مارد في صدري(1)

نعماء محمد المجذوب

مارد في صدري(1)

رواية: نعماء محمد المجذوب

أصبحت الحياة في الوطن مثقلة، تتصارع فيه تيارات وأهواء، انتشرت بشكل مثير، كل منها تريد إثبات وجودها، وأكثرها لا تمت إلى أصالتنا بصلة، المسافة بينها شاسعة، والجديد منها يلتصق بالأرض، ويقطع صلته بالسماء، حتى غدونا ميداناً للتجارب.. وتصارعت مع التراث في تناقض واضح، ولفظها العقلاء لبعدها عن حقيقة السماء.

الخوف والوجل سرى في نفوس الكثيرين على أبنائهم، هل يعتزلون، أم يغضبون؟

إعصار جامح اجتاح الأرض، اقتلع الجذور، دفنها في الصحارى، تقلصت الحرية، تشتت الشمل، اغتصبت دور، وعمّ الجور.. وكان نصيب أولادي من الفاجعة كبيراً، توزعوا في الغربة، فكان من هاجر منهم إلى استراليا.

فجرت آلام الفراق والأسى والحزن في حياتي، وقتلت البسمة على شفتني.. أمشي بجسد ينعزل عن كل شيء، إلا من نفسي، وما تحمل من أفكار أتأملها في كل فرد، كنت كغيري أحمل هموم الوطن، ما أكثرها! وأتساءل:

لم الهموم، ونحن من أعظم أمم التاريخ، وأزهى البلدان، وطريقنا سوية في منهج رباني؟

حدثنا التاريخ، لم يظلمنا أبداً.. الآن نحن نظلمه.

في استراليا التقيت بالحاجة فخرية أم (سناء)، كان لها وجود محترم في سدني وسط الجالية العربية المسلمة، تحقق ما تصبو إليه من أماني، أثرت الغربة في صقل شخصيتها، وبلورتها من خلال النشاط والمثابرة في جمعيات نسائية عدة، وبرزت موهبتها الشعرية، فكانت تجري معها مقابلات في إذاعة سدني العربية، سمعتها مراراً وهي تلقي شيئاً من شعرها البديع، ينساب بإيقاعات آسرة، تنبض بمشاعر تسيل برقة في عبارات عذبة، الحنين، والشوق إلى (سناء) والوطن نسيجه في عبق روحي.

كنت أراقبها عن كثب، فالغربة استنزفت أيامها، والشيخوخة غزتها، ولما سألتها عن سناء تنهدت، وبقلب ينفطر بالشوق، استرسلت بلذة في الحديث، وهي تسند بمرفقها على كتف الأريكة الفخمة، ونظراتها ترحل بعيداً تلامس الآفاق:

سارة وهالة ابنتا علاء تخرجتا من الجامعة، وحفيدتها فخرية غدت شابة جميلة في طريقها إلى التخرج.. ضحكت بسرور وهي تذكر حفيدها محموداً:

- أما محمود فهوايته دراسة اللغة العربية، وكتابة الشعر.

- كجدته.

سناء احتفظت بذكرى والديها في اسمينا، كعادتنا نحن العرب في الوطن.

*  *  *

انهالت الذكريات عليّ بكل ملهماتها، وفي داخلي شيء يتكسر، يربكني أمام الأحداث والمواقف، ويشعرني أحياناً بالعجز، ولكني أتلهف للكشف عن كل شيء بصراحة ودون خوف.

أرست بي الذكرى عند ضفاف طفولتي، وأثارت سلسلة من الأحداث والمواقف، نابضة بالحياة، هادئة حيناً ومشرقة، وفائرة كنبع سخي حيناً آخر، وأراني أجري معها وأنقاد ومن زوايا الماضي وطيات الذكرى، تطل سناء نافضة عنها ركام السنين.

عالم الذكريات حسبته فات ومات، فإذا هو ينمو بحسي، ويؤرقني ويحتضنني بقوة، ويشدني ويدفعني إليه دفعاً.

أخذ شريطها يكر من البداية، حين كان يسترعي انتباهي في غدوي إلى المدرسة أو رواحي، فتاة لا تتجاوز الثانية عشرة، نحيلة القامة، شاحبة الوجه، انسدلت خصلات من شعرها الفاحم بإهمال على جانب وجهها، وعينيها النجلاوين، وارتاحت أخرى فوق ظهرها الذي ينوء بعبء صفيحة الماء التي أرستها فوق قمة رأسها.

كان هذا المشهد يشغل تفكيري، ويشوش خطواتي، وتتسمر له نظراتي على حين كانت الفتيات تضحكن، وتمرحن وتتقاذفن في الطرقات، والنسيم يسرق أحاديثهن المنمنمة، وهمساتهن الرقيقة، ينشرها عبر السكون، ثم يتفرقن في الدروب، تستقبلهن الأمهات بشوق وتلهف. في هذه الأثناء كان يشوب مشاعري حسّ حزين، ورغبة ملحة لأواجه عن بُعد تلك الفتاة.

