مارد في صدري(5)

نعماء محمد المجذوب

مارد في صدري(5)

رواية: نعماء محمد المجذوب

أوشكت ألا تصدّق أمر حرمانها من الميراث، رأت أن تسأل زوجة أبيها.. ترددت.. توقفت برهة.. حاولت أن تركّز فكرها فيما ينبغي أن تفعله.. ثم قالت: اللعنة على المال، يكفي بأنني نلت رضا والدي، وبنفس حاولت أن تكون هادئة، قالت: سامحك الله يا أبي.

بعد أيام ونحن نمشي في الطريق، سألتها:

- هل علمت منها شيئاً عن..؟

- لا، طبعاً، لأنني أعلم الجواب مسبقاً، ومن الأفضل أن أفكّر فيما ينبغي أن أفعل.

- ثقي بالله ربك، لسوف يكون معك في هذه المحنة.

كانت الأحداث المثيرة تتلاحق في البيت، فتهرب "سناء" منها كي لا تتفاقم المشكلات، وتعيش بحالة من الحذر والترقب، وهي تعلم بأنها ستواجه الكثير من الصعاب بعد موت أبيها، فزوجة أبيها المالكة لكل شيء، ولكنها غير عادلة، تستفزّها بمعاملتها، وتشعرها بأنها منبوذة ودخيلة.. وكثر الشجار معها، واتّسمت أفعالها بالساديّة، تؤذي بها "سناء" وتطاردها كالشبح، وتشعر بالرضا حين تراها مضطربة، ويبعث الاغتباط في صدرها ما لم تبعثه الثروة التي آلت إليها.. وتتساءل: وهل من صحيح أنها استراحت، وقد حققت ما أرادت؟.. الزمن سيمر، وستتحول الطمأنينة رويداً رويداً إلى قلق يطاردها ويجهدها، وستجد أنها لا تذوق للسعادة، والاستقرار طعماً.. إن الحياة هي الحياة.

التقيت بها عند الشاطئ، لمحت الحزن بادياً في وجهها، فقلت:

- مرّت أسابيع لم ألتق بك.. هل أنت منزعجة من شيء ما، ولا تريدين إخباري به؟

- أجل.. مللت حياتي هذه.. عجباً! كي لا يسمح لي بالتعارف في المجتمع؟ مما ولّد عندي الخوف من الناس، وملت إلى العزلة مع كثير من التشاؤم.

- بل مستاءة للغاية.

- الانطواء هو خوف عام من العالم كله، وميل إلى الوحدة.

ستقتلني الوحدة.

- هل حصل شيء ما؟.. ثقي بي.. فجّري غضبك.. عبري عن استيائك.

سكتت قليلاً، ثم قالت:

- إنها تستغل نقاط ضعفي، وتريد تدمير حياتي.. إنها امرأة خرافيّة، لها صفات الوحش.. فالنوم يستعصي عليّ، وفي داخلي صراع بين الأحلام والأمنيات، واليأس.. أليس غريباً أن يزداد شعوري بالشقاء والغربة وأنا بين إخوتي؟

- تمالكي نفسك، وانظري إلى هذه التجربة القاسية في حذر شديد ونقيّها من الرواسب التي خلّفها الماضي.

بمرارة ابتسمت وهي تقول:

- هل يمكن أن أتخلّص من آثار الطفولة المعذّبة؟.. إنها راسخة في أعماقي، متعلقة كالطحلب على جوانب نفسي، أحاول انتزاعها، ولكنني أفشل، وأجد التوافق مع زوجة أبي مستحيلاً، فهي تنفعل لشيء، أو بلا شيء، فأتوارى في ظلال السكون، وأبحث عن طريقة للسلام، مع الترقب للفرج.

- الأفضل أن تمرّني نفسك على التخلّص من المعاناة إن استطعت.

تنتظر "سناء" الليل لتعيش معه، تجد في صدره سرورها، وأنينها، وتمرّ بنظراتها عبر النافذة على السماء مروراً كالسحر، تشعر بالانتعاش في روحها، وتلقي سمعها إلى غناء الضفادع، وهي تعزف ألحاناً شجيّة، وبعجب تقول: من علمها الغناء والطرب؟.. وتتأمل السماء، والنجوم تتلألأ فيها، والبلدة تهجع أنوارها، والقمر يرعاها، فتراها مصدراً ثرّاً للجمال، فتخلع رداء الحزن، فالوقت وقت المتعة، والإحساس بجلال الكون.. تتعجّب من أحاسيسها الغريبة في الليل، والروعة العميقة تأخذها، وقلبها يعرف معاني الوداع، والأسى الصامت، والشجى والوحشة والرهبة، وفي النهاية يلفها الخشوع والابتهال.

في النهار تلجأ إلى ركنها متعبة، تجد نفسها مشدودة إلى الأرض، تبحث عن المرآة، والمشط تحت فراشها.. وتقرأ في كتاب تستقي منه الأفكار، وتنكشف أمامها الحقائق، تثيرها المعرفة والمقارنة في حوارها مع نفسها، تودّ لو تطرحها عن وعي.. ولكن كيف ومن مع، وهي تعيش ضمن تقاليد لا ترحم، وظروف لا تنقطع، يغلّفها القهر، وكل شيء في حياتها رهين بالتأنّي والصبر.

في ركن جانبي من أركان الغرفة التي توجد فيها أثاث مكوّم، اعتادت "سناء" على رؤيته منذ طفولتها، كان الفناء يمشي عليه لا يحذر أحداً، والبلى قد أمعن في أحشائه، تخاف منه حين يكنفه سواد الليل، وعندما كبرت، تساءلت بعجب: لم حشر معي في مكان واحد؟.. كانت تنبش فيه أحياناً، ومن قريب وجدت شيئاً ملفوفاً في منديل بعناية.. فتحته، فوجئت بصورة أمها قديمة، باهتة بالية، ولكنها حفظت تعابير وجهها.

قالت لي بدهشة:

- أظنني وجدت شيئاً مهماً في الغرفة.. انظري.. إنه صورة لأمي، تمَّ إخفاؤها بمهارة بين الأثاث المهمل.

- هل أنت متأكدة أن أمك على قيد الحياة؟

- أجل.. قلبي يحدثني بذلك، وينفطر شوقاً إليها.

- لقد قتلها الطلاق.

