ، و تأمل أمواج المحيط و هي تداعب حبات الرمال بدعة أحيانا ، و أحيانا أخرى بعنف . نهارات هذه المدينة المـجهدة تدفعك غالى التثاءب ، و الاستسلام للنوم العميق ، أو أن تستسلم غارقا في أحلام يقظة بعيدة ، منصهر ا في ذاتك ، متمتيا أن يخرج جسدك من جسدك لينصهر حتى الذوبان في ظلمة هذا البحر ، أن يعانق نورسا من هذه النوارس الراحلة نحو الشفق ، و الشفق نار طرزته المساءات بخمائل الأصيل ، يا صاح ، هذ ا الجسد الممزق المشروخ ، مشرع بين المد و المدى ، موزع بين نافذتين ، واحدة لقصص غيلان البحر ، و الأخرى

لسديم ذاتك المتعبة ، تحاول سدى أن تقبض على موجة واحدة من أمواج البحر فتنفلت من بين أصابعك ، تراقبها و هي متعبة قبل أن تصل إلى يديك ، كأنك تطارد خيط دخان ، و أن المكان أمامك يتلاشى ، كان الوقت ظهيرة ، والسماء فوقك قبة ، و عواء البحر يأتيك باهتا كأنه صاعد من أعماق بئر مهجورة ، صوت يحرك فيك أشجان الأيام الخوالي ، قلق الإنتظارات ، عواصف من اليأس ، تكتم شكواك ، هياكل بشرية تمر أمامك كأنها أنقاض ، أصواتهم متشابهة ، خطواتهم رتيبة ، لها صدى على هذا الإسفلت المحفور ، تصيح في أعماقك ، من يحمي هذا البحر ؟ يأتيك الجواب مفعما بهواء الموج :

البحر أمامك ، و الغزاة الجدد و راءك ، و الله ليس لك إلا أحلامك . تصرخ هذه المرة بأعلى صوتك :

— أيها البحر ! ماذا دهاك ، أنت ملاذي الأخير ، أنت أرحم من الغزاة الجدد .

— هات قلبك لأرى إن كنت حيّا أم قتيلا .

— أنا أمامك الآن ، أنا حي ما دمت أحلم .

— الحلم جنون

— وفي الجنون ، يا بحر ، بعض الحكمة

      و بعض الجراح أيضا .

قريبا من البحر ، تبحث عن أولك ، عن توقك لهذه المدينة ، عن عشقك لها ، تكتشف أن الحب مثل اللهب ، لا يمكن اخفاؤه ، ما فتئ يظهر ثم يأتي على كل شيء ، و حبك لهذه المدينة عليه أن ينطلق من البداية ، من عريها لتراها على حقيقتها ، ثم لتدرك هذا الحبل السري الذي يربطك بها ، حبل يعبق برائحة البحر و الشجر ، لكن أنى لك ذلك ، كل شيء يدور بسرعة مثل رحى لا تتوقف ، تدور بحزن ، تصدر صوتا مثل النحيب ، و الأشياء الجميلة التي كانت تروق لك تبدو أمامك الآن أكثر شحوبا ، تتسع المسافة بينك و بينها ، تركبك سفن الهم ، تبحر لتطفئ حرائق حنينك ، تبحث عن مرفإ

لا تطوله المواجع و الأحزان ، مرفأ يحوك من حزنك سلما للفرح المفقود ، و يغتزل من الموج حكايات تزهر مع ميلاد عصفررة برية ، و الليل الكحلي يمنحك بعضا من أسراره ، و يمسح عنك جراحا بحجم الوطن .

ها أنت الآن تشرع نوافذك للنسيان ، تسير نحو السقوط مثل نورس مكسور الجناح ، يبزغ اليأس في متاهات الروح ، تبحث في جسدك عن كوة للفرح المنسي ، فلا تجد غير غمامة حزن تجثم على قلبك ، و بعض أسرار ، تسير على غير هدى ، تطالعك من جديد هذه الوجوه ، شيوخ يحدثون أنفسهم يقتعدون الرصيف ، أطفال يتأبطون دفاترهم الممزقة ، يهرولون نحو مدارسهم ، بائعات الهوى تعرفهن من عيونهن ، فقراء كادحون... ، تتوقف ، تجول ببصرك من الأفق إلى الأفق ، ينفلت صوتك من عقاله دون صدى ، تهفو إلى صمتك ، فلا تجد غير الفراغ . ضوء الشمس الذي بدأ يخفت ، و بقايا سحب تزحف نحو الأفق تزيد من حزنك . و أنت لا تزال تلاحق نفسك ، تستبد بك الظنون و الأوهام