اعتدت أن أندرج من المدرسة القابعة فوق الهضبة، وأنحدر في الطريق المطل على شاطئ البحر، وعلى بعد منه رست جزيرة "أرواد" وهي تتلألأ كالماس تحت أشعة الشمس المتوهجة.. ثم يلتوي الطريق مع الزقاق في حيّنا الأثري.

عند الظهيرة والنسمات الندية تلاطفني، وتخفف عني رطوبة الجو، كان في داخلي إلحاح يثير الرغبة فيّ لألتقي بها.

فأسأل نفسي بتعجب:

ما الذي يشدّني إليها، ويصعد الغصة فيّ حين أراها؟!

أهكذا شعور من في مثل سنّي؟!

من أين ينبع ذلك الحس الرقيق لدى بعض الناس ويجف لدى بعضهم الآخر؟

ومالي أهتم بما ليس لي به شأن؟!

يكفيني عذاب ومتعة في آن، حين أمرر الحالات في ذهني، فأقارن بينها، لأجد فيها التناقض.

الطبيعة الخلابة تمتد أمام بيتنا المرتفع، والجبال تحتضنه مع الأحياء من الخلف، والأشجار الباسقة تنهض عند السفوح، ويحيط بالبلدة القديمة خندق دائري، يبدأ عند سلم المسجد الأثري، ومئذنته الشاهقة تشرف على البيوت المتراصة، وينتشر صدى الأذان منها في الأجواء.

كنت وإخوتي نصحو عند الفجر على صوت والدي –بعد رجوعه من المسجد- في أرجاء البيت الواسع، يدغدغ أسماعنا بنداء حنون في دعوة إلى الصلاة، لنغمة آسرة توقظنا برقة، فنتسابق إلى الوضوء، والوقوف خلفه صفاً متراصّاً، وبصوته الشجي، يرتل آيات من القرآن تخشع منه قلوبنا، وقد يبقى صغيرنا في سجوده نائماً لا يقوى على النهوض.. فكياسة والدي في تعامله، كانت تغني عن إيقاظنا بقسوة، ثم بعد فترة تتناولنا الأيدي الحنون بالرعاية، من اهتمام بمظهرنا، وحقائبنا التي تدس فيها الشطائر، وقطع الحلوى، ويشتد سرورنا بالنقود الورقية التي تنسلها أمي من الحزمة ورقة، ورقة، محدثة تكتكة تشرق لها نفوسنا، وأثناء هبوطنا السلم الحجري، كانت الوصايا تلاحقنا:

- على مهلكم.. الزموا جانب الطريق.. لا تتكلموا مع أحد.. كلوا اللفائف..

- حاضر يا أمي.. حاضر..

في الطريق، مع القفزات السريعة فوق الحجارة الناتئة برؤوسها، ومع الجذل الطفولي، ونسمات الصباح الندية تصافحنا، أفاجأ بتلك الفتاة فتجرح المفاجأة جريي، وتسكن مرحي، ويقف بصري عند صفيحة الماء الراسية فوق قمة رأسها، تضغط على جانبيها بكفيها الرقيقتين، وينقلني المشهد من عالمي الحالم اللذيذ، إلى آخر مؤلم.

كانت نظراتي تلامس جسد ابنة في الثانية عشرة، ملتحفة بثوب منسدل، التصق لبلله، فأوضح نحوله، والصفيحة تترجرج بين كفيها، فتهرب منها قطرات من الماء، تتقافز بخفة مع مشيتها، وتندس في شعرها وثوبها.. وقد تنزلق نظراتي إلى قدميها الحافيتين وهي تنقلهما بحذر فوق نتوءات الحجارة، وألمح في عينيها تيهاً وشروداً.

مشهد كان يلاحقني كل يوم، مرة أو مرتين، فيعتصرني الألم ويفتت أحلامي، ويمزق نفسي، ويلفني بغلالة من الحزن أعمق من تجربتي، وبدون قصد مني تتحسس أصابع قدمي دفء الحذاء اللماع، وكفي نعومة الضفيرة المنسقة بالشريط الحريري، فتنتابني مشاعر متناقضة تلقيني في موجات من الحوار المحير، في تصورات لا أقدر على حل غموضها.

من هذه يا ترى؟

لم حرمت حقها من التعليم؟

ولم حرمت الحذاء، ودفء الجسد؟

لم... لم... لم..؟

كانت التساؤلات تصفع ذهني، والرغبة تعصف بي تستفزني، وتدفعني لأثور على وصايا والدتي كي أحادثها وتحادثني..

جبنت، لم يحصل شيء من هذا.. استمررت في سيري، وأنا أعضّ على شفتي من الغيظ.

إنّ ثمة سراً خلف ما أرى، سنوات عمري القليلة غير قادرة على كشف الحقيقة.. ويضيق صدري لمثل هذه التساؤلات، ويعود بأشياء رخوة لزجة، تصعدها غصة في حلقي، ثم تتكثف بدمعات أحاول ردها، فتأبى إلا التدحرج.