- بل قتلني أنا.. بلا شك.. إنها تعيش حياتها.

صمتت قليلاً، ثم قالت:

- لم أدر.. لم احتفظ أبي بأثاث أمي؟..

- ربما.. قد يكون لأسباب.

من خلال الأثاث، وهي تقلبه، أدركت "سناء" أشياء كثيرة، وغريبة عن الأيام الماضية، كانت تعيش معها، تحدثها باستحياء عن الأجواء التي عانتها أمها في هذا البيت، وعن الكتب التي كانت تقرؤها، وفي صفحاتها استدعاء لأجمل المعاني، توشي بطبعها، وتعبر عن أصالتها التي لم تندثر، وعن رفضها السلوك الأخلاقي في أبيها، فلم تستقر في أحضان الجهل، والتقليد.. كل قطعة من هذا الأثاث تحكي حكاية، أو ذكرى، أو إشارة.

أحّبتها.. أحسّت بلمسات أمها، وفوح عبيرها في نفسها، حتى صارت نديمها زاويتها، ومن خلالها ترسم مشاعرها بكلمات على الورق، وكلها ثقة بلقائها، وفي صدرها زاد من الصبر وجيشان من العاطفة، وخيالات واعدة.

كانت تحس بهاتف يهتف باسم أمها، يطأ الريح ليستريح في أذنها، والدجى ساكن يروع جفونها، والغياب بعيد المسافات، وتأمل أن تعود، وفي عودتها سرّ يلمس الأرض فتخضر من خطواتها، والصخر يورق من سروره.

بقي هذا الأثاث البالي هارباً هاجساً يحرّض مشاعرها، ففي لمسة تورق البهجة في نفسها، وتتداعى صور الطفولة، وتتدافع لتثبت وجودها، فسرير أمها لا يزال محشوراً بين الأشياء.. ويمتد خيالها في الفضاء، ثم يتبعثر كالنجوم الساهرة على ملاءة السماء.. ويبقى ظل أمها يحتضنها.. ومع النعاس يغادر، ويتلاشى بين زجاج النافذة، ونور المصباح.. حتى إذا أسفر الصباح صحت على صوت يعجّ بالعويل، فتجري خلفه، وتقف أمام زوجة أبيها بدون حراك، وتقول بهمس: يمكنني تصوّر أشياء أسوأ، وتحمل الوعاء لتسقي الزرع، وقد ينسكب الماء بعيداً عن الأصص، فتصرخ بها:

- أراك تسكبين الماء على الأرض.

بصمت تقول:

- كما ينسكب الهم من نفسي.

بعد ظهر يوم حار، خرجت "سناء" التوت في الطريق الرئيسي الذي يتوسط الحي، وعلى جانبيه البيوت المتراصّة، المزدحمة بالسكان.. عبرت القنطرة الأثرية ثم تراءى لها السور الفينيقي، تحيط به مجموعة من القلاع.. كانت تشعر بالتعب، الذي مزج بمشاعر الترقب، والأمل في قضاء وقت تتنسم فيه عبق البحر والراحة، كانت تترنّم بأغنية بصوت خافت، تعبر عن ابتهاجها وهي تطل على الشاطئ.. كان الأطفال يتزحلقون فوق الصخور الناعمة، ويردد الهواء أصداء مرحهم، ويخفف النسيم عبء الرطوبة، وعلى مسافة تقوم بعض النساء بأعمال اعتدن عليها.

منظر السور كان يشدّها إليه، وتركّز عينيها على نافذة طولية فيه، ثم تنتقلان، تستحمان في زرقة المياه، وترحلان مع زوارق الصيادين.

ضحكتُ وأنا أناديها من بعيد:

- لقد طال انتظارك، أليس كذلك؟.. الوقت يبدو طويلاً حين يكون الإنسان وحيداً في حالة الانتظار.

- بلى..

- أجدك وأنت في ظل السور تركّزين عينيك عند نافذة معيّنة فيه.

- أجل.. إنني أعيش لحظات سعيدة وأنا أتأمّلها.. أودّ لو كان لي جناحان لطرت إلى حيث كنت.. أتساءل: هل الشيخة "بدرية" لا تزال تعلّم الأطفال في بيتها.. وتسرد لهم الحكايات؟

- لم تذكرينها الآن؟

- سنة مرّت كالحلم وأنا في الخامسة من عمري، علّمتني أثناءها سوراً قصيرة من القرآن، وشيئاً من القراءة والإملاء.. السنة مرّت كالخاطرة الملهمة، ثم خطرت بعيداً وسط المشكلات في البيت، فكان آخر عهدي بالتعلم..

ثم تنهدت وهي تقول:

- وآخر عهدي بأمي أيضاً.. وحُكم علي بالجلوس في البيت.. لم يكن بوسعي أن أصرخ، أو أبكي.. فكانت عيناي تدوران بين الأشخاص بصمت حائر، وأمي تفرغ بهمس كلمات في أذني، وتضمّني بحنان إلى صدرها:

- الآن قد غدوت شابة، والحال تغيّر.

- وتبقى الشيخة "بدرية" شاخصة في ذهني.. كانت تحبّ الأطفال وقد حُرمت من الإنجاب.

ضحكت وهي تقول:

- أتذكر عصاها الطويلة من القصب، كانت تطالنا بها، وهي في مكانها أمامنا.. وإن مللنا وزعت علينا السكاكر، ومنحتنا فرصة للعب.. كم أودّ أن أراها ثانية!

أدرت رأسي إليها، وبهدوء قلت:

- لقد نفضت يديها من هذه المهنة.

- لماذا؟

- لأنها ماتت في مكة وهي تؤدي فريضة الحج.

فوجئت بالخبر، وبذهول نظرت إلى النافذة، ودمعتان ساخنتان تتدحرجان على خديها.

أدركت بأنني أخطأت في إخبارها، بأسف قلت:

- ما أغباني! ما كان عليّ أن أخبرك.. انسي ما قلته لك.

- لا أستطيع.. ستبقى الشيخة "بدرية" ذكرى دائمة في خاطري.

