مارد في صدري(6)

نعماء محمد المجذوب

مارد في صدري(6)

رواية: نعماء محمد المجذوب

واجهتها زوجة أبيها بتجهّم، وبعصبية قالت:

- هذا وضع سيئ لا يحتمل.

قالت "سناء" بدهشة:

- ماذا جرى؟.. ما الأمر؟

- خروجك مع الرجال.

التفتت "سناء" إلى أخيها، وقالت:

- لماذا تكذب إذا كنت لا تجيد الكذب؟.. ألم ترني مع مجموعة من الطالبات؟

- إنه لا يكذب...

- بل يكذب..

رجاء اصغي إليّ، إنها مجرد رحلة إلى المعبد الأثري.

نظرت إليها بريبة، ثم قالت:

- ماذا كنت تفعلين معهنّ في ذلك المعبد الخرب؟

- نتفرج على ما فيه من آثار.

سكتت "سناء" والمرارة تهيج في نفسها، ثم قالت:

- لماذا لا تؤمنين بحقي في الحياة الكريمة، كما تؤمنين بحقك وأولادك؟ وأشارت إلى زاويتها، وبتألم قالت:

- إلى متى وأنا ألزم وكري هذا؟.. ولا تسمحين لي بالخروج مع من في مثل سنّي؟

نظرت إليها نظرات جانبية تأكل وجهها، وبتأفف قالت:

- لقد كبرت يا بنت، وطال لسانك.

- أجل كبرت، ومناقشتي معك ليست طول لسان، هذا من حقّي.

ثم رأت أن توقف الجدل معها.. وبرجاء قالت:

- مهلاً يا خالتي، إنك تعاملينني بازدراء وانفعال، وكأنني مجرّد خادمة في هذا البيت.. أشعر بالأسف إن سببت لك الإزعاج.. فقط أرجو أن تغيري معاملتك معي.

لم تتلق منها أي ردّ.. دفنت "سناء" وجهها بكفيها، وأخذت تبكي كطفلة، ثم تسلّلت إلى ركنها، وزوجة أبيها تلاحقها بنظراتها القاسية.

في مثل هذه المواقف تلجأ "سناء" إلى العزلة، تترقب عواصف الغضب العقيم من الرحمة، وتحاور نفسها: كيف يمكنني أن أفرّ منها؟ وإلى أين؟ وإلى متى وأنا في هذا الحال؟.. ألقت بجسدها فوق الفراش واسترخت، وفي نفسها ألم وحزن.

كانت أم خالد تلزمها بالطاعة المطلقة، والتقبّل لما تفرضه عليها دون اعتراض، لتضمن سكوتها عنها.. وتتساءل "سناء" في سرّها: أيرضيها إن فعلت ما تريد؟.. لا، لا أظن ذلك.

وعندما تفتقر إلى السكينة، والأمان، تتذرع بالأشياء، وتلجأ إلى البحر، عنده ينساب حديث طويل بينها وبين الطبيعة، فشاطئه مرتع خصب للحكايات، والناس فيه أكوام، يستمتعون ببهائه، وعنده تصوغ قصص طفولتها، وتتسع شيئاً فشيئاً مع مرور الأيام، وتحتفظ بأحاديث الدهشة، والتلقائية حين ترى صبياً بلاحق سرطاناً بحرياً، قد ربط ساقه بخيط طويل، يجعله يجري خائفاً، وهو مقيّد.. وتنظر إلى مويجات البحر تعبث بخواطرها، وإلى صخوره تفتت عوائق نفسها، وتؤجج أسراره أسرارها.. فأحاسيس "سناء" قد نمت، وتفتقت بشتى الانفعالات، وجاشت بها روحها، والخيال يفتح أجنحته ويحلّق بها، وبلهفة لذيذة تقول: ما أروع البحر! إنه رفيقي ومعلّمي منذ طفولتي.

في إحدى المرّات، كانت تجلس فوق صخرة مشرفة، تراقب صفحة المياه، أثار دهشتها بعض الحيتان تقترب من الشاطئ، يصدر منها نغمات جميلة، وتقوم بحركات غريبة، لم ترني وأنا أتقدّم نحوها، ولما وقفتُ أمامها، بصوت فيه الدهشة، قالت:

- انظري إلى..

لم تكمل عبارتها حين تزحلقت بين الصخور، أسرعت إليها، وسألت:

- هل أنت بخير؟

- قدمي تؤلمني.

- كيف تزحلقت؟

- كنت أفكر فيما أرى، أصابني ذهول، فحصل ما حصل.. انظري إلى هذه الحيتان تقترب، وتبتعد وهي تغني.. إنها رائعة، أليست كذلك؟

- بلى، إنها تتباهى أمامنا، وتكرّر حركاتها.

- قليلاً ما نراها، تقبل مرة في العام، ثم ترحل.

- هيا بنا قبل أ يصيبنا دوار البحر، فتقعين في الماء ثانية.

قلت وأنا أضحك:

- فقد يلتقمك الحوت، كما التقم النبيّ يونس.

- أجل، أنت محقّة.

