طاحون الشياطين(5)

رواية

طاحون الشياطين

شريف الراس

الفصل السابع

هب الأطفال خائفين وفروا مسرعين إلى غرفتهم بعيون مذعورة ونفوس قلقة لم تعرف بعد نوع الخطر الداهم المقبل إلينا في شكل سيارة غير منتظرة. وكان نباح الكلب خارج باب القاعة يؤيد خوفهم، فقد كان نباحاً عدائياً غاضباً. وربما كانت عينا "قطاش" تقدحان الآن بالشرر وهو يتلوى متوثباً بين يدي "الزاكي" الذي خرج ليربطه إلى أقرب شجرة.

أما أمنا شفيقة، التي تحركت يداها باضطراب لتسوي وضع المنديل الأبيض حول رأسها بحيث لا يظهر منها للغرباء إلا وجهها، فإنها قامت مسرعة أيضاً، فذهبت إلى تلك الغرفة ثم رجعت وهي تحمل صورة الخنزير الأكبر ذات الإطار المذهب، وخرجت فعلقتها بمسمار في الشرفة (يبدو أنهم يفعلون هكذا عندما يداهمون نهاراً)وكانت خلال ذلك تتمتم ببعض الأدعية والتعويذات ثم تنظر باتجاه السيارة وتنفخ.

كان لون عينيها قد شحب وخبا من شدة القلق والذعر. ولم أكن أسمع نص تمتماتها السريعة المضطربة، غير أن أذني التقطت عبارة: "ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم".. ثم نفخت باتجاه السيارة، عبر النافذة المفتوحة.

أإلى هذا الحد المروع أنت خائفة يا أمنا؟

كم أنا إذن ابن عاق ونذل وجبان وحقير؟!.. كيف أترك أمنا هنا وحدها، مع ضعفها، وخوفها الأبدي، وقلبها المسحوق بطاحون الذعر القاتل؟.. كيف أتركها هكذا وأدير لها ظهري، وأبقى بعيداً عنها في ألمانيا متذرعاً باللهو بأمجاد الانتصارات الطبية ونشوات الثناء والمديح وعظمة الفتوحات العلمية في ميادين الخدمات الإنسانية؟.. أية إنسانية هذه؟.. هل أنا حقاً إنسان عظيم ومثلٌ أعلى كما يقول عني تلاميذي طلاب الدراسات الطبية العليا في أوروبا؟

يا حضرات الأفاضل: أنا لست إنساناً عظيماً، ولا مثلاً أعلى. بل أنا لست حتى كلباً. فهؤلاء الأطفال الأيتام عندما فروا من حضني الآن، آملين بملاذ آمن، كانوا يثقون بشجاعة "قطاش" في الدفاع عن أرواحهم أكثر من ثقتهم بي.. بل إن هروبهم المفجع من حضني أكد بأنهم لا يثقون بي على الإطلاق، وأنهم نسوا كل محاولاتي لأن أرسخ في قلوبهم الاعتقاد بأنني أقوى من الخنازير.

نهضت واقفاً وأنا أقول بحزم قاطع:

- لن أسافر.. لن أترككم أبداً بعد اليوم.

فرفع الحاج رضوان بصره نحوي، وهو ما يزال متكئاً على وسائده أمام مائدة الطعام،وقال لي بسخرية مريرة:

- أنت دائماً تقول الكلام المناسب في الوقت غير المناسب.. لماذا قمت؟

أجبته:

- سأجلب الأولاد من الغرفة.. يجب أن ينسوا عادة الذعر المخجلة هذه. يجب أن نعلمهم كيف يشعرون بالأمان. يجب أن ندربهم على التعامل مع الاطمئنان.. ثم إنه آن الأوان لأن يثقوا بي.

فقالت شفيقة بسخرية أشد مرارة:

- دعهم مختبئين هناك في ملاذهم المضحك تحت السرير.. كيف تريدهم أن يثقوا برجل لايني يقول لهم: أنا مسافر غداً؟.. دعنا في حالنا يا أحمد أرجوك.. فنحن بعد المذبحة الرهيبة لم يطلع لنا خير من أحد في الدنيا. لا أحد وقف معنا. نحن يا ولدي لا نريد منك ولا من أي مخلوق سواك أي عون. نحن ليس لنا إلا الله. وهو نِعم المولى ونِعم النصير.

فقلت بتأكيد جازم:

- آمنت بالله.. لكني أخبرتكم بأنني لن أسافر.. لن أترككم.. ألا تصدقونني؟

ومضيت فدخلت غرفة أمنا شفيقة لكنني لم أجد فيها أحداً.

كان في الغرفة سرير كبير، عالٍ، عريق، منصوب فوق أربعة أعمدة أسطوانية من معدن مطلي بدهان أسود لماع، وفيها – للتزيين – حلقات من ذهب مزيف لماع أيضاً. وكان ثمة على الجدار سجادة زينة رقيقة وناعمة، معلقة فوق السرير، يطغى عليها اللون الأزرق القاتم المؤطر بزخارف صفراء تحيط بصورة الكعبة المشرفة وقبة المسجد النبوي، والقبة الذهبية في المسجد الأقصى.. وعلى الجدار المقابل لوحة كبيرة فيها اسم "الله" مكتوباً بحجم كبير جداً فوق أرضية من الكتابات الرقيقة الناعمة التي يبدو أنها تتضمن آيات القرآن الكريم كلها.

ولا شيء غير ذلك في الغرفة إلا رائحة التقوى والورع النقي الصافي.

انحنيت وأنا أرسم ابتسامة على وجهي وأتساءل بصوت مسموع:

- أين أولادي الذين أحبهم كثيراً؟.. لماذا تركوني مع أنني لن أتركهم أبداً؟

ثم كشفت طرف الشرشف المتهدل إلى الأرض فرأيت العيون الجميلة، وقلت لها:

- أنا أحب لعبة الاستخفاء. لكنني تعذبت كثيراً حتى وجدت مخبأكم هذا.. هل تخبئونني معكم أم تأتون أنتم إليّ؟

فسألتني وداد: يعني.. لن يذبحونا؟

قلت: ومن الذي يجرؤ على أن يمسكم بأي أذى؟.. ألم تصدقوا بعد أنني أقوى من الوحوش؟ أما رأيتم كيف طردت "وساف بوجقل وعساكره العشرة؟. أما رأيتم كيف بصقت في وجه إسكندر الحفيان" وطردته شر طردة؟.. فماذا فعلوا؟.. ها قد مرت خمسة أيام دون أن يجرؤوا على أن يرجعوا إليّ.