تدخل القدر، وابتسم ساخراً من أفكارنا، حين اقتربنا من صخرتين تحجزان الماء، والموج يلطمهما، شاهدنا قطة رمادية تندفع، ثم تتراجع في انزعاج، وتربض، وهي تنظر بهدوء وحذر إلى شيء ما، اقتربنا لنرى ما روّعها.. قالت "سناء" مبهوتة:

- انظري.. هذا أخطبوط، انظري إلى شكله الأسطواني، وأرجله الثمانية الرأسية، وكيف يتثبّت بالصخرة.

فقلت بانبهار:

- أجل.. إنه كذلك..

ثم ضحكت، وأنا أقول:

- ولكن ليس كما تلفظين، بفتح الهمزة والطاء، إنما بضمّهما، فنقول: (أُخطُبوط) كما صحّح لي أبي.

ثم عدنا إلى الحديث العادي البسيط، الذي يدور عادة بين صديقتين، وقبل أن نفترق قلت:

- المسجد قريب من هنا، والنساء الآن مجتمعات وقت العصر، لحضور درس الدين.. هل تأتين معي؟

فكّرت برهة، وبلهفة قلت:

- إنني أتوق إلى الذهاب معك منذ زمن بعيد.

- إذاً، هيا معي هيا..

مشينا باتجاه المسجد، وصعدنا درجاته العديدة، ثم انتهينا إلى الغرفة المخصصة.. كان ترحيب النساء "بسناء" حاراً، وابتساماتهن ودوداً ورقيقة، والبشر يعلو وجوههن، وهنّ يتبادلن معها الحديث بمتعة وشوق، وبعد برهة قالت:

- معذرة، لن أطيل البقاء، جئت دون علم من زوجة أبي.

وبعد حديث قصير نهضن يودّعنها.. في الطريق تسمّرتُ في مكاني حين سمعت زوجة أبيها تقول:

- لقد تأخرتِ يا بنت.. انتظرتك في البيت طويلاً.. أين كنتِ؟

- في المسجد، تعرفت على بعض النسوة، وسأثابر على درس الدين عصر كل اثنين.. لم تسألينني أين كنت؟ لم أعد طفلة صغيرة.

- هذا ما كنت أتوقّعه.. خروجك عن طاعتي.

- وإقبال على طاعة الله.

ارتفع صوتها، ولوّحت بيدها، وهي تردّد بحدّة:

- سيكون عقابك أليماً.. وسوف ينتهي كل شيء على خير.

*   *   *

في ظلام الليل، تراود "سناء" الأحلام.. تسري بها وعيناها شاخصتان إلى السماء بين الكواكب، والذكريات تتردّد في أعماقها كالعواصف، والأحداث تلطمها كالموج.. وتجعل من صدرها مرفأ ترسو في بحر من الحسرات، وتعصف بها الأشجان.. ما أكثر الأحلام، تؤمن بها، ولا تتحقق.. تتساءل بعجب: لماذا تنجح في أمور، وتفشل في أخرى؟!

في ضوء القمر المنهمر من النافذة، تناجي خيال أمها، تشكو لها الشوق والأسى، وعمق الجراح، وحبّها الذي أصبح ظلاً لها، لا يفارقها، يزيده تأججاً ما تجده من الكره، والصدود لدى زوجة أبيها، حتى توهّمت لصورتها هاتفاً في سمعها، ممزوجاً بكلمات تستعيدها من الماضي، وغدا خيالها شعاعاً يلوح لبرهة، ويختفي في مكامن الدجية والغربة، ويترك قلبها في قلق هائل، وظل متعطّش في الزحام، وعند معبر كل طريق.. وتبقى أمها ألقاً ضائعاً ولمحاً خاطفاً.. وبحيرة تتساءل: هل اللمحة من طرفي وحدي، أو من أمي أيضاً؟

لو أتيح للجدران أن تتكلم، فأي شيء تبيّنه وتقوله؟.. مرّ عليها زمن طويل.. هل كان المكان وكراً للمعاناة، أو ألحاناً تتنافى؟.. هل كانت النافذة معبراً لآهاتها في ظلمة الليل؟

تأوّهت بحنين يتنامى مع الشجن، وفي صدرها صراخ لا يسمع، ولولا هذه النافذة لكان حالها كمن في ظلمة السجن.. تبتسم وهي تقول: لا يقدرون على غلّ أحاسيسي، وأنا أحوم في الفضاء، وأضرب بجناح في الآفاق.. وحين تشعل المصباح، لا ترى في سقف الغرفة إلا خيالاً باهتاً، ووجهاً مسافراً.

ساعدتها العزلة على التأمّل، واكتشاف الذات، أخذتها إلى زمن الطفولة.. كم كانت الدنيا كريمة معها، حين وهبتها أماً زرعت في نفسها المعاني الرائعة في كلمات، وحكايات، ثم استردّت ما وهبت، وتركتها في العذاب تتخبّط، بتحسر قالت: يا ليت جودها كان بخلاً!

كانت تبحث في زاويتها بين الأشياء المندثرة، تنبش فيها، وتأنس من العناء.. كانت مأواها تحميها من الوحش البشري، وتمنحها فرصة تمارس فيها طبيعتها الصافية، وتجيش نفسها بشتى الانفعالات، في رحلة خيالية ممتعة.

كانت الوحدة تقتات من حاضرها، بعد أن جرحت الدرب بخطواتها المتعبة، وفي العتمة تتراءى نجمة متلألئة في السماء، تحدق في وجهها، وعندما يطل الصباح ترحل.. بحزن تتساءل: ألا يشدها للبقاء شيء؟ ألست شيئاً يستحق البقاء من أجله؟.. أين محطتها التي عندها استراحت؟

المكان خال، والهررة يلاحق بعضها بعضاً، وخلف النافذة عالم يزخر بالحياة، وفي ركنها يسكن الصمت، تتساءل: هل من أحد يعتريه كما يعتريني من الوحشة، والأحلام، لماذا لا أحقّق شيئاً منها.. لا أريد أن أتمسّح بأعتاب البكاء.

في ظلال الظروف القاسية، والسكن العقيم من الرحمة، تهيّأت "سناء" عصراً للخروج، سألتها زوجة أبيها:

- إلى أين تذهبين؟

باستنكار أجابتها:

- هل يهمك أمري حقاً؟

بغضب نظرت إليها، وقالت:

- عليك مسئولية غسيل الأطباق، وتنظيف البيت، وسقي الزرع و..

- أدّيت كل شيء.. سأذهب إلى المسجد.

