من مذكرات طبيب مسلم مغترب (2)

من مذكرات طبيب مسلم مغترب (2)

د. محمد حكمت وليد

(7)

الجوهرة المفقودة

كتب إليّ أمير يقول:

أخي محمد..

أكتب إليك رسالتي هذه من قارب سياحي يمخر بنا عباب نهر التايمز في لندن ونحن هنا مجموعة من الأطباء أرادت الخلو بنفسها ولو ساعة بعيداً عن جو المستشفيات الخانق وأردهتها المزدحمة.

الطقس الآن غائم مع ورذاذ خفيف من المطر.. الشيء الذي يذكرك دائماً أنك في لندن حتى ولو أردت نسيان ذلك.. ولكن نشرة الطقس الصباحية بعثت فينا التفاؤل بأن الشمس سوف تطل بوجهها الوضاء بين الحين والآخر، لتذكرنا أيضاً بأنها لا تزال موجودة في سماء لندن، وكأنها تعلم أن البعد مدعاة للنسيان.

ومشى بنا القارب يتهادى على صفحة المياه الرقراقة تلفحه بين الفينة والأخرى هبات رياح باردة، كان الوقت في باكورة الصباح وأمامنا من الوقت متسع للتعرف على الكثير من معالم المدينة الشهيرة، ولكن ما كنت أتوق إليه منذ زمن بعيد هو زيارة "برج لندن" وهو القلعة التاريخية الشهيرة التي تحكي تاريخ الإنكليز بما فيه من تقاليد ومراسيم يحرصون عليها ويفتخرون بها، وتحكي أيضاً قصة مذابحهم وخلافاتهم السياسية والدينية، وكان أشد ما تتوق إليه نفسي هو رؤية جوهرة "كوهينور" الموجودة بين نفائس الكنوز الملكية في برج لندن، والتي حملها الإنكليز معهم مع جملة ما حملوا من بلاد الهند في قمة جبروت العهد الفكتوري.

كانت الأبنية الشامخة تطل على ضفتي النهر في تناسق هندسي جميل، والدليل السياحي يحكي لنا تاريخ كل واحدة منها، فهذا هو مبنى البرلمان وبجانبه ساعة "بيغ بن" وهذه هي مستشفى "سانت توماس" وهناك في الأفق البعيد يلوح "جسر البرج" ببرجيه الشهيرين وجناحيه المتحركين اللذين يفتحان لمرور السفن.

وما زال القارب يسير بنا حتى بلغنا برج لندن، وكانت الشمس قد بدأت القيام بجولتها الأولى لهذا الصباح، وبدا البرج بناء أثرياً ضخماً مربع الشكل، استرعى انتباهنا بموقعه الاستراتيجي الذي يتحكم في مدخل النهر إلى المدينة وهو محاط بجدارين للدفاع، للجدار الخارجي منهما ستة أبراج دفاعية من جهة النهر وبرجان آخران من جهتي الشرق والغرب، وحط بنا القارب على ضفة النهر.

قال لنا الدليل: أما الآن فسوف نقوم بزيارة أقدم قصر في إنكلترة، لقد بناه الملك "وليام الفاتح" منذ تسعة قرون خلت، وقد تعاقبت الملوك عليه منذ ذلك الحين، كل يضيف له أثراً، وهو ليس قصراً للإقامة فقط وإنما حصن للدفاع وسجن للنبلاء الذين يخرجون على السلطة الملكية.

كان يجول بخاطري وأنا أدخل البوابة الرئيسية وأرى رجال الحرس الملكي بثيابهم المزركشة الزاهية الألوان وسيوفهم اللامعة وبلطاتهم الحديدية أن هذا هو عنوان تلك السلطة المطلقة والقبضة الحديدية التي سلطها الملوك على شعوبهم فسلبوا خيراتها واحتموا بها خلف الحصون والأبراج، وسخروا لها أموال الناس وأرواحهم في سبيل شهوة الفتح والنصر، فعلى كل قميص أحمر مزركش يرتديه الحرس الملكي قطرة دم جندي إنكليزي، أو قطرة دم ضحية قتلها الإنكليز في إمبراطوريتهم التي لم تكن الشمس تغرب عنها.

ومشى بنا الدليل إلى بناء مربع عالي الجدران، وقال: هذا هو البرج الأبيض وقد كان سكناً للملوك الإنكليز في القرون الوسطى، كانت العائلة المالكة تسكن في الطابق العلوي، أما حاشية الملك وأعوانه فكانوا يجتمعون في الطابق السفلي. ثم سار بنا إلى مكان آخر وقال: أما هذا فهو "برج الدماء" وهو سجن هذه القلعة، وقد لاقت الكثير من الشخصيات الكبيرة حتفها في برج الدماء هذا، وسألت الدليل عن كتاب أثري ضخم عرض داخل صندوق زجاجي فقال إنه كتاب تاريخ العالم الذي ألفه السير "ولتررالي" خلال سجنه هذا الذي استمر ثلاثة عشر عاماً وقد نشره عام (1614) أي قبل قطع رأسه بأربع سنوات، وفي نفس البرج قتل الأمير "ادوارد الخامس" وأخوه الصغير "ريتشارد" خنقاً، وقد اكتشف هيكلاهما العظيمان في حفرة قرب البرج الأبيض عام (1933) ثم سار بنا إلى مكان آخر وقال إن هذا هو "برج الملح" الذي بني في عهد "هنري الثالث" وفيه سجن أعضاء جمعية الجزويت المسيحية واضطهدوا هنا وعذبوا على يدي الملك الظالم.