فقال خالد لإخوته باعتزاز: أرأيتم؟.. هل صدقتم كلامي؟.. أما أكدت لكم بأنه قوي جداً ولا يخاف؟

فسألتني سلوى:

- خالي.. هل يوجد عندكم وحوش في ألمانيا أيضاً؟. هل صحيح أنك لن تتركنا أبداً؟

قلت: أهم شيء الآن أن ترجعوا معي إلى المائدة لنكمل طعامنا.. تعالوا معي.

وحين خرجنا إلى القاعة أدركت أن كل هذه التمثيلية لم تنفع في شيء. فقد مشى الأطفال حولي خائفين متوجسين. بعضهم ممسك بيدي، وبعضهم ممسك بتلابيبي.

وجلسنا على الأرض حول مائدة الغداء. غير أن العيون كلها كانت مأخوذة إلى النافذة، حيث نرى سيارة متوقفة هناك عند سياج المزرعة. كانت السيارة مدنية فخمة جداً وثمينة جداً وجديدة إلى حد أنها خطفت عيون الأطفال من حالة الذعر إلى حالة الانبهار المدهش. فزاد ذلك من ارتياحي.

أما ركاب السيارة فإننا لم نرهم. كانوا قد وصلوا إلى الشرفة ولبثوا هناك مع أخي وزوجته. وكانت آذاننا تتصيد الكلام من خلال الباب بفضول شديد. فعرفنا أنهم ثلاثة، وأنهم ليسوا من الخنازير. فقد كانت أحاديثهم ودية ولطيفة (إنهم يتحدثون مثل البني آدم – هكذا علقت فردوس).. وكان أخي يرحب بهم بابتهاج حقيقي، خصوصاً عندما كان يوجه كلامه إلى واحد منهم اسمه "أبو غزوان" الذي يبدو أنه تاجر دواجن كان الحاج رضوان قد اتفق معه، أثناء رحلته الأخيرة إلى العاصمة، على أن يتعهد شؤون تصريف منتجات المزرعة. وها إنه قد جاء ليعاين البضاعة على الطبيعة ويكتب عقد الاتفاق.

ولست أدري لماذا تصورت من صوت هذا الأبي غزوان أنه صاحب مطعم شعبي قديم، وأن له كرشاً كبيراً, ومن ثيابه تفوح رائحة الزنخ. ربما لأنه يقضي يومه واقفاً أمام حلّة النحاس الكبيرة التي يسلق بها رؤوس الغنم.

غير أن هذا التاجر ذا الكرش والرائحة لم يأت وحده، وإنما جلب معه اثنين من أعز الناس إلى قلبه. "صحيح أنها رائحة عمل.. ولكنها فرصة فريدة لأن يستمتع زهير بك بممارسة هوايته في القنص. كما أن عزيزتنا المحترمة الآنسة مفاتن تريد أن ترى بيوت البادية لتستلهم منها مشروعاً فنياً كبيراً".

وهكذا عرفنا كل الأسماء: أبو غزوان، وزهير بك، والآنسة مفاتن.

وكان أبو غزوان، أثناء حديثه، يتعمد أن يستغل أية فرصة لتسليط الضوء على زهير بك الجدير بكل ثناء واحترام وتبجيل، فهو رجل مليء ومن كبار أهل النعمة، مع أنه كون ثروته الضخمة بعصاميته وكد يمينه وعرق جبينه، وله مشاريع ناجحة كثيرة. "ولولا أن النظام اشتراكي إذن لكان عنده بنك خاص باسمه شخصياً"

سمعنا صوت زهير بك يقول:

- يا مولانا.. إن هذا من أحسن ميزات اشتراكيتنا. فما أسهل أن تستلف من البنك ما شئت من ملايين لتغطية مشاريعك الضخمة التي تكسب منها الملايين.. يا مولانا هكذا تكون الاشتراكية وإلا فلا.. يا مولانا.. قبل الثورة كان عدد المليونيرين لا يزيد عن عدد أصابع اليدين، بينما يزيد عددهم اليوم على خمسة آلاف مليونير.

وهكذا فقد أطلق الأولاد على هذا الرجل اسم "يا مولانا".. وكان خالد قد تسلل إلى الشرفة، مدفوعاً بفضول شديد، ثم عاد ليخبرنا همساً بأن " السيد يا مولانا" شاب قد يكون أصغر من عمنا أحمد، وأنه معه بندقية صيد لأن لها عينين اثنتين، وأن السيدة التي معهم شابة جميلة وأنيقة.

ومن حديث "أبي غزوان" أيضاً عرفنا أن هذه السيارة الثمينة ما هي إلا إحدى سيارات "يا مولانا" وهي مخصصة لرحلات الصيد، وفيها ثلاجة. أما هذه الآنسة "مفاتن" فهي صديقته العزيزة. وأنها فنانة كبيرة، لا بمعنى "الآرتيست"، وإنما هي رسامة ومهندسة ديكور بارعة. ورغم أن أباها وزير فإنها فضلت الاعتماد على ذراعها فأنشأت مكتباً لمقاولات أعمال الديكور، بتمويل من زهير بك طبعاً، أصبح اليوم أهم مكتب مقاولات وتعهدات في العاصمة.. سبحان العاطي.. ففي عيد الثورة،  الذي يجب أن نحتفل به كل سنة، ترسو عليها وحدها معظم مناقصات بناء أقواس النصر الكرتونية، لأن تصميمها لأقواس النصر فريد في بابها من حيث الجمال والابتكار والتعبير عن مدى فرحة الشعب بما وفرته له الثورة من حرية وديمقراطية واشتراكية.. كما أن إتقانها اللغتين الفرنسية والإنكليزية جعل مكتبها الأنيق أحسن ملتقى مفضل لمدراء الشركات الأجنبية الذين يتوافدون على البلد لتصيد مشاريع المقاولات الضخمة..وهذه عمليات فيها ملايين..

ثم اختتم أبو غزوان حديثه مؤكداً:

- أنا شخصياً أعد الآنسة مفاتن مفخرة لبنات هذا الجيل الثوري، ونموذجاً رائعاً بل مفخرة للبنت الاشتراكية المناضلة.

فسمعت صوت أخي يعلق هكذا:

- أنعم بها وأكرم.. لكنك لم تخبرني عن أبيها هو وزير ماذا؟

- إنه وزير الأوقاف والشؤون الدينية.