التقينا عند مدخله.. انطلقت في الحديث، تصرح بما في نفسها:

- الوحدة يا عزيزتي تكاد تقتلني.

- هل نمت اليوم جيداً؟

- لا، أكاد أصاب بالجنون من قلة النوم.

- دعي التفكير جانباً، ولا تحبسي نفسك في البيت طول النهار.. أحسنت بالمجيء إلى المسجد.. هو ضرورة ملحّة للتخفيف عنك.

- فيه أشعر بالارتياح، وأتعرف على حقيقة الحياة من كتاب الله، فالمبادئ الربانية تترسّخ في أعماقي.. وينبغي أن أعمل بها، وأدافع عنها.

- هل تمنعك أم خالد من المجيء، والتعرف على النساء الصالحات؟

- اعترضتني أكثر من مرة، وهجمت عليّ لتضربني، فأبعدت يدها عني، وأشعرتها بأنني كغيري من البشر.

ثم هزّت برأسها وهي تقول:

- لا أريد المزيد من المفاجآت المؤلمة.. استجديت عطفها، وقلت لها:

- لقد خسرت أبي بوفاته، فلا أريد أن أخسرك.. أعتذر إن كنت تسببت لك باإزعاج.

- أحسنت..

- أرغب في التمشّي على رمال الشاطئ.

- لا أستطيع.. لديّ شغل.

لجأت "سناء" بمفردها إ‘لى الصخور، كانت لها ملاذاً، تراخت عندها لمستها بكفّها.. سرى الأمن إليها.. لا تريد أن تحمل الريح سرّها، قد يتقاذفه الموج، وينشره في الأسماع.. نظرت إلى الأطفال بدهشة، وهم يتزحلقون ببراعة على الصخور المرتفعة، الناعمة، وأصواتهم تشارك الموج في هديرها.

لم تدر كم مضى عليها في تلك اللحظة.. أفاقت من ذهولها على همهمة، كان بينها صوت زوجة أبيها.. استدارت رأتها تتمشّى على مقربة منها، خفق قلبها بشدة، ووقفت أمامها، خشيت أن تهينها أمام النساء والأطفال، اقتربت منها، وقبلتها وقالت:

- إنها مفاجأة يا خالتي.. أليس البحر رائعاً.. هل نتمشّى معاً على الرمال؟

رمقتها بنظرة جانبية لئيمة، ثم قالت:

- لم أنت وحيدة هنا؟

- لست كذلك.. الشاطئ مزدحم بالناس.. أشعر هنا بالحياة جميلة، وممتعة.

التزمت أم خالد الصمت.. ثم اتجهت في الطريق المؤدي إلى البيت، دون أن تنظر إلى الخلف.

قالت "سناء" في نفسها:

- يحقّ لها التزام الصمت.. ولا يمكنها أن تشهر السلاح ضدي أمام الناس.

ثم تمتمت، وهي تضحك بسخرية:

- لم لا تبتسم للطبيعة؟ أم أن الإرهاق سيصيب شفتيها لو أنها ابتسمت؟

في البيت، تحت شجرة النارنج، كان اللوم قاسياً، وعنيفاً، سألتها "سناء":

لم كل ذلك؟.. لم أرتكب أدنى خطأ.. ولن أرتكب.. أودّ لو نكون صديقتين.

فرّ الدمع من عينيها، وهربت إلى زاويتها.. من خلال النافذة، كانت ترى البسمة في السماء، والدعوة إلى الانعتاق من هموم الأرض، فترسل إليها ريح الصبار، همس الورود وقطر الندى، ويخفق قلبها بالشوق، وتتردد في صدرها الأسئلة.. لقد طال غياب أمي فمتى تبين، ثم يصفعها الصمت والسكون.

في أحد الأيام، جلست على مقعد خشبي في الحديقة العامة لهذا المكان ذكرى أثيرة في نفسها في زمن طفولتها، عنده كانت ترخي رأسها في حضن أمها، وهي تحكي لها عن النحلة الماهرة في كسب الرزق، والصرصار الكسلان، والفراشة المهفهفة بين الأزهار.. وتعبر في ذهنها حكاية البنت الجميلة تغار من أخوتها، فيتآمرن عليها، ويلقينها في قبو مهجور، وكانت تسلّي نفسها بترديد السور القصيرة من القرآن، وتحوك من القش الملقى على الأرض سلاّت صغيرة، تحمل فيها أحلامها، وأمنياتها، إلى أن فرج الله عنها كربتها على يد شاب، صارت له عروساً.

حكايا صغيرة، زرعتها أمها في نفسها، علمتها التعايش مع تجارب الحياة القاسية، والشغف بالطبيعة، مما جعل ذكرياتها مفعمة بالمرح، والحيوية، كانت تتردد إلى هذا المكان، تلمس بكفّها المقعد برفق.. تراقب الطيور تقفز من غصن إلى غصن، وتدقق في حركات عصفورة متلهفة تزقم فرخها، وتعلمه الطيران.. قد يمر أمامها بائع الفستق المشويّ، والرائحة تعبق في الجو.. وبائع الكعك بالزعتر، تتألم حين تمد يدها إلى مخبئها الخاوي.. وبهمس تقول: ما أقسى الحياة مع الفقر!.. يا لزمن الطفولة ما أكرمه.. لقد تبدّل الأشخاص، وبقيت الأشياء.. ذكرى ارتبط فيها الماضي بالحاضر، والحنان بالقسوة.

التقيتُ بها، والحزن يطوف على وجهها، قالت:

- ما يثير قلقي التفكير في المستقبل.. الطريق إليه وعرة.

ثم تناولت حفنة من ورق الشجر اليابس، فركتها ونفختها، وقالت:

- هكذا أيامي تذهب هباء.. كل حادثة تمرّ تؤثر فيما يليها.. الذكريات تساعدني على رؤية ما لم أره منذ فترة طويلة.. أظن بأني بدأت الرؤية للأشياء بشكل أفضل.

- معاني آيات الله في القرآن، والواقع والذكريات تنوّر عقلك.

- والنصر في النهاية للقيم، والأخلاق الفاضلة.

بانبهار قلت:

- إنك تتمتعين باستقامة مميزة، وما عليك إلا التخلص من الترسبات التي اجتاحتك.

