طاحون الشياطين(4)

رواية

طاحون الشياطين

شريف الراس

الفصل الخامس

قال لي الحاج رضوان، ووجهه يطفح بالرضى:

- لاحظت أنك قبّلت الأولاد بحنان حقيقي، وهذا أمر يسعدني كثيراً..

كان قد استحمّ بالماء البارد، وارتدى جلابيته البيضاء الفضفاضة التي ينام بها عادة.. وتمدد مستريحاً فوق طراحته الشهيرة متكئاً على وسائده.. كان مصرّاً على أن يبتهج.. قال:

- يبدو لي أنك قضيت معهم يوماً ممتعاً.. وزاد من سروري ما علمته من خالد بأنك صرت تعرف المزرعة شبراً شبراً، وأنك رتّبت أمور الحظائر.. هل أعجبتك المزرعة؟.. هل رأيت ما أمتع الحياة في مزرعة الطاحون والتعامل مع النباتات والحيوانات؟

قال ذلك ثم رشف جرعة عرق ومسح شاربه الأبيض بطرف إصبعه، ثم غمس قطعة بندورة بالملح وقذفها في فمه وراح يمضغ على مهل وبتلذذ ومتعة. كان مصرّاً على التشبت بحالة الفرح، يريدها أن تبقى وتستمر..

كان مصباح النفط، هذه الليلة، موضوعاً فوق رف الموقد الجداري، وكانت النافذة الغربية مفتوحة، والنافذة الشرقية مفتوحة، إذن فنُسيمات الليل المنعشة تلعب في القاعة على نحو مريح.. ومن الباب – الذي أبقي مفتوحاً تنفيذاً للأوامر – كنت ألمح شبح الزاكي وهو يذهب ويجيء في الخارج، مشغولاً بتجهيز كميه من طيور الفّري المشوي للعشاء.

سألني مستفهماً وهو يشير إلى كأسي الفارغ، في وسط صحون المقبلات التي تملأ طبق القش الموضوع بيني وبينه:

- مالك لا تشرب؟

- نفسي لا تشتهي العرق الليلة.

- أنت حر.. علينا أن نحترم حرية الإنسان، خصوصاً في مسألة العرق. إن من يريد أن يشرب العرق عليه أن يشربه بإخلاص. مسألة الإخلاص هذه مسألة ضرورية جداً. حين تأكل فكل بإخلاص، وإلا فخير لك أن لا تأكل أبداً. حين تحب أحب بإخلاص.. حين تكره اكره بإخلاص.. حين تحقد احقد بإخلاص وعزم واجعل الدنيا كلها تحقد معك.

وضحك مسروراً.

ربما أمر الضحكة بأن تأتي لتقطع على المنغصات التي قد تُفتقها سيرة (الحقد). فقد كان مصراً على البقاء هانئاً وسط زورق النشوة الهادئة..

كنت أتأمله وأنا جالس على الأرض قبالته، ومتمدد مثله باتكاء مريح على ثلاث وسائد. بل إنني –مثله أيضاً- كنت قد ارتديت جلابية بيضاء فضفاضة (من ثياب الزاكي). ولم يبق عليَّ إلا أن أربي شاربين أبيضين فوق فمي لتصبح إصابتي (بالعدوى الرضوانية) كاملة، شكلاً وموضوعاً.

وسألت نفسي: هل إنني أعرف أخي حقاً؟.. وهل أن هذا الرجل السعيد، نديم الليلة المنتشي طرباً وسروراً وصمتاً وخمراً، هو ذاته الرجل التقي الورع الذي حجَّ إلى بيت الله الحرم خمس مرات؟

ثم سألت نفسي:أم أن سبب سعادته البالغة الآن اكتشافه بأنني على صورته (فشاش حقيقي) حسب تعبيره، إذن. ماذا يقول لو أنه رآني اليوم عندما كنت أشوي عرانيس الذرة مع الأطفال، فأقضم لقمة الحبيبات الصفراء المحروقة وأنا أشعر بأن طعمها الحليبي اللذيذ يطير بي إلى عالم طفولتي وأصولي، فأكتشف نفسي الحقيقة الأولى، وأحس بانتمائي المباشر للطبيعة، للهواء، للغبار، للأشجار، للعرانيس، لكل نبتة خضراء وقعت عليها عيني اليوم في المزرعة..

بل إنني عندما تمددت تحت شجرة التوت، بعد العصر، كنت أسأل نفسي –وقد أكملت الانحراف 180 درجة_: أليست الحياة هنا أفضل وأمتع وأجمل؟ أليست المعيشة الطبيعية العفوية هنا، بعيداً عن الدنيا، أفضل من متاعب الطب، والمستشفيات والاتكيت،.... وكل ألمانيا بحالها؟

فاليوم،بعد العصر، شعرت بالضربة الأولى للإصابة بالعدوى الرضوانية. كانت واضحة تماماً.

كيف حدث هذا؟

كيف كان يوم واحد كافياً لأن تجتاحني الرضوانية. هذا الاجتياح الكامل؟ أم أنني أنا الذي في أعماقي عندي استعداد فطري لتقبل هذه العدوى والاستجابة لها بسرعة مذهلة؟.