- أنعم به وأكرم.. نعم الأخلاق ونعم التربية.

*        *       *

دخل الزاكي علينا وهو كالمسحور أو السكران، وهمس في أذني من تحت اللثام:

- عمي أرجوك.. إن كنت صادقاً معي في مسألة الزواج فاخطب لي عروساً  مثل "مفاتن".

فقلت له ضاحكاً:

- هذه مسألة سهلة.. ولم لا نخطب لك الآنسة مفاتن ذاتها؟.. أظن أنه حان لي أن أخرج لأرى هذه المفاتن التي فتنت لبّك إلى هذا الحد.

ونهضت وأنا أقول للأطفال:

- تعالوا معي.

*        *       *

كان الزاكي على حق أن يطيش صوابه فتنة بهذه الشابة الناضجة والجميلة جداً.. إنها -باختصار-رائعة الجمال بل إنها لساحرة.. وإنها لناضجة بمعنى الثمرة الشهية التي بلغت غاية اكتمالها حتى تذوب عسلاً وعطراً، ولم يبق عليها إلا أن تقول لك: "اقطفني.. تذوّقني.. ستجد أنني أموع لذة بين شفتيك".

كانت ترتدي ثياب صياد: بنطلوناً ضيقاً، وقميصاً ذا جيوب خارجية كبيرة، وقبعة من الفلين. وكانت قد شمرت كمي القميص حتى المرفقين، لتخفف من وطأة حرارة الطقس، وفتحت قبة القميص ما وسعها ذلك. فزاد جمال عنقها وصدرها وزنديها من وطأة تأثير فتنتها على القلوب.

ثم إنها خلعت القبعة عن رأسها فانساب شعرها الأسود نازلاً إلى الكتفين في شلالات سحر رائعة. وكان كل ما ترتديه أبيض. والأبيض لون ينسجم تماماً مع هذا الشعر الأسود والوجه الوردي والبشرة النقية. لا شك في أنها مهندسة ديكور على الذوق الرفيع في فهم أسرار انسجام الألوان.. غير أن ارتداءها هذه الثياب البيضاء بالذات، في رحلة البادية بالذات، حيث لا شيء غير الغبار فوق الغبار، أمر يجعلك تشك في حسن تقديرها للظروف الحياتية. والأغرب من هذا أنها كانت متزينة بمصوغات ذهبية تدل على منتهى التنافر والتناقض مع "الصورة".. أصلاً عندما تكون المرأة غنية بجمالها الطبيعي هذا الغنى الهائل تكون المصوغات والحلي والجواهر عوامل تشويش بل تشويه لكمال الخلق الرباني، فما بالك بهذه "المفاتن" العجيبة وقد ملأت يديها بأساور ذهبية من كل صنف ولون، كأنها تحمل معرضاً متنقلاً؟.. وما سر هذه الغواية بالذهب التي جعلتها تحمل على صدرها ثلاثة أطواق من الذهب، واحد منها ينتهي بعلبة كبيرة وثقيلة على شكل مصحف شريف؟..

ويبدو أن الآنسة مفاتن لاحظت في عيني أمنا شفيقة سؤالاً حول هذه المصوغات الذهبية الكثيرة، فقالت مبتسمة:

- كلها هدايا من أصدقائي وحياتك.

فقال السيد "يا مولانا" موضحاً:

- يا مولانا أنا بريء من هذه التهمة.. فكل هذه المجوهرات جاءتها من أصدقائها الذين فوق.. إنهم الأسياد.. وأين إنسان مثلي من رجل كبير من مستوى قائد سرايا الفتوحات؟.. هذا الرجل وحده جاء بأكثر من نصف هذا الذهب..

قررت مفاتن أن تغير الموضوع، فنظرت إلى أمنا شفيقة وقالت بلهجة فيها الكثير من الرجاء والتودد واللطف:

- أريد أن أغسل وجهي أرجوك.. ثيابي تكاد تلتصق بجسمي من كثرة العرق والغبار.. هل توجد عندكم مغسلة؟

دخل الزاكي على الخط فوراً فقال بحماسة:

- عندنا مسبح إن شئت أن تسبحي.

فهتفت غير مصدقة:

- صحيح؟!.. هذه مفاجأة غير معقولة.

فقال الحاج رضوان:

- عندنا مسبح لطيف.. صحيح أنه لا يليق بالمقام، فهو غير مبلط بالرخام الصقيل، ولكن مياهه عذبة ونقية ومنعشة. بل إنها مياه طازجة إن صح التعبير، لأنها آتية من البئر مباشرة.

فقالت مفاتن بابتهاج شديد:

 - هذه أجمل مفاجأة في الرحلة.. أنا سعيدة جداً .

ثم مدت يدها إلى صديقها العزيز وهي تبتسم قائلة:

- يا مولانا تعال معي.. ألا تريد أن تسبح؟

وقاما فذهبا إلى السيارة عند السياج، فنهض أبو غزوان ليمشي خلفهما وهو يقول للزاكي:

- تعال ساعدني بجلب بعض الأغراض من السيارة. إنها هدايا بسيطة للأولاد.

فقال الزاكي مضطرباً:

- اعذرني يا عمي.. الأولاد يذهبون معك.

وما أسرع أن ذهب الأطفال معه، وهم يتمنون لو أنهم في كل يوم يكلفون بألف مهمة من مثل هذه المهمة.. ثم ما لبثوا أن عادوا: أبو غزوان في المقدمة وهو يحمل على كتفه صندوق برتقال.. وخالد وعبد الفتاح خلفه يحملان سلة تفاح كبيرة.. ووداد خلفهما تنوء بحمل علبة بقلاوة.. وفردوس تمشي معها.. أما سلوى فقد ظلت هناك تتلمس بيديها الصغيرتين هيكل السيارة وقد بهرتها نعومة ملمس هذا المعدن المصقول، الذي ما إن تزيل الغبار بيدك حتى ترى وجهك فيه لشدة لمعانه وصفاء لونه. ربما كانت سلوى تظن أن كل سيارات الدنيا تشبه سيارة المزرعة "هيئة الأمم" التي لها لون مثل لون جلد الحمار وملمس أكثر خشونة  وتجعداً من طين الجدار المليء بالحفر والنتوءات..

ثم فتح باب السيارة وأطلت منه على الدنيا حورية من حوريات الجنة، وهي عارية تماماً إلا من قطعتي المايوه البكيني الأحمر.. إنها حورية حقيقية حسب تعبير أخي الذي ما لبث أن غض بصره وهو يقول بلسان متعتع:

- سبحان الخالق العظيم.. هذا هو الإعجاز في الخلق.. آمنت بعظمة الله.