ابتسمت وهي تقول:

- أراني في ركني أتلذذ بذكر الحكايا، ويأتيني الإلهام في الكتابة أحياناً.

سكتت لبرهة ثم قالت:

- أتعجب من النسوة اللائي يجتمعن على النارجيلة وشرب الشاي، والثرثرة التافهة.

- هذا واقع أكثر نسائنا في المجتمع، تضييع الوقت.. ينبغي أن يكون للإنسان مهارات، وطموحات وأحلام، يسعى إلى تحقيقها.

ربتُّ على كتفها، وقلت:

- أراك أحياناً خيالية، تطيرين بجناحين فوق الأرض.

- لأهرب من الواقع.. يبدو أن الخيال يولد مع الإنسان، ألا تجدينه عند "خضرة" المرأة العمياء، انظري إليها حين تزرع الأزهار في الحوش، بطريقة منسّقة، وتلمسها بيديها، وتتحدّث بما لم تره.. ليس للخيال قيود، خيال البصير مقيّد بالمرئيات، وخيال الضرير في بصيرته.

- هكذا أبو العلاء المعري، في قصائد يصف السماء، وما فيها، والأشياء ببراعة فائقة مذهلة، وهو الأعمى منذ طفولته.

صارت الأشياء المنسيّة في ركنها هاجساً، تلهث بينها، تنبش فيها، وتحدثها.. بلهفة تتساءل: هل تركتها أمها لتعود، أم أنها رحلت بدون عودة؟.. كان توقعها للقاء توقعاً مشبوباً.. تنظر إلى النجوم الصغيرة المتناثرة في السماء.. تتأمل نجماً أكبر، تقول:

- أكانت أمي كهذه بين النساء؟

في كل مساء تبحث عن الوردة التي ينبتها خيالها، عن الزهرة المستحيلة، والممكنة في آن واحد، وتظل عيناها متعلقتين بالنجوم المبعثرة، تبدو وكأنها تدعوها بابتسام.. وترى أمها أشبه بالنجم الذي يهدي في ركنها، ويتحول إلى سرّ من أسرار الليل الهائل.. ثمّ ينتابها النعاس، ويفرّ الألق بين زجاج النافذة، والضوء الخافت.. ولا شيء غير الجدران الخالية.. فما كان لم يكن سوى سراب.. ثم تصحو على عويل الريح، يتردّد مع عويل نفسها، والطيور الحائمة، وحساسين الصباح المشقشقة، وزخات المطر.. فالوهاد، والبطاح ظمأى لا يدري بسرّها مهما سرى، وظمؤها مقيّد بجراحاتها.

ابتسمت، وأنا أقول لها:

- الحياة ليلها شديد الحلوكة، ثم ينفجر الفجر.

- وآمالي عريضة، تتحدّى الصعاب، ثم ستظهر.

- كلّ شيء يتغيّر.. راقبي القمر في علياء السماء، هل يبقى على حال واحدة؟.. تأمّلي الكون، هل يدوم على رتابة معينة؟

- لا، طبعاً..

- هكذا حالنا في مجتمعنا، نعاني من الظروف القاسية بعد رحيل الاستعمار، علينا أن ننهض أفراداً، وجماعات، لنتغيّر ونغيّر.. نلملم ما اندثر.. لا يكون دفعة واحدة.. يحتاج إلى تفكّر، ومراحل.

- هذا ما أريده، التطلع إلى التغيّر، إلى الانطلاق نحو المرتقى، والسمو.

بهدوء قلت:

- ولكن.. أراك تتعلقين بسراب واهٍ، تشغلين فكرك فيه كثيراً، ترين حياتك متوقفة عليه، حتى ضاق بك المكان والزمان.

- حقاً، أنا كذلك، أصبحت أشعر بالغربة، وأتساءل: لماذا أجري وراء سراب؟

تأوّهت وهي تقول:

- هل الأم هي الوطن، والوطن هو الأم؟

استطردت:

- أراني فقدت حياتي، ودنياي بفقداني لأمي.. الوحدة، والوحشة تضغطان عليّ.. وأكتوي من نفسي بنفسي.

أطرقتُ برهة، ثم قلت:

- إنك محقّة، لو كانت معاملة أم خالد فيها حبّ وحنان ورعاية، لما انتابك هذا الشعور المتزايد.

- قد يكون هو السبب.. معاملتها تخلو من أيّ لمسة عطف، وإنسانيّة، والأمور تتأزّم بيننا.

بأنين صامت، والدموع تنهمر على وجهها، قالت:

- سلبتني الأمان، وجعلتني ضائعة مشوّشة.. كلما قلت يومي هذا خير من أمسي، فتّقت جرحي، بإهانتها وتحقيرها وسخريتها اللاذعة.. سنوات عمري تجري بجنون، تجرفها روحي جرفاً.

بهدوء قلت:

- فتّشي عن عيوبك، حاسبي نفسك، وتداركيها إن وجدت.

- لم أجد غير الصبر ألوذ به.

ثم أردفت:

- إن الناس يتقاتلون أحياناً، بعضهم يتقاتل بالأيدي، ومنهم من يتقاتل بالألسن، وأنا يصيبني الحالتان.

كانت تنتظر الليل، ومع الانتظار أمل في انبثاق طيف أمها، قد يطول، وهي تحدق في العتمة، والضوء الخافت، وفي ظلال الأشياء، يخيّل إليها أنها تراه لبرهة قصيرة، ويختفي في حركة العالم الليليّ، ويبقى في تصورها متحوّلاً من الفكرة إلى الصورة، ومن الصورة إلى الفكرة.. تتعذّب في متعة البحث.. وبلهفة تتساءل: هل سأظل أبحث عن صورة معيّنة، أتتبع خيالها موجة موجة، وملامحها تتأرجح بين التصوّر والتعين، بين الضوء والعتمة؟.. ثم يهجرني، ويتركني في قلق، وتعطّش.