أم أنني، خلال هذه السنين التي عشتها في ألمانيا، وبروفيسور الطب العظيم، والسلوك المحسوب بدقة، إنما كنت أعيش حياة غيري، أو كنت مستعيراً ثوب أناس آخرين غرباء مني؟.. ولماذا شعرت الآن، عندما ارتديت ثوب الزاكي، بكل هذا التآلف والارتياح؟

(ذات ليلة، إبان زيارة أخي الخالدة لنا في فيسبادن، نام الجميع، وبقينا أنا وهو ساهرين لوحدنا في صالون بيتنا الذي وصفه الحاج رضوان يومذاك بأنه (صالون ملوك ولكن الإنسان لا يشعر بالارتياح للجلوس فيه).. سألني:

- ألا توجد عندك اسطوانات أغاني؟

قلت:

- بلى.. عندي مجموعة ثمينة من الاسطوانات الموسيقية لأعظم العباقرة.

وقمت فوضعت أسطوانة السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، وقلت له:

- الآن تسمع موسيقى رائعة، فريدة في قدرتها على التعبير عن أدق مشاعر الفرح الجليل.

وضغطت الزر، ودارت الاسطوانة، وغمرنا صوت الموسيقى الجليلة القادم من زوايا الصالون الأربع.. وبدأ رأسي يتمايل طربا.. فنهض الحاج رضوان وأوقف الجهاز وقال لي ساخراً:

- كفاك تمثيلاً يا حكيم. والله إنك لو سمعت الآن نقرات أي لحن شعبي بسيط في بلدنا لرقصت.. لا مهرب لكم من جلودكم يا من ذهبتم إلى حضارة الغرب الراقية جداً. فمهما تلبستم مظاهرهم بإتقان وإحكام فإن أعماقكم تنبض بشرايين أخرى.

 أتدري لماذا؟.. لأن عيارات خلايا الجسد مُدوزنة على إيقاعات موسيقانا نحن، وهي موسيقى رائعة مترعة بالشمس والنواعير والحقول والبساتين والتين والزيتون ورائحة سجاجيد الصلاة في الجامع).

يومذاك، قبل خمس سنوات، كانت له لحية جميلة جداً

لاحظ الحاج رضوان، وقد أسرف في الشرب، أن صمتي قد طال، فقال:

- لي رجاء عندك يا أحمد.. أنت ترى بأنني الآن مبتهج ابتهاجاً حقيقياً. وهذه –ربما– أول سهرة أسكر فيها على فرح. فلا تعكر عليّ كل هذا بسكوتك. أنا أستحق أن أكافأ بالخروج من حلقة الحزن الرهيبة لحظات يا أحمد.. وأشعر بأنني الليلة مثل سجين كاد ينسى شكل الضوء لطول المدة التي قضاها في قعر جب مظلم، ثم أخرجوه للتنفس برهة قصيرة في الهواء الطلق والشمس الساطعة.. فلا تُفسد علي هذه السعادة الطارئة يا أحمد.. خَبّرني.. هل في بطنك سؤال؟

قلت: نعم.. لديّ سؤال واحد أريد أن أسمع جوابه الصريح.

فقال مبتسماً: وهل من عادتي أن أخفي عليك شيئاً؟.. هات سؤالك.

ماذا أسأله؟

ها قد حانت اللحظة المناسبة لأعرف سبب إصراره عليّ، خلال السنوات الماضية بأن أظل بعيداً عن الجحيم (إنهم يقتلون الأطباء. هكذا كان يسرّب إليّ الأخبار المخيفة.. بل أنه لم يزرني في فيسبادن إلا مرة واحدة وذلك ليبلغني قراره بالموافقة على أن آخذ الجنسية الألمانية المعروضة عليّ. ولن أنسى ما حييت منظره في تلك الليلة وهو يبكي والدموع تبلل وجنتيه ولحيته ويضمني إلى صدره يقول: غصباً عني يا أحمد.. أبوك عبد الرحمن الفشاش الذي تركك أمانة في عنقي، سيلعنني وهو في قبره.. لكن ماذا أفعل؟.. ليس في يدي.. إنني حين أعطيك للأجانب أخون الله والوطن والضمير وكل شيء.. ماذا في يدي؟.. أمك التي ماتت وهي ترفض حتى فكرة زواجك من ألمانية ماذا تقول لنا روحها الآن؟.. أساتذتك، مشايخك، أهل حارتك.. أين أذهب بوجهي من وجوههم؟.. ماذا أقول لهم؟.. هل أخبرهم بأن أحمد ظل متردداً في قبول الجنسية الأجنبية حتى ذهبت أنا وأقنعته بأن يغير جلده؟.. لكن ما العمل؟.. هل أدعوك للعودة إلى الوطن حتى يقتلونك بأشنع ما يمكن للعقل أن يتصوره من أساليب في القتل المزري الخسيس؟.. إنهم يقتلون الأطباء يا أحمد.. يقتلون المهندسين والمحامين، وكل المعتقلين وكل من يقول أشهد أن لا إله إلا الله.. فما لم تكن خنزيراً فأنت مقتول حتماً).

أليس عجباً أن هذا الرجل ذاته يغريني اليوم بزيارة الوطن، بل إنه ينصب لي الفخاخ لأن أتعلق بهؤلاء الأطفال الأيتام، ويصطاد قلبي بإغراءات هذه المزرعة.. لماذا؟

أخيراً طرحت السؤال. وكان السؤال وجيزاً وواضحاً ودقيقاً:

- يا حاج رضوان.. لماذا أنت سعيد جداً الآن بالذات؟

قال: لو أخبرتك عن سر سعادتي فإنك لن تصدق.. وتلفت حوله حذراً ثم أخبرني همساً:

- الخنزير الأكبر طاغية البلاد مشرف على الهلاك.. أو أنه نفق وانتهينا منه ومن شروره إلى جهنم وبئس المصير.