وقال أبو غزوان:

- سبحان المعطي الوهاب.. إذا أعطى أدهش وإذا أخذ فتش.

أمّا أمنا شفيقة فقد كانت مقتنعة تماماً بأن ما تراه الآن من علامات الساعة. ثم إنها رجعت إلى داخل البيت عندما خرج زهير بك من السيارة مرتدياً مايوه السباحة، ليلحق بالحورية البيضاء، ويمسك بيدها، ويقبلان نحونا ضاحكين.

وأما "الزاكي" فإنه لم يغض من بصره فحسب عندما رأى كل هذه "المفاتن" عارية بجسدها المرمري الأبيض الخارق في كماله، وإنما هرب، اختفى.. من المؤكد أنه هرب وقلبه يخفق اضطراباً وخوفاً غريزياً من أن لا يتحمل الضربة الصاعقة.

وإذا اختفى الزاكي من الساحة فإنه يجدر بي أن أبادر أنا لمساعدة أمنا شفيقة في إعداد وليمة لائقة بهؤلاء الضيوف الأكابر، الذين سبقونا إلى الفضل بما جلبوه معهم من هدايا أسعدت قلوب الأطفال كثيراً. كما أن المصلحة تفرض المبالغة في الحفاوة والكرم. فهذه أول مرة يزورنا فيها أبو غزوان، التاجر الذي قد يستمر تعامله معنا سنوات.

وهكذا فإنني تقدمت إلى أمنا العظيمة، على رأس الأطفال المتطوعين، لنعمل تحت يدها منفذين أوامرها المطبخية: (هاتوا الدجاج. انتفوا الفري.. نظفوا السمكة.. صفوا الكراسي في الشرفة). وكانت تصدر تلك الأوامر بصيغة موجزة ولهجة أمر حاسمة، كأنها تريد أن تختصر الكلام حتى لا يشعر أحد بما يضطرم في جوفها من امتعاض واحتقار وغضب ينم عن أنها – لو أن الود ودها – لما طبخت لهؤلاء (الأنجاس) طعاماً غير الزقوم.. وطعام الزقوم يستجر شراب (السم الهاري) أي العرق. وبذلك فإنني لم أفاجأ عندما قالت لي وهي تشوي الدجاج في التنور، وعيناها تدمعان بتأثير الدخان:

- سوف ترى الآن أن هذه الفاجرة لن تأكل الدجاج إلا وتطلب معه السم الهاري.. أليس قليلاً علينا لو قلب الله بنا الأرض؟.

ثم مسحت أنفها بكم ثوبها منتظرة سماع تعليق مني.. غير أنني بقيت متشبثاً بالمثابرة على الصمت. لأن أي جواب أو تعليق سيزيد لهيب النار أواراً. كما أن الظرف الراهن يقضي بأن نستجلب أسباب المرح والانشراح، ولو كذباً، لا أن نقول لكابوس القهر والحزن والغضب: تعال.

وحين يئست من صمتي تابعت حديثها كأنها تحدث نفسها:

- إن إبليس ذاته، عندما قرفص بمواجهة أبينا آدم ليحوك نسله أخبث الخطايا، لم يكن ليخطر على باله أن يأتي يوم على أمة محمد تنحط في الأخلاق إلى هذا الدرك المخزي من الحقارة والفجور والعهر والتحدي في ارتكاب المعاصي هكذا علناً تحت شمس الله الساطعة.

كانت ترتجف غضباً. ثم إنها مسحت بكمها دموع عينيها التي درها دخان التنور وسألتني:

- ترى هل ما نزل بنا في المذبحة الرهيبة كان عقاباًَ لنا من السماء؟

ثم ما لبثت أن أجابت نفسها بحزن وحسرة:

- لكن من الذي ذبح في مدينتنا يا حسرتي!! رجال أتقياء صالحون كان الخنازير يقتلونهم حرقاً في قلب المساجد.. وأطفال أبرياء في عمر الزهور لم يتح له فرصة لارتكاب أية معصية. ونساء طاهرات أشد فقراً من أهل الصفة، وكل واحدة منهنّ أكثر ورعاً من رابعة العدوية.. لقد قتلوا الطاهرات حتى يزداد فجور الفاجرات. وهذه الحقيرة بنت وزير الأوقاف تتباهى بأساور شهيدات بلدنا المغدورات اللواتي قطع الجنود أيديهنّ بالفؤوس ليأخذوا حليهن.. هل تعرف أي جنود؟.. إنهم جنود قائد سرايا الفتوحات الذي تتباهى هذه الضئيلة بأنه من أصدقائها.. هل هذا من العدل؟.. أين الل.

وبترت اللفظة بأن كمت فمها بيدها، وتركتني وعافت كل شيء ومضت إلى غرفتها وأغلقت الباب خلفها بقوة. من المؤكد أنها كادت تسأل باستنكار صارخ: (أين الله؟) فشعرت بورطة التجديف المخيفة، فذهبت إلى ملجأ الصلاة والاستغفار لائذة بمصدر الأمان الوحيد: (الله). كانت تردد دائماً: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".

وهكذا بقيت وحدي أمام التنور. وصار لزاماً عليّ أن أكمل مشاريع المائدة.. أين الزاكي؟

قال الأطفال:

- الزاكي صار في آخر الدنيا.. هناك خلف التلال.. وأخذ معه قطاش أيضاً.

- والحاج رضوان؟

- عمنا واقف مع التاجر في بيت الفري.

*        *       *

أنجزنا إعداد كل ألوان الطعام المقررة. وقد ساعدني الأولاد مساعدات جليلة. ولم يبق إلا أن نقول للضيوف: (تفضلوا)..لكن أين الضيوف؟

قال الأولاد:

- أبو مولانا وزوجته ما زالا يلعبان في الحاووظ ويضحكان كثيراً.. وعمي انتقل مع التاجر إلى بيت الدجاج.. غبر أن عمي حزين وزعلان.

- ما هذا الذي تقولونه يا أولاد؟

- نعم إنه حزين وغاضب ومقهور كثيراً.

- ظلوا أنتم هنا عند المائدة حتى أذهب وأرى.

*        *       *

كان الحاج رضوان وأبو غزوان واقفين في عتبة حظيرة الدجاج المغلقة. وكان الجو مكهرباً. بادرني أخي قائلاً وهو يوشك أن يتمزق غيظاً:

- تعال اسمع هذه الخبرية اللعينة. نحن مهددون بأن تأتي جرافات عسكرية فتهدم كل ما في هذه المزرعة.