تبحث أسئلتها عنها في زحام الوجوه، وفي معبر كل طريق، وفي كل انبثاق مفاجئ، ويبقى وجه أمها ألقاً ضائعاً، ولمحاً خاطفاً.. وتصيبها رعدة وهي تفكر بأن اللقاء مستحيل، لا يتجاوز اللمحة من طرفها وحدها.. وفي سفرها مع الذكريات، تسامرها الأحاديث.. ثم تتلاشى في السراب.. تتعجب كيف يضيع شبابها في السراب؟.. فيه صمت، ووهم من بدور، وورود، وشجر أثقل بالثمار.. ويتلاشى في الدجية، كما يتلاشى القمر، والنجوم في إسفار الصباح.. أما الحقيقة فلم تزل تعيش في داخلها، حنين لأمها، وضمّها، وحكاياها، وها هي أشياؤها تنبشها، وتنبعث الأحداث متتالية من حفريات الذكريات، تمكنها من الرؤية بوضوح، وتعلم بأنه قدرها، وبخوف تصرخ: يا ويلتي من قدري.

في الصباح راقبت الأزهار في الأصص الموزّعة في الليوان، رأتها قبل طلوع الشمس تتفتّح، وبعد الشروق بقليل تأخذ بالانكماش.. بذعر تتساءل: أهكذا تتفتح ذكرياتي في نفسي ليلاً، ثم لتذبل في غمرة التعب نهاراً؟.. هل ستموت؟.. انبعث من داخلها صوت، يقول: لا، لن تموت.

*  *  *

في أحد الأيام، كما نمشي فوق الرمال المبلّلة عند الشاطئ، والبرودة تلسعنا، والموج يتحفز للنشاط، قلت "لسناء":

- انظري إلى السماء. الشمس قد احتجبت وراء الغيوم الداكنة، والضوء خفت، إنّ هناك عاصفة وشيكة على الهبوب.

- يجب أن نعود، يبدو أنها اليوم ستكون قويّة، تكاد تنفجر.

بسرعة اتجهنا نحو الحيّ، ونحن نردّ عنّا صفعات الريح، وما لبثنا أن تفرقنا.. في الليوان كانت "سناء" تنظر إلى شجرة النارنج بحزن، فالطيور فرّت منها مذعورة، وهشّمت العاصفة فروعها، وألقتها في كل اتجاه، ثم أخذ المطر ينهمر بغزارة.. كانت تراقبه، وبتعجب تقول: ما أمهر المطر، وما أحذقه، يستطيع بنغماته أن ينثر الحكايا في الأذهان، ويسرق هدأة القلوب.. تأوّهت وقالت: ولكن ما في داخلي أكثر غزارة.. النبات يرتوي، وقلبي يتحرق.

سكنت العاصفة وتوقف المطر، وتبعثرت فروع الأغصان، فلامت الشتاء على قسوته.. كان كالعاصفة في روحها، يجتاح ذكرياتها، ويوقظ نفسها رغبات ممتعة تمنتها، ولا تحصل عليها.. رأت فيه انسجاماً لا تقدر على مقاومته، فيه صدق مع النفس وتعرية من الشر، وكشف عن مواطن الضعف في داخلها.. ابتسمت بمرارة، وقالت: أليس الحنين الدافق في نفسي ضعفاً؟.. أليس الحنين إلى المعاملة السمحة التي تقرّب الناس من بعضهم ضعفاً؟ آه من الحنين، لشدّ ما يكثف القلق في روحي!

بقيت الشجرة شامخة برأسها رغم ما اعتراها، عرّفتها أن الحياة لا تدوم على حال واحدة، تسمعها صوتاً لا تراه، يقول لها: لا تستسلمي للضعف، كوني قوية.

ثم أشرقت الشمس، وغمرت الكون بضيائها، بعد أن عصرت الغيوم ماءها، لملمت "سناء" الأشياء المهشمة، ثم أقبلت على شجرتها تواسيها بلمسات حانية، وتطيل النظر إلى ما أصابها.. ثم سقطت عيناها على التربة حولها، دهشت حين رأت رؤوس تالات انبثقت منها.. بكت من الفرحة، وبألم قالت: شجرتي قد نضجت، وأنا لم أزل سجينة في قفص، هل حكم عليّ بالمؤبّد؟

أحسّت ببرودة، تدثرت، وأسندت ظهرها إلى الجدار، ثم استغرقت في نوم عميق.. لم تصح إلا على هرير قط البيت، وهو يتمسّح بها متململاً، ويقوّس ظهره، ويموء برقة.. مسحت بيدها عليه، وبرأفة قالت: ما بك يا رفيقي؟.. لقد تأخرت عليك بالطعام، سأشعل النار، وستشعر بالدفء.. ربتت على ظهره، وقالت: سأتأخر عنك، نم بين الأصص.

توجهت إلى ركنها.. هنالك أشياء تشدّها دائماً، تبحث فيها عن خيال لا تستطيع إمساكه أبداً.. تراخت فوق الفراش، وتسمّرت عيناها في السماء، تنتظر الليل، لتنظر إلى نجم مختلف، يثقب حجب الظلام بضوئه الباهر، حتى إذا أسفر الصباح اختفى رويداً رويداً.. تململت في مكانها وهي تقول: هل سأقيم مع همومي تطرقني طرقاً؟.. لا أدري إن كنت أعيش في عالم الخرافات، بعيدة عن الواقع.. ولكن لدي ذكريات حقيقية أحتفي بها.,. ثم يتراءى لها وجه أبيها، فتقول له بعتاب: لم تكمل تصحيح خطئك، وتعرّفني بأشياء أمي.. لا بأس، إنني أكتشف أسرارها وحدي شيئاً فشيئاً.

في صباح اليوم التالي، كان الجو صاحياً، مشرقاً، والهواء بين إنعاش حيناً، وصفير خفيف في الآذان حيناً آخر، حين انطلقت أم خالد مع أولادها لتزور أختها في الضاحية، رغم جمال اليوم، شعرت "سناء" بالوحشة وباليأس يتسرب إلى نفسها.

لم أشك في سوء الحالة النفسية التي تكون عليها، وهي مرغمة على لزوم البيت، فقررتُ أن أمضي إليها، لأسرّي عنها، قلت لها:

- أرى لونك اليوم باهتاً.

- إني مرهقة بعد أن أدّيت ما عليّ من أعباء البيت.

- هل نمت جيداً.

- لماذا تسألين؟

- لأني أعلم أنّك تعيشين مع التذكّر والأحلام.

- هذا ما يحصل بالفعل.

- خففي عنك، واهتمي بنفسك.

- ذهاب إخوتي أشعرني بالضجر، والغربة.