(لا تنشغلي بشيء في الطريق.. الزمي الرصيف.. كوني مؤدبة..)

أوامر ونواهٍ كلسع السياط، تدفعني دفعاتً وأنا أحتضن هذه الفتاة في خيالي، ثم لا تلبث أن تتلاشى شيئاً فشيئاً في الزحام، وخلف الجدران، والأحداث المتلاحقة.

*  *  *

كنت أسير صباح يوم خريفي في زقاق جانبي هادئ، والمنازل تقوم على جانبيه مغلقة الأبواب، والشمس ترخي ظلال الأشياء فوق الأرض والجدران.. طرق سمعي صوت خشن لامرأة يرتفع من فوق سور أحد البيوت، يأمر بقوله:

أنت يا بنت يا سناء، هيّا، أسرعي لإحضار الماء من بئر الحارة.

تسمّرتُ في مكاني، وأنا أعجب، كيف اهتديت إلى اسم الفتاة، وبيتها، حملقت في الواجهة، وشعرت برعدة تسري في جسدي، ولم أدر هل كانت الرعدة من المفاجأة، أم من البرد.. ابتسمت لنفسي حين سمعت قرقعة الصفيحة وهي تطرق الجدار بعفوية، قلت:

إذاً سناء، اسمها سناء.

تردّدتُ:

هل أبقى في انتظارها حتى تخرج، أم أعود إلى البيت، وفي جعبتي هذا الحدث الصغير.

بدهشة تساءلت:

ترى من هذه المرأة صاحبة الصوت الأجش؟!

ولم ألبث أن عرفت الإجابة، فقد فُتِحَ باب البيت بعض الشيء، فتشاغلت بشيء كان في يدي قد وقع مني، رأيت في الداخل امرأة ضخمة واقفة وسط الحوش، تلوح بيدها في عصبيّة، وتتحدث إلى رجل جالس، وظهره ناحية الباب، مستند إلى جذع شجرة، كان مرتدياً سروالاً فضفاضاً، وفوقه قميص أزرق، أدركت أنه صاحب البيت، ورأيت أطفالاً مختلفي الأعمار يلعبون في أرض الحوش وازداد صوت المرأة حدة، وهي تنهر البنت سناء بشدة، وتستعجلها للتحرك، وسمعت الرجل يقول للمرأة:

- لماذا تتصرفين كأن الدنيا انقلبت رأساً على عقب يا أم خالد؟!

بصوت حاد أثار اشمئزازي قالت:

- إن الوضع في هذا البيت لا يحتمل..

- اهدئي يا أم خالد، لا تفقدي أعصابك على هذا النحو..

وازداد صوتها حدّة، وهي تجيبه قائلة:

- أنت تتكلم بمنتهى البرودة، لأنك لا تعرف نوع الحياة التي أعيشها في هذا البيت مع هذه البنت اللعينة، إنك تجلس في دكانك ولا تشاهد ما يجري، بينما أحمل أنا عبء البيت كله..

- سأربيها وأقسو عليها، فقط اهدئي.

- دعني وشأني..

- أبسبب سناء كل هذا الغضب؟

- أجل، بسبب هذه البنت الهوجاء.

قلت في نفسي: إذاً هذه البنت هي "سناء" وهذه المرأة هي أم خالد، ليست أمها بلا شك، لما يبدو من قسوتها في الكلام وتذمرها، وأبو خالد زوج هذه المرأة، وأبو سناء.

تحول الأمر إلى شيء مثير للشفقة، ولقد ساعدني الحظ لمعرفة جانب من الحقيقة ببساطة وعفوية، وانطلقت مسرعة نحو البيت، وبعد لحظات كنت بجوار أمي، وبنفسي حوارات، وتساؤلات ملحّة ومحيّرة.

- أمي في الجوار بنت اسمها سناء، أشاهدها باستمرار، وأتألم لحالها، وأرغب بالتحدث معها.. ألقيت هذه الكلمات وأنا في حالة استرخاء..

- مسكينة سناء يا ابنتي..

- يحزنني أمرها..

- لا تشغلي نفسك بشأنها، فما زلت صغيرة.

وجمت هنيهة، ضمتني بحنان إلى صدرها.. أريد المزيد من المعرفة، وددت لو تسمع أمي حوارات نفسي وتجيب عليها، يبدو أنها تعلم الكثير، ولكنها لا تريدني أن أعلم، وتصرفني عن التفكير بلطف.. تصورت سناء واحدة منّا، تشاركنا الحياة، والحب، والرعاية، والتعلم و..

بابتسامة ساخرة، وأنا أعدّ أفراد أسرتنا الذين تجاوزوا العشرين، ويعيلهم والدي بعد وفاة جدي، قلت:

- مستحيل، شيء مستحيل.