- والسبب؟

- مشروع تربية الفري.

- ما له الفري؟..هل هو ضد الأمن؟.. هل طيور الفري هي حمام زاجل ينقل الأخبار للعدو؟.. من هو الوغد اللاطي خلف هذه الفتنة الظالمة؟.. أهو وساف بوجقل؟

- لا.. إنه وزير الحرب.

- وزير الحرب؟.. وما علاقة وزير الحرب بمثل هذه الأمور؟

- أبو غزوان يشرح لك كل شيء.. فأنا ما عدت أطيق الكلام أو التفكير.

ورفع بصره إلى السقف بعينين محتقنتين بالدم: (يا رب.. كيف يعيش الإنسان في هذا البلد؟).

قال أبو غزوان:

- اسمع يا دكتور.. اسمعني جيداً وافهم كيف تجري الأمور عندنا. فقد أخبرني أخوك بأنك تعيش في ألمانيا.. وألمانيا يا صاحبي شيء وأوضاعنا هنا شيء آخر تماماً. كل بلاد الدنيا في جهة ونحن هنا في الجهة المناقضة تماماً.. مثلاً: هل الحاكم عندكم مثلاً لا هم له إلا أن يقتل أبناء شعبه.

فقلت له بضجر:

- إني أعرف هذا جيداً.. أرجوك أن تخبرني ما هي علاقة وزير الحرب بالفرّي؟

- ها أنذا آتيك في الكلام.. لأنه.. حتى يستطيع الحاكم أن يقتل ما يريد من رعية العبيد، ومتى شاء، وكيفما شاء، دون أن يخشى أية زعزعة، فإن عليه أن يعتمد على نوع من الأعوان تفرض عليه طبيعة النظام أن يشتريهم شراء.. بماذا يشتريهم؟.. بأن يقول لهم: (روحوا انهبوا كل خيرات البلد.. يدكم وما تطول). هل تفهمني جيداً يا صاحبي؟.. وحتى لا يتقاتل هؤلاء الركائز أو يفضحوا بعضهم بعضاً فقد تقاسموا مناطق الاختصاص ورسموا خطوطاً حمراء بينها. أنا أنهب هنا وأنت تنهب هناك.. واحد احتكر مياه الينابيع وفرضها على الشاربين بأسعار أعلى من سعر البنزين.. والثاني اختصاصه تهريب الويسكي.. والثالث له السكاير، والرابع لتسويق الحشيش على مستوى عالمي. والخامس له حقل تهريب آثار البلاد..

- ووزير الحرب؟

- وزير الحرب له عمولات صفقات الأسلحة.. لكنه في الفترة الأخيرة، وبعد أن سخّر كبار الضباط للإشراف على طباعة كتاب (فن الطبخ) في مطابع الجيش العقائدي (وهو من تأليف زوجته، وأول طبخة فيه تصنع من الجامبون أي لحم الخنزير) اكتشف أن فن الطبخ هو أرق الفنون، وأحب أن يقدم للشعب مادة غذائية جديدة ومبتكرة، فأنشأ مزرعة ضخمة لتربية طيور الفرّي، وهذا يعني –بالعربي الفصيح- أنه لا يجوز أن توجد في البلاد كلها أية مزرعة أخرى حتى لو كانت من مقياس مزرعتكم البسيطة. إنه يريد أن يظل حراً في تحديد الأسعار دون الارتباك بأية منافسة.. وأنت يا دكتور –عدم المؤاخذة- لا تعرف وسائل الإقناع عندنا، فقد يروق لهم أن يخصصوا هذه المنطقة الصحراوية بالذات لإجراء مناورات وتدريبات عسكرية بالذخيرة الحيّة، فيجعلوا من مزرعتكم هذه نقطة الهدف التي يكافأ كل مدفعي يحسن التصويب عليها بإحكام.

قلت:

- بسيطة.. نلغي مشروع الفرّي.

فقال أخي ساخراً:

- ما شاء الله عليك.. أهكذا تنهار وتستسلم من أول غمزة؟.. وبعد قليل تقول: نلغي مشروع الدجاج، ونطلق الأرانب لتتشتّت في أرض الله الواسعة ونحن نفتح أفواهنا لنعيش على الهواء.

فقال أبو غزوان:

اطمئنوا.. فحتى لو فعلتم كل ذلك فإنه لن يجديكم نفعاً.. يجب أن تشاركوا واحداً من السادة الذين فوق.

فقلت: وما المانع؟!.. أهلاً وسهلاً بأي شريك مادام سيدفع نصف التكاليف ويقدّم نفس الجهد، ثم يأخذ نصف الأرباح.

فضحك أبو غزوان وقال:

- أرأيت أنك ما تزال تعيش في ألمانيا؟.. الشراكة هنا يا ابن عمي ليست هكذا.

- إذن كيف؟

- أنت تدفع وتتعب وتشقى.. وهو يقبض المعلوم على البارد والمستريح.. وإلا فكيف تفهم المشاركة والاشتراكية؟.. ومن أين كوّن الوزراء والضباط والمدراء هذه الثروات الخيالية؟

فقلت غاضباً: لكن هذا ظلم. هذا نهب. سرقة. هذا..

ربت الحاج رضوان على كتفي بحنان وهو يقول:

- لا داعي لأن تغضب وتثير أعصابك. المهم الآن أن تخرج لضيوفنا.. ثم ينقضي النهار على خير إن شاء الله، وبعد ذلك يكون لكل حادث حديث.

ثم التفت إلى أبي غزوان قائلاً:

- إنني عاجز عن الشكر يا أبا غزوان.

- أستغفر الله يا حاج رضوان.. فأنت نعم الرجل الوطني الشريف المحب للخير. ولولا هذه الثقة بك لما أخذت راحتي في الحديث مع أخيك.. تفضلوا. فأنا على وشك أن أموت من الجوع.

جلسنا حول مائدة الطعام العامرة في الشرفة.

تلفّت أخي حوله وسأل: أين أمكم يا أولاد؟

- إنها في غرفتها.. تصلّي.