قبل الغروب، كانت الشمس قد زرعت ظلال الصخور فوق الرمال، مثل أشباح يصعب التقاطها.. ثم غربت، وحلّ الغسق، ليأخذ دوره في الزحف على المكان.. ذهب ناس، وأتى آخرون، حين بدأت خيوط رقيقة من ضوء القمر تتسلل من بين السحب.. كانت "سناء" تنسجم مع المكان، والزمان، فالغسق بالنسبة إليها ساعة انحسار للهمّ الذي تجاهد في قلعه.. وحين تفلت الزرقة، زرقة الغسق من الجفون، تبدأ في العودة.

في البيت كانت زوجة أبيها تلاحقها بنظرات الشكّ والارتياب، وتستفزّها بألفاظ تنمّ عن ذلك.. واجهتها "سناء" بقولها:

- أنا لست ممن يضعف، ويسقط يا خالة.. هل أنت غيورة عليّ أكثر من غيرتي على نفسي؟.. تأكدي بأنني لا يمكن أن أخطئ أبداً، مهما تهيأت أمامي أسباب الخطأ.

- لماذا إذاً تكثرين الهرب إلى البحر؟

- لأفرغ همومي عنده.

كانت "سناء" ترى الهرب إلى الشاطئ هرباً من القلق، ومن الكآبة التي تختلج في صدرها، فتجد عنده الخلاص.

*   *   *

- من اليوم فصاعداً لن تخرجي إلى البحر.

قرار ألقته أم خالد أمام "سناء" كان أشبه بالفاجعة، أجابتها باستنكار:

- لا يمكن ذلك، عنده أجد حياتي، وذكرياتي.. تعلمين يا خالة مقدار الجهد الذي أبذله في البيت، فلم تمنعينني مما أحب؟.. أنا في حيرة من أمري.. كيف أتعامل معك؟.. لا أدري.

بسخرية قالت لها:

- أراك مضطربة عقلياً، لكثرة ما تفكّرين وتحلمين.

انهمرت الدموع من عينيها، وبابتسامة باهتة، قالت بهمس:

- إن كان كذلك فبسبب ما حرمت منه.. لا شيء يعوضني عن أمي، لا أدري، لم يعاقبني القدر على شيء لم أفعله، ألم يكن من الأجدر أن تضحّي الأم من أجل ولدها؟.. كلما كبرت ازدادت حاجتي لحنانها، وعطفها.. يبدو أن وجودي مع زوجة أبي يوتّر أعصابها دائماً.

كانت تبوح لي بمكنونات صدرها، فأثّبتها وأطمئنها:

- ما عليك إلا الصبر. الله الذي خلقك، لن يتركك في رحلة حياتك هكذا.. لا تتعجّلي، ولا تستبطئي.

أطرقت برهة، ثم قالت:

- هل تصدّقين أنها لا تزال تصفعني بعنف؟ أي ذنب يرتكبه إخوتي تلقي عليّ باللائمة.

نظرت إليها بعطف، وقلت:

- لا بأس.. أتعلمين كيف سيكون مصيرها؟

في عصر ذات يوم، التقينا في المسجد، سألتها:

- ما موقفها من مجيئك إلى هنا؟

- اعترضتني ولكن خالداً حال دون ذلك.

- يبدو أنه شهم.

- أكثر الأحيان.

في المسجد كانت تسعد بصحبة المؤمنات، كل واحدة تسعى نحو الكمال في سلوكها، وتعاملها، حتى ولو كانت قابليتها لا تسمح بذلك، فتعمل على تقويم نفسها، والتمثل بخلق القرآن، معهنّ تستعيد "سناء" الاعتبار لذاتها، وتشعر أنها لا يمكن الاستمرار بين يدي المرأة تسيطر على مقدرات حياتها، دون مراعاة لإنسانيتها، حتى غدت العلاقة فيما بينهما نوعاً من العداء التقليدي، الذي يحول دون تطوّرها، وأصبح الصراع نتيجة طبيعية تفرضه تصورات باسم التقاليد، والعادات، التي قد لا تكون صحيحة.. كما كانت تجد متعتها العقلية والروحية بإقبالها على تلاوة القرآن الكريم وفهم معانيه، فتتنسّم نسمات الرحمة في قلبها، وإذا ما أوت إلى ركنها ردّدت ما تعلمت، وأقبلت على قراءة ما تركت أمها من كتب بين أشيائها. كانت تحسّ بالفخر حين تردّد النساء: كان لفخرية صوت ملائكي في الترتيل، ويبدو أن "سناء" ستكون امتداداً لأمها.

كانت تلاقي شتى أنواع العنف من زوجة أبيها، وبالأخص إذا ما أثنى عليها النساء بالفهم والذكاء، ولم تتورع عن نبش ما يخصها من أشياء، فتتلفها، ولا تجد "سناء" إلا الصمت حسماً للمشكلات.

ازداد وعي "سناء" لأمور دينها، وللحقوق التي كرّم الله بها المرأة، وما نزلت من السماء إلا لتنظيم حركة الحياة، لا لإعاقتها، ومن ثم ينتفي التسلّط من قبل شخص يتمثل التقاليد المنافية للدين.