وطلبنا من الدليل أن يقودنا إلى "برج واكفيلد" حيث توجد جواهر التاج البريطاني، فقال إنها لم تعد في هذا البرج الآن، فقد بقيت فيه منذ عام 1870 وحتى عام 1967 حيث نقلت إلى قاعة بنيت خصيصاً لها في ثكنة "واترلو".

وذهبنا إلى هناك، وكان المكان مزدحماً بالناس من كل الأقطار والجنسيات، وقد أحيطت الجواهر بالأبواب الحديدية وحولها الحرس من كل الجهات. كانت مجموعة عجيبة من التيجان والسيوف المرصعة والصولجانات والحلي الثمينة، وقد نضدت بطريقة أخاذة على وسائد من المخمل الليلكي تزيدها جمالاً، قال الدليل: أما هذا فهو تاج الملكة فيكتوريا، وبه ما يزيد على ثلاثة آلاف قطعة من الماس واللؤلؤ والياقوت، أما تاج الملكة الأم، وهي أم الملكة اليزابيث الثانية الحالية فقد صنع لها خصيصاً في حفلة تتويج زوجها عام (1937) وبه الجوهرة المشهورة "كوهينور" أو "جبل النور" كما تسمى بالفارسية، وقد استخرجت من مناجم "غولكوندا" في الهند في القرن الثاني عشر، وتوارثها ملوك الهند وأباطرتها حتى انتقلت إلى ملكية التاج البريطاني في عهد الملكة فيكتوريا، وتقول الأسطورة أن الرجل الذي يملك هذه الجوهرة يجلب لنفسه الحظ التعيس، أما المرأة السعيدة التي تمتلكها فسوف تحكم العالم.

وراح الدليل يصف الجواهر وندرتها، وغالي أثمانها وروعتها، وأنا أقلب ناظري بين هذه الكنوز البراقة التي لا يحلم المرء بوجودها إلا في عالم الخيال والأساطير، والناس بين ناظر إليها مشدوه بعظمتها، ومتحسر أنه لا يملك مثلها.

ومرّ بخاطري قوله تعالى: "زُيّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حُسن المآب". وخطر ببالي كيف ربى القرآن الناس وهداهم، لم يحضَّ القرآن أن يكون الناس رهباناً يهجرون الحياة الدنيا ويتعبدوا في رؤوس الجبال، ولكنه نهاهم أن يتكالبوا على الحياة الدنيا ويجمعوا القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وعلمهم أنه ما آمن رجل بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم به.

كانت كوهينور واحدة من تلك الجواهر التي اغتصبتها عساكر الإنكليز من أطراف المعمورة، وهاهم الآن يعرضون قوائم المسروقات على عروش ملوكهم وفي خزائنهم الحديدية، وطاف بنا الخيال.. ورأيت العساكر تهتف والخيول تصهل والنساء تنوح والأطفال تقتل والبيوت تهدم والجواهر تسرق.. وحانت مني التفاتة إلى "كوهينور" في بريقها ورونقها.. ووجدتني أقول لها: أيتها الجوهرة الحزينة أيتها اللؤلؤة الحبيبة التي اكتوى قلبها من جراح البعاد.. كأني أراك تحنين إلى البلاد الدافئة، هناك وراء السهول وخلف البحار، حيث تخترق أشعة الشمس كل ذرة من ذراتك فتبعث فيك الحرارة والدفء، هناك في ربى الهند الحالمة بلاد القباب المزركشة والمآذن المرمرية، هناك ترعرعت وفيها نشأت ورأت عيناك النور، حتى إذا اشتد ساعداك وشبّ قوامك جاءك القراصنة من وراء البحار وحملوك أسيرة وحيدة، وكبلوك خلف القضبان الحديدية، وأحكموا عليك المفاتيح والأقفال، ألا أين زرقة الأفق السماوية من سراديب مظلمة باردة.

ألا ما أقساك أيها الزمان!! فتح أهلوك أ‘ينهم ذات صباح.. فتحوا الأعين الذاهلة الذابلة التي نامت واستمرأت بالنوم.. فإذا القراصنة تملأ الفيافي والقفار والجوهرة الفقيدة تبكي ولا من مجيب. وجمع أهلوك عتادهم وخفوا للجهاد، ولكنها نفوس هينة.. والنفر قليل والقرصان كثير.. والربع جاهل جائع والقرصان مثقف مسلح، ولكن لا أكتمك أيتها الجوهرة الحزينة.. إن همي أكبر من حزنك وأعمق، فأنت هنالك وحيدة في غربتك، وقد يمن الله على الغريب يوماً بالإياب ولكن إذا عدت أيتها الجوهرة الغريبة.. فإنك ستبقين غريبة، فلا أهلك هم الأهل، ولا الديار هي الديار، لقد سلبهم القرصان كل شيء يا جوهرتي، سلبهم عقيدتهم وثقتهم بأنفسهم وبربهم، ولو كانت النازلة في سلب المتاع لهان المصاب ولكنها في صميم القلب وخبايا النفوس، لقد انهزم أهلك يا جوهرتي في عسكرهم وأرضهم.. في إيمانهم وفكرهم