سكت، لم أشأ أن أسترسل في الحديث مع أمي، كيلا أثير انتباهها، فتزيد ضغطاً عليّ بوصاياها.. أكتفي بأن ألاحق ظلال الأشياء، ريثما تتضح لي الحقيقة.

*  *  *

كانت سلسلة المواقف والأحداث المثيرة تتلاحق، فتجعلني أكثر اندفاعاً لاقتحام عالم سناء الغامض.. فالسنة الدراسية تودع يومها النهائي، والطالبات يكسرن قيود النظام المدرسي، ليتسلموا البطاقات بابتهاج، ثم لتنتقل هذه البهجة إلى الآباء.. فهو يوم التهاني والفرحة بالنجاح.

كنت وزميلاتي ننطلق في الدروب كالفراشات المهفهفة، وأنا أحلم بهدية والدي التي أنتظرها بمشاعر الترقّب والأمل، وغالباً ما تكون مجموعة قصصية هادفة، أستمتع بقراءتها في الإجازة في إحدى القرى الجبلية المحيطة ببلدتنا الساحلية، في أحضان الطبيعة، بين أشجار الصفصاف والأزهار وعلى ضفاف الجداول الرقراقة.

حملنا أحلامنا مع بطاقاتنا، نزاحم الخطى والمنى، تملأ نفوسنا بنشوة الفوز والنجاح، ونثرثر بلا توقّف، ونحلّق بسعادة وعيوننا تخطف ما في بطاقات بعضنا، ونقارن بينها.. وقد نعبر عن رغباتنا في كيفية قضاء الإجازة.. نوزعها على هوانا بين الرحلات لإزالة التعب، والرغبة بالراحة والكسل، أو بالمطالعة، والمداومة على الدروس المسجدية وحفظ القرآن و..

في لحظات الفرح، يتدخل القدر، ويبتسم ساخراً من بهجتنا.. أفيق على صوت ارتطام الصفيحة بالأرض مع سناء.. تراجعت مذعورة والماء يندلق هارباً في كل اتجاه، وتسرع الفتيات في المضيّ بغير مبالاة.

اقتربت منها لأعينها على النهوض من عثرتها، وإصلاح شأنها.. عصرت ثوبها المبلل، وفركت ساقها، ثم رفعت الصفيحة التي التوى جانباً منها.. بانكسار اتجهت نحو البيت من غير كلام، وبصمت كانت دموعها تنهمر.

موقف حقاً أثار عطفي، فآلمني.. تغلب على فرحتي، وحزّ في نفسي عدم اهتمام الأخريات بها.. هي كائن موجود بيننا في الحي، لكن.. كأن ليس لها وجود.. تبعتها وهي تحمل الصفيحة الفارغة بيدها، وبأسى تساءلت: كيف ستواجه غضب المرأة القاسية؟

لاشك، ستمر بها لحظات قهر، قد يكون تأثيرها بليغاً في نفسها.. نظرت إلى بطاقتي، تصورت اسمها مكان اسمي، وتصورت سناء هي أنا، وأنا هي.. غلبتني الرأفة والشفقة، فبكيت عنها، وبالتياع قلت:

- ألا يحق لهذه المسكينة كما وصفتها أمي بأن تصرخ، وتشتم، وتبكي؟ طويت البطاقة، وطويت معها حلمي.

حثّتني قدماي على التوجه نحو بيتها، قد أعتذر للمرأة عما بدر منّا قبل أن تنهال عليها ركلاً، وسباباً.. مضيت بهدوء، وأنا ألوك كلمات التأسّف في فمي.. وجدت الباب نصف مفتوح، وقفت.. لم أدر كم مضى عليّ في تلك اللحظة فقد خيل إليّ أن الزمن قد توقف، أو أنه يمر بسرعة رهيبة.. لكني أفقت من ذهولي على ضجيج وصراخ يصدر من ذاك البيت.. هربت الكلمات خائفة.. لم أجرؤ على عمل شيء.. تسمّرت في مكاني، وكأني أصبت بضربة أذهلتني عن كل شيء..

كان الصوت الأجش يعلو الأصوات بشكل مقزّز ومريع، يتبعه صفعات على الوجه، وقرع بالقبقاب الخشبي على الظهر.. ثم همهمة من سناء تشعر زوجة أبيها أن الإصابة في ساقها تؤلمها حين تعرضت للسقوط، ولكن الصوت أردف بلهجة آمرة:

- كفّي عن كذبك يا لعينة.. لا تزيدي من توتّر أعصابي.. ولا تبرري تضييع وقتك مع البنات بشكواك.. هيا.. أسرعي إلى البئر، وإياك أن ترجعي بالصفيحة فارغة.

- حسناً يا خالتي، سأفعل ما تأمرين به، سأمضي لإحضار الماء.

واستدركت بقولها تستدعي شفقتها:

- استمعي إليّ للحظة، كي أعلمك بأني ما كنت أضيع وقتي في الطريق مع أي إنسان.. فقط يا خالتي، تذرعي بالصبر، أنا لا أقصد أن أغضبك.