كانت أمنا الرائعة مصيبة في توقعاتها، وما أسرع أن تحققت نبوءتها الصغيرة بشأن (السم الهاري) وذلك عندما جلسنا على الكراسي أنا وأخي وأبو غزوان و (يا مولانا) ومفاتن التي ظلت عارية إلا من مايوه السباحة الأحمر المثير، وقد عقصت شعرها بمنديل أحمر، وغطّت كتفيها بمنشفة حمراء لاتني تنزلق عن الكتفين العاجيين كلما تحركت هذه المفاتن الساحرة أو مدّت يدها إلى طعام أو شراب. كان كل شيء فيها جميلاً وفاتناً ومثيراً.. وأنا ما عدت أعرف ماذا حلّ بي. كأنني عمري ما رأيت شابة جميلة متجردة بثياب السباحة، أو كأنني، بعد كل ما رأيت وسمعت خلال هذه الأيام الخمسة، وجدت من الجنون الحقيقي أن لا أكون مجنوناً حقيقياً، وإذا كنت خلال سنواتي الأوربية قد رأيت مئات النساء العاريات تماماً في حمامات الزاونا فلم يرتجف قلبي يوماً بأية مشاعر تأثر أبداً، إذن ففي أيام القتل والانتهاك والغدر واللؤم لا مانع من أن تطلق كل غرائزك البدائية على هواها.. ويا دكتور أحمد تكون حماراً أكثر من صابر أفندي ذاته إذا فعلت مثل الزاكي فهربت من ساحة التهيّج الغريزي الأعمى حذراً من الضربة الصاعقة. أهلاً وسهلاً بالضربة الصاعقة.. ويا أيها التهيّج البدائي المجنون تعال واملأ شراييني بالطيش والعبث والنهش وكل المحرّمات.. إنني أريد أن أنهض كالكلب المسعور.

قالت مفاتن، وهي تلقي أول نظرة استعراضية على المائدة العامرة:

- ما هذا؟.. ماذا أرى؟.. هل يُعقل أن يفاجأ الإنسان هنا في وسط البادية بمثل هذه المائدة الملوكية؟.. وأي ملوك؟.. فشر الملوك. فإنهم لن يحظوا بمثل هذه المآكل أبداً..

كانت تقول ذلك بإعجاب شديد.. وكان وجهها المشرق بنور الفرح والانشراح يقول مع ابتسامتها الرائعة:

- دجاج مشوي.. فرّي طازج. وصحون مقبلات ومشهيات يستحيل أن تجدها في أرقى مطعم في العالم.. لذلك فإنه حرام أن تؤكل بلا عَرَق.. أليس عندكم عَرَق؟.. من غير المعقول أن تكونوا على هذا المستوى الرفيع من الذوق الراقي ولا عرق عندكم..

وما أعجب ما بدر عن أخي.. فقد قال بوجه جامد:

- عدم المؤاخذة.. نحن هنا لا نعرف هذا الشيء الذي تذكرينه على لسانك..

غير أن هذه الفتاة أو السيدة الجميلة، بدلاً من أن تلاحظ حالة الانقباض والامتعاض التي تلبّست روح أخي، انفجرت بضحكة رنانة تأسر القلب وتسكره بلا خمرة. (حتى أسنانها كانت جميلة).

أخرج (مولانا) مفاتيح السيارة من جيبه وقدّمها إلى أبي غزوان قائلاً باستخفاف:

- يا مولانا.. أنت تعرف كيف تجد بعض المشروبات في السيارة.. بيت السبع لا يخلو من العظام.

والحقيقة أن (العظام) التي جلبها أبو غزوان من السيارة كانت كافية لافتتاح خمّارة بحالها، الأمر الذي زاد من اعتزاز السيد (يا مولانا) بنفسه وبأمواله وبصواب النظرية التاريخية الخالدة التي تنص على أن المال هو أعظم قوة سحرية في الأرض، (فبأموالي استطعت أن أشتري مثل هذه البضاعة النادرة من الخمور النفيسة، وبأموالي استطعت أن أشتري هذه الصديقة التي..) غير أن صديقته الرائعة الجمال لم تعجبها هذه الخمور. فقد نظرت إلى القناني الأنيقة البراقة بازدراء وتساءلت باستنكار ساخر:

- ما هذا؟.. ماذا أرى؟.. ويسكي الإنكليز ونبيذ الفرنسيين؟.. أين نحن الآن؟.. نحن الآن –يا بني وطني- هنا في بلدنا، في وطننا، في صحرائنا، في الشمس لا في الضباب.. لذلك فإنه من النشاز أن نشرب غير العرق، بل إنه لمن الخيانة الوطنية أيضاً..

ثم قالت بنبرة تأكيد حازم: أنا شخصياً أريد عرقاً، وإلا فلن أشرب، وأنتم أحرار.

فقال أخي وهو يكتم غيظه من (مولانا) الذي (أنزل) هذه الخمور في ساحة المزرعة دون استئذان أهلها:

- يا ستّي مشّي الحال.. إلا تكن إبل فمعزى..

فانفجر الضيوف ضاحكين، وكان معهم كل الحق هذه المرة.. إذ إن إيراد هذا النص في هذه المناسبة بالذات دليل على أن حالة الهيجان الغاضب الذي يضطرم في قلب الرجل جعل عقله يتدحرج إلى مهاوي الطيش..

ثم إنه انتبه إلى أن الأولاد واقفون حولنا استعداداً لخدمتنا، وخالد يحمل إبريق الماء وعبد الفتاح يحمل إبريق اللبن، فأمرهم بأن يتركوا كل شيء ويذهبوا إلى شجرة التوت فيلعبوا بالأرجوحة. فوضع الأطفال ما بأيديهم على المائدة وانصرفوا صامتين. فقالت مفاتن:

- إنهم أطفال رائعون.. غاية في اللطف واللياقة والتهذيب..

وبدأت تأكل، كانت تلوك اللقمة بتأنٍ شديد واستمتاع واضح. ثم سألتْ أخي:

- هل هم أولاد ابنك؟.. (وأشارت إليّ).

فقهقه أخي بالضحك وقال:

- بل كلهم أولادي.. أما هذا الشاب الظريف فهو أخي، شقيقي من أمي وأبي.. وهو من أشهر الأطباء العالميين في ألمانيا..

فتدخلتُ قائلاً:

- الواقع أن ضيفتنا العزيزة لم تخطئ في تخمينها.. فأنا يا آنسة، وأختي خديجة أيضاً، لم نعرف غير الحاج رضوان أباً، فهو الذي ربّانا وسخّر كل حياته لتنشئتنا.. وأنا شخصياً إن كنت قد وصلت إلى ما وصلت فذلك بفضله هو..