لشدّ ما كانت تأسرها كلمة (اقرأ) مفتاح العلم والمعرفة، فالله هو المصدر لكليهما.. كتبت الآية الكريمة في لوحة، وطرّزت كلماتها، وجعلتها على الجدار في ركنها، تتأمّلها كل حين، لتكون لها حافزاً على القراءة.

بابتسامة ساخرة، تساءلت في سرّها:

لم تصدّني خالتي عن هذا الخير؟ ألتبقيني شيئاً للبيت فقط؟ ألا يكفي يتمي، وحرماني من الأبوين، وبثقة قالت: سأعوض كل شيء بالعلم، ولا أبالي، سخطت عليّ أو رضيت.

ورسخ في ذهنها هدف رحب، وحافز نبيل، ألزمت فكرها به، بأن تجعل حياتها تشييداً لقدرها المحتوم.

*  *  *

المواقف القاسية جعلتها تتأمّل ذاتها في عملية استبطان، تخرج به نفسها من العزلة التي فرضت عليها ردحاً من الزمن، وتستشعر لذة الاستنباط من مورد الألم، واستلهام الفكر تحت وقع المرارة، أفادتها التجارب والمحن، في تدفّق الوعي لديها، وخصوبته، فارتدت السكينة والاتئاد في مواجهة التحدّيات ما استطاعت، واشتدّ ارتباطها بالطبيعة، والالتصاق بما توحي به من أسرار، فكانت بكل أشيائها مصدراً للتأمّل والتفكّر، تنفذ إلى مكامنها حيث المخابئ الثريّة والكنوز المغمورة، تفكّر بالكون، وتزداد تعلقاً بالوجود، وتكتسب توازناً في نفسها، وتتعجب من ظواهر الأمور، كم تخفي من حكم في أعماقها!

بعد يوم عاصف، وتوقف هطول المطر، اشرأبّت رؤوس الأزهار من التربة في أصص البيت، انتشت بجمالها، وأثارتها للخروج حيث وجدت نفسها وحيدة، وساقتها قدماها إلى حديقة البلدة.. وجدت امرأة عجوزاً قد جلست على مقعد خشبي تحت شجرة صفصاف، تدثّرت برداء صوفيّ، اتخذت "سناء" جلسة بجانبها.. بدا أن المرأة كانت بحاجة إلى الثرثرة مع أحد، حملقت بسناء.. اقتربت منها، وبهمس سألتها:

- أنت من البلدة؟.. أراك أحياناً.

- أجل.

واصلت حملقتها، وبدهشة قالت:

- تذكرينني بصديقة قد رحلت منذ زمن بعيد، ومن ثم لم تعد.

ابتسمت "سناء" وبرنّة حزن خفيفة، سألتها:

- ما اسمها يا خالة؟

- فخريّة.

حاولت المرأة جرّها إلى الحديث، لكن "سناء" كانت حذرة، هزّت المرأة كتفيها باستخفاف، وكأنها تؤمن بأنّ الإنسان يمكن أن يعيش بعيداً عن موطنه، ويبني حياته بناء جديداً.

- حدثيني عنها يا خالة.

اعتدلت بجلستها، ثم قالت:

- إنها حكاية قديمة، مضى عليها خمسة عشر عاماً، كانت جذابة لها عينان جميلتان كعينيك، وكانت متعلّمة معجبة بنفسها، ولكن..

- لكن.. ماذا؟

- لم تسعد مع زوجها –ابن عمها- وحصل الطلاق، ورحلت إلى لبنان بعد أن تركت طفلتها الصغيرة عند أبيها.

كانت عينا المرأة لا تفارقان وجه "سناء" كأنها تعقد صلة بين الاثنتين، ثم التقتا بعيني "سناء" في نظرة طويلة، حوّلت "سناء" نظراتها عنها، وهي ترجو ألاّ يكون وجهها قد اضطرب، ووشى ما بنفسها.

نهضت المرأة، لتنصرف بهدوء، ونظرات "سناء" تتبعها، وتودّ لو أنها تلحق بها، وتستزيدها من أخبار أمها.

التقيتُ بسناء مصادفة، وتبادلت معها حديثاُ عابراً، قالت لي:

- إنني أجد الكثيرين من الناس الذين يمكن التعرّف عليهم، ولكنني لا أجرؤ على اقتحام عالمهم، مما يزيد من شعوري بالوحشة، وكأنني في بلد غريب.

في طريق العودة، لمحت زوجة أبيها تراقبها من بعيد، ثم ما لبثت أن اختفت.. خشيت من العقاب الذي ينتظرها، فصاغت إجابات متنوعة لأسئلة استفزازية، فهي لا تشكّ بحماقة تصرّفها، وتساءلت بعجب: لماذا تلاحقني في كل مكان، وتنغّص عليّ متعتي؟

بلهجة صارمة، سألتها زوجة أبيها:

- ألم أحذرك من الخروج إلا للضرورة؟

- هذا ما حدث، خرجت فقط للضرورة، احتجت للترويح عن نفسي تحت شجرة الصفصاف في الحديقة، كي أستعيد نشاطي، أليس هذا أمراً ضرورياً للإنسان؟

ركّزت عينيها في وجهها بحمق شديد.. سألتها "سناء":

- لماذا تنظرين إليّ هكذا؟ نظراتك المتجهّمة تذعرني، ما الأمر؟

أخذت تقهقه بشكل مغيظ، سألتها بدهشة:

- لم تضحكين هكذا؟ أليس لديك ما تقولينه؟

- إنك مجنونة، مجنونة.