وقفت برهة أحاول أن أركّز تفكيري فيما ينبغي أن أفعل:

- هل أحمل عنها الصفيحة وأواسيها؟

- هل أقرب منها كتفي تتوكأ عليه؟

- ماذا كان بوسعي أن أفعل؟

- هل كان عليّ أن أدخل البيت لأقدّم الاعتذار؟

بعد لحظات خرجت سناء، تصحبها الصفيحة في طريقها إلى بئر الحارة، وهي تجرّ إحدى ساقيها جراً.. خفق قلبي بعنف حين رأيتها، والألم يلبسها في بدنها، ونفسها، وتكتسي عيناها الواسعتان بغلالة حمراء من أثر البكاء، وشيء من شعرها الطويل، قد انتزع بشدة من رأسها، والتصق بثوبها.

ضعفت.. جبنت.. والله جبنت.. فلم أجرؤ على التحدث معها.. ثم مضيت في طريقي إلى البيت، تدفعني الخيبة والهزيمة.. ومضت سناء إلى البئر بصمت.

صار هذا الحدث هاجسي، اكتظّت به غرفتي، وأثقل رأسي.. لجأت إلى حضن الوسادة، أحكي لها حكاية القسوة، والظلم، والحرمان، حرمان المسكينة سناء من الرأفة والرحمة.. ورحل تصوري معها، وهي ترفع صفيحة الماء فوق رأسها، وساقها المتألمة تخذلها.

كان لهذا الموقف أبعاد ورؤى في خاطري، فلم تكن نفسي قد تكوّن فيها مثل ذلك الخليط المتمازج كي ينتج أشياء جديدة، ولم أكن أدري وأنا أراقب الموقف أنني أكثر من إقحام نفسي في سلسلة من المواقف والأحداث التي كانت تتربص بسناء أو بكلينا.

*  *  *

في يوم ربيعي، أعلن والدي بأن نستعد لنزهة عند شاطئ البحر، عمّت الفرحة جو البيت، قفز الصغار كالقرود، تعلقوا بكتفيه، قاموا بحركات غريبة يعبرون عن بهجتهم.. أعدّت الفطائر والأشياء ومعها السطل الصغير، ومجرفة الرمل، والكرة..

لم يكن في السماء سحابة واحدة، وأشعة الشمس في الربيع ممتعة، والمكان الذي اختاره والدي كان خالياً، كي لا ترمقنا عيون الفضوليين.. كانت السعادة تجري معنا حيث نجري.. فوق الرمال، وبين الصخور القائمة، نتسلقها حيناً، ونتزحلق إلى تجاويفها حيناً آخر، ونلتقط صغار السمك التي ألقت بها الأمواج في أحضانهاـ وإن تعبنا لجأنا إلى ظلالها القاتمة.. وأشد استمتاعنا كان الرمل المبلل، نشكل منه بيوت أحلامنا، ونتفنن في أجزائها، وعلى حين غفلة منا، تباغتنا مويجة زحفت خلسة، لتهدم ما جسدنا من أحلام.

طلبت من أختي الكبرى مشاركتنا في الجري فوق الرمال، والتقاط القواقع، هزّت برأسها وقالت:

- أحب أن أجلس فوق صخرة أتأمل الطبيعة.

ضحكت، وقلتُ:

- وأنا أحب أن أجري، وأتجول وأتفرج.

أشارت بيدها:

- دعيني وشأني.. اذهبي مع سطلك ومجرفتك والكرة.

ابتسمت، وأردفت:

- ما أجمل الطبيعة بكل ما فيها!.. إن مجرد لمسها بنظري يثير في نفسي إحساساً بهيجاً، وتعميقاً للإيمان.. الحياة يا أختي بدون إيمان موحشة.

قلتُ:

- أما أنا فسأشغل نفسي بشيء منها.. بالرمل، وصغار السمك، والتقاط القواقع و..

كانت تبرر استرخاءها فوق الصخرة بقولها: أنها تحب أن ترى الحياة في الطبيعة المتسعة أمامها، بدلاً من أن تشترك بالمتعة في شيء معين، فيفوتها الكثير.

بعد لحظات عمدتُ إلى تجويف بين صخرتين، أغسل فيه قدمي، وأبلل وجهي ووقفت أتأمل، وأتتبع ساحل البحر ورماله بنظري، كان خالياً في ذلك الوقت، إلا من قطة كبيرة رمادية، تنكت في الرمل بمخالبها، تبحث عن حيوانات صغيرة نثرتها الأمواج.

تفقدتُ السطل، وصغار السمك الأسيرة، فلم أجدها، صرخت أسأل عنها، ضحك إخوتي، وقالوا بسخرية:

- ابحثي عنها في البحر، لقد سرقتها الموجة، واختطفتها في غفلة منك. قلت:

- استردت ما أعطت.