فالتفتت مفاتن إلى الحاج رضوان وقالت برقة عذبة:

- اسمح لي يا حاج رضوان أن أعبّر لك عن إعجابي الكبير بك شخصياً. أنت إنسان رائع وعظيم، ورجل في مثل سنّك، عنده هذه الهمة وهذا الوعي والطموح والذوق، وهذه المزرعة، وهذه الشهامة وروح الفروسية، رجل يندر مثاله، خصوصاً في هذه الأيام.. إنني سعيدة جداً بالتعرف بك.

سكر الرجل أبو القلب الطيب، وقال لها وهو يبتسم مسروراً:

- انتظري يا آنسة أرجوك.. انتظري لحظة واحدة، سيأتيك العرق في الحال، لكن أي عرق!.. أنا واثق من أنك بعد أن تتذوقيه سوف تصعدين إلى السطح وتصرخين: هذا ألذ عرق شربته في حياتي..

ضحكت مفاتن وقالت:

_ أعدك بأن أفعل ذلك..

فقهقه الجميع ضاحكين، وكنت أنا أكثرهم سعادة وسروراً، ها قد انزاح الكابوس عن صدر أخي المسكين الذي ما عاد يحتمل وطأة المزيد من الكوابيس، وليهرب إلى عالم النشوة والمرح والانشراح، ولو كذباً. فلينس الهموم القاتلة، ولو للحظات معدودة.

وجاء العرق وشربت مفاتن واعترفت بأنه –حسب تعبيرها- شيء نفيس، وسألت:

- ما اسم ماركة هذا العرق؟

أجابها الحاج رضوان:

- أتريدين الصدق؟.. ماركة السم الهاري.

فارتجت أجواء الشرفة بالضحك من جديد.. ثم طالت جلسة الطعام والشراب الممتعة التي لم يكن يلوث جو صفاء الأنس فيها إلا مداخلات (مولانا) السمجة البليدة التي تنضح من إناء روحه التجارية الجشعة. إن كل خمور الدنيا وأجمل نساء العالم لا يمكنها أن تحرف لسانه عن مداولات الجشع التجاري. فعقله مأخوذ كلياً للمال، وكل لحظة في أي مناسبة هي فرصة يمكن استغلالها لطرح فكرة مشروع تجاري جديد يمكن أن يدر الملايين. فإذا لم تلقط الصنارة (فإننا لا نكون قد خسرنا شيئاً). وأظن – بل إنني متأكد – أنه لو كان يمر بشارع محفر، ورأى عمالاً مساكين يعملون في تنظيف مجاري القاذورات، فإنه يغلق النافذة حتى لا تقتله الروائح الكريهة، لكنه يبتهج للفكرة الجديدة التي لمعت في ذهنه: لماذا لم يفكر أحد قبله بإنشاء مؤسسة تجارية لتنظيفات المجاري؟. بهذه الصورة كنت أراه عندما كان يخترق جو الأنس والمرح ليقول لي:

- مولانا.. لا تحمل أي هم.. فرجل من مستواك الطبي الرفيع له هذه السمعة الدولية حسبما فهمت يمكنه أن يجمع ملايين الليرات بسنة واحدة إذا فتح عيادة خاصة عندنا في العاصمة، فما بالك لو فتح مستشفى؟.. أنا مستعد لأن أمول لك نفقات إنشاء أحسن مستشفى. والله كريم والمنتوج فيفتي فيفتي..

فأقول:

- لكن الطب مهنة إنسانية. وهذا مشروع تحكمه دوافع الجشع.

فيضحك ويقول:

- أية إنسانية يا مولانا؟.. يا مولانا إن هذه الدنيا لا يحكمها إلا المال.. فلوس.. ملايين. ولا تصدق أي كلام غير ذلك.. حتى لو بقينا ضمن حدود المهمة الإنسانية التي تفضلت بالتنويه عنها فإنني أحب أن أطرح سؤالاً: (هل هناك مهمة إنسانية أسمى من إنقاذ روح إنسان؟). الجواب: طبعاً لا.. إذن فانظر ما تعلمناه من حياتنا التي نعيشها: يومياً يعتقل العشرات بل المئات، وهذا الشيء طبيعي فكل إنسان معرض للاعتقال للتحقيق معه. لكن هؤلاء الذين يؤخذون لا يرجعون أبداً. بعضهم يبادون اغتيالاً في السجون، وبعضهم يحكم عليهم بالإعدام، ومعظمهم تنقطع أخبارهم نهائياً، إلا الذين عندهم فلوس ويستطيعون أن يدفعوا بسخاء. فإنهم يعودون إلى أهلهم معززين مكرمين.. إذن فلولا الفلوس لراحوا في خبر كان يا مولانا. أليست هذه مهمة إنسانية؟؟ المال يا مولانا ولا شيء غير المال.

وشرب كأسه مزهوّاً بعقله الواسع الحكيم.. وها إننا جميعا –وقد اغتيل المرح وحط كلكل الكآبة- بقينا صامتين. والصمت إقرار. إذن فليواصل انتصاراته.. قال لأبي غزوان آمراً:

- صبّ لي كاساً أخرى.

ثم التفت إليّ ليتابع حديثه الحماسي:

- دلّني على أي إنسان له ولد مفقود أو أب أو أخت مثلاً، وأمهلني أربعاً وعشرين ساعة فقط حتى أجلب لك أخته من تحت الأرض ولو كان قرار المحكمة بإعدامها قد صدر سبع مرات.. يا مولانا.. الفلوس تصنع المعجزات..

تكهرب الجو كثيراً، وها إن الكارثة قد حلّت بكل وطأتها.. وكل محاولات مفاتن بإلقاء أطرف النكات لاستعادة الجو المرح لن تجدي بعد أن تطرّق الحديث إلى (الأخت) بهذه الغلاظة، وانتصبت صورة أختنا خديجة على المائدة أمام عيني الحاج رضوان اللتين بدأتا بالاحتقان.. فوضعتُ يدي على قلبي مستعيذاً بالله من الشيطان الرجيم.. ثم وجدت نفسي أقول:

- يا جماعة الخير.. هل لاحظتم أن الآنسة مفاتن لم تفِ بوعدها؟

- أيَّ وعد؟

قلت:

- يا حاج رضوان طالِبْ بحقوقك.. ألم تتعهد الآنسة مفاتن بأن تصعد إلى السطح وتعلن اعترافها بأن هذا ألذّ عرق في الدنيا؟.

