طاحون الشياطين(7)

رواية

طاحون الشياطين

شريف الراس

الفصل الحادي عشر

قل: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور.

هكذا أمرتني الطفلة الحلوة سلوى أول ما فتحت عيني على ضياء شمس الضحى المبهر. كانت واقفة فوق رأسي تنتظر أن أفيق لتعلمني دعاء ما بعد النوم، وكانت تبتسم بوجهها الصبوح الجميل.

قلت مطيعاً: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور.

فسألتني: ماذا يعني النشور؟

اعترفت: لا أدري..

فضحكت سلوى ثم أكدت:

"خالتي سعاد تعرف.. إنها تعرف كل شيء.. تعال إلينا في الشرفة إذا كنت تريد أن تتعلم".

وذهبت مسرعة إلى الشرفة التي حوّلتها سعاد إلى مدرسة في الهواء الطلق.

كانت القاعة، حيث أنام، مشرعة الباب والنافذتين على نور شمس الضحى الساطع.. وكل شيء في القاعة نظيف ومرتب وأنيس، والدنيا حلوة ومبهجة، وسلوى حلوة ومبهجة، وكذلك الأطفال الآخرون الذين أسمع أصواتهم الناعمة وهي تناقش معلمتهم الخالة سعاد. سعاد أيضاً إنسانة رائعة.. ما أجمل أن تفتح عينيك على الدنيا فترى كل شيء صبوحاً، ودوداً، نقيّاً، طاهراً، بهياً، أنيساً:

"لماذا لا أبقى فأعيش هنا، في هذه المزرعة الجميلة، بعيداً عن العالم كله.. أليست هذه هي الجنة؟".

نهضت منتشياً بمشاعر التفاؤل. وغسلت وجهي ثم خرجت إلى الشرفة. كان الأولاد متحلقين حول سعاد.

- صباح الخير يا سعاد.

- صباح الخير يا أخي.

"أخي؟!" ما أجمل أن أسمع هذه الكلمة منك أيها السيدة الباسلة!! كانت ظلال أوراق كرمة العنب تغمرها هي والأولاد بهالة من لون أخضر ناعم وشفاف، تتخلله بقع ذهبية من ضوء الشمس. كانوا سعداء ببعضهم. لقد وجدوا بعضهم. واللون الأخضر، لون النماء والخير والاستبشار يمتد ليشمل المزرعة كلها. وها إنني أرى الأشجار المصطفة وكأنها صفوف راقصين في مهرجان عيد الربيع، وها إن ألواح البرسيم الأخضر تتمايل مزهوة بنضرتها ولمعان الحياة البضة في سوقها وأوراقها، وهي تتمايل بتأثير نسائم منعشة كانت كافية لأن تجعل المروحة المضخة، في أعلى البرج، تدور ببطء وكأنها تلعب. وها إن لصريرها أثر الموسيقى العذبة في النفس المرتاحة. أما الكورس الغنائي فتجده حول حوض السمك حيث أفراخ البط والإوز التي تكاد ترقص وهي تلاحق بعضها بمرح وترفّ بأجنحتها من غير طيران. قلت لنفسي:

"هذه المزرعة جنة.. سأعيش هنا مع أخي ومع الجميع".

غير أن ضربة الفأس الحاسمة التي تقطع حبل المصير في مثل هذا القرار الخطير تتطلب شجاعة. آنذاك وجدت نفسي ألتفت إلى سعاد والأولاد. قلت لها:

- في الليل سألتك "من أين لك هذه الشجاعة؟" فتهربت من الجواب.

قالت: أنا مستعدة للجواب الآن. غير أن الزاكي - المسكين - يعمل وحده في قاعة الأرانب، ويتعب، وعلينا أن نساعده.

ثم فاجأت الأولاد بهذا السؤال:

- أنتم تحبون الزاكي كثيراً أليس كذلك؟.. إذن قوموا فاذهبوا كلكم لتساعدوه، فسيارة التاجر ستصل بعد قليل ويجب أن تكون الأرانب موضوعة في أقفاص الشحن..

قام الأطفال وذهبوا لمساعدة الزاكي.

نظرت سعاد إليَّ وقالت:

- ما أردت أن أخبرك أمام الأطفال بأنني من أضعف خلق الله. فأنا طول الليل أبكي.. كلما انفردت بنفسي أبكي وأبكي وأبكي وأتذكر ابني وزوجي وأولئك الوحوش الذين اغتالوهما وقطعوا يديّ.. ثم أتذكر ما حلّ بمدينتنا وأسأل نفسي: "ما نفع البكاء؟!". غير أنني إذا لم أبك فإنني سأموت. وتلك هي مأساتي حيال الناس الطيبين الذين ألجأ إليهم وأنام عندهم.. فليلة أمس بت في غرفة السيدة شفيقة، أقول "بت" ولا أقول "نمت". لأنني لا أنا نمت لكثرة ما بكيت ولا هي نامت لشدة إشفاقها عليَّ.. مسكينة أمنا شفيقة.

- يعني.. الأطفال ناموا وحدهم في الغرفة الثانية؟

- نعم.

- ولكنك وعدتهم بأن يناموا معك.

- أمنا شفيقة ذكرتني بهذا الوعد أيضاً. لأنها تعرف أنني لن أبكي أمام الأطفال.. لأنني أمام الناس عموماً مضطرة لأن أظهر بصورة الإنسانة الشجاعة!.. ثم إنني أريد أن أسألك يا دكتور: لقد فقدنا أربعين ألف شهيد، فهل نقضي على من تبقى حياً منا باليأس والحزن والقهر والانهيار؟.. إنني أعتذر إليك لأن كلامي غير واضح تماماً، وغير منسجم منطقياً.. فأنا عندما أبلغ هذه النقطة من خيط التفكير يفلت الخيط كله من بين يدي..

وتبتسم وتسألني: ذلك تعبير أدبي خائب فأنا بلا يدين.

قلت: ومع هذا فإنني أصر على الثناء على شجاعتك، وإنني وقد كلفتك أمس ووعدتك بأن لا أدعك تحتاجين إلى غيري ما حييت، شعرت اليوم باعتزاز وفرح وسعادة غامرة عندما سمعتك تقولين: "أخي".

قالت بمداعبة لطيفة:

- وهذا تعبير شعبي دارج على اللسان أيضاً. إن أي إنسان قد يقول لأي إنسان: يا أخي.

- لكنني أنا تلقيتها منك في موقعها الصحيح.. فأنت أختي أمام الله والناس، وإنه ليشرفني أن يكون لي أخت مثلك، يا سعاد نحن لن يفرق بيننا إلا الموت.

- لا فائدة منك.

- ماذا تعنين؟

- سافرت إلى تلك البلاد البعيدة وعشت عشرين سنة بين أولئك الأوربيين الذين يقيسون الأمور بمقياس المصلحة والمنفعة، ويزنون كل قول أو مبادرة سلوكية بميزان المردود المقابل.. ثم ها إنك، في لحظة واحدة، تنسى كل ذلك وتعود إلى أصلك: إنساناً حقيقياً، يندفع عاطفياً لاتخاذ قرار خطير دون النظر إلى أي اعتبار عقلاني جامد.. أنت من شعبنا يا أخي.. هكذا هو شعبنا العظيم، وعلى هذا المستوى الإنساني الرفيع من الشهامة والنبل والمروءة كان كل شهدائنا الذين ما قتلوا إلا لأنهم كانوا كذلك.. يا حسرتي..

وأطرقت سعاد هنيهة ثم سألتني:

- قولك إنهم يريدون أن يفرضوا علينا النذالة والدناءة والحقارة بقوة السلاح؟.. ما لم تكن وغداً تُقْتَل.. ما لم تسجد للطاغية سجود العبد الذليل تُقْتَل.. وأما إن قبلت على نفسك أن تصير من طينة الذين قطعوا يدي، وحشاً حقيقياً ونذلاً نموذجياً، فإنك الناجي والرابح والكاسب في مراتب العيش.. ما قولك يا أحمد؟.. إن هذه المسألة تقلقني عشرات أضعاف ما تقلق أياً منكم، ذلك لأنني معلمة، أي مربية، فكيف أربي الأطفال؟ هل أستمر في انتهاج خط الكذب فأظل أحدثهم عن مكارم الأخلاق وأزيّن لهم محاسن قيمنا التراثية الإسلامية والقومية؟ أم أنني يجب عليّ –حتى أحميهم من غدر وحوش مجتمع الشياطين- أن أصارحهم بأن المخلوقات البشرية ليست كلها على صورة "الإنسان" التي رسمها لنا ديننا العظيم وزينها لنا آباؤنا ومعلمونا في المدارس؟.. وإذا كان الأمر كذلك فكيف أقول لهؤلاء الأطفال الأبرياء: حصّنوا أنفسكم منذ الآن واعلموا جيداً أن المجتمع مليء بالغدارين والكذابين والخونة والمرتشين ومعدومي الضمير.. إن كنت أخي حقاً فساعدني: بأي لسان أقول للأطفال هذا الكلام؟

جاء خالد من قاعة الأرانب ليسألني:

- هل صحيح أنك ستأخذ الزاكي معك اليوم لتصلح له وجهه؟

- من أخبرك بهذا؟

- الزاكي.. وهو سعيد جداً، لكنه خائف من أن تكون مازحاً.. نحن كلنا نحب الزاكي ونرجوك أن تصلح له وجهه.