- لست كما تقولين، ولكنني مذعورة بسبب نظراتك.. رأيك فيّ لا يغني شيئاً.

أردفت تقول:

- إنك تبعدينني عن إخوتي، وتشعرينني بالوحدة الرهيبة في البيت.. أتمنى أن تكوني منصفة، وتعدلي بيننا.

- لسانك يزداد طولاً يا بنت، اذهبي من وجهي.

رأت "سناء" من الأفضل أن تغرب عن وجهها، فزاويتها رغم ضيقها أرحب من البيت كله، فيها تخلو مع السكون، وترحل بعيداً مع ذكرياتها، وأحلامها، وكانت تتلذّذ في نبش أشياء أمها، تخرج منها كتباً ومجلات موثوقة، لا شبهة فيها، ولا فتنة، فتنكبّ على قراءتها وفهمها، لتثقيف ذاتها، وصقل وجدانها، وتحفيزها إلى الإيمان بكرامة الإنسان، والعدالة والحرية، والنفور من الظلم والتخلف.

*   *   *

سألتها ونحن في رحاب الطبيعة:

- هل انتهيت من قراءة (العبرات) للمنفلوطي الذي قدّمته لك؟

- أجل وتأثرت بما فيه من الفضائل والمشاعر.

وبصوت فيه رنين اللهفة قالت:

- لا يروي غليلي كتاب أو كتابان.. في الكتب أعيش رشفات من الحياة ولمسات من الوجود.

- وأنا كذلك.. فالقراءة تحميني من أيّ فراغ.. فالوقت قاتلي، وتحمي الوقت من أن أهدره عبثاً.

صمتت لحظة، ثم قالت:

- أرجو أن تسير أمور حياتي كما أريد.. الوطن مفعم بالتاريخ.

- كيف عرفت؟

- من خلال قراءتي في كتب التاريخ المدرسية لإخوتي.

- سأحضر لك كتباً أخرى تقرئينها في ركنك الهادئ، حتى إذا ما التقينا سردت لي ما فهمت، وبأيّ شيء تأثّرت.

قالت بثقة:

- إذا مرّ يوم لم أستفد فيه علماً، فما ذاك من عمري.. وأرى أن المرء لا يسمو ويرتقي إلا بما يعرف.

نظرتُ إليها بإكبار وقلت:

- إنك تتغيّرين يا سناء.

- أحس بهذا، ليس بسبب القراءة وحدها، ولكن بنور الإيمان الذي يشقّ صدري ويدفعني إلى التغيير.

سألتها:

- بماذا تشعرين حين تختلين بنفسك؟

- أشعر بحاجتي الشديدة إلى التعبير عن ذاتي بالكتابة، يحثّني الحنين الذي ينمو في كياني يوماً بعد يوم.

ثم أشرق وجهها بالابتسام وهي تقول:

- سأريك ما أكتب.

- وأنا أقدّمه إلى أختي المعلمة هيفاء، كي تخلّصه من الضعف. أرى في يدك قصاصات من المجلات، ماذا تعني لديك؟

- إنها تعجبني، فأعيد قراءتها.

ثم استطردت:

- الإلهام في داخلي لا يخرج أحياناً، ولكني أحس به.. أتقوت من راحتي في ليلي الهادئ، لأسجل خاطرة خطرت في ذهني.. كلمات تبدأ بالظهور ثم لا تلبث أن تهرب، وأشياء تنتهي ثم لا تلبث أن تبدأ من جديد.

بإعجاب قلت:

- لو كان والدك حيّاً، لشعر بالفخر الشديد بك.

دمعت عيناها وبهمس قالت:

- أحقاً ما تقولين؟

عرضتُ على أختي شيئاً مما كتبته "سناء" فقالت:

- خواطرها المتفرقة من وحي الواقع والإلهام معاً، تحمل شحنة من الإحساس تجاه مواقف مؤثّرة، تتمتع بموهبة، إنها فتاة حالمة.. وتتمتع بسرعة فائقة في التعلّم، والفهم.

*   *   *

صار للشاطئ طعم مميّز في نفسها، وله انعكاسه، والأحداث المتتابعة شحذت شخصيتها، والتأمّل عمّق الإيمان في قلبها، وغدت الطبيعة ملاذاً لها من الوحشة والعزلة.

كان الهدوء يسود المكان إلا من بعض الأولاد يتزحلقون على الصخور الناعمة، ويملئون الجو ضجيجاً، قالت في نفسها: يبدو أن صديقتي شغلت بأمر ما، فلم تأت، ثم شعرت بكفّي تلامس كتفها، سألتها:

- ماذا تفعلين؟ أراك شديدة الاستغراق والتأمّل.