فانفجرت أسارير أخي لهذا المخرج المريح وقال:

- أنا لا أطالبها بشيء.. ولكن وعدَ الحرّ دين..

نهضت مفاتن بقوامها السامق وجسدها العاري المتألق نضارة، ومشت وهي تحمل كأسها بيدها، واجتازت الفسحة التي أمام الشرفة بخطوات أنيقة فيها كل سحر الصبا وروعة الكمال، وظلّت عيوننا متعلقة باللون الأحمر المثير الذي يجعل قماش قطعتي المايوه يرسم تفاصيل دقيقة ومحدّدة لخطوط الجسد المتباهي بكماله الخارق.. إلى أن وصلَتْ إلى الدرج وصعدته، فلم نعد نرى منها إلا أثر الصورة المهيجة التي ظلّت تحفر في المهجة المضطربة.. وصرنا نسمع صوتها الجميل وهي تهتف صارخة فوق السطح: هذا ألذ عرق في الدنيا.. تعالوا اسكروا.. تعالي يا شمس الأصيل.. تعالي أيتها الصحراء العظيمة.. هيا إلى الجنون هيا إلى الجنون.

كان صوتها الجميل يثير نشوة الطرب إلى حد الجنون.

وكان يضايقني أن جلستنا في الشرفة تحول دون رؤيتها وهي هناك في الأعالي تنادي الشمس، بساقيها الرائعتين، وخصرها العاري، وصدرها المتوقد، وكتفيها وعنقها ووجهها وعينيها وشفتيها وشعرها..

وكنت أحب أن أقوم عن كرسيي وأمشي إلى موقع يمكنني أن أراها منه، ولكنني قررت أن أضغط على نفسي فأخبئ المتعة إلى لحظة عودتها، إنه نوع من الصبر الصعب لكن مكافأته ضخمة.. فما أسعد قلبك وأنت تراها حيث تعود.

وحين عادت لفت نظري أنني (أكتشف) جمال الأساور الذهبية في يديها والأطواق المتدلية من عنقها إلى ما بين النهدين المخبوءين تحت شريط القماش الأحمر المثير.. قلت لنفسي: (لقد أصبحت الحليّ الذهبية عوامل مساعدة على إبراز الجمال الطبيعي) وقلت لنفسي: (إنه لمن حسن الحظ أنها لم تخلع عنها حليّها عندما تجردت من ثيابها للسباحة) وقلت لنفسي: (إن نظريتك المعهودة عن تناقض الحلي الصناعية مع الجمال الطبيعي نظرية بائخة وتافهة). ثم قلت لنفسي: (إن حياتك كلها بائخة وتافهة وأنت إنسان تافه ووغد وخائن أيضاً.. وها إنك قد انحدرت إلى أحط مهاوي خيانة كل ما كنت تدعي بأنك سخّرت له حياتك). أين المثل العليا والقيم السامية؟

أين أنتِ يا أمنا شفيقة؟

أين أنت يا أمنا العظيمة.. يا أرضنا الطيبة.. يا سماءنا الصافية.. يا شمسنا الساطعة.. أين أنتَ يا قمر ليالينا.. يا عبير أزهار بساتيننا.. أين أنتِ يا رائحة سجاجيد جوامع مدينتنا.. أين أنت أيها النهر الهادئ الجميل الذي كانت تتمرّى عليه بيوت مدينتنا.. أين راح كل شيء.. أين ضاع كل شيء؟.. وكيف استطاعت أمنا العظيمة أن تستعصي على الضياع؟

نهضت واقفاً ورفعت رأسي وهتفت بنبرة استفزازية..

- كأس أعظم وأجمل امرأة في الدنيا.

فقالت مفاتن: شكراً

فقلت لها بروح عدائية:

- لا أقصدك أنت وإنما أعني أمنا شفيقة.

 وفي اللحظة ذاتها شعرت كأن لكمة قوية مؤلمة أصابتني في معدتي حتى كدت أتلوى..

- عفواً.. إنني مضطر أن أترككم.

ومضيت مسرعاً إلى خلف البيت وأنا أترنح ملتوياً على نفسي، ويدي تضغط بقوة على معدتي، وتقيأت.. تقيأت حتى آلمني الشعور بأن أمعائي تكاد تخرج من بطني.. ثم غبت عن الوعي وسقطت مغشياً عليّ... وحين فتحت عيني بعد ذلك وجدت نفسي ممدداً على التراب أمام باب غرفة المؤونة، فاتحاً ذراعيّ ووجهي إلى السماء، وفوق رأسي عشر عيون بريئة قلقة، وفوقها أمنا شفيقة منحنية عليّ تمسّد شعري بيدها الحنون وتتمتم بصلوات غير مفهومة.. إنني مستريح تماماً.

حركت رأسي إلى هذه الجهة فرأيت (صابر أفندي) وهو في وضعه التفكيري الأبدي، غير مهتم بأحد.. وخلفه قرص الشمس الأحمر وقد أوشك على المبيت وراء خط الأفق البعيد.. كدت أقول له: أنت أسعد مخلوق يا صابر أفندي.. لأنك مستريح من مشاكل التفكير.

حركت رأسي إلى تلك الجهة فرأيت (حفيظة) واقفة تنظر نحوي بعينيها السوداوين الكبيرتين وأنفها المفلطح العريض الذي يلمع دائماً، كأنها تريد أن تسألني: ماذا فعلت بنفسك يا أحمد؟

ورجعت برأسي إلى وضعه الطبيعي فابتسمتُ بسعادةٍ غامرة وقلت للأطفال الخمسة:

- لن أترككم أبداً.. لن أسافر أبداً.

سألوني بلهفة: وبناتك؟

- وسوف يأتين كلهن إلى هنا.. إلى هذه المزرعة بالذات.. سوف نعيش كلنا معاً في هذه المزرعة الجميلة.

فأشرقت على وجه أمنا شفيقة ابتسامة لا أبيعها بكل مباهج الدنيا.

غير أن البسمة انقلبت إلى شهقة خوف وقلق. فقد سمعنا صوت طلقات نارية في الجهة الثانية من البيت، أمام الشرفة.

ماذا حدث؟

كان الأطفال يرتجفون ذعراً. غير أنهم بدلاً من أن يهربوا إلى ملاذهم الواهي في الغرفة تحت السرير رموا بأنفسهم عليّ وتمسكوا بي. فتأجج قلبي فرحاً لا يوصف.

ثم إنني نهضت لأذهب فأعرف سر هذه الطلقات النارية.

 يتبع