الفضاءات الرحبة تبدو لك ضيقة ، كل شيء بنيته في أحلامك تهدم ، قدماك تقودك حيث لا تدري ، أيامك تتساقط مثل أوراق الخريف ، و هذه النهارات التي لا تتشابه واقفة ، تتفرج ، تشهد على تيهك ، تفصلك عن ماضيك ، تحس بالإغتراب كأنك خارج من رحم التوابيت ، أو أن أرض يبياب لفظتك ، لا

تدري من أين أتيت ؟ ما هذه الحرائق التي تتناسل داخلك ؟ هذه الحروف التي تنخر ذاتك ؟ و أي أغنية ستطفئ لواعجك ؟ و أي قصيدة ستجمع شتاتك ؟ .

الأيام و الليالي تتوالى بطعم اليأس ، تحرق ما تبقى من أعصابك ، تتسلل من شقوق ثنايا ذاكرتك ، قساوة اللحظة تزيد من مأساتك ، تبدو لك هذه اللحظات كلوحة تشكيلية غامضة ، تستعصي على الفهم

و أنت تحمل من الهم سلال ، تتأرجح بين رائحة الوجد و رائحة الاغتراب ، أمامك تنفتح سراديب لا نهاية لها ، مظلمة ، و قنديلك أمسى بلا فتيل ، و أنت وحدك ، شعاع واحد يكفيك ، لكن شمسك غائبة وحزنك بعمق البحار ، يفتح في قلبك دروبا موصدة ، يتضاعف هذا الكمد بين جوانحك ، متشحا بالغربة كصوت ناي حزين و أنت تسير ، الأرض تميد من تحت قدميك ، ترصد خطواتك ، تصيح أيتها الأرض أين نشيدك ؟ أين الطريق إلى قلبك ؟ من باطن الأرض يأتيك عويلها ، همهماتها ، أصوات غريبة تدرك أن حزن الأرض أكبر من حزنك ، و أيامك تمر مثل الشهب الصغيرة ، و أنت تبحر في أمواج من الوهم ، الزمن يهرب منك ، الكلمات تتوقف في حلقك ، و الحروف تخرج يتيمة ، تتوحد ثم تصير سحبا ، تزهر في عينيك ، يراودك الدمع ، تقاوم ، تقرأ في كفيك أحوال الطقس القادمة ، مطر ثم مطر، يغسل الفصول و الدواخل . ويبشر أن قلبك أيتها المدينة لا يزال يدق .

مسكون بحمى هذه المدينة ، الأوهام التي تسكن رأسك تعتقدها حقيقة ، و العالم أمامك ينهار ببطء

و الدموع من الأحداق تسيل بعسر ، تحفر أخاديد في جدار هذه المدينة ، تجعلها في دوامة عاتية ، لتغيب الحقيقة ، إن تزييف التاريخ هو محاربة الحقيقة ، في هذه المدينة يغيب التاريخ كما تغيب الحقيقة ، فترى المدينة تستكين إلى نفسها كما يستكين عصفور أفلت من رشق حجارة طائشة ، أو تمور من تحت أقدامك ، و تكشف عن عروقها النازفة ، فيبدو لك الجرح جميلا رغم هذا النزيف ، رغم هذه الأنفاس التي تتساقط كما تنفلت حبات العقد المنضود ، من هذا الحزن يجب أن يولد جمال هذه المدينة ، جمال ليس في حاجة إلى مساحيق أو أدوات التجميل .

آه ! يا سندباد جرر المحار ، منذ متى لم تغمس قدميك في موجات هذا البحر ، منذ متى لم يلتصق زبده بأصابعك ، لتكتشف هذا الحزن ، حزنكما معا.....

الرؤيةالثالثة - 3 -

ليست حكمة العصور وحدها هي ما يسري

فينا ، بل إن جنون هذه العصور ليسري

فينا بالمثل ، ما أخطر أن تكون وريثا .