- أتأمّل في زرقة السماء والبحر، كيف يلتقيان عند الأفق البعيد؟.. في داخلي أشياء تتوق إلى الانسجام مع الكون، ونفسي ظمأى إلى النبع الإلهي.

- كيف؟

- عندما أراقب الأزهار وهي تتفتّح مع الفجر، ننفتّح نفسي إلى الإيمان، وعندما أراها تذبل أحسّ بقرب الفناء.

- إن ظروف حياتك المضطربة فرضت عليك عدم الاستقرار النفسي، والشعور المتناقض، ستتغيّر حياتك بتغيّر الظروف.

- ليس بي انغلاق على ذاتي، وإن كان يبدو في الظاهر، ففي نفسي ترجيع للحوادث، ولحكايا أمي تحمل معاني متنوعة، وتزداد معرفتي بها مع مرور الأيام، كلما ازددت وعياً.

ألقت بجسدها فوق الرمل، وقد تفتّحت في نفسها شهوة الحديث، والحوار وتتعجب من هذا الزمان الذي ينطق بالأسى العميق، قلت:

- الزمن لا يتغيّر، ولكن الأحوال هي التي تتغيّر، وتتقلّب، حتى أصبحنا نردّ الأمور إلى الزمن، ونتّهمه بالريبة والمكر. البلدة كغيرها من أجزاء الوطن في مرحلة منهكة بعد رحيل المستعمر، فزمننا فيه التحرر من الاستعمار، وفيه الصحوة، والتخلص من العادات، والتقاليد الفاسدة، المنافية لقيم ديننا.

ثم أشرتُ إلى أمي وإخوتي:

- انظري، إنهم يدعونك إليهم.

بسرعة قالت:

- لا أستطيع، الوقت يعتصرني، يجب أن أغادر حالاً.

- رجاء لا تتهرّبي.

ولكن سرعان ما وثبت واقفة، وانطلقت في الطريق باتجاه الحيّ، وفيما هي كذلك رأيت أختي هيفاء تجري نحوها، ولكنها كانت قد ابتعدت وهي تقول:

- آسفة، الوقت متأخر، أشعر بضرورة الاستعجال.

*   *   *

في أحد الأيام، والسماء صافية، والخشوع يغمرنا ونحن نهبط درج المسجد، سألتها:

- أراك تنسجمين مع آيات الله أثناء التلاوة، بماذا تشعرين وأنت تتدبّرين معانيها؟

- تؤثّر في قلبي وعقلي، وأعيد نظرتي للحياة، وتمنحني الاتزان في مشاعري، والبعد عن التشتّت، ولا سيما قصص القرآن.

كان لزاماً علينا أن نتمشّى بعض الوقت عند الشاطئ، سألتها:

- وماذا تشعرين أيضاً، وأنت في الطبيعة، وبخاصة قرب البحر؟

سكتت برهة، ثم قالت:

- أحسّ وكأنني تخلّصت من القيود، وازددت تعلقاً بالوجود، وذابت مشاعري فيه، وأجد عندها أجوبة لأسئلتي، فارتبط بها أشد الارتباط والالتصاق، وأراني أتعلق حتى بأصغر أجزائها.. بحبيبات رملها، ونسميها وشجرها وفراشاتها.. وأتساءل: لم يحصل لي هذا؟ فتجيبني نفسي: ألست ابنة الأرض؟ أليس وجودك من وجودها؟.. وكثيراً ما أضحك في سرّي، وأنا أشعر بهذا الارتباط، كما لو كنت أول المخلوقات، وتتجاذبني اللذة، والأسى وتتدفّق بروحي الخواطر وأقول بانبهار: ما أجمل أرضنا وفيها الإنسان! صمتها صادق، وتواضعها ذلول، ولذا أراني مشدودة إليها بالتأمّل والحب.

أكّدتُ لها حقيقة بقولي:

- القسوة التي نراها في الحياة، ليست من قسوة الأرض، وليس الحرمان والفقر منها، القسوة والفقر والحرمان من الإنسان نفسه.

أطرقت برهة لتقول:

- حقاً ما تقولين.

امتد نظرها إلى المئذنة الباسقة، المطلة على البلدة والشاطئ.. بقيت صامتة، لم أرد أن أرهقها بأسئلتي، قلت: فلأدعها في تأملها، وصلتها بمن تحبّ. وأنا أغبطها بهذا الشعور الذي يصلها إلى الله من غير واسطة، سوى فطرتها التي فطرها عليها.

كان الهواء الساخن يسحب الرمل الناعم، فيسمع له هدير خافت، قالت بضيق:

- قرأت في مكان ما أن حرارة الشمس تزداد كل عام.

- علينا أن ننسى شأن الحر، لأن التذمر منه أكثر بكثير.