- أوضح كلامك يا حاج رضوان.. فهذا نبأ خطير فعلاًَ.

عندما وصلت إلى العاصمة اليوم لاحظت أن الحركة غير طبيعية.. كان في الجو شيء غير طبيعي. وأنا كما ترى أعيش هنا لا جريدة أو مذياع. بل إنني لم أهاجر إلى وسط الصحراء إلا لأظل بعيداً عن أي مصدر من مصادر الأخبار. إذن ماذا يدريني.بأن الناس، بعد أن اختفت صورة الطاغية الخنزير من الصحف والتلفزيون أسبوعين، قد شحنوا الجو بالإشاعات المثيرة والأنباء المقلقة؟.. سألت كل معارفي الذين التقيت بهم فأكدوا لي أنه يعاني من سكرات الموت.. إلى جهنم وبئس المصير..

ثم نظر إلي مبتسماً وقال:

سيكون الحطبة الأكثر اشتعالاً في الجحيم..سيكون أعظم وقدة في نار جنهم.

- ليس هذا أوان مثل هذا الكلام يا أخي.. لكن خبرني.. أما عرفت ما هو المرض الذي يهدد حياته؟

اتسعت ابتسامته أكثر، وقال:

- كل ما يخطر ببالك من موبقات طبية. قلب. انسداد في الشرايين. سرطان في الدماغ. بعضهم يقول أنه مشلول تماماً، وبعضهم جعل الشلل نصفياً، ومعظمهم يؤكد على العمى.. كل واحد من المواطنين الفرحين (يُنعم) عليه بالمرض العضال الذي يتمنى له أن يموت به.

فسألته:

- وماذا فعل الأطباء؟.. هل سمعت أخباراً بهذا الخصوص.

- وماذا ينفع الطب حتى تأتي الساعة؟.. يقولون إنهم أرسلوا وفداً من (الخنازير السوبر) إلى فرنسا وإنكلترا وألمانيا ليجلبوا أمهر الأطباء من تلك البلدان.. لكنهم لن ينفعوهم في شيء...

ها إن أخي يصنف جعفر الضاوي بين (الخنازير السوبر).. من المؤكد – قطعاً – أن جعفر الضاوي يبحث عني في فيسبادن. إنني أراه وهو يطرق باب بيتنا.

رائع جداً أنت يا حاج رضوان..

قلت له بفرح حقيقي: سأشرب معك.

وسكبت عرقاً في قدحي، ثم سكبت ماء ورحت أتأمل تحولات المزيج إلى ذلك اللون الحليبي الذي تفوح منه رائحة اليانسون والكحول.. وشربت، وأكلت قطعة بندورة مغمسة بالملح، ثم نظرت إليه وأنا أبتسم.

فانفجر ضاحكاً وهو يقول:

- أقسم، يا محروق الباط، أنك تبتسم ابتساماً حقيقياً.

فقلت:ولم لا أبتسم وأبتهج وأشعر بالسعادة!.. فأنا أيضاً، مثلك، أتصيّد لحظة الهرب من كابوس الحزن المقيم، وأحاول أن أتشبث بحالة النسيان.. ولكن سروري الآن هو من وزن سرورك مرتين. وذلك لأنني أراك أمامي مسروراً.. فأنت تعرف كم يهمني أن أراك هانئاً سعيداً، ولكن ما العمل إن كانت الأمور كلها تجري بعكس هذا التيار؟.. كأنما هو مكتوب فوق جباهنا: "الفرح ممنوع".

- مثل ماذا؟.. كلّمني بالعربي الفصيح..

- لا أدري.. إنها أسئلة كثيرة جداً، بل غامضة جداً ومقلقة أيضاً.. ولكنني قررت أن لا أفاتحك بها أبداً.. لأنه من الجدير بي أن أكتشف الأجوبة بنفسي..

- هذا جيد.. هذا عظيم..

- ولكن الإنسان لا يستطيع أن يصل إلى الاكتشاف ما لم يجمع بعض المعلومات الموثوقة التي يبني عليها استنتاجاته..

- مثل ماذا؟..

- مثلاً.. لماذا لم تكتب لي في رسائلك العديدة ولا كلمة واحدة عن ذلك الإنسان البشع الحقير؟

انفجر الحاج رضوان بالضحك مرة أخرى وسألني:

- أي رجل بشع حقير يا أحمد؟.. ميّزه بصفة معينة.. إذ أن البقر في هذه الأيام تشابه علينا.

قلت:

- ذلك الرجل الكريه، صاحب الدراجة النارية، الذي كان يبتزك.

فانتفض كالملدوغ وسألني بلهفة:

- اسكندر الحفيان؟.. من أخبرك بقصته؟

- جاء إلينا بنفسه اليوم.

- وماذا فعلتم به؟.. أين ذهب؟.. لماذا لم تُلزموه بالبقاء هنا لانتظاري؟

- هل كنت مشوقاً لرؤيته؟

- بلى.. بلى..