نيتشه

أي إحساس ينتابك الآن ؟ و أنت تدرك في قرارة نفسك أن كـل شيء تـخلى عنك فجـأة ، البحر الأرض ، الأشجار ، الرفاق ... تقرر مـع نفسك أن تلعب لعبة الوهم ، فتتخيل أشياء كثيرة ، أحيانا مرعبة ، أحيانا أخرى تعود بك الذاكرة إلى الأيام الخوالي ، فتغمض عينيك تقفز أمامك صورة وجه أبيك بجبينه العريض ، و عينين في صفاء البحر ، مرارا كان يردد أمامك « الدنيا بنت الكلب لا تثق فيها إنها مثل لعب الورق ، كل ما جاءك دون طمع » كان دائما يردد ذلك لم أكن أدرك مغزى كلامه كنت أوافقه بطأطأة رأسي ، وهو لم يكن يعرف ما يجول في ذهني ، اليوم حين أتذكر ذلك ألوم نفسي وأ حزن مرات عديدة ، حين أفتح عيني من جديد أحاول أن أتعود على الضوء ، آه ! يا سندباد القلاع المظلمة هل ذاكريك تحتفظ بكل ما حصل لك ؟ و حين تتذكر بعض ما وقع لك تقول مع نفسك : ليتني لم أفعل ، مرة أخرى لا تحس بأي ندم ، تدرك بعد ذلك أن المأساة هي ليس ما وقع لك ، بل ما سيحدث لك و لهذه المدينة قريبا ، بل في الساعات القادمة ، سنوات طويلة مرت ، و أنت لا زلت إلى اليوم بين الشك و اليقين ، و هذا التردد الذي يحز ثنايا القلب يجعلك تعتقد مع نفسك أنك على صواب و كل هؤلاء المنبوذين ، التائهين على خطأ ، أحيانا تعتقد أن خروجك من رحم أمك و اصطدامك ببرودة العالم أكبر خطأ ارتكبته زمنك غارق في سباته ، و الغيوم التي تعشقها تفوح منها رائحة الأحزان ، تنهمر كشلال جارف ، يدوس أحلامك الوردية ، أنفاسك نفسها حين تخرج من الصدر تتحول إلى سحب سوداء قاتمة ، و هذا الغروب الذي كان رائعا في ما مضى أصبح الآن غريبا مثلك ، فقد أسرار شفقه الأرجواني مثل جريح في حرب خاسرة ، لماذا هذا الغروب غدا عاريا كالليل، لماذا ينصرف تاركا تجاعيده في المحيط اللجي ؟ أي تنهيدة هاته يتردد صداها على أديم الماء ؟ أيها الغروب المـضرج الآن بحرقة السؤال ، لماذا تستكين لذاتك ؟ لماذا تنزوي في هذه العتمة التي تفصل بيني و بينك ؟ بالله أي غــروب أنت ؟ و أي شمس خجولة ستشرق غدا ؟ و هذه الطيور التي كانت ترقص كالفراشات و تبوح لك بأسرارها البسيطة ، لم تعد كذلك ، أصبحت لها عيون الخفافيش ، تقتات على ما تبقى من دمك أيها الغروب و أنت تستقر في قاع المحيط أي مصير ينتظرك ؟ و أي نهاية تنتظر هذه المدينة التي تحرسها منذ الآلاف السنين ؟ كم هو مؤلم هذا الـمصيـر مصيركما معا ! . كيف إذن أعيد ترتيب الأشياء ؟ لأمنحك أيها الغروب غروبا جديد ا يليق بزرقة البحر ، و أمنحك أيتها المدينة وجها طفو ليا و ضفائر بلون قوس قزح . آه يا سندباد القلاع البعيدة ! عوالم فسيحة و ساشعة تنغلق أمامك ، و أنت تتيه في همهماتك و ترنحاتك . هل ثمة شيء لا تستطيع فعله ؟ إذن لتفتح في ليل هذا الجدار كوة، ووزع على الذاهبين إلى حتفهم من أبناء هذه المدينة ما تبقى من أحلامك ، ما تبقى من هذه الحروف التي ماتت في قصائد المديح ، و استعر من ذاتك لغة أخرى طافحة بقاموس الرفض ، تخترق حروفها جدار الذاكرة ، و توقظ في نفسك شهية الكلام ، الكلام الذي أضرب فمك عنه منذ سنوات ، منذ غزا الجراد الملون هذه المدينة ، ما أقسى هذا الصمت يا صاح ! آه يا صاح كيف سيغدو هذا العالم ، هذا الوجود لو صمت الكل ؟ لو خلا العالم من هذه الأصوات إذن متى ترفع صوتك عاليا لتسمع صداه في عيون الآخرين . متى تعيد للريح هيبتها ، و لهذه المدينة طفولتها ، و أن تخضب ظفائرها بالحناء و القرنفل ، أنت لم تستنفذ طاقتك بعد ، و الجراد الملون ، و القاد م من كل الجهات ينام بعيون في نصف إغفاءة تشبه عيون الذئاب ، لكن لست وحيد ا ، وراءك أمة من المنبوذين و الفقراء و التائهين ينتظرون أن تخيط ثوبا جديدا ، حتى تعيد لهذه السنوات التي سرقت منك و منهم طفولتها و لونها ، و تعيد هذه الموسيقى السمجة أنوتثها ، و تقيم لأسراب العصافير التي غادرت أوكارها منذ سنوات عرسا الخبز ...أيتها المدينة فيك و منك تتوقد الشهوة و الحنين ، و لأنك منفاي و أتسلل كل صباح إلى عيونك ، و أغوص في شرايينك و لأنك وجعي و ضجري ، نبضي و سكوني احتمي فيك و أقرأ في مقلتيك كل هذا الصمت ، فهل لي يا سيدتي أن أبو ح لك بكل هذه الأسرار ، لا أريد أ ن أكبو هنا ألآن لأنه ليس لي ملاذ آخر إلا هذا الوطن . و أنا أريد أن أطفئ كل هذه الحرائق بيني و بينك ، أيتها المدينة أنت قبري لذا أقول لك إني أحبك .