هربت إلى الرمل حزينة، أشكو له ما فقدت.. حفرت حفرة، وجرفت ما فيها بالمجرفة.. باغتني منها سرطان بحريّ كبير، جرى، وجريتُ مذعورة، أصرخ أطلب النجدة.. قالت لي أختي الكبرى بهدوء، وبرودة أعصاب:

- إنه سرطان بحري.

- لقد أخافني.

ضحكت، وقالت:

- بل أنت التي أخفته، وروّعت سكنه.

أخذت أتأمله وهو يجري بطريقة عجيبة، يبحث عن مكان يختفي فيه.. ثم لجأت مع إخوتي إلى حجارة مبعثرة، صنعنا منها كوخاً، وجلسنا فيه محنية ظهورنا، وعندما شاهدنا والدي ضحك وهو يقول لنا:

- إنه يبدو كصخرة متفجرة.. ثم ما لبث أن هوى فوقنا.

أطال والدي النظر إلينا، وهو صامت، كأنه يفكر وقال لنا:

- الأيام ثمينة يا أولادي، تكرّ من بين أيدينا كالرمل الناعم، استمتعوا بحياتكم مع الطبيعة الجميلة، واشكروا الله ربكم.

رددنا وراءه:

الحمد لله حمداً كثيراً.

على غير موعد يتدخل القدر، ليزيد من بهجتي، وحسن حظي.. كنا نتقاذف الكرة، ونتلقاها بأيدينا، وحصل أن ألقاها أخي بقوة، اجتازت المكان، وجرت بعيداً، وفجأة اصطدمت "بسناء" وهي منحنية فوق تجويف بين الصخور.. جريت وراء الكرة، ثم توقفت أمام سناء.. رفعت رأسها، واضطرم وجهها، بلطف قلت:

- نحن بغاية الأسف، أرجو ألا نكون قد أزعجناك.

أومأت برأسها.. مضت برهة.. قلت:

- إنه يوم بهيج، أليس كذلك؟

ردت بابتسامة:

- كل شيء بهيج هنا.

تردّدت قبل أن أسألها:

- هل يمكن أن نجلس معاً، ونتحدث؟

انبسطت أسارير وجهها بالرضى، ونفضت يديها، ثم مسحتهما بثوبها، وهي تجيبني:

- نعم، يمكن ذلك.

تأملتها بصمت، كانت غلالة من الحزن تلفها، وشعرها يتناثر في الهواء، وقدماها الحافيتان عند ضفة التجويف.. جلسنا والمويجات تنساب برقة، وتمازحنا برذاذ الماء، كانت تزحف خلسة، ثم تنحسر هاربة بعد أن تلقي شيئاً من أعشاب البحر.. كانت سناء قد انتهت من غسل فوط الأطفال، وجعلتها في طست بجانبها، فوجدت الفرصة قد حانت لأتعرف عليها عن كثب، فلا مجال الآن لتنفيذ الأوامر والنواهي، فوالداي على مقربة مني، يتسامران وأختي الكبرى.

رششتها بالماء أمازحها، ردّت خصلات من شعرها إلى الخلف، وبادلتني المزاح بمثله، تلاقت ضحكاتنا فكانت بوابة العبور للتعارف.. نظرت إليّ من خلال أهدابها الكثيفة، لاحظت هالة سمراء تحيط بعينيها النجلاوين، قلت ببساطة:

- اسمك "سناء" أليس كذلك؟

عرفت اسمك بالصدفة، أشاهدك باستمرار، ولا تتكلمين مع أحد، وأنت واحدة منّا، لم..؟

أجابتني بمرارة:

- لقد حكم عليّ بالعزلة عن الناس.

قلت باستنكار:

- العزلة.. شيء غريب؟!

ردّدت وهي تلعق المرارة:

- هكذا.. كما ترين.

بهتُّ، أكاد لا أصدّق ما أسمع.. قطعت صمتي بسؤالها عن اسمي:

- "نعماء" اسمي "نعماء".

هل تحضرين إلى هنا باستمرار؟

- الواقع، كما ترين، لأغسل فوط الأطفال.

كان الحديث فيما بيننا عادياً وبسيطاً، تمهيداً للتعارف، وكان وجهها ينمّ عن نباهة وذكاء، وبدا لي في تلك اللحظة أن وراء هدوئها أشياء غامضة، ورغم بساطة أسئلتي، فقد كانت تفكّر قبل أن تجيب.

سألتني:

- أتحبين البحر، ورطوبة الهواء؟

قلت:

- البحر أحبه، أما الرطوبة فشيء مزعج، نهرب منها صيفاً إلى الجبال، حيث الهواء الجاف، والبرودة المنعشة.

ابتسمت وأنا أقول:

- من السهل أن أتذكر اسمك، معناه جميل، ونغمته أيضاً جميلة، و..