وأطرق مفكراً لحظات ثم سألني بنبرة حزينة، بعد أن هدأ غليانه:

- ماذا قال؟.. هل عرفت منه ماذا يريد؟

- فوجئت بسماع الجواب يأتي من باب الغرفة:

- جاء بعملية ابتزاز أشد لؤماً من كل ما فعله بنا حتى الآن.

هكذا جاءت أمنا شفيقة التي يبدو أنها لا تنام.. ظلت واقفة وهي تقول:

- طردته من لحظة وصوله. ولكنه إنسان دبِق مصفح، بلا إحساس.. أفرغت فوق رأسه كل ما يغص به قلبي من حقد واحتقار وازدراء وإهانات.. ولو كان إنساناً عادياً لتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه.. لكنه، بعد كل الإهانات ظل واقفاً مثل اللوح، ليطرح شبكته اللزجة الكريهة فيقول أنه جاء لكي يساعدنا في حل أزمة الصيدلية.

- أي صيدلية؟

- الدكتور أحمد يخبرك.

قلت:

- صيدلية أختنا خديجة.. وهل هناك غيرها؟.. لقد فهمت من كلامه أنك وظفت شاباً خبيراً لإدارة أعمال الصيدلية، على اعتبار أن الصيدلية مفتوحة رسمياً باسم صاحبتها الغائبة أو المفقودة أو...

فقاطعني بقوله:

- وما المانع؟. هذا تدبير أصولي وقانوني.. ومن حقنا أن نستفيد من ريع صيدليتنا.

قلت:

- المهم أن السلطات كانت تغض النظر عن هذا، لأنها ما تزال تتهرب من الاعتراف بأنها قتلت صاحبة الصيدلية.. لذلك فإن ذلك المبتز البشع يريد أن..

فانتفض صارخا بوجهي:

- لا تقل هذا.. خديجة لم تمت.. خديجة ستأتي إلينا لأنها لم تمت.. كذابون.. كلهم كذابون.. إن كانوا قد قتلوا خديجة حقاً إذن فأين جثتها؟ هل طارت في الهواء؟ هل ذوبوها في الأسيد؟.. أين دفنوها؟.. بل أين ذهب السبعة آلاف مفقود الذين ذهبوا مع خديجة في يوم الجمعة اليتيمة بعد أن جمعوهم من المساجد والبيوت والطرقات؟.

تقدمت شفيقة منه غاضباً وأصدرت إليه أمراً قاطعاً:

- اخفض صوتك يا رجل حتى لا توقظ الأطفال فتفضحنا.. لعنة الله على أول يوم شربت فيه هذا السم الهاري.

قالت ذلك وهي ترتجف غضباً، وتلفتت حولها كأنها تبحث عن شيء لا تعرفه.. ثم فركت يديها ورجعت إلى غرفتها: "خير لي أن أعود إلى سجادة صلاتي" وأغلقت الباب خلفها.

توتر الجو كثيراً.. وساد الصمت الثقيل.

أقبل الزاكي وهو يحمل صحناً مليئاً بالفري المشوي اللذيذ.. وضع الصحن أمامنا صامتاً، ثم طوى فراشه وحمله تحت إبطه وخرج من غير أن ينطق بكلمة.

وهكذا عدنا وحيدين: أنا وأخي وقنينة العرق، وصحون المشهيات، وهذا الفري المغري الذي تفوح منه رائحة الشواء اللذيذة، وهذه العتمة الهادئة، وصوت نقيق الضفادع في حوض الأسماك الذي انتبهت إلى أنني أسمعه الآن ولأول مرة..

ماذا أفعل الآن لأخترق كابوس الصمت الثقيل؟.. أليس من السخف أن أفاجئ أخي بسؤال عما إذا كان يستغل هذه الضفادع تجارياً؟..

نظرت إليه. كان مستمراً في إطراقته الصامتة الغاضبة والحزينة.

أشعل سيكارة أخرى، ومص منها نفساً عميقاً، ثم رفع بصره نحوي وقال:

- من الأفضل لنا أن نواصل الحديث ونتصارح في كل شيء حتى لو سهرنا إلى الصباح. هل أنت مستعد؟

- بل من الأفضل أن تنام فتستريح.. مؤكد أنك مُنهك بعد رحلة اليوم المضنية.

- ومتى كنت غير منهك يا أحمد؟.. إن تعب الجسد لا يساوي شيئاً على الإطلاق حيال تعب هذا..

وضرب بقبضته على صدغه.. ثم تابع حديثه الشاكي:

- هذا أهلكني يا أحمد.. قتلني.. إنني أموت في اليوم الواحد ألف مرة. إنني كمن في صدره خنجر مغروس إلى القلب. كيفما تحركت يهتز نصل الخنجر في قلبي. فأصرخ مستجيراً: "يا الله". ما عدت أحتمل كل هذه الآلام.. وعندما يأتي الليل أجد راحة كبرى في الجلوس وحدي بالشرفة.. اجلس هناك وأبكي..وأبكي.. صورتها تأتيني صارخة مستغيثة: "أنقذني يا حاج رضوان.. خذني منهم.. خذني إليك فأنا أختك الصغيرة التي ربيتها على ساعديك".. فأمد كلتا يدي في الظلام كالمجنون فلا أقبض غير الهواء والفراغ والمزيد من القلق الممض القاتل.. كأنما يد القلق تهز الخنجر المغروس في قلبي بوحشية فظيعة أين منها وحشية ذلك الخنزير الأكبر عندما ظل طول الشهر يأمرهم: اقتلوا المزيد.. اقتلوا المزيد.. ابقروا بطون النساء الحوامل.. اذبحوا الأطفال الرضع أمام عيون أمهاتهم.. أحرقوا الرجال أحياء..