جلست سناء في حوش البيت، تستظل بأغصان شجرة النارنج، وقد زادها الضياء جمالاً، والخضرة بهاء.. ومدت المكان بالنداوة، وبدت ثمارها وكأنها ستسقط بين يدي سناء، كانت تأوي إليها العصافير المغردة، وتلم تحتها أفراد الأسرة، والزائرين.. وكانت رفيقتها في الفرح والحزن، وتثير في نفسها ذكريات بعيدة، فكلما هزّها الشوق جلست إليها، والنسمات الرقيقة تهفهف بينهما، فتشعرها بالراحة، والأمان، ويجنح بها الخيال إلى زمن الطفولة في حضن أمها، حين تحكي لها الحكايا.. ثم عقدت مع العصافير صداقة، تحمّلها الرسائل، فتجيبها بنغمات آسرة.. فتغمض عينيها على حلم كان، ومضى، وتخط بقلمها كلمات تذوب بالحنان.

هنا ضمّني صدر أمي، هنا تحت الشجرة.

هنا حكت لي حكايات غريبة عن الفجر.

في جذعها نقشت ذكرياتي وأبهى الصور.

في ظلّها سرى حلمي، ثم تدحرج واندثر.

وفيما هي تحلم، يمزّق السكون صوت زوجة أبيها:

- ماذا تفعلين يا بنت؟

بامتعاض همست:

- يا بنت، يا بنت، أوشك أن أنسى اسمي.

أجابتها:

- أسقي الشجرة مع تالاتها.

قهقهت بسخرية، وقالت:

- أراك عاشقة لها، وتتعزّلين بها.

- يقولون إن نباتات البيت تنمو، وتزدهر بالرعاية، ولمسات الحنان، كالإنسان، كما أنها توأمي، ولدنا في يوم واحد.

نظرت إليها باستخفاف وقالت:

- سخافة.. جنون..

تأثّرت "سناء" بكلماتها.. لوت رأسها بانكسار ثم غابت في زاويتها وبكت بصمت.

كان نور القمر يتسلّل من خلال النافذة، ويلامس عيني "سناء" برفق، يهدئ من روعها، ويزيل وحشتها.. وقع نظرها على (اقرأ) فتناولت كتاب الله تتلو من آياته، والخشوع يختلج في صدرها، ثم استسلمت إلى القدر في اطمئنان.

*   *   *

في صباح أحد الأيام، استيقظت على أصوات قرقعة في أرض الحوش غير معتادة، أسرعت لتعلم الأمر، فوجئت بعامل يحزّ جذع شجرة النارنج، بهتت من القسوة تتناول الشجرة، فما وجدت من سبب يدعو لذلك، فأغصانها تهوي فوق الأرض، وتذرف أوراقها، وتنكمش ظلالها.. لشدّ ما شقّ ذلك المنظر على نفسها.. رجت خالتها لتكفّ عن هذا العمل.. هوت على يديها تقبلهما، وتتوسل إليها باستعطاف كي تدعها.. دهش العامل، فأشفق على "سناء" ثم أخذ يجمع أدواته ليذهب، ولكن أم خالد أوهمته بجنون هذه البنت، وحثّته على المتابعة، أطاعها، وعيناه ترمقان سناء بعطف.

نظرت إلى شجرتها وأنين الحزّ يمتزج بأنينها، ومشاعرها تتفتّت مع تشتّت أوراقها، انكبّت على الفروع الهامدة تبكيها، وتلملم أجزاء من لحائها، جمعت فيها ذكريات في كلمات ونقوش، ثم غابت في زاويتها لتضمّها إلى أشيائها العزيزة.

كان الحدث ذا وقع مرير على نفسها، أشبه بالفاجعة، فكّرت فيه كثيراً، وأولته بمعان عدة، والتزمت ركنها، وتردّت صحّتها، ومكثت على هذا الحال أياماً عدة، عبّرت فيها عن مشاعرها المكتومة بكلمات باكية حزينة.

تفقّدتها النساء في المسجد، وسأل عنها الأولاد بقلق عند الشاطئ وفي أحد الأيام واجهتُ أخاها في الطريق، وسألته عنها، فأعلمني بمرضها، وانطوائها على نفسها، أردت أن أعرف السبب، فتلعثم في الجواب.. حدثتني نفسي بأمر مهم جرى لها.. آلمني صدّ أم خالد حين طرقت الباب، وبادرتني من ورائه بقولها: البنت نائمة.. قصصت على أبي ما حصل، صمت، وانطبعت على شفتيه ابتسامة عميقة المدلول، وبدا في عينيه ما يدلّ على التفكير.

كان قطع شجرة النارنج إحدى وسائل أم خالد في العقاب الصارم، ولغاية في نفسها، استطاعت أن تشغل "سناء" بهمومها عن الخروج من البيت، وتستحوذ على خيالها بالفواجع، وتعيد إليها الكآبة والإحساس بفقدان الأمان.

احتاجت "سناء" في هذا الموقف المؤلم إلى الكلمة المواسية، واللمسة الحانية، وجال في صدرها سؤال لا جواب له: هل تنتظر أمها الظرف الملائم حتى تأتيها؟ أو أنها تنتظرها وحدها؟

أيقنت بأن متاعب جديدة ستحل بها، ولن تسلم من لسان زوجة أبيها السليط.. فتلذّذها يقوم على الضحيّة، كما تزرع الورود فوق المدافن.