 أيتها المدينة ، لا مكان لي في هذا العالم إلا فيك ، و إذا لم تكن لنا معا القدرة على أن نعيش ، لماذا لا نموت معا ، أو ليبحث كل منا على بدايته ، لكن علي أن أترك وصاياي لك.

أحيانا كثيرة أتساءل مع نفسي ، كيف لي أن أدرك ، أين يتوقف العقل ثم من أين يبدأ الجنون ؟ أليس الجنون خاصية إنسانية دون غـيره من الكائنات ، مادامت الـقدرة على تأمل الذات هي من نصيب الإنسان وحده ، و ما معنى أن تكون عاقلا ؟ هناك أمر واحد كما يقول نيتشه سيظل إدراكه مستحيلا إلى الأبد ألا وهو أن تكون عاقلا . و لغة الإبداع أليست شكلا من أنواع الجنون العذب ؟ فعند الحديث بها يرقص الإنسان فوق جميع الأشياء ، ثم أليس الجنون في هذه المدينة في عمقه نوعا من الاغتراب ، و النفي و العيش على الهامش ، أليس حياة هؤلاء المجانين المنبوذين هي فراغ في فراغ ، ألا تشعر مثل هؤلاء ، أن الحياة ، و أن هذا الواقع صمم لغيرك ، و أنه لا يمنحك و لا يستجيب لكل رغباتك .

 حسن لهبيل ، هكذا كان الصغار و الكبار ينادونه ، لا تثير فيه الكلمة أي إحساس بالغضب أو الإنتقام ، بل كان كثيرالإبتسام ، و الضحك في كثير من الأحيان ، كان نفسه لا يعرف لماذا يضحك ، متوسط القامة ، أبيض البشرة يتيه في الطرقات جاريا مبتسما ، يربت على كتف كل من يصادفه لم يكن عدوانيا ، يرتدي عباءة تستر جسده كله ، لكنه لم يكن يلبس سروالا ، كان الأطفال يلاحقونه ، و لأنهم يدركون أن حسن لهبيل لا يرتدي سروالا ، كانوا يتعمدون أن يصيحوا فيه ، - حسن عريها – فكان لا يتردد في أن يرفع عباءته إلى أعلى رأسه ، لتنكشف عورته ، ليختفي الأطفال من أمامه ، و يصبح الأمر محرجا في مرات عديدة عندما يصيح الأطفال أو حتى بعض الكبار فيه عند مرور

بعض النسوة في حياكهن البيضاء أو بعض الفتيات ، فتراهن يسرعن في خجل ، أما بعض النسوة فيتوقفن لتوبيخ الأطفال و تهديدهم بإخبار أمهاتهن .