توقفتُ عن إتمام العبارة، حين لمحت سحابة من الحزن تغلف وجهها، وتطفئ البسمة على شفتيها، فقلت في نفسي: قد أكون قد أخطأت في حديثي معها على هذا النحو، بلطف سألتها:

- ما بك، هل أخطأت؟

بقيت صامتة، ومطرقة، غيرتُ وجهة الحديث، تشاغلت بالقطة التي أقبلت نحوها، تتمسح بأقدامنا، وتصدر هريراً ناعماً، ثم ابتعدت عنا، قلت بابتسام:

- يبدو أنها شبعت، واسترخت، فاستلقت في ظل الصخرة.. ناديت سناء وأنا أتوخى الحذر.. لم تجب، ولم ترفع عينيها، ثم بلعت ريقها، قلت: هل نسيت اسمها في هذه اللحظة، أم أنها تذكرت لحظات القهر، حين يسبق اسمها بما يشينها، ويذلّها، عندما تناديها زوجة أبيها بازدراء: يا بنت، أنت يا بنت يا سناء.

بدا لي أني أحرجها بثرثرتي، وكثرة أسئلتي، رغم توخي الحذر الشديد، فكرت بأن أشيع السرور في نفسها، وبعجب قلت:

- شعرك يا "سناء" طويل، ناعم كالحرير، ما أجمله؟

جففت كفيها بثوبها، ولامست بهما شعرها، تنبهت إلى وجود شيء جميل لديها، كانت تجهله، ابتسمت وتنهدت.

قلت ثانية:

- ما أوسع عينيك، وما أكثف أهدابهما؟!!

شعّ بريق فيهما، فأسبلت جفنيها باستحياء، ثم رفعتهما بصوت هامس، رافقته ابتسامة عذبة، قالت:

- عيناي تشبهان عيني أمي.. هكذا يقولون.

شعرت باستدراجي يؤتي أثره، في بسمتها، وانطلاقها في الحديث.. طمحت بأن أتغلغل في نفسها أكثر فأكثر.. تذكرت كلام المرأة الشرسة في أحد الأيام وهي تقول بحدة:

- اغربي عن وجهي يا ابنة السوء، وارحلي إلى أمك التي تركتك بلاءً عليّ.

أردت التأكد مما سمعت، سألتها بصوت خافت:

- ألك أم يا "سناء"؟

أومأت برأسها.. ثم أردفت وهي تتنهد:

- طلقت من أبي وأنا في الخامسة من عمري.

وقالت بامتعاض وهي تشير بيدها:

- غادرت من البلدة إلى لبنان، وكما قالوا: تزوّجت وأنجبت بنين وبنات.

- هل تلتقين بها؟

- أبداً، منذ ذلك الزمن البعيد لم أرها.

- وتعيشين..

- مع أبي، وزوجته، وإخوتي من أبي.

- كثيرون هم؟

- خمسة.

لم أشأ أن أسترسل في الحديث أكثر من ذلك، ضاق صدري، شاركني الصمت.. دعوتها إلى مشاركتها في شطيرة الحلوى، هزّت برأسها يمنة ويسرة، خشيت أن أجرح إحساسها، فلم ألحّ عليها.

شعرت بأشياء في داخلها يتحرك، تريد التنفيس ولكنها تردّها بإرادة، جلستُ القرفصاء، اتخذت من إصبعي قلماً، وخططت في الرمل "سنا" كانت تراقبني وأنا أرسم الكلمة، دنت مني، ورسمت الحرف الناقص "ء" صحت بدهشة:

- "سناء" هل تكتبين؟!

مع مسحة من الحزن مشوبة بفرحة غمرت وجهها، أجابت:

- وأقرأ أيضاً.

- كيف، فلا أراك تذهبين إلى المدرسة؟!

بحسرة قالت:

- في صغري جعلتني أمي عند الشيخة "بدرية" علمتني سوراً قصيرة من القرآن الكريم، وشيئاً من القراءة والإملاء، وبعد الطلاق والرحيل، منعتني زوجة أبي من الاستمرار في التعلم، وملء الماء من بئر الحارة، والخدمة في البيت.

- وهي، هي ماذا تفعل ماذا؟

- تحمل، وترضع، وتطبخ، وتأمر وتنهى.

ابتلعت غصة علقت في حلقها، وزفرت من ضيق.. ثم لمحت بريق أمل أضاء وجهها، وبضحكة عفوية قالت:

- إني أتعلم القراءة والكتابة من إخوتي، دون علم منها.

- كم أنت نبيهة، وذكية يا "سناء" لقد أدخلت السرور في نفسي.

بسرعة سألتني:

- هل تحبين الدراسة؟

- جداً وبولع شديد.

يمكنك يا "سناء" أن تعوضي ما فاتك بالمطالعة، والدراسة في كتب إخوتك، ومراجعة ما تعلمت من سور القرآن.

بفرح قالت:

- أقرأها باستمرار، وأحفظها غيباً، وأرددها في الصلاة.

قلت بإعجاب:

- ما شاء الله.. الحياة تكون موحشة وكئيبة من دون إيمان.