سكتت لحظة ثم قالت:

- في مثل هذا الظرف تشتدّ حاجتي إلى أمي.. إني أراها في وجه كل أم حنون مع أولادها، وأرنو إليها بطرف كسير، وأوار الحنين يهيج في مقلتي، ويزيد من ألمي.

- هوّني عليك..

- لماذا تركتني أمي؟.. أرى حياتي تتدمّر بغيابها.

رأيت أن أغيّر من اتجاه تفكيرها، فقلت بدهشة:

- تلك القلادة في عنقك جميلة جداً، من أين حصلت عليها؟

- سأخبرك.. لقد وجدت بين الأشياء صرّة معقودة.. فككتها، فوجئت بثياب أمي وفي طياتها هذه القلادة، منقوش عليها اسمي، تعجبت، وتساءلت: هل تركتها عمداً؟!

صمتت قليلاً، وقالت:

- أحسب بأنّ القدر يحركني.

قلت بانبهار:

- أمر غريب، لماذا تركتها مع بعض ملابسها؟

- هذا ما يحيّرني.. ألم أقل لك إن القدر يحرّك حياتي؟

- سنقوم برحلة غداً بعد الانصراف من المدرسة ظهراً.

- إلى أين؟

- إلى المعبد الأثري الكائن وسط الحديقة العامة، سيصحبنا العم حلمي والد صديقاتي هند ومنى وهناء.. أتودّين مرافقتنا؟

ضحكت من الدهشة، وشكّت في حديثي، وقالت:

- "حلمي" الحذّاء؟

- أجل.

- أخشى أن تعود زوجة أبي وتفتقدني.. أفضّل البقاء.

- لا تمانعي، يحق لك الخروج معنا، والاندماج مع من في مثل سنّك والاستمتاع، إنها الرحلة المدرسية الأولى بعد الاستقلال.

- قد أتعرض لبعض المتاعب.

فكرت قليلاً، ثم قالت:

- سأسمح لنفسي بالخروج، دون أن يسمح لي أحد.. أعلم أنها مغامرة، سأترك الأمر لمشيئة الله.

- هذا من حقّك.

عند ظهيرة اليوم التالي، تسللنا من الباب الخلفي للمدرسة، كانت النسمات تميل نحو الدفء، ونحن نسرق الخطى باتجاه المعبد، وما لبثنا أن لمحنا العم "حلمي" مع بناته بانتظارنا، وكنا زهاء العشرين.

ما كان دليلنا ذا مكانة في مال، أو مركز اجتماعي، إنه مجرّد حذّاء ماهر في صنع الأحذية الأنيقة، تميّز بصفات تركت آثاراً في أذهان من يتعامل معهم، لما لديه من ثقافة، ومعلومات غزيرة، يسردها على زبائنه بفصاحة، وهو يقلب الحذاء بين يديه، ويطرق جوانبه.. وكثيراً ما كان يريهم أوراقاً يخرجها من الدرج، كتب فيها أفكاره وذكرياته، والدور الذي قام به مع المجاهدين ضد الاستعمار، حتى نال الوطن استقلاله.

كنت أستمع إليه، وهو يهيء حذائي، فأحسّ وكأني كبرت في لحظات، وجاريته في سنّه الخمسين، وأفكاره التاريخية، فأتساءل باستغراب: من أين تنبثق أفكاره التي يصوغها بفصاحة.. أفهم بعضها، وما غمض منها، أسأل عنها والدي.. وكان كثير الصمت حين يكون خالياً برفقة الأحذية.. لعل الصمت معلمه المبدع.

عرف بجدّيته، فلم تختلط بابتسام، وبتحديه لكل صانعي الأحذية في البلد، حتى إذا ما انتهى من إحداها، ألقاه في الهواء مرة تلو المرة، مؤكداً طول عمره.. أما نحن فكنّا نتباهى بها.

كانت الرغبة والمغامرة تدفعاننا في اقتحام المجهول، ونشعر بالبهجة ونحن نجري بسرعة لنختصر الزمن، ونتواصى بالسريّة فيما بيننا.

هذا المعبد يربض منذ القدم في الجانب الغربي وسط الحديقة العامة، نعرف سوره منذ الطفولة، كنا نختبئ بين حجارته المتداعية من بعض جوانبه، ونخشى الاقتراب من مدخله، لما نسمع من أصوات مرعبة تنبعث منه.

كان العم "حلمي" يتقدمنا كالقائد الهمام، بخطوات الواثق من نفسه، وطربوشه الأحمر يعلو رأسه، والابتسام يشرق على وجهه، وهو يشجعنا على اللحاق به، عند المدخل شاهدنا مصراعي الباب المتهالكين، المسندين إلى الجدار.

في بهو العبد وقفنا ذاهلين، زاغت أعيننا بين الأشياء، وعرتنا الرهبة، وأحسسنا بعمق القدم يفوح منه، ويمزق سكونه هرير الكلاب الضالة الهزيلة، والهررة تجري مع صغارها.. وكان أكثر ما يثير سكون المكان المهجور، نعيق البوم، وتطاير الخفافيش في طيش وذعر، إذ كانت تلتطم بالجدر من غير وعي، نظراتنا تلاحقها وتذكّرنا بالأصوات المرعبة التي تصدر من البرج المرتفع جانب سور الحيّ، ومن القلعة الخاوية، في أصداء متماوجة.. الآن، أدركنا ونحن نشاهد ونسمع البوم والخفافيش بأنها ليست كما يحكون بعفاريت، وشياطين، إن هي إلا حيوانات وطيور متشرّدة.

كل ما في المعبد استأثر باهتمامنا.. النوافذ المستديرة ذات الزجاج الملون، تلامس السقف، يتسرب منها شعاع الشمس، فتلقي ظلالاً كألوان الطيف، والأوثان المتساقط بعضها، والقائم بعضها الآخر، وتيجان الأعمدة وغيرها.. والعم "حلمي" يمدّنا بالمعلومات بين الحين والحين.

كانت "سناء" بجانبي، تنظر إلى الخراب من خلال الأشياء، وإلى الأوثان الممثّلة لأشخاص، وتاريخ أمم قد بادت، قلت لها:

- ألا تستحقّ هذه التأمّل في الماضي؟

- أجل، هكذا الحياة، زهو وجمال ثم حطام.