كانت "سناء" في عزلتها وتراً يبحث عن صنوه في أعماقها، ونجمة تائهة تفقد مدارها، ومسراها، ومن عمق الإحساس بالغربة تتسع وحشتها، وتضيق به دنياها، وتسافر بذكرياتها، وهيجان الحنين يدفعها، فتحمل الكلمات أساها:

حنيني لأمي عذاب وألم

وشوقي لأمي لهيب وحمم

أرى وحدتي بكل سقم

ترى ماذا بعد الانتظار؟

فهل مرارة ثم انهيار؟

أم فرحة في لقاء يعمّ؟

إلهي منك هبني العزم

بأمل قالت:

- لولا الانتظار، لاستحالت حياتي إلى فراغ قاتل.

في صباح اليوم التالي، والصيف يتنفّس بنسمات رطبة، كانت مجموعة من النساء يطرقن باب أم خالد، رفعت إحداهنّ صوتها، تقول:

- رجاء، افتحي الباب.

عندما رأتهنّ من تفاريجه، ارتدت رداء الخزي، وبتثاقل فتحته، وعلى وجهها مسحة من الخوف، أدركته النساء، وإن لم تره عيونهنّ.

- جئنا لزيارة "سناء" ألا تدعيننا إلى الدخول؟

وبدهشة سألتها:

- ماذا حلّ بشجرة النارنج، كانت تزيّن صحن الدار، وتمدّ فروعها فوق السور؟

- قطعتها.

- شيء مؤسف، فالشجرة لم تزل يانعة، فيها جمال، ولها ظلال.

قالت ليلى بحزن، وهي تفرك عينيها الدامعتين:

- لم يعد لي أرجوحة.. قطعتها أمي لتغضب أختي سناء.

صفعتها أمها، ودفعتها إلى الغرفة.

سألتها بتعجب:

- أتحرمين أفراد الأسرة من البهجة، من أجل ذنب ارتكبته "سناء"؟

- هذا بيتي، أعمل فيه ما أشاء.

- نعلم أنك تملكينه، ولكن ألم تسمعي قول الله تعالى: (.. يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء..).

- أين "سناء"؟

- في الغرفة، لا تخرج إلا نادراً.

- لقد جئنا للتحدّث معك بشأنها.

اضطربت أم خالد، وكأنما أمر فظيع قد حدث فجأة، فأيقظها من النوم، ثم بحدّة قالت:

- ما الأمر؟

كنتُ قد تسللتُ من بين النساء، بحذر شديد إلى ركن سناء، قلت بأسف:

- حاولتُ المجيء، لكن زوجة أبيك منعتني من الدخول، ماذا بك؟ مظهرك حزين، وأراك مكتئبة، فما السبب؟

تماسكت قليلاً، وهي تحتفظ بدموعها، كما تحتفظ بآلامها، ثم قالت:

- إنني بحاجة إلى من يعينني، أنا بنت، لا أستطيع أن أفعل كما يفعل الشاب، إن يغضب يخرج من البيت، ولا يسأل إلى أين؟ ولا ندري عنه شيئاً، وغالباً يرفض مواجهة المشكلة.. انخرطت في البكاء، سمعت ضربات قلبها، أشفقت عليها، وهدّأتها قائلة:

- لا تحزني، الألم يحول الإنسان الحزين، إلى إنسان جديد.

همست بخوف:

- تيار الحياة يجرفني، ولا أدري إلى أين، ويدع التجارب القاسية تسقط فوقي.

- نحن لا نختار التجارب، لكن التجارب هي التي تختارنا، نحن لا نسعى إليها، هي التي تسعى إلينا.

تأوهت، وهي تقول:

- لقد علمتني الحياة الكثير.. لا تظني أني ساخطة على  حياتي، ولكن في داخلي خوف.

- ممّ؟

- الزمن يفرّق، فهل يفرّق بيني وبين إخوتي؟

- "سناء" لا تدعي الوحشة تفرض الانطواء على ذاتك، وتطغى على تفكيرك، فتقضي معظم عمرك فيها. ماذا تفعلين في عزلتك هذه؟

- أقرأ.. أكتب بعض الخواطر.. اصغي إلى بعض ما كتبت.

- هذا شيء رائع، وممتع.. ولكن أراك تزدادين شحوباً، وجسدك يوحي بالجوع.

- أكاد أسقط من الإعياء.

أدركت أن ضعفها ناشئ من سوء التغذية، والقلق.

قالت والدمع في عينيها:

- الشعور بالاضطراب يعاودني، حتى أصبحت أحرق بعض الأشياء، وأسكب الماء على الأرض ويدي ترتجف، بدون وعي مني.. لقد فقدت الأمان ثانية.

- أبسبب قطع شجرتك الحبيبة؟

- أجل.. كانت عزائي في البيت، ومأوى ذكرياتي.. فلا عصافير الآن تأوي إلينا، ولا تغريد يؤنسنا.

- إذاً أنت منزعجة جداً لما حصل.

- أجل..