تأثرت بما أقول، بكت بصمت، ثم كفكفت دموعها، وهمست بحيرة وشكوى:

- لا أدري لم تعاملني زوجة أبي بقسوة، فما اقترفت.. وما أسأت، ومن حين إلى آخر كانت تزيح بيدها خصلات من شعرها عن وجهها، فتبدو أهدابها الطويلة، وتختلج في اضطراب كأنها تفكر، وكأن فكرها هو الآخر يضطرب وراء تلك الأهداب.. قلت:

- أرى الوحدة والاستسلام الحزين في عينيك.

ترددت قبل أن ترد بوداعة وهي تبتسم، وبصوت خافت كأنها تحدث نفسها:

- أحد عشر عاماً وأنا في عزلة عن الناس، فرضت علي، لا يحق لي فعل شيء أرغب فيه إلا باستئذان.. حياتي مملة، يائسة، لا شيء فيها يسرني.

- الأيام تكبر، وأنت تكبرين، كبرعم يتفتح ليلاً..

- كيف؟

- بالقراءة والكتابة، والتفهم لمعاني القرآن.. تفاءلي، ولا تنظري إلى الحياة بيأس.

- وأنا في الظلمة؟

- بل بإيمانك بالله الذي يسكن في قلبك، وينور دربك، اقرئي قوله تعالى: )الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور(.

تهلّل وجهها وهي تقول:

- صدق الله العظيم.

- المسألة فقط مسألة وقت.

ابتسمت وأنا أتذكر قول والدي، أعدته على سمعها:

- (الأيام ثمينة، تكر من بين أيدينا، استمتعوا بحياتكم بما يرضي الله)..

قالت بمرارة:

- وأنا بين مخالب القهر والحرمان؟

قلت بحرارة:

- أسرقي لحظات المتعة مع نفسك، بصلتك مع الله بالعبادة والمناجاة، لا أحد يستطيع أن يخطفها منك، مهما أوتي من بطش وقوة، ستزدادين معرفة بحقوقك، وواجباتك وأنت مقبلة على كتاب الله.. تحتاجين إلى الصبر والمثابرة.. الحياة لا تصنعنا، نحن من يصنع الحياة، حين نغير ما في نفوسنا فتتغير.

- كيف؟

- بالهدف، نتتبعه، بإرادتنا وعزيمتنا.

أومأت برأسها وهي تقول:

- أجل، أجل.

- أتريدين المزيد؟

إن مياه النهر تتدفق إلى البحر، فتذهب هدراً، فمن يهدر مواهبه ووقته فهو إنسان أحمق.

قالت والقلق يشوب كلامها:

- الحياة قاسية، قاسية جداً.

- نحن الذين نزرع القساوة في الحياة، هي مزرعة خصبة، ينمو فيها ما نلقيه إليها من أشواك ورياحين، من شر ومن خير.

كنتُ أثرثر بلا هوادة، ونفسي ترغب في الاستزادة.. نهضت وهي تنظر إلى الشمس، وتقول:

- لديّ موعد.

- مع من؟

- مع بئر الحارة، كي أحضر الماء.

ضحكنا..

- أشعر بالوقت يجري بسرعة، ولا أريد لك مزيداً من المشكلات مع زوجة أبيك، ولقد سررت بلقائك، سنكون صديقتين.

- سنكون صديقتين.. وإلى الأبد.

أطرقت ويدي تعبث بالرمل، وخواطري تتجاذبني.. لم أحس بسناء وهي ترفع الطست فوق رأسها وتنسل بهدوء.. تنبهت، لامست نظراتي قامتها الممشوقة وهي تسير بتأن فوق الرمل، تغرز قدماً وترفع أخرى.

كانت النزهة رائعة، وكسباً لصداقة طالما تمنيتها، فشعرت وكأني أطير من السعادة.. لملمت أشيائي ببلادة، وصوت أبي ينادي إخوتي المبعثرين فوق الشاطئ ومن البحر.

استدرت نحو الشمس، وقد غاصت وراء الأفق، والظلام يزحف ببطء يلتهم الأنوار والألوان، وغاص في أعماقي الحدث، ومشاعري تلتهم آثاره.

رافقتنا النسمات الندية، تربت على وجوهنا مودعة.. وتراءت لي سناء في جوها المكبوت بالوحدة، لا رحمة فيه ولا شفقة، مع أب ضعيف الشخصية، ينقاد لأهواء زوجته، ويصدقها في ادعائها الضعف والمسكنة.. ولمست في "سناء" لطف الحديث، وعزة النفس، والنباهة، وحسن الاحتيال في خطف التعلم من إخوتها، وكتبهم المنسية المهملة.

لقد مارست التآلف مع الأشياء، بما يخدم مصلحة أسرة أبيها، ويبدو أنها لا تقدر أن تعقد الأُلفة مع العالم المحيط بها، يحجزها التسلط الجبري، وتخشى إن حاولت أن يرفضها، أو ترفضه.

يتبع إن شاء الله..