ضحكتُ وقلتُ لخالد:

   - ارجع إليه وطمئنه.. فأنا جاد فيما قد وعدت.. وسوف آخذه معي إلى مستشفى بالعاصمة لأقوم بعملية التجميل بنفسي..

فطار خالد مسرعاً نحو قاعة الأرانب لينقل البشرى العظيمة، أما أنا فقد التفت إلى سعاد متسائلاً:

- هل تصدّقين أنني لم أر وجهه حتى اليوم؟.. ربما كان غير محتاج لعملية تجميل.

قالت:

- مسكين.. لو أنه أدرك الحقيقة لما تورط في هذا الوهم.

- أية حقيقة يا سعاد؟!.. أتدرين أن حديثك يمتعني كثيراً؟

- في هذه الأيام بالذات لم يعد الإنسان بحاجة لأن يدرس الأربعين حديثاً النووية ثم يقرأ أفلاطون وأرسطو وشوبنهاور، ثم يحفظ أشعار المتنبي، حتى يكتشف ما هو القبح وما هو الجمال.. فقساوة هذه الأيام المظلمة في وضوح كل شيء فيها، تجعل الحمار ذاته يكتشف أن الجمال هو جمال الروح لا الشكل، وأن البشاعة هي بشاعة النفس لا الوجه.. أنت كنت نائماً في الصباح ولم تر الزاكي عندما كان يلقمني طعام الإفطار، لو أنه أبرّ الأبناء لما كان بمثل هذا الحنان والعطف و..

سألتها:

- والشفقة؟

أجابت بتأكيد:

- والحب أيضاً.. هل تظنني لا أسمع خفقان قلب العاشق؟

فسألتها بمداعبة:

- يعني.. هل أفهم من هذا الكلام يا سعاد أنك تقبلين بالزواج منه "على عيبه"؟

- هذا قرار لا يحق لي أن أبت فيه ما لم أسمع مشورة أهلي.

- وأين أهلك حتى نستشيرهم؟

- عجيب.. ألم تكن تؤكد قبل لحظات أنك أصبحت أخي.. إذن فالقرار قرارك.

- صدقيني يا أختي إذا اعترفت لك بأنني أشعر الآن بسعادة غامرة، سأذهب لأبحث الموضوع مع أخي في الحال.

ومشيت باتجاه قاعة الأرانب، فنادت سعاد خلفي:

- إنه ليس هناك.. الحاج رضوان عند باب المزرعة. إنه هناك منذ الصباح يحاول أن يصلح محرك السيارة الذي يرفض الدوران.

فاستدرت ومشيت إلى سياج الزيزفون الذي تجثم تحت ظلاله سيارة هيئة الأمم، لا شك في أن الطفل خالد عندما طار مسرعاً ليبشر الزاكي بنبأ "تصليح وجهه" كان أكثر اتزاناً مني وأنا طائر على بساط الأحلام الجميلة لأقول لأخي بحماسة طفولية:

"أرأيت أن الله سبحانه وتعالى يبتلي ويعين؟!.. ها قد تفتحت أول زهرة أمل في حقل مآسينا.. ما رأيك بزواج سعاد والزاكي؟".

*        *       *

لم تكن هيئة الأمم جاثمة بدواليبها الأربعة تحت ظلال الزيزفون.. فشمس الظهيرة وقد صارت في السمت، طردت الظل إلى ما تحت الأشجار مباشرة، وهناك يجلس الشيخ عبد القادر لائذاً من الحر اللاهب، أما أخي، الذي انتابته حالة من المعاندة الشديدة (إما هو وإما هذه السيارة المستعصية على الإصلاح) فقد كان يسبح بعرقه وكان قميصه المبلل بالعرق ملطخاً ببقع الشحوم السوداء أيضاً ولكنه رغم كل ذلك بادرني بهذا السؤال العجيب أول ما وصلت:

- عمرك رأيت أنذل من هذا الإسكندر الحفيان؟.. أصلحك الله يا أحمد.. كيف تركته يذهب عندما جاء إلى هنا؟.. أما عرفت كيف تغرس سكيناً في بطنه فتريح البشرية من شروره.

سألته ببراءة:

- وما الذي أورد سيرة هذا الرجل الكريه الآن؟

ضحك أخي وهو ينظر إلى الشيخ عبد القادر ويقول:

- اسمعوا يا ناس.. الدكتور أحمد نسي ما أخبرنا به الرج الليلة.

ثم التفت إليّ وسألني:

- أنسيت أن هذا الحقير يدعي بأنك شتمت الطاغية كبير الخنازير؟! هل تعرف ما هي عقوبة هذا التجديف بحق الذات الطاغوتية؟.. الإعدام.. أنت مهدد بالإعدام يا أحمد وتسألني ما الذي جلب سيرة هذا الحقير؟!.. أنا لم يغمض لي جفن طول الليل، كنت أتقلب على الفراش وأنا أسأل نفسي: أما كفى هذا الوغد كل ما لعبه بعواطفنا طوال سنة؟ أما كفاه ما ابتزّه من أموالنا؟.. أما كفاه ما يسعى إليه اليوم فإما أن ندفع له نصف ريع الصيدلية وإما أن يؤكد للنقابة بأن أختنا خديجة قد ماتت فيغلقوا الصيدلية ونحرم من ريعها.

قال الشيخ عبد القادر بصوته الواهن، وهو لائذ بظل سياج الزيزفون:

- بالمناسبة يا جماعة.. أرجوكم أن لا تؤاخذوني.. فقد نسيت.. لكن حديثكم عن الصيدلية وعن أختكم خديجة جعلني أتذكر الآن.. هاكم.. إنني أحمل إليكم رسالة من أهل الأستاذ نزار.

ودسّ يده في جيبه ثم أخرج رسالة.

سألت:

- من هذا الأستاذ نزار؟

قال أخي وهو يفضّ الرسالة:

- إنه الشاب الذي كلفناه بإدارة شؤون الصيدلية.

كانت الرسالة تتضمن سطرين لا أكثر.. صيدلية خديجة أغلقت وخُتمت بالشمع الأحمر، والأستاذ نزار صار في السجن.

الحاج رضوان مزّق الرسالة وشرر الغضب يقدح في عينيه.. وصارت عضلة فكه تتوتر وترتخي بإيقاع هيجاني كاد يسحق أسنانه.. ثم انحنى فوق محرك السيارة ليفك مضخة البنزين وهو يقول:

- يجب أن نصلح السيارة مهما كلّف الأمر.. يجب أن أسافر أنا لا أنت.

وقفت حائراً..

ماذا أفعل؟..

ماذا أقول؟..

وارتجفت ذعراً للفكرة المخيفة التي خطرت لي:

هل يريد أخي يريد أن يقتل ذلك الرجل البشع؟..

ومتى تحوّل الحاج رضوان إلى قاتل؟..

متى حشروه بين حجري رحى الطاحون بهذه القسوة التي جعلته لا يرى أي منفذ إلا بأن يقتل الطحان؟..

ولكن.. هل إسكندر الحفيان هو الطحان؟..

هل هو الأفعى السامة الوحيدة؟

وهل قتل هذه الأفعى اللعينة يفتح باب الخلاص؟..

أم أن البلد صار يغصّ بالأفاعي التي تفحّ وهي مكشرة عن أنيابها؟..

هل جسد الوطن مصاب بلوثة سرطان في الثدي مثلاً بحيث يمكن إنقاذه إذا استأصلنا الثدي؟.. أم أن النظام كله فاسد وجسد الوطن مبتلى بسرطان في الدماغ، في الدم، في العين واللسان في الصدر، في القلب، في كل مكان؟..

إذن فما العمل؟..

كيف نحقق النجاة والإنقاذ والخلاص؟..