قلت أهدئها:

- قد تتلبّد السماء بالغيوم، وقد تشرق الشمس، هكذا ظروف الحياة، فلا تحزني.

- هل تمهّد خالتي لإبعادي بعملها هذا؟

- لا تهتمي، ما بعد الضيق إلا الفرج.

في صحن الدار كانت النساء تصغين إلى ما تقوله زوجة الشيخ عبد الله، وهي تطرق بوعظها قلب أم خالد، عسى أن يلين، وبتصميم قالت:

- إننا صديقات لسناء، ونحن نحبّها، هي واحدة منا.. إنها أمانة في عنقك، وأنت مسئولة عنها، اسألي نفسك، هل حفظت الأمانة، وتحمّلت المسئولية، ونصحتها؟.. أريد أن أذكرك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من راع يسترعيه الله رعيّة يموت وهو غاشّ لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة) إنه وعيد شديد يا أم خالد.

قالت:

- أعاملها كأولادي.

- لا، ليس كما تقولين، إنك تفرّقين بينها وبين إخوتها في كل شيء، هي مجرد خادمة عندك، تحطمين مشاعرها بكثرة تعييرك لها بالقباحة، وتتهمينها بالجنون، وتعاملينها بقسوة، وتدمّرين سمعتها، أيسرّك ضياعها ودمارها؟.. ثم إنك ترتابين بسلوكها.

ثم أردفت فقالت:

- كلنا نشهد بعفتها، واستقامتها.. كوني منصفة يا أم خالد واتّقي الله.

- إنها تخطئ معي دائماً.

- فتعاقبينها بالضرب، والحرمان والتعيير والتحطيم؟.. لماذا العناد والإصرار بالإعراض عن قبول الحق؟.. ماذا تنتظرين؟ أما تخشين عقاب الله وبطشه؟ أذكرك بقول الله تعالى: (إن بطش ربك لشديد) وفي الآخرة حساب وجزاء: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى)؟.. نرجوك لا تكوني متحجّرة.

كان إخوة "سناء" في الليوان، يسمعون الحوار، ويتضايقون من أجوبة أمهم.. ثم سألت إحدى النساء عن "سناء" فأسرع أحدهم بفرح يدعوها إليهنّ.

- أرجوك، لا أريد أن أرى أحداً.

- أختي، لا تمانعي.

كانت فرصة سنحت كي أجذبها من زاويتها، وعندما رأينها، بهتن من نحول جسدها، وشحوب وجهها، وقلن باستنكار:

- المرض، والخوف باديان عليها.

أقبلن عليها بودّ وشوق، ولملمن ما تبعثر من شعرها، وقدّمن إليها الهدايا وهنّ يقلن بحنان:

- لقد قلقنا عليك يا سناء قلقنا كثيراً.

بصوت متهدج، والدمع في عينيها قالت:

- وأنا اشتقتُ إليكنّ.

- لماذا تبكين؟

- حنانكنّ هو الذي يبكيني.

التفتن إلى زوجة أبيها، وسألنها:

- ما هي مشكلتك مع سناء؟

- إنها عنيدة، وتصرّ على ما تفعل.

بهمس قالت "سناء":

- إنها تصيبني في صميم قلبي، يلذّ لها أن تسخر مني، وتعبث بمشاعري، ولقد أصابتني بفاجعة كبيرة، حين قطعت الشجرة.

سكتت برهة ثم قالت:

- أعتذر إن أسأت إليها.

اقتربت من زوجة أبيها، وهوت على يدها، تقبلها وتقول:

- آسفة إن بدا مني ما يزعجك.. فقط كفّي عني كلامك اللاذع الذي يجرح مشاعري، ويدمّرني، ماذا عليّ فعله كي أرضيك؟

سألتها إحداهن:

- هل لديك ما تقولينه يا أم خالد؟

استولت عليها الحيرة، فما عساها أن تقول؟

همست إحداهن في سمع "سناء":

- لقد فعلت الصواب، ستكونين بخير.. انظري، الجميع يبكين.

- لماذا؟

- فرحاً برؤيتك.. سنزورك باستمرار، لنطمئن عليك.

وقبل الوداع قلن لها:

- يسرّنا رجوعك إلى حلقات الدروس في المسجد.

ثم التفتن إلى أم خالد، وقلن:

- نتمنّى أن تكوني معنا أيضاً.

قلتُ في سرّي:

- ما أكثر حسناتهنّ، وما أسمى أخلاقهنّ.

نظرت "سناء" إلى إخوتها، والحب يطوف على وجهها، فقالت:

- رغم كل الظروف، أحبكم يا إخوتي، وسأبقى أحبكم، وإلى الأبد.

أقبلوا إليها يضمّونها إليهم، فرحين، مستبشرين، والنساء يودعنها ويأملن تغيير الحال، وتصرّف أم خالد الإنساني معها.

نظرت إليّ، وهمست:

- نفسي ظمأى إلى رؤية البحر، ضجرت من الظلمة، وأنا أرتقب بزوغ الفجر.

- إلى اللقاء في المسجد، ثم التمشّي على الشاطئ.. لا تجعليني أنتظر.

يتبع إن شاء الله..