وسكت هنيهة ثم قال:

- أتدري؟.. دخلوا على مدرسة العميان.. والعميان عجزة طبعاً.. فسكبوا عليهم النفط وأحرقوهم وهم أحياء يستغيثون..

- مستحيل.. هذا شيء غير معقول.. وهل كان بينهم الشيخ عبد الرحمن خليل؟

- الشيخ عبد الرحمن، هذا الإنسان الرائع الذي علمك لغة القرآن، لم يكن في مدرسة العميان. وإنما أحرقوه وهو في بيته. أحرقوه بنفاثات اللهب. ولم يرحموا كونه أعمى في الرابعة والثمانين.

لم يبق كلام.. ارتبط لساني.. طاش عقلي.. عميت.. قمت مترنحاً وخرجت إلى الشرفة.. وانحنيت أتقيأ.. كانت أمعائي ترفضني.. كانت أمعائي تتقيأني.. وبصقت مرارة وأنا أقول: "عليك وعلى أمجادك يا أحمد الفشاش.. إنك لا تساوي بصقة".

*        *       *

الفصل السادس

مرت ثلاثة أيام جميلة رائعة. كانت أياماً خضراء بكل ما في اللون الأخضر- خصوصاً عندما يتفتح البرعم الغض من عقدة متحطّبة في غصن يابس- من نضارة وشفافية وتطلُّع نشيط إلى النور واندفاع للحياة.

فاذا كانت مآسينا هي العقد المتحطبة المليئة بالأشواك الحادة المؤلمة فان بين الشوكة والشوكة برعم حياة يتفتق عن وُرَيْقة أمل خضراء، يمكن للعين أن تنشغل بتأملها، فإذا ما تأملناها بإخلاص- حسب تعبير الشيخ رضوان- فإننا سنكافأ حتماً باقتناص أثمن بهجة في الوجود، وهي بهجة اكتشاف السر الإلهي في معجزة الخلق... "وأنت ماذا تريد أكثر من ذلك ؟" هكذا كان يسألني أثناء جولات العمل في المزرعة ثم يقول:

- فأنت إذا تأملت عملية فتح زهرة من برعم، أو رصدت بإخلاص كيف تتفتق الأغصان الخشبية عن أوراق جديدة، أو قعدت تنظر إلى تربة ندية وهي تمخض عن فلقتي حبة الفاصوليا الملتصقتين بوريقتين صغيرتين في لحظة الإنبات الأولى، فإنك ستتصل مباشرة مع سر الإعجاز الإلهي الخارق في عملية الخلق، وسيبهجك كثيراً أن تكتشف السر الأساسي في الحياة ألا وهو الإصرار على الحياة والبقاء والنمو والعطاء، بل العطاء بسخاء.

ثم يسكت برهة، وتهمد حماسته، ويتنهد، ويطرح هذا السؤال:

- لكن، يا حسرتي، ما الفائدة من أن تكتشف أسرار الطبيعة كلها ما لم تكتشف الإنسان أولا؟.. فالإنسان – قطعا- هو أعجب مخلوقات الله على الإطلاق. وإن أصعب اكتشاف في الدنيا، بل أعظم اكتشاف، هو أن نكتشف الإنسان..

ثم يتلفت حوله، شأن من كان في غيبوبة وصحا، ويقول:

- هات هذه المجرفة وقم معي لنعاون الزاكي في تعديل الساقية.

ويرمي عقب السيكارة، ونخرج من ظل الشجرة التي كنا قاعدين تحتها، ونمشي إلى الشمس.. فقد كنت ألازمه في العمل بالحقل، والساقية، وجمع البيض من قاعة الدجاج، وتفقد المفقسة والحاضنة في قاعة الفري، وتقديم الأعلاف للأرانب. وعندما كنا نقف معاً أمام حوض السمك الذي يلعب في الماء الضحل بنشاط، كان يدلي بهذه المعلومة المفيدة:

- تربية الأسماك هي الأسهل والأقل تعباً.. فما دامت أفراخ الحوض من نوع واحد ومن عمر واحد فإنها لن تفترس بعضها.. والخطر الوحيد عليها هو أن تفترسها الذئاب، ولهذا سوّرنا الحوض بهذا السور القوي من الشبك الحديدي.. غير أن الفضل الحقيقي في طرد الذئاب يعود لقطاش، هذا الكلب الرائع الذي لا أبادله بعشرة رجال.