يمكنك طرح ألف جواب مقبول إلا جواب قتل رجل بشع بعينه، لأن هذا ليس حلاً على الإطلاق.. وإنني ملزم أخلاقياً حيال أخي بأن أصارحه بهذه الأفكار وأن أحاول إقناعه بالعدول عن فكرته الرهيبة والخاطئة. إنه مخطئ مخطئ.. وإنني سوف أذكّره بكلمته التي كان يرددها كثيراً أثناء زيارته لي في ألمانيا (يا أحمد.. كل هذا النعيم الحقيقي الذي يرفل به الألمان سببه تمسكهم بالديمقراطية.. فلا حياة بلا ديمقراطية.. ولا حرية ولا نهضة ولا فن ولا صناعة ولا زراعة بلا ديمقراطية.. لا سلامة للوطن أصلاً بلا ديمقراطية.. نحن –يا حسرتي علينا- خسرنا كل شيء من يوم أن أعلنت أحزابنا الوطنية حلّ نفسها، من يومها تحولنا من مواطنين إلى عبيد لشخص واحد أو لحزب واحد يطغى عليه شخص واحد.. خسرنا كل شيء.. يا أحمد)..

إنني سأذكّره بكلامه هذا وأقنعه بأن طريق الخلاص هو العودة إلى الحياة الديمقراطية التي تكفل للمواطن حقوقه الإنسانية.. أما اغتيال شخص أو عشرة، أو مئة، فلن يحل المشكلة أبداً مهما كانت خطورة ذلك الشخص، فما بالك باغتيال وغد تافه من مستوى إسكندر الحفيان؟..

من المؤكد أن هذه الفكرة صارت الهاجس الأشد وطأة على ذهنك يا أخي، منذ زمن طويل، وإنني أعطف عليك لما عانيته من عذاب كان مع مرور الزمن يشتد ويزداد قساوة وإيلاماً، وإنني أراك رؤية العين وأنت تحاول في كل مرة أن تؤجل "التنفيذ" إلى حين تجد وسيلة لضمان سلامة زوجتك وهؤلاء الأيتام من بعدك، وها إنك وجدت الحل بأن تستدعيني فلبيت وإنني صادق العزم على تبنّي أحبابك جميعاً، والزاكي وسعاد، ولكن –لقاء هذا- فإن من حقي عليك أن تصغي لوجهة نظري.

نبح "قطّاش" وهو يرصد بعينيه التلة الشرقية. جاءت الشاحنة الكبيرة المنتظرة وعلينا أن نتعاون جميعاً لنقل صناديق البيض، وأقفاص الفرّي والأرانب.

قال أخي:

- يا أحمد خذ الشيخ والمرأة إلى المخبأ.. بسرعة..

نهض الشيخ عبد القادر وتسلل متستراً بالأشجار، وأنا أمشي خلفه، إلى أن وصلنا إلى البيت فدخل، ثم اجتاز القاعة إلى المطبخ، وهناك وجدنا أن "سعاد" قد سبقتنا فأزاحت موقد النفط من مكانه في إحدى زوايا المطبخ، وها إنني أرى خلف الموقد فتحة في أسفل الجدار يمكن للإنسان أن ينزل فيها بصعوبة. نزل الشيخ عبد القادر وهو يقول لي:

- عليك أن تزيح الموقد ليعود إلى وضعه الطبيعي.

- ألا تريدني أن أنزل معك؟

- لا.. لا.. صرت أعرف دربي.. إن قدمي الآن ثابتة على درجة سلم طبيعي منحوت في الصخر.. إنها عشرون درجة، وبعد ذلك تصل إلى سرداب طويل جداً كان في قديم الزمان قناة ري جوفية.

- والإنارة؟

- المصباح موجود من ليلة أمس.. هل نسيت؟

- وسعاد؟

فسمعت صوتها من جوف القناة تحت الأرض:

- لا تشغل بالك بنا.. المهم أن تسرع بإغلاق الفتحة عندك.

أزحت الموقد بصعوبة، كان ثقيلاً جداً، وإنني لأتساءل كيف استطاعت سعاد –وهي امرأة ضعيفة وبلا يدين- أن تزيح هذا الموقد الثقيل الذي توحي لك نظافته بأنه لم يستخدم قط.. ربما كان من مخلفات مالك المزرعة السابق.

ثم خرجت فوجدت الجميع يعملون بهمة ونشاط، أخي والزاكي وأبو غزوان يحملون أقفاص الأرانب وصناديق البيض، بينما اختصّ الأطفال بنقل أقفاص الفرّي. أما أمنا شفيقة فهي مشغولة بالتنور، لأن شعارها الثابت: "الطعام أولاً عندما يحل عليك ضيف".

سألتهم:

- وأنا؟.. ماذا تريدون أن أعمل؟

- أنت اصعد فوق الشاحنة لتأخذ الصناديق والأقفاص فترتبها فيها.

- لكن هذا العمل من اختصاص السائق.

- سائق الشاحنة تطوع لإصلاح سيارتنا.. كثّر الله خيره.

*        *       *

سارت الأمور على أحسن ما يرام، تم نقل البضاعة بسهولة وإتقان، والأطفال انشغلوا عن الإحساس بالتعب بفرحة العمل والنشاط والحماسة، وأنا رتبت صناديق البيض جيداً ثم وضعت فوقها أقفاص الأرانب والفرّي بإتقان جعل سائق الشاحنة مسروراً لأنه استطاع أن يصلح سيارتنا المتهالكة، ويجعل محركها يدور (بصوت ألطف من صوت طنين النحلة) حسب تعبيره. وكان أخي مسروراً أيضاً لأن "هيئة أممه" صارت قادرة على الحركة، وكان أبو غزوان مسروراً كذلك لأن أخي قبض منه قيمة البضاعة من غير أن يعترض على الأسعار التي حُسبت بموجبها. (قال أخي بعد ذلك: هذه عملية سرقة وليست عملية بيع وشراء) وكانت أمنا شفيقة أكثرنا سروراً لأن أبا غزوان فاجأنا بمبادرة تسهل الإفراج عن المختبئين تحت الأرض بأقصر وقت. فقد اعتذر عن البقاء لتناول طعام الغداء، واكتفى بأن طلب رغيفين من هذا الخبز الطازج، وقرصاً من الجبن.

وقال:

- لو أن سيارتنا محملة بأعلاف أو أسمدة لما همّنا مرور الوقت، غير أن السيارة محمّلة بأرواح وعلينا أن نوصل هذه الأرواح إلى العاصمة بأسرع ما يمكن.. إذن فلنأكل في الطريق.

فعلّق أخي ممازحاً:

- لا تخف يا أبا غزوان.. فحتى لو بقيت عندنا حتى المساء فإنني لن أفاتحك بموضوع الأسعار غير المعقولة التي حسبت قيمة البضاعة بموجبها.. يا رجل اضحك في عبّك.. فأنت أخذت كل هذه الشحنة الضخمة بأقل من نصف قيمتها الحقيقية..

- حرام عليك يا حاج رضوان.. فأنت تعرف أنني أحبك وأهتم بمصلحتك. أما بالنسبة لمسألة أسعار هذه البضاعة فوالله إن..

قاطعه أخي مبتسماً:

- لا تحلف يا صاحبي.. فأنت لو دفعت أقل من هذا المبلغ لوجدتني راضياً.. أتدري لماذا؟.. لأن حظك من السماء.. فأنا مضطر للبيع كيفما كان لأنني مستعجل للسفر أيضاً.. كما أنك صديق، وقد نحتاج إليك في يوم من الأيام، إذن فلتستفد من هذه الصفقة أنت خير من أن يأخذها غيرك اغتصاباً بالبلاش.. يعني.. كما يقول المثل: في بطن السبع ولا في بطن الضبع.

- ماذا تعني يا حاج رضوان؟.. إذا كنت أنا السبع فمن هو الضبع؟

- عجيب.. ألم تخبرني أمس وتؤكد لي اليوم بأن وزير الحرب سوف يسلط دباباته لشن هجوم على كل مزرعة فرّي في البلاد؟..

وقهقه أخي بالضحك وهو يربت على ظهر صاحبه قائلاً:

- اذهبوا راشدين وليوفقكم رب العباد.

وما إن انطلقت الشاحنة مبتعدة بما حملته من غنيمة حتى أسرعنا للإفراج عن الشيخ وسعاد التي قالت وهي تخرج من فتحة المخبأ خلف الموقد:

- بدلاً من دعاء ما قبل النوم ودعاء ما بعد النوم علينا أن نبتكر صيغة دعاء لما قبل المخبأ ودعاء لما بعد المخبأ.