لفت دليلنا أنظارنا إلى أكبر التماثيل، أعلمنا أنه للحاكم الروماني "دقيانوس" الجبّار، باستنكار سألته:

- لم لقب بالجبّار؟

قال:

- لظلمه رعيته، وادعائه الألوهية، والتنكيل بكل من تمرّد عليه.. تحدثنا الأساطير عن شباب مؤمنين بالله الواحد، رفضوا الانصياع للشرك، فتهدّدهم بالقتل، فهربوا من وجهه إلى كهف في الجبال المحيطة بالبلدة، يصحبهم كلبهم، ومن ثم لم يعلم عنهم شيئاً.

صمتُّ برهة، ثم قلت:

- هذا ما تحدّثني يه جدتي، فاسم "دقيانوس" تتداوله الأجيال في بلدتنا.

نظرت "سناء" نظرة طويلة، ولاح الحزن في عينيها، وبهمس قالت:

- إن هم لجأوا إلى الجبال خوفاً، وهرباً من الظلم، فمن لي ألجأ إليه؟

ابتسمت وأنا أضغط على كفّها.. ثم لمحنا نظرة "حلمي" القلقة حيالها، وأشار إلى قبر ناهض وقال:

- هذا هو مكانه.. هكذا الحياة، نهايتها الفناء.

ازداد توغلنا في بهو المعبد، ونحن نتأمّل وندهش.. وتُثار تساؤلاتنا، والعم "حلمي" يوضح لنا.. ثم أعلمنا أنّ المستعمرين اتخذوه مقراً لكثير من جنودهم، وألحقوا به الخراب.

 كنّا نمشي فوق الركام المتداعي، تؤنسنا ظلال الألوان والأنوار، وضجيج البوم والخفافيش المذعورة، وعيونها الثاقبة تطاردنا بشذر، ثم لا تلبث أن تسكن وتختفي في الجحور.

صعدنا السلّم الحجري عند نهاية البهو، وقلوبنا تجف من الظلمة، إلا من خيوط النور المتسرّبة من النوافذ الضيقة، تمنحنا النسمات النديّة، حتى إذا ما انتهينا إلى السطح، أخذنا بروعة المشهد، ونظراتنا تتجول بين حقول البلدة، وجبالها، وبيوتها المتناثرة.. ثم لتنتقل إلى السور والخندق المحيط به، وإلى الأزقّة الرماديّة الملتوية بين الأحياء، وببهجة امتدت نظراتنا إلى البحر، وهو يحتضن الجزيرة كالماس تحت أشعة الشمس.

بفرح قالت "سناء":

- انظري إلى المسجد، يتباهى بشموخ على القصور والمرتفعات.. ما أطول مئذنته؟!

قلت:

- هل تعلمين أنه بني في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟

- إذاً، منذ زمن بعيد.

- أجل، أثناء الفتوحات الإسلامية المباركة لبلاد الشام.

قطع ثرثرتنا العم "حلمي" يقول بصوت مشحون بذكرى أليمة:

- من هذا العلو، كان الجنود الفرنسيون يصوّبون رصاص بنادقهم على أهل البلدة.

كان يؤكد لنا مواقف الاغتصاب، ويغزو قلوبنا وعقولنا بأفكار نجهلها. وأحسسنا بالانتعاش والسماء تظلّنا، والطيور تخرج من أعشاشها تتطاير فوق رؤوسنا بذعر، ثم تختفي في أوكارها.. نظرنا إلى غيمة فوقنا، وببهجة قالت "سناء":

- أودّ أن أمسك هذه الغيمة الوردية.

ألقينا نظرات وداع على بلدتنا ملأى بالحبّ والوفاء، وتمثل لنا الماضي كأنه قد وقع بالأمس، بعد لحظات بدا القلق على وجه دليلنا، كأنه يريد أن ينهي مهمته بسرعة.. اندفعنا نحو الدرج، نتلمس طريقنا إلى البهو.

لم نكن ندري بالمفاجأة التي تنتظرنا، عند المدخل وجدنا حشداً من الآباء تنظر بعيون ثاقبة.. تساءلنا:

- ما المشكلة؟

ما إن رأوا "حلمي" حتى تعالت أصواتهم بغضب، لائمين، شاتمين، متعجبين من استدراج هذا الحذّاء لبناتهم إلى مكان لم يجرؤ على اقتحامه أحد من أهل البلدة قبله، وهو يغطي الموقف بالتجمّل، والابتسام، ولم يبد عليه أدنى أسف، أو محاولة في المضيّ بل بقي شامخاً معتزاً بما فعل.

اقتربت "سناء" مني، وقالت:

- إني خائفة، العقاب ينتظرني في البيت، إني أرى أخي بينهم، عليّ الذهاب.

قلت مهدئة:

- حريّ به ألا يخبر أمه.. لا تقلقي، ثقي بالله، لن يخذلك، ثم ثقي بنفسك.

اختفت في الطريق الملتوي إلى الحيّ، دون أن تودعني.

كان والدي في هذا الحشد.. اقتربت منه وارتقبت الحوار، وشعوري ينازع عقلي، وأملي ألا ينهزم دليلنا أمامهم.. خشيت أن يطفئ أبي فرحتي بانفعاله، راقبته بطرف خفيّ.. كان يبتسم وفي عينيه لوم، وعلى شفتيه عتاب، وكفّه تضغط بعصبية على كتفي.

بوجه طلق قال لهم "حلمي":

- لو تصبروا قليلاً، وتكفّوا عن الغضب.. أرجوكم دعوني أطرح سؤالاً و.. بسرعة بادروه:

- انتهى الأمر، لا حاجة لسؤالك.

- لا بأس.

ثم انطلق مع بناته شامخ الرأس، مستقيم الظهر، بعد أن نفض آثار الغبار عن طربوشه.. وشعرنا بالارتياح لعدم تخاذله.. فقد استطاع أن يعرفنا على شيء من أمجاد الوطن من خلال آثاره، وينمّي شعورنا بالمسئولية، ويطرد الأشباح من مخيلاتنا التي كانت تحدثها الأصداء المرعبة من خلال الآثار، ويلفت الأنظار إلى أهمية الرحلات، ويحدث تغيّراً في نظرتنا إلى الحياة.. كما بقيت هذه الرحلة ذكرى نتصفّحها مع مضيّ الأيام.

يتبع إن شاء الله..