وكان حبل المودة قد اتصل بيني وبين قطاش. فهذا الحيوان الضخم الذي رأيته مخيفاً وشرساً ساعة وصولي، غدا الآن مهرجاً حقيقياً بين يدي، يأتيني في كل مرة وكأنه يبدي رغبة شديدة في تعلم "فن" جديد، بعد أن علمته كيف يمد يده اليمنى للمصافحة عندما تبادره بتحية "بونجور". وهكذا  فإن الأطفال وجدوها لعبة مدهشة "بونجور يا قطاش وبونجور يا قطاش".. ويضحكون ثم يلحون علي في الرجاء بأن أعلم هذا الكلب الذكي لعبة أخرى. وكن يسعدني جداً أن ألبي طلب هؤلاء الأطفال الذين أصبحت أحبهم بشكل هائل. فاستعملت فكري لابتكار لعبة كلبية أخرى، فلم أتذكر إلا حركة كنت قد شاهدتها في السيرك، وهي أن يقفز الكلب فيقف على ظهر الحصان، وبما أنه لا حصان عندنا في المزرعة فإنني قلت لهم:

-  هاتوا "صابر"

فسحبوا الحمار البليد من رسنه. ورحت أشرح للكلب أصول اللعبة. غير أن جهودنا التعليمية فشلت فشلاً ذريعاً، لا لأن "قطاش" لم يفهم علينا (ذلك لأن كل الأطفال شاركوا في تلقينه ما ينبغي عبيه أن يفعله) بل لأن الحمار – ما إن وثب الكلب ووقف فوق ظهره – حتى جن جنونه وفر مسرعاً وهو يرفس برجليه.. فضحك الأطفال من أعماق قلوبهم، وقال عبد الفتاح:

- عمري ما رأيت "صابر" يركض هكذا.

وقالت وداد بصوتها الطفولي الآسر:

- ليتنا لم نرفع الجرس من رقبته.

ذلك لأننا، في جملة الإصلاحات الجذرية التي نُفذت في المزرعة باقتراح مني، نقلنا الجرس الأخرس من رقبة "صابر" البليد إلى عنق "حفيظة" النشيطة، فصرنا نسمع له رنيناً، بل "هكذا صارت حفيظة بقرة أجمل" حسب تصريح فردوس، هذه الطفلة الجميلة ذات العينين الساحرتين والتي كانت أكثرهم جرأة على مصارحتي بأنها تحبني كثيراً. وكنت في كل مرة أؤكد لها بأنني أحبها أكثر.. ثم مضت قُدُماً في شجاعتها بالبوح فقالت لي:

- أنت ذكي جداً.

قالت ذلك عندما نصبت لهم أرجوحة بديعة، لم تكلفني أكثر من أن أربط حبلاًَ في أكبر غصن من أغصان شجرة التوت الجليلة. وقد نشرت هذه الأرجوحة في قلوب الأطفال فرحاً لا يوصف. فسألني أخي:

- كيف فاتني أن أفعل هذا؟

قلت:

- ربما لأنك رُزقت بالأطفال على كبر..

وصار يحلو له أن يفرش بساطاً تحت شجرة التوت الجليلة، بعد العصر، ليجلس ويتأمل فرحة الأطفال باللعب في الأرجوحة، بصبابة إنسان سعيد جداً. وكنت أجلس إلى جانبه، وفكري منصرف إلى سؤال واحد: (أليس من الأفضل أن يكون لك ثمانية أولاد، دفعة واحدة ومن أعمار متقاربة؟). وكانت أمنا شفيقة تأتينا بالقهوة اللذيذة، وفي الوقت ذاته فإن القط شحادة يُقبل نحونا رصيناً متمهلاً شبعاناً فيتوجه نحوي ويجلس في حضني ثم ينظر إلى وجهي بعينيه الذابلتين نظرةً يكاد يقول فيها: "أرأيت كيف فضّلتك على العم ذاته؟" وكنت أسأل نفسي: "هل إن الحاج رضوان أمره بذلك أيضاً؟".

قلت له:

- مزرعتك جنّة.. ولكن ينقصها شيءٌ لا تكتمل الجنة بدونه.

فعلّق ممازحاً:

- هات واعرض علينا نص البند الجديد من بنود حركتك التصحيحية.

قلت:

 - نافورة.. نافورة ماء مثل تلك التي كانت في وسط فناء بيتنا.

قال:

- وهذه حسبنا حسابها أيضا. غير أن مكانها ليس هنا. وإنما مكانها هناك أمام باب البيت، تحت الشرفة تماما.

كانت تلك الفسحة، أمام باب البيت، هي فناء الدار، وهي الفسحة المكشوفة الوحيدة غير المزروعة لأنها أرض صخرية. بل هي صخرة واحدة، واسعة، مسطحة، وفي منتصفها تماما حفرة دائرية باتساع فم التنور، مملوءة بالتراب وفيها غرسة ورد، قال أخي:

- في قديم الزمان كانت هذه الحفر فتحة يمكن للإنسان أن ينضح منها الماء بالدلو.. لأنها تنزل إلى قناة الري قديمة كانت تنقل الماء، في جوف الأرض، من النهر البعيد إلى هذه الأراضي الخصبة. ويبدو أن القناة سُدت في مكان ما فجفت. في ذلك الزمن الغابر كانت هذه الأراضي غابات زيتون.. بدليل وجود رحى الطاحون الضخمة.. هنا كانت توجد مطحنة لعصير زيت الزيتون.

سألته: إذا كانت القناة جافة فمن أين تنضح مضختك الماء؟

- من بئر عميق حفره الرجل الذي اشتريت منه المزرعة. كان رجلاً عظيماً، أيام الاستعمار دوخ الفرنسيين بجهاده الوطني. وبعد الاستقلال اعتزل الدنيا وجاء إلى هذه المنطقة لينشئ جنته. كانت مطامحه عظيمة. وعندما استدعاني أول مرة لأصلح له مضخة الماء حدثني عن مشروعه لتنظيف قناة الري. كان يريد أن يحول هذه المنطقة الصحراوية إلى بساتين خضراء.. ولم أره بعد ذلك إلا مرة ثانية عندما استدعاني ليفاجئني بعرض مغرٍ لشراء المزرعة. قال إنه اختارني من بين كل الناس لأنه لاحظ عليَّ أنني أحببت المزرعة وأنني سأحافظ عليها.