فقهقه الجميع بالضحك وتوجهنا إلى مائدة الغداء بنفوس مرحة وشهية مفتوحة للطعام، بل إن أخي كان يأكل بنهم (وإخلاص) حسب تعبيره، وكان يلتفت إلى الزاكي الذي يطعم سعاد بيديه ويقول له باعتزاز وفرح:

- هل سمعت صوت هيئة الأمم؟.. صار صوتها أنعم من صوت النحلة.. مالك لا تأكل يا محروق الصفاح؟.. صحيح أنني سعيد جداً برؤيتك مهتماً بسعاد كل هذا الاهتمام، لأن سعاد مثلك غالية علينا جميعاً، ولكن يمكنك أن تضع لقمة في فمها ولقمة في فمك..

فقال الزاكي بخجل:

- عمي هذا لا يجوز.. فقواعد التاكتيك تنص على أن السيدات أولاً.. ليديز فيرست..

فقلت وأنا أضحك:

- الاتيكيت يا زاكي.. وليس التاكتيك.

وعلّق أخي ممازحاً:

- عشنا وشفنا.. لم يبق على الزاكي إلا أن يعلمنا أصول الأتيكيت.

فقالت سعاد:

- وماله زاكي؟.. ماذا ينقصه؟.. إنه نعم الشاب الذكي والشهم والجدير بكل احترام.

آنذاك هممت بأن ألقي قنبلة الفرح، فالمناسبة مواتية تماماً لطرح موضوع الزواج.. غير أن وجود الأطفال معنا على المائدة جعلني أتريّث.

فقال أخي:

- أشهد الله يا سعاد أنك نعم المرأة العظيمة، ثناؤك على الزاكي ملأ قلبي بالهناء الحقيقي، فهذا الشاب الذي فطره الله من معدن المروءة الصافية هو في الحقيقة جوهرة قد لا تجدين لها مثيلاً في الدنيا، وربما كانت هذه أول مرة أمتدحه فيها بوجهه، لأنني الآن مسافر، وقد يطول بي السفر.. إذن فمن الواجب أن أدلي بشهادتي في هذا الشاب الذي يسعدني أن أقول إنه ابني.. يا زاكي.. من قلبي أقول اللهم ارض عن الزاكي.. اللهم ارض عن الزاكي..

ثم نهض قائماً وقال لأمنا شفيقة:

- رتبي لي الحمام بسرعة.. أريد أن أغتسل وأتطهر ثم أصلي ثم أقرأ جزءاً من القرآن الكريم، ثم أتعطر بعطر الورد وأرتدي ثوب الحرير الأبيض وأودعكم وأسافر..

غير أن شيئاً من ذلك لم يحدث.. فقد سمعنا صوت طائرة سمتية في السماء، كنا جالسين نأكل في الشرفة، والسماء مكشوفة أمامنا على مدى البصر، وها إن الطائرة السمتية مقبلة نحونا، فهرب الأطفال وسعاد والشيخ ودخلوا إلى البيت.. والكلب"قطاش" هرب أيضاً بدلاً من أن ينبح غاضباً أو محتجاً، ربما كانت هذه أول مرة يرى فيها طائرة.

قلت لأخي: هذا جعفر الضاوي حتماً.

  الفصل الثاني عشر

لا وقت للمجاملات، فقد كان جعفر الضاوي على نار كما يقولون، حتى إنه لم ينزل من الطائرة السمتية، وإنما فتح زجاج نافذتها ونادى: (أرجوك يا دكتور أحمد.. هات حقيبتك وتعال بسرعة..... في الطريق أشرح لك كل شيء.)

كانت الطائرة السمتية قد حطّت على بعد حوالي مئة متر من سياج المزرعة، فأثارت تحتها زوبعة من الغبار الكثيف، وهي زوبعة ظلت تتصاعد باستمرار، لأن مروحة هذه الطائرة العسكرية لم تتوقف عن الدوران، فالجماعة لا يريدون أن يفرّطوا بأية ثانية من الوقت.

فقلت له بأعلى صوتي وبأعلى مستوى من البلاهة أيضاً:

- لا حقيبة معي.. افتحوا الباب لأصعد.

فُتح الباب، وأُنزل منه سلّم بسيط.. وكان عليّ أن أركض مسرعاً لأخترق حاجز الغبار الكثيف، تحت وطأة صوت هدير محرّك الطائرة المزعج، فأمسك الزاكي بيدي -وكان الشخص الوحيد من أهلي الذي جاء معي لاستقبال الطائرة- ورجاني أن أصطحبه معي، وأضاف صارخاً بأعلى صوته، من تحت اللثام طبعاً:

- إذا كنت ذاهباً لإجراء عمليات جراحية إذن خذني معك لتنهي موضوعي.

سحبته من يده: تعال يا زاكي.

غير أنه حرن في مكانه متردداً، ثم سحب يده من يدي متراجعاً وهو يقول:

- لا.. لا.. لن أذهب الآن.. لا أقدر أن أتركهم وحدهم..

فصرخت في أذنه: ماذا تقول؟.. ارفع صوتك.

فصرخ في أذني: خير لي أن يظل وجهي مشوّهاً من أن أترك أهلي وحدهم وهم بحاجة إليّ.

فتركته وأسرعت نحو الطائرة، غير أن كلمته انغرست في قلبي سهماً من نار لا يمكن أن تخبو أبداً. (لقد قتلتني يا زاكي دون أن تدري، وإن كلمتك العفوية هي أقسى صفعة تلقيتها في حياتي)، وحين نظرت إليه من خلف زجاج نافذة الطائرة رأيته يلّوح لي بيده، وباليد الأخرى كان يمسح دموعه.

وأقلعت بنا الطائرة صاعدة مبتعدة، وأنا وجهي ملتصق بزجاج النافذة وعيني ثابتة --بلهفة وعاطفة- على الزاكي وعلى المزرعة التي بدت من الجو بأدق تفاصيلها، وها إنني أرى بقرتنا "حفيظة" واقفة ترعى البرسيم قرب سياج حوض السمك، وها إن أخي واقف في الشرفة ينظر نحونا: (سأرجع إليكم يا حاج رضوان، لن أغيب عنكم أكثر من يوم واحد، ما عدت أستطيع العيش بعيداً عن مزرعة الطاحون).

وفيما راح أبو ضاوي يغمرني بعبارات الترحيب والحفاوة والابتهاج بلقياي، فإن عيني لم تتزحزح عن زجاج النافذة الصغيرة، فالدنيا تحتنا كلها بادية: أرض سهلية ترابية قاحلة، ومزرعة الحاج رضوان الفشاش هي الرقعة الخضراء الوحيدة، إنها علامة الحياة الوحيدة، وفيما عداها فإنك لا ترى تحتك -على امتداد البصر- غير السهول الترابية التي تتخللها مُوَيجات من التلال الرملية الصغيرة، وبين بعض التلال قد تجد مضارب جماعة من البدو لا تزيد عن خمسة أو ستة من بيوت الشعر العتيقة المهلهلة، وحولها بعض الأغنام الواقفة في هذا الوقت من النهار وهي مطأطئة برؤوسها من الذل أو للبحث عن عشبة يابسة فوق قشرة التراب الجافة، أو أنها برؤوسها هاربة من قيظ الشمس اللاهب للتظلل بظلال بعضها.

وبعد ذلك -إذا شئت أن تتسلى بالمنظر- فإنك لن ترى من نافذة السمتية غير الطريق الترابية الوحيدة التي يطرقها باص المبعوجة بسائق سمين مبتلى بعاهة الوشاية الطوعية، وهذه الطريق خالية من أية سيارة في هذا الوقت.

قال جعفر: ماذا يعجبك بمنظر هذه الصحراء؟.. أما آن لك أن تلتفت إليّ وتهتم بحديثي؟.. يا رجل أنا غير مصدّق بأنني قد وجدتك بعد كل ما عانيت في البحث عنك..

التفتُّ إليه قائلاً وأنا أبتسم:

- لذلك سافرتَ إلى ألمانيا، وذهبت إلى فيسبادن، فطرقتَ باب بيتنا، فخرجتْ لك هيلدا ورحّبت بك وأخذت من يدك علبة الكنافة وهي تقول: (شكراً على هذا الكاتو) فقلت لها موضحاً –شأنك في كل مرة- (يا سيدتي هذه ليست كاتو.. هذه كنافة مبرومة بالفستق والجوز واللوز. هل الدكتور أحمد موجود؟) فأخبرتك هيلدا بأنني مسافر في زيارة للوطن الغالي.. وأعطتك العنوان.