 بوتوميت ، هكذا كنا ننادونه و نحن أطفال ثم نطلق سيقاننا للريح ، كان بوتوميت صعب المراس يطارد الأطفال لمسافة طويلة ، لكنه كان في الغالب يعجز على أن يلقي القبض على أحدهم ، فقد كان العمر قد تقدم به ، و كانت الأزقة متشابكة حيث يسهل على الأطفال الاختباء فيها حتى تمر

عاصفة بوتوميت . كان دائما يرتدي جلبابا صوفيا صيفا و شتاءا ، و تحت جلبابه كان يحمل كمّا من الأحجار ، مختلفة الأحجام و الإشكال ، لا يتردد في أن يطوح بها في كل الاتجاهات ، عندما يسمع بوتوميت ، ثم لا يكف عن الشتم و السب و تهديد الأطفال ، أطفال كثيرون أصابتهم حجارته الطائشة ، فقد كان الحجر سلاحه الوحيد للدفاع عن نفسه . أما الكبار الذين يتدخلون أحيانا لتهدءته ، غالبا

لا ينجحون ، و ينالون نصيبهم من السب . ينصرفون لأنهم يدركون رد فعله . و أحيانا أخرى قد يجود عليه بعضهم بقليل مكن الرزق .

 قرن 14 ، هكذا كنا نسميه ، و لا أعرف لماذا سمي بهذا الاسم، كان قصير القامة ، و أكيد أنه في مضى كان قوي البنية ، و جه لفحته الشمس و نثرت على وجنتيه بثورا ، أتخيله الآن مثل بطل رواية - العجوز و البحر - لإيمنجواي ، لأنه كان يحكي قصصا كثيرة عن البحر، فقد اشتغل كصياد فوق إحدى سفن الصيد في أعالي البحار يحكي - قرن 14 - أنه تسلل ذات يوم إلى سفينة عملاقة و بما أنه كان قصير القامة ، فقد أختـبأ في حذاء أحد البحارة ، كان الحذاء كبيرا يصل إلى ركبة صاحبه ، فقد انسل صاحبنا إليه – هكذا كان يحكي بكل ثقة - ثم كمن فيه ، عندما أبحرت السفينة ، خرج قرن 14 من الحذاء و كشف أمره للبحارة الأجانب و الذين رقوا لحاله ليشتغل

بعدها طباخا ، و يسترسل في وصف الموانئ التي زارها ، و حكاياته الغرامية في هذه البلدان ، بالطبع لم نكن نصدق ما كان يقوله .

بلاك ، بهذا الاسم عرفناه و نحن صغار ، سمي كذلك لأنه كان شديد السواد ، طويل القامة ، ضخم الجثة ، قوي البنية ، لذلك كنا نخشاه ، رغم أنه لم يكن عدوانيا ، كان يتخذ في الغالب مكانا محددا لا يفارقه إلا في ما ندر ، قرب باب مراكش ، و على أحد المدافع النحاسية الصغيرة على جانب هذا الباب ، كان يجلس ، هذه المدافع التي اختفت منذ سنوات ، كان بلاك يراقب الكل الغادين و الرائحين ، أحيانا يبتسم لهم ، فتظهر أسنانه البيضاء ويحكى أنه مرة اقتيد إلى أحد الدور الخاصة بالمتشردين

قرب هذه المدينة ، و طلب منه أحد المجانين أن ينحني ليصعد فوق ظهره ليقفز سور هذه الدار ، و وعده أنه سيعود من المدينة سريعا ، ظل بلاك منحنيا قرب السور و عندما سألوه ، لماذا يفعل ذلك ؟ أخبرهم بلاك بأنه ينتظر عودة صديقه ، و كان هذا الأخير قد وصل إلى المدينة راجلا بعد أن قطع مسافة طويلة أليس الجنون في النهاية هو الوجه الآخر للعقل و الإبداع .

إن أجمل الأشياء هي التي يقترحها الجنون و يكتبها العقل كما يقول أندري جيد ، و مجانين هذه المدينة أليسوا عقلاء . ألا ينطقون بالحكمة أحيانا ؟ و أنت ألا تحدث و تناجي نفسك في حالات كثيرة ، خصوصا عندما تكون وحيدا، و العبقرية نفسها لا تخلو من قدر كبير من الجنون ، و أنت حين تقول ذلك تسترجع مجانين هذه المدينة ، مجانين كانت لهم حكايات طريفة ، لم يكونوا عدوانيين أو سعاة مثل هؤلاء الحمقى الذين تعج بهم أزقة هذه المدينة اليوم ، أحاول الآن أن أسترجع قصص أو وجوه بعض هؤلاء ، لكن هذه الذاكرة المثقوبة لا تسعفني ، صور قليلة مبهمة أحيانا ، لازالت حاضرة ، و أجهد نفسي لأستحضرها. تختلط علي اليوم ملامحهم ، و طرائفهم ، بعضهم اختفى فجأة ، بعضهم الآخر مات شريدا ، لم يبق منهم أحد .

يتبع .... تحياتي