كان رجلاً عظيماً.

- مات؟

- بل سافر إلى فرنسا مهاجراً يقبل الأيادي هناك متوسلا للحصول على جنسية.. ثم انقطعت عن أخباره.

- معنى هذا أن وساف بوجقل ليس ظاهرة جديدة.

- إنه زمن النهب يا أحمد.. منذ أن أصبحت كل أسلحة القتل في أيدي الخنازير وحدهم صرنا في زمن النهب والقهر والرشوة والعهر والكذب وانتهاك كل شيء.. إلى أن كانت المذبحة الوحشية الرهيبة فصار كل ذلك نظاماً، وصرنا نحن جميعاً تحت العبيد بثلاث درجات..

ثم سألني:

- أرأيت إلى ذلك الخنزير وساف بوجقل؟.. رغم أنه ما يزال خنّوصاً صغيراً فقد كان بمقدوره أن يصادر كل ما في المزرعة دون أن أجرؤ على فتح فمي بكلمة. ومن أكون أنا حتى أعترض؟.. أنا مواطن.. إذن لا شيء على الإطلاق.. أصلاً أنت رأيت ذلك بعينيك. تسألني: لماذا لا أعترض؟ لو أنني أبديت أي معارضة لقتلني على الفور والقانون يسنده. فقانون عهد الخنازير يمنح أي مسلح منهم صلاحية نصب محكمة عسكرية عُرفية تحكم بالقتل وتنقذ الحكم فوراً إذا اكتشفت "واحداً من المعارضة الوطنية".. ثم انهم يمنحونه مكافأة مالية ضخمة لأنه "اكتشف" خائناً وقتله.

بقيت ساكتاً. تعمدت أن لا أدلي بأي تعليق أو سؤال. فبعد ليلة التقيؤ المروعة قررت أن لا أزيد اشتعال النار في مثل هذه المواضيع أبداً.. فالكابوس الشنيع أشد وطأة من أن يحتمله عقل، وأنا لا أريد أن أقضي ما تبقى من أسبوع الإجازة وأهرب ناجياً بجلدي، لا أدري إن كنت بعد ذلك سأحتمل وطأة احتقاري لنفسي، لكن المهم الآن هو أن أسرق لحظات السعادة من بين أنياب الكابوس المخيف.. وعندما أسافر يكون لكل حادث حديث.

غير أن أخي، بعد أن دخن سيكارة ثانية أو عاشرة، تابع كلامه وكأنه يحدث نفسه:

- كل مُسلح دولة.. وكل رئيس مخفر إله.. يحيي ويميت.. لكن بما أنه إله مزيف فإن له نزوات تصعد وتنزل. فإذا صعدت نزوة القتل فإنه لا يشبع من دم المواطن الضحية وحده، بل يقتل كل أفراد عائلته معه، الأب والأم والأولاد والبنات والأطفال والرضيع والجد والجدة وكل من شاء له سوء الطالع أن يكون في ذلك البيت المنكوب.. وأحياناً تنحط لديه نزوة القتل، أو أنه أصيب بالملل من مشاهد الترويع والتوسل، فيغادر البيت من غير أن يقتل رب البيت، لكنه يترك خلفه قنبلة موقوتة أشد ترويعاً من القتل، وذلك بأن يقول: "إن ذلك الرجل سب خنزيرهم الأكبر".. وأنت تعرف النتيجة..

ثم سألني:

- أليس هذا ما اتهمك به اسكندر الحفيان؟

هززت رأسي وبقيت صامتاً.. فسألني، وكأنه تذكر أمرا:

- ثم إنك لم تخبرني حتى الآن.. هل إنك جاد عندما تهددهم بجعفر الضاوي؟.. إياك أن تكون هازلا في هذا الأمر.. فهذا لعب بنار خطيرة جداً قد تحرقنا جميعاً.

قلت له:

- اطمئن.. فأنا جاد كل الجد في هذا الموضوع. فهو صديقي ويتمنى أن يقدم لي خدمة.

- وما الذي أوصلك إلى جعفر الضاوي؟ هل تعرف من هو هذا المخلوق اللعين؟ إنه أخبث واحد من بين "خنازير السوبر". إنه أخطرهم جميعاً. رغم أنه مثل الشبح لا يعرف أحد ما هو منصبه على وجه التحديد، بل إنه هو الذي يصنع المناصب ويرسم الأدوار.. ما الذي أوصلك إليه؟.

- أنا لم أسع إليه بل إنه هو الذي سعى إلي.

- كيف؟.. ومتى؟..

- قبل حوالي ثلاث سنين.. جاءني إلى فيسبادن متوسلاً، منهاراً، مستغيثاً، وهو يحمل ابنه الصغير المريض بعد أن نفض الأطباء أيديهم منه. كان حاله ميئوساً منها. وقال لي: "دخيلك.. كبار الأطباء الألمان نصحوني بأن ألجأ إليك".. كانت حالة الطفل تستثير الشفقة، أما حالة الأب فمن الصعب وصفها.. عجيب.. هل يمكن أن يكون ذلك الرجل الرقيق، الحنون، العطوف، هو نفس الرجل الذي تصفه بأنه مخلوق لعين وأخبث واحد في عصابة القتلة المتوحشين؟..