فقال أبو ضاوي مندهشاً:

- كأنك كنت معي. كيف عرفت كل هذا؟.. بل إن زوجتك أفهمتني بلغة الإشارات الصعبة - لأنني لا أفهم الألمانية وهي لا تفهم الإنكليزية- بأن زيارتك لن تزيد عن أسبوع، لذلك أسرعت بالعودة فوراً للبحث عنك، فأنا أعرف عقلك الانضباطي المتزمت في دقة تحديد الزمن والمواعيد، وكنت أخشى أن يمر الأسبوع من غير أن ألقاك.. لأننا محتاجون إليك في مهمة خاصة.

قلت: أعرف.. أعرف..

فسألني باستغراب: ماذا تعرف؟.. يبدو لي أنك فعلاً تعرف أشياء كثيرة.

- أعرف سراً خطيراً لكنني لن أخبرك به حتى لا يسمعنا الأخ المحترم (وأشرت إلى الضابط الذي يقود السمتية، وكان بثلاثة نجوم).

فضحك أبو ضاوي ثم قال آسفاً:

- إنني أعتذر.. كيف فاتني أن أعرّفك بالنقيب عناد؟.. هذا الدكتور أحمد يا نقيب عناد..

قال قائد الطائرة:

- أهلاً وسهلاً.. تشرفنا.

كان واضحاً أنه يتهيّب في سلوكه بحضور أبي ضاوي الذي واصل كلامه:

- النقيب عناد صديق عزيز وموضع ثقة، فما هو السر الخطير الذي تعرفه؟

- لديّ خط هاتف مباشر من مزرعة الطاحون إلى بيتي في فيسبادن.

ضحك أبو ضاوي وقال:

- أؤكد لك مرة أخرى أنني لا أخفي شيئاً عن النقيب عناد فماذا تعرف؟

- أعرف أن رئيس الدولة يعاني من سكرات الموت، وأنكم استقدمتم أطباء أجانب عديدين فلم ينفعوا بشيء.. خبّرني يا صاحبي: هل أصبحت حالته الصحية ميئوساً منها؟

انقلب حال جعفر من الممازحة والملاطفة إلى القلق والوجل، غير أنه ظل متماسك الأعصاب، إنه هو أيضاً صار خبيراً في إخفاء بواطن نفسه تحت مظاهر خارجية معاكسة تماماً، إذ من غير المعقول أن يكون هذا الرجل الأنيق، النحيف، ذو الملامح الأنيسة واللطيفة، والنظارات الرقيقة التي بلا إطار، من غير المعقول أن يكون هذا الشاب الذي يوحي مظهره ولطفه ورقة حديثه وكل مواصفاته بأنه موسيقار أو شاعر باع روحه للجمال والعدل والحرية، من غير المعقول أن يكون واحداً من أكبر أعوان الطاغية السفّاح، بين عصابة (خنازير السوبر) حسب تعبير الحاج رضوان. كيف يمكن "تلبيس" وحش وجه شاعر.. إن الرعب الذي يثيره في القلوب اسم جعفر الضاوي هو رعب من وحش رهيب لا يأكل غير الأطفال ولا يشبع من الولوغ بدماء الأطفال.. بينما سحنته الوديعة سحنة شاعر أطفال، ترفرف البراءة والعفوية والجمال فراشات فوق أزاهير سلوكه الإنساني الرقيق.

وحدّقت فيه النظر مرة أخرى.. قال:

- أنا محتاج إليك يا دكتور أحمد.. إنني أكلّم فيك الصديق. وأظنك لن تخيّب رجائي.

- في الطب لا مجال للرجاء يا صديقي، بل هناك إلزام، وأنا ملزم أخلاقياً بأن أعالج أيّ مريض يلجأ إليّ.. الطب مهنة إنسانية يا أبا ضاوي.

- أشكرك.. إنني أشكرك. كنت واثقاً من أنك لن تخيّبني، فأنت إنسان شهم ونبيل ونقي.. وإنني أعتزّ بصداقتك، أنت من مفاخر هذا الشعب.

- لا حاجة بك لأن تدوّخني بالثناء والمديح. طمّن بالك.. سأبذل كل جهدي حتى أنقذ مريضك.

- وهذا عشمي فيك، خصوصاً أن المسألة، بعد أن مرّت بمضاعفات مقلقة، بلغت حالة من التحدي الأهوج والرهان السخيف.. (همساً في أذني) لأن رفاقي في القيادة لم يوافقوا على اقتراحي باللجوء إليك إلا بعد فشل كل أولئك الأطباء الأجانب، إنهم لا يثقون بأي طبيب من أبناء البلد، لقد بذلت جهوداً مضنية حتى استطعت إقناعهم بالاعتماد عليك.. يخافون أن..

ما هذا؟

إذن فجعفر الضاوي، على خطورة موقعه في هرم السلطة، ورغم صلته المباشرة بالطاغية الأكبر، يحذر الكلام على مسمع من قائد الطائرة؟.. إذن فهم –شأن أفراد أية عصابة- لا يثقون ببعضهم، بل لا أستبعد أن يكونوا في حالة حذر دائم من الغدر الرفاقي المفاجئ: على الوجه ابتسامة، ويد تصافح بحرارة، واليد الأخرى تطعن الظهر بخنجر مسموم. إذن فإن ما أكده أخي من أنهم – منذ بداية مرض زعيمهم – قد بدؤوا فعلاً في حرب التصفيات ضد بعضهم للسباق نحو خلافة الطاغية، وهو تشخيص دقيق وصحيح.

قال قائد السمتية وهو يشير إلى الطريق الترابية تحتنا:

- هذا حادث مرور قد يكون خطيراً سيدي.

نظرنا إلى الطريق. ثمة شاحنة متوقفة بمواجهة ناقلة جنود مصفحة. والجنود يقومون بتفريغ الشاحنة مما فيها من صناديق.. يا للكارثة: هذه سيارة الأرانب والفري والبيض. قلت: 

- أريد أن نحط هنا لنفهم القصة.

قال أبو ضاوي:

- لا وقت لدينا.. هذا أمر لا يهمنا.

فقلت بإصرار وأنا أكتم غضبي:

- بل إن هذا الأمر يهمني أنا شخصياً.. فإن لم أكن معتقلاً أو موقوفاً فإنني أطلب النزول هنا.. لن نتأخر كثيراً.

فوافق أبو الضاوي على مضض. ثم انتبه إلى نفسه فرسم ابتسامة على وجهه وقال لي مداعباً:

- العفو يا صديقي.. نسيت أنكم في ألمانيا يثور هياج الواحد منكم إذا ما شعر بأي مسّ بحريته.

وحطت السمتية على بعد خطوات مبعثرة من الشاحنة. ونزلنا منها.

كانت معظم الصناديق مبعثرة على جانبي الطريق. (وا أسفاه على جهودي في ترتيبها فوق الشاحنة بعناية وإتقان). وكان بعضها محطماً. والأرانب الفالتة سارحة في أرض الله الواسعة تقفز مبتعدة هنيهة ثم تتوقف هنيهة لتتلفت متسائلة بعيون حمراء براقة وآذان بيضاء منتصبة: (ماذا حدث؟.. أين نحن؟.. لماذا أطلقونا في هذه الديار القاحلة التي لا نرى فيها أي عرق أخضر).

سألتُ:

- ماذا يجري هنا؟.. ماذا حدث؟

فأفادني عسكري جلف واقف فوق الشاحنة وهو يقذف بصندوق آخر إلى الأرض:

- حتى الآن لم نجد ما نبحث عنه سيدي..

فصرخت غاضباً:

- كفى.. توقفوا.. ما هذه المهزلة؟

توجهت إلى أبي غزوان، تحاصرني عيون العساكر الذين فوجئوا بأوامري الصارمة، غير أن أبا غزوان لم يرفع بصره إليّ، بل ظلّ على وضعه اليائس. كان جالساً على الأرض بحزن واستسلام، مطرق الرأس متهدّل اليدين، كأنه ينتظر رساماً ماهراً سوف يأتي ليستلهم من شكله خطوط التمثال النموذجي لليأس الأبدي. سألته:

- ألا تخبرني بالذي حدث؟

رفع التاجر المنكوب رأسه وأجاب خائفاً:

- أنا لا علاقة لي يا صاحب السعادة.. سل غيري.. فأنا عابر طريق وقد ركبت مع سائق الشاحنة بالأجرة.. أنا مع الحكومة يا صاحب السعادة.

صاحب السعادة؟!

أإلى هذا الحد بلغ الخوف بأبي غزوان حتى يتظاهر بأنه لا يعرفني؟.. يا أحمد اترك هذا الرجل شفقة به، ألا ترى أنه (يا للفاجعة) قد تحوّل إلى أرنب؟.. اتركه وابتعد عنه حتى لا تدفعه إلى التورط بمزيد من الكذب المذل والمهين.

التفتُّ إلى العسكري الجلف الواقف فوق الشاحنة وصرخت به:

- لقد قلتَ إنكم حتى الآن لم تجدوا ما تبحثون عنه. فما هو الشيء الذي تبحثون عنه؟ حشيش؟.. مخدرات؟..

- لا يا سيدي. إننا نبحث عن امرأة مقطوعة اليدين. صحيح أنها بلا يدين ولكن يبدو أنها مجرمة خطيرة جداً على أمن الدولة يا سيدي.

 فقلت لجعفر الضاوي وأنا أشتعل غضباً:

- لن أذهب معكم ما لم تأمرهم الآن بأن يعيدوا كل هذه الصناديق إلى مكانها.

كنت أرتجف انفعالاً.. وانفجرت في نفسي نزعة التحدي فتابعت:

- والأرانب التي هربت أيضاً. عليهم أن يجمعوها كلها ويعيدوها إلى صناديقها وعليهم أن يعتذروا لهذا الرجل. فهذه بضاعة لها ثمن، وهو ماذا أذنب حتى يخسر أمواله؟

كنت أعني أبا غزوان طبعاً. ولكن أبا غزوان كان أكثر حكمة من أن يشكرني بل إنه – ويا للعجب العجاب – استمر في إنكار أية صلة له بالشاحنة وما فيها واستمر يدمغني بعبارة (صاحب السعادة).

فقال جعفر الضاوي:

- إنني أستغرب أمرك يا دكتور أحمد.. تزعج نفسك كل هذا الإزعاج وتصرخ وتنفعل وتغضب من أجل رجل لا تعرفه ولا يعرفك؟

- لكنني أعرف البضاعة، فهي نتاج مزرعتنا، أنا، بيدي هاتين، حملتها على ظهر الشاحنة وتعبت في ترتيب الصناديق فوق بعضها.

ثم تساءلت مستغرباً:

- لكن.. أين أقفاص الفري؟

سمعت صوت (حضرة النقيب) من خلف ناقلة الجنود المصفحة:

- أقفاص الفري مكدسة هنا يا دكتور.

- يا للعار.. إنها عملية نهب إذن.

فاجأني (شاعر الأطفال) بهذا السؤال:

- ألا نمشي يا دكتور؟.. نحن لا نستطيع أن نتأخر أكثر مما فعلنا.

فقلت:

- نعم نمشي.. ولكن نمشي عائدين إلى المزرعة.

فانفجر ضاحكاً وهو يقول:

 - ما أجملك وأنت غاضب يا صديقي. أإلى هذا الحد أثر فيك الألمان حتى صرت تعطف على الحيوانات كل هذا العطف؟. إذا كنت تعطف على الأرانب والطيور هكذا إذن فكم تكون عاطفتك رقيقة حيال بني البشر؟

ثم التفت إلى الجند آمراً:

- سمعتم أوامر الدكتور.. فمالكم لا تتحركون؟.. هيا.. أرجعوا كل شيء كما كان..

قال العسكري الجلف:

- العفو يا محترم. من أنت حتى ننفذ أمرك.

فصرخ به (حضرة النقيب) موبخاً:

- حيوان.. هل صحيح أنك لا تعرف سيادة جعفر الضاوي؟. وإذا كنتم حميراً إلى هذا الحد فكيف كلفوكم بمثل هذه المهمة؟

 وقع اسم جعفر الضاوي وقوع الصاعقة. وأسرع الجند يعملون في تحميل الشاحنة بالصناديق، وهم في حالة تبعث على الضحك والإشفاق لما سادها من عبط وارتباك.

قلت لجعفر:

- يمكننا الآن أن نعود إلى السمتية ونواصل السفر.

وتركته يمشي إلى الطائرة هو والنقيب، وانزويت بأبي غزوان وحاولت أن أواسيه:

- ما لك يا رجل؟.. ماذا أصابك؟.. أإلى هذا الحد بلغ فيك الخوف؟.. أما الأرانب الشاردة فلا تحزن عليها، لأنني سوف أقنع الحاج رضوان بأن يعطيك بدلاً منها وأكثر.

قال أبو غزوان بصوت إنسان محطم:

- مع أنني أشكرك يا دكتور فإنه لا فائدة من جهودك. لأنك لو حميتني الآن فهل ستظل معي لتحميني طول الطريق؟. إنني أحصيت أثناء المجيء اثني عشر حاجزاً للتفتيش، من مثل هؤلاء الجنود الأشاوس وسيارتهم المصفحة. فحتى لو صدقوا بأنه من المستحيل تخبئة امرأة تحت صناديق بيض فإن كل حاجز لن يتركك تعبر ما لم تدلق في بالوعته صندوق بيض وقفص أرانب. هذا إذا لم يرغموك على دفع أتاوة نقدية. وهكذا فإننا لن نصل إلى السوق إلا والشاحنة فارغة تماماً. اسمع نصيحتي يا دكتور أحمد ابتعد عن هذه الأمور فأنت لن تستطيع أن تصلح الكون.

- أنا لا أريد أن أصلح الكون.. ولكنني ملزم بأن أدافع عن أموالي، رزقي، ثمرة أتعابي.

- لا تؤاخذني يا دكتور أحمد فأنت أعجز من أن تدافع عن نملة. لأنك لست من عيار وزير الحرب. وإلا فهل صحيح أنهم يبحثون عن امرأة مقطوعة اليدين؟. إن كان الأمر كذلك فلماذا صادروا كل أقفاص الفري ونقلوها إلى سياراتهم العسكرية؟. هل يصدق أخوك الآن تحذيري له من نوايا وزير الحرب الذي يريد أن يحتكر تربية هذا النوع من الطيور والسيطرة على أسواقها؟. اذهب يا دكتور.. عجل بالمسير إليهم فها قد دارت مروحة الطائرة.

تركته وأنا أشد منه يأساً وغضباً، وأسرعت إلى الطائرة.. وواصلنا الرحلة.

 

  

الفصل الثالث عشر

طلب أبو ضاوي من النقيب عناد أن يكون خط الطيران بعيداً عن طريق السيارات (فنحن لا نريد أن نتأخر أكثر مما فعلنا، وأخونا الدكتور أحمد رجل عاطفي وحسّاس، وقد يضطرنا للنزول عند حادثة مماثلة على الطريق ليدافع عن حقوق الإنسان، فهؤلاء الناس الذين يعيشون في أوروبا مغرمون بهذه المسائل.) ثم التفت إليّ مبتسماً وهو يقول:

- هل تعلم بأن اسم مزرعتكم قد دخل عالم الخلود على خرائط الجغرافيا؟.. فبعد أن عانينا ما عانينا ونحن ندقق في كل الخرائط الطبوغرافية العسكرية بحثاً عن موقع (مزرعة الطاحون) بلا جدوى، ستصدر الأوامر الآن بتثبيت اسمها على تلك الخرائط.. أظن أن أخاك سوف يعتزّ بذلك غاية الاعتزاز.. ولِمَ لا؟... إن المجد الذي تحقق للأخوين فشّاش لا يحلم به إنسان، فالدكتور أحمد الفشّاش دخل التاريخ بمنجزاته العلمية في الطب، وأخوه دخل الجغرافيا، وها إنكما قد أمسكتما بالمجد من قرنيه.

قال ذلك وضحك.. وحين لاحظ أن (نكتته) لم تؤثر بي استدرك:

- آ.. صحيح.. تذكرت.. الألمان لا يضحكون، غير أنك الآن عندنا، هنا في الوطن، ولو كنت مكانك لحاولت أن أخلع عن روحي ثوب الرصانة والتزمّت.