قال: المهم.. وبعد ذلك؟

- عالجت الطفل وأعانني الله على شفائه حتى قام سليماً معافى مثل الحصان، بل إنني بعد أن عرفت مكانة الرجل في بلدي استضفته وابنه أسبوعاً عندي في البيت.

قال أخي ممتعضاً:

- أعوذ بالله.. أعوذ بالله.. إياك أن تخير أمك شفيقة بهذا.. لأنك ستسقط من عينيها. فهي تعتقد بأن مصافحة أي من هؤلاء الخنازير تدمغ الإنسان بنجاسة أبدية.. وهل اتصل بك بعد ذلك؟

- زارني أكثر من مرة.. أحياناً كان يأتيني ليقول لي: يا أحمد.. ليست لدي أية مهمة رسمية في ألمانيا.. ولكنني جئت لأقضي معك يومين. فأنا أستريح لك كثيراً. أنت الصديق الصادق الوحيد..

فقال أخي بلهجة قاطعة:

- إنه كذاب.. إنهم كذابون.. باطنيون.. لعنة الله عليهم من خنازير غدارين.

كانت شمس في سمت الظهيرة اللاهبة، والهواء الساكن تماماً، ولا صوت في المزرعة إلا صوت الصرصار الأخضر الذي لا يتوقف عن الأزيز.

قال أخي:

- قم بنا لنساعد الزاكي في تبييض جدران غرفته قبل أن تدعونا شفيقة لطعام الغداء بأوامرها الحازمة.. هل تعرف كيف تدهن الجدران بالصباغ؟

لم يعد أخي يشرب عرقاً. صار حين ينحشر بين فكي كماشة القهر والغضب يهرب إلى التلهي بالعمل، غاصباً نفسه على أن تجد السلوان في ممارسة أي عمل يدوي يستجر الفكر بعيداً عن التفكير.. أما أنا فإنني غصبت نفسي على أن تتخذ قراراً وحيداً وهو أن لا أتخذ أي قرار على الإطلاق، بل أن أترك الأمور معلقة إلى ما بعد.. إلى متى؟.. إلى أن أسافر إلى ألمانيا وأعود إلى بيتي وزوجتي وأولادي وغرفتي وسريري وعيادتي وطلابي.. فليبق كل شيء مؤجلاً إذن..

وعندما وصلنا إلى غرفة "العِلّية"، بعد أن اجتزنا قاعة البيت وصعدنا الدرج الداخلي وجدنا الأولاد مصبوغين بالدهان الأبيض. كانوا يساعدون الزاكي الذي لم يصدق بعد بأن عمه خصص له أحسن غرفة لتكون عش الزوجية السعيدة.

وسمعنا صوت أمنا شفيقة وهي تنادي:

- هيا انزلوا بسرعة فطعام الغداء جاهز.

وحين تنادي هذه الأم العظيمة فمن الذي يجرؤ على التلكؤ؟.. إذن فلننزل في الحال. غير أن الأطفال نزلوا خلفنا متسترين بنا وهم في غاية الوجل والحذر. ما إن رأتهم الأم العظيمة حتى راحت تضرب بكلتي يديها على ركبتها وتصرخ غاضبة:

- ماذا فعلتم بأنفسكم يا شياطين؟.. كيف لطختم ثيابكم هكذا بالدهان؟.. ألا تخافون الله؟.. ألا ترحمونني أبداً؟.. يا ناس.. أنا امرأة عجوز ولم تعد بي طاقة على الغسيل.

ثم التفتت إلى زوجها تسأله:

- أأعجبك هذا؟

فضحك الحاج رضوان وهو يقول:

- لن تغسلي ثوباً واحداً بعد اليوم.. سأشتري لك غسالة كهربائية.

ها قد حانت الفرصة المناسبة تماماً لأن أعرض أهم بند من بنود الحركة التصحيحية الشاملة. قلت لأخي:

- بالمناسبة. كيف تصبر على العيش بلا كهرباء أنت الذي اشتهرت بأنك ساحر الكهرباء؟

فقالت أمنا شفيقة بحسرة:

- لأن النجار يبقى بلا باب دار.

وضع الحاج رضوان يده على شاربه وقال مبتسماً:

- غالية والطلب الرخيص.. خذي من هذا الشارب أحسن مولد كهربائي، وثلاجة، وغسالة، ومروحة، ومصابيح كثيرة تجعل المزرعة تتلألأ في الليل مثل الجوهرة وسط هذه الصحراء المظلمة. لكن على شرط: لا مذياع ولا تلفزيون.. فأنا أريد أن أظل بعيداً عن وجع الدماغ..

فقال الزاكي:

- عمي.. هل سنفعل كل هذا قبل العرس؟

- بل قبل أن يسافر أحمد..

فسألتهم مستفهماً:

- عن أي عرس تتحدثون.. هل تمت خطوبة الزاكي لأي آنسة؟

وأقبلنا على الطعام ضاحكين.. بسم الله الذي رزقنا هذه اللقمة الهنيئة، وبسم الله الذي فتح إشراقات الأمل في القلوب المحطمة الحزينة.

غير أن السعادة لم تكتمل إذ فوجئنا بما يجفف اللقمة في الحلق.. رأينا من النافذة الشرقية سيارة مقبلة.