هذا هو جعفر الضاوي، لم يتغيّر فيه شيء. إنه -على ذكائه الخارق في ترتيب مخططات الإرهاب وتدبير المؤامرات السرية الخطيرة وقدرته على خنق الشعب بيد من حديد -لا يعرف كيف يحبك نكتة ناجحة... ربما لأن عفوية الإنسان البسيط فيه قد تفحّمت بفعل الحرائق الرهيبة التي صنعتها يداه... ألم يكن واحداً من الذين خططوا لمجزرة مدينتنا المذهلة بدمويتها ووحشيتها؟؟ وإنسان مثله لا يتعامل في نهاره وليله إلا مع حوادث القتل والاغتيال والتعذيب ماذا يتبقى منه؟.. يتبقى منه نفس تكاد تختنق تحت وطأة عذاب الضمير المتقيّح داخل قوقعته الصدفية القاسية، فيحاول أن يهرب في إجازة راحة بعيداً عن الأجواء، فيركب الطائرة، ويأتيني إلى فيسبادن، (صحيح أنّ صداقتنا نشأت على كبر ولكنك يا دكتور أحمد الإنسان الوحيد الذي تستريح إليه نفسي.. لأنك لست مضطراً لأن تكذب أو تتملّق، كما أنك لست خطراً علينا. صحيح أنك لست معنا ولكنك لست ضدنا، بل إنك لا تتدخل في شؤون السياسة إطلاقاً، في حضوري على الأقل، وهذا ما يعجبني في علاقتنا القائمة على صداقة لا أثر فيها للمنفعة أو المصلحة، فأنت لم تطلب مني أية خدمة في أي يوم من الأيام. وأنا؟؟ ماذا أقول؟ كنت أتمنى أن لا أزعجك بطلب أية خدمة ولكن حاجتي إليك ترغمني على طلب المساعدة في الأزمات، وهل أستطيع أن أنسى أنك أنقذت حياة ولدي؟.. لماذا تضطهدني يا صاحبي؟.. لماذا تصرّ على أن لا تطلب مني أي طلب؟ إن شئت أن تعود إلى الوطن فإنني مستعد لأن أفتح لك أحدث مستشفى.. وإن شئت الوزارة فاختر أية وزارة تحب وبعد ساعة يصدر القرار الجمهوري بتعيينك وزيراً، أنت أجدر من كل أولئك الذين.....

فكنت أقول له مبتسماً:

- كيف تريدني أن أكون وزيراً وأنت تعرف أنني لا أتدخل في شؤون السياسة؟

فيسألني:

- ومن قال لك إن من واجبك أن تعمل في السياسة إذا كنت وزيراً؟

فأضحك معاتباً:

- سامحك الله يا أبا ضاوي... إذا كنتَ تحبني وتحترمني فكيف تريدني أن أصير رِجْل كرسي؟... ثم إنني أحب أن أفهم منك يا صاحبي: إذا كان الوزراء محظوراً عليهم التفكير بقضايا البلد، وإذا كان الشعب كله معزولاً عزلاً كاملاً عن أن يتدخل في أية قضية تهم مصيره ومعيشته وحريته، فمن الذي يحكم البلد إذن؟

- رجال القيادة طبعاً.. وخصوصاً السيد الرئيس بالذات، إنه لا ينام.

- ولماذا هو وحده فقط؟.. أو لماذا يكون العمل السياسي حكراً على من تسميهم رجال القيادة وحدهم فقط؟

- هذا سؤال يجيبك عليه القدر.

- القدر؟

- نعم.. القدر... فالقدر هو الذي حمّلنا مسؤولية تحقيق أهداف الأمة، ونحن لنكون عند حسن ظن القدر بنا، لن نبخل بأية تضحية بل لن نسمح لأية عقبة بأن تعرقل مسيرتنا الثورية الماضية قُدماً لتحقيق أهداف الأمة.

- حتى لو صادرتم الحريات الأساسية للمخلوق البشري؟

- أنت لا همّ لكَ إلا الحديث عن الحرية والديمقراطية.. الألمان خرّبوا عقلك.. أتريد الصدق يا دكتور أحمد؟!. خيرٌ لنا أن نبتعد عن هذه المواضيع الشائكة، لنبقى أصدقاء. أنت حلال عليك إيمانك بأنه لا كرامة للإنسان بلا حرية، وأنا حلال عليّ عقيدتي الثابتة بأن العصر هو عصر القوة.

هذا تشخيص لنوع العلاقة العجيبة القائمة بيني وبين هذا الرجل، وهي علاقة كانت تتوطد مع مرور الأيام وكثرة زياراته لي في فيسبادن، وأرجو أن لا يحدث خلال هذه الأزمة الراهنة ما يسمم أجواء الممازحة والمودة وروح المصارحة بيننا.

ويبدو أن (صديقي) كان يفكر بالموضوع ذاته، فقد التفت إليّ قائلاً:

- ها قد وصلنا يا دكتور أحمد.. لي رجاء عندك: أن لا يعرف أحد أبداً أية معلومات تفصيلية عن مرض الرئيس.. لهذا فإنني أرجوك أن لا تنزعج إذا أخبرتك بأننا قد نضطر لمنعك من مغادرة الفندق الذي ستنزل فيه.

كانت الطائرة السمتية تحطّ بنا فوق سطح بناية كبيرة، فسألته:

- هل هذا هو الفندق؟

- لا.. هنا القصر الذي يوجد فيه مريضك.. تفضل.

*       *       *

لن أذكر عن القصر أو المريض أية معلومات، احتراماً لرجاء صديقي الذي شعرت بأنه محرج غاية الإحراج حيال العيون المرتابة التي كانت ترصدني بروح عدائية، وهي عيون (أقطاب الثورة) الآخرين الذين كانوا موجودين في القصر تنفيذاً لأوامر القَدَر الذي كلفهم بالتنبه الشديد والحذر من أية بادرة غدرٍ قد يفاجئهم بها أحد الرفاق ليصل إلى وراثة الزعيم قبلهم.. ومما زاد من ارتيابهم بي، بل عدم ثقتهم بي، أنني كنت لا أرتدي الثياب الأنيقة جداً التي ينبغي أن يكون عليها (ذلك الطبيب الخطير ذو الشهرة العالمية) وإنما جئتهم بثياب العمل مباشرة من مزرعة ضائعة في غبار البادية إلى هذا القصر المبهر بفخامته وثرائه، والمخيف بصمته وأجهزته الإلكترونية المبثوثة عند كل باب وفي كل زاوية لتسجل أية نأمة أو حركة، رغم وجود رجال الحرس المسلحين الواقفين على أهبة الاستعداد في كل ركن وعند كل ممر.

قلت بصوت خفيض:

- لا حاجة بي لأن أرى المريض الآن، أريد أن تجلبوا لي كل ما تجمّع لديكم من تقارير طبية وصور وتحاليل وتخطيطات، وأريد أن تجلبوا لي كل ذلك إلى غرفة خاصة أنفرد بها ولا يدخل عليّ إلا طبيب القصر.

فقيل لي:

- ولكن لدينا الآن أكثر من عشرين طبيباً واهبين حياتهم لإنقاذ السيد الرئيس.

فقلت: إذن فليأت رئيسهم فقط.

فقال أبو ضاوي: اطلبوا الدكتور عبد اللطيف.

لقي قراري هذا بعض الارتياح لدى أصحاب الوجوه الجامدة المتجهمة الذين استكثروا على أنفسهم أن يبادر أيٌٌّ منهم بإلقاء التحية عليّ أو مصافحتي، غير أن ذلك الارتياح كان رجراجاً في قرارة تلك النفوس الخبيثة التي أقلقها سماعي وأنا أتكلم اللغة العربية وبلهجة أبناء المدينة التي ذبحوها.

ثم قذفت القنبلة الثانية:

كانوا جالسين ينتظرون خروجي من تلك الغرفة التي انفردتُ بها في خلوة مع الدكتور عبد اللطيف كبير الأطباء حيث تدارسنا معاً كل ما حمله من تقارير وصور وتحاليل.. فخرجت إليهم ونطقت بالقرار الذي ضعضع كل مخططاتهم:

-- أيها السادة.. إن كانت هذه التقارير والتحاليل والصور خاصة بالسيد الرئيس فعلاً فإن السيد الرئيس يستطيع أن يعود لمزاولة مهامه بعد ثلاثة أيام.

ذُهلوا..

كانت قنبلة صاعقة فعلاً.

لم يستطيعوا إخفاء ما حلّ بهم من ارتباك وتساؤل..

وفيما كان وجه أبي ضاوي يطفح بالبهجة والاعتزاز، وهو ينظر إليّ بعينين تكادان تنطقان بتعابير الشكر، فإن الآخرين أقبلوا عليّ ليصافحوني شاكرين بعبارات مرتبكة تتراوح بين قطبي الفرح الكاذب والدهشة الحقيقية، غير أنهم جميعاً أكدوا -بلسان متملّق وكذب ممجوج- ثقتهم بي واعتزازهم بـ (الطب الوطني) حسب تعبير وزير الحرب الذي عندما شدّ على يدي بحرارة كدت أصفعه بعبارة: (يا لص الفرّي) ولقد هممت بأن أفاتحه بهذا الموضوع ولكنني وجدت أن الفرصة غير مناسبة، كما أن شكله القميء ولسانه المتملق وتفاهة كل شيء فيه، جعلتني أشعر بأنه لن يتأثر بالصفعة حتى لو بصقت في وجهه.. كان يقول لي، وهو ما يزال يهزّ يدي بحرارة:

- أنا كنت واثقاً من أن الطب الوطني صار بفضل الثورة أرقى وأعظم من أية خبرة أجنبية.. إنك يا دكتور من مفاخر هذه الثورة، ولا شك في أن السيد الرئيس، بعد شفائه، سوف ينعم عليك بوسام (بطل الثورة).. وإنني أرجوك وأرجو هؤلاء الرفاق جميعاً أن تقبلوا دعوتي على عشاء خاص هذه الليلة، احتفالاً بهذا العبقري الوطني الذي تعتز به الثورة لأنه ثمرة طبيعية لجهود الثورة.

فقال أبو ضاوي:

- أظن أن الدكتور أحمد مضطر للاعتذار عن تلبية هذه الدعوة الكريمة لأن مشاغله لا تسمح له أن يغادر الفندق.

فقال وزير الحرب مصعّداً مستوى بلاهته السابقة:

- وما المانع؟.. ننقل العشاء من مزرعة الفردوس إلى الفندق، وسوف تتذوقون ألذّ أطباق الفرّي المشوي والمقلي والمحشي بالرز والفستق والصنوبر. أنا فنان بهذا الميدان.

فقال واحد منهم كان ما يزال جالساً:

- بدلاً من هذا الكلام الفارغ والسخف القميء دعونا نفهم القصة.

فصمت الجميع ونظروا إليه متهيبين، وهو ينهض عن مقعده بتثاقل ويتقدم نحوي.

كان أبشع إنسان يمكنك أن تشمئز من سحنته المنحوتة من معدن اللعنة، ولاحظت أنه واحد من (الأصلاء) الذين حضروا إلى القصر أثناء خلوتي في الغرفة، بدلاً من (الوكلاء) الذين استقبلوني بنظرات العداء لحظة نزولي من فوق سطح القصر.. فبعد أن انتشر الخبر بوصول (الطبيب المنتظر) اختفى معظم الوكلاء وحضر معظم الأصلاء.. وهذا واحد منهم... سألني:

- هل أنت متأكد من صحة تشخيصك؟

- ماذا تقصد؟

- كلامي واضح.. هل أخي قادر على العودة إلى مزاولة مهام الرئاسة بعد ثلاثة أيام؟

فقلت له غاضباً:

- اسمع يا حضرة المحترم.. أنا لست أجيراً عندك حتى تكلمني بهذا الأسلوب، وإنه لا يهمني أبداً أن يكون المريض أخاك أو ابن عمّتك، وإنما يهمني أن تعلموا أن تشخيصي الطبي ليس لعباً بالأحاجي والحزازير وإنما هو نتيجة استقراء واع لمعلومات وفّرتها لي أجهزة علمية دقيقة.. أما إن كنتم تريدون له أن يموت فأنتم أحرار، وأنا أسحب يدي من هذا الموضوع، دلّوني على طريق الخروج.

فأمسك الدكتور عبد اللطيف بيدي ملاطفاً ومتودداً:

- سوء تفاهم بسيط يا دكتور أحمد، سببه أنك لا تعرف بأن سيادة الدكتور القائد (وأشار إلى ذلك الرجل المقرف) من طبيعته في الكلام أن يتحدث بهذه النبرة، طريقته في الكلام هكذا، ومن لا يعرفه يظن أنه يتكلم بنبرة استعلائية، مع أنه لا يقصد ذلك أبداً.. (التفتَ إليه) أليس كذلك يا صاحب السعادة؟

فقال (صاحب السعادة) الذي صدمتني منه رائحة الخنازير الأكيدة رغم أنه مضمّخ بالعطور:

- الواقع أنني إنسان ديمقراطي شعبي متواضع ولا أحب أن أكلّم الناس بلهجة استعلائية، ولكن الناس هم الذين يرغبون بأن أعاملهم كذلك.. خمس عشرة سنة وأنا لا أرى أمامي إلا أناساً يتوسلون ويستغيثون ويعرضون رجاءاتهم بمذلة وخنوع، إن التعامل مع العبيد طول هذه المدة يجعلك تتكلم بهذه الطريقة الاستعلائية شئت أم أبيت.

- أليس من المُعيب للإنسان أن يصف أبناء شعبه بأنهم عبيد؟... فما بالكم بدكتور؟ (التفتُّ إليه) دكتور بماذا حضرتك؟

تدخّل الدكتور عبد اللطيف متملقاً وقال:

- صاحب السعادة دكتور في الاقتصاد من الاتحاد السوفياتي، وهو رئيسنا جميعاً، أقصد أنه رئيس رابطة خرّيجي المعاهد العليا.

فسألني (صاحب السعادة) باستخفاف:

- كيف تكون طبيباً ولا تعرف هذا؟.. المفترض بك أنك عضو في هذه الرابطة.

فقلت متسائلاً:

- حتى أكون واحداً من العبيد؟

فصرخ غاضباً:

- أتتحدّاني؟.. لم يُخلق بعد من يجرؤ على أن يتحداني.. من أنت حتى تتحداني؟

فقدتُ رشدي.. كدت أبصق بوجهه وأنا ألعنه صارخاً: (أيها القاتل الخطير، أنت الوغد الذي ذبح أربعين ألف بريء من أهلي) بل هممت بأن أردّ على تحديه مبيناً أنه لن يجرؤ على مسّ شعرة من مفرقي (لأنكم لا تطالون ببطشكم وطغيانكم إلا أبناء شعبنا المساكين، فمن كان يحمل جنسية هذا البلد المنكوب بتسلّطكم الهمجي هو إنسان محكوم بالقهر والقتل والذل بينما سلاحكم أخرس حيال الأجانب، وأنا أحمل جنسية بلد أجنبي، وهذا عاركم أنتم لا عاري... لأنكم أنتم الذين دفعتموني لأن أنتحر هذا الانتحار المشين، فأتخلّى عن وطني وهويتي وتاريخي وكل كياني لألجأ لائذاً بجنسية أمة أخرى لا تجرؤون على مسّ فرد منها).. كدت.. وهممت.. ومرّت كل هذه الخواطر اللاهبة المضطربة في لحظة سريعة خاطفة قطعها تدخّل الحاضرين، الذين التفّ فريق منهم حول هذا الأهوج الشرس محاولين تهدئته، ومشوا معه إلى إحدى الغرف وهم يحاصرونه بعبارات التملّق وضرورة الصبر والتساهل إكراماً للأمل بشفاء أخيه،. (خصوصاً أن هذا الطبيب هو الوحيد الذي سمعنا منه كلمة أمل).. بينما بقي معي أبو ضاوي ورئيس أطباء القصر ووزير الحرب الذين حاولوا الرجوع بي إلى نطاق مهمتي الأساسية، وأن لا أزعج نفسي بالتورط في أي موضوع آخر...

وطُرح اقتراح بأن أبقى ثلاثة أيام (حتى يتأكد الجميع من صحة كلام الدكتور أحمد) حسب تعبير كبير أطباء القصر الذي كان يتحدث بصوت خفيض حرمة للمريض المسجّى في غرفة قريبة، مع أن الدكتور عبد اللطيف ذاته كان قد أكّد لي أثناء الخلوة بأن ذلك الطاغية الأكبر غارق في غيبوبة مستديمة قد لا يفيق منها أبداً..

فقلتُ معانداً، وقد ثارت في نفسي روح المشاكسة:

- إن كان بقائي ثلاثة أيام نوعاً من الاعتقال، فإنني أقبل بهذا التحدّي، فإذا تمّ تنفيذ تعليماتي بدقة فإنكم بعد ثلاثة أيام سوف ترون مريضكم وقد صحا من غيبوبته الطويلة، ساعة أو ساعتين في اليوم لا أكثر.

فقال الدكتور عبد اللطيف:

- أنا الطبيب الوحيد الذي تلقّى تعليماتك، وإنني على اقتناع كامل بصوابها، وأعدك بأن أتولّى تنفيذها بنفسي أنا شخصياً. كن مطمئناً، والآن ما رأيك بأن تتفضّل معي لتنفيذ البند الأول من بنود قرارك؟؟

وتوجهت مع كبير الأطباء إلى الغرفة التي مدّدوا فيها جسد ذلك الوحش فقد كان في منهاجي أن أعود إلى ذلك المريض مرتين في اليوم.

كانت الزيارة قصيرة ومختصرة، فقد كنت في غاية التعب والإجهاد وأريد أن أستريح، قلت لأبي ضاوي: خذوني إلى الفندق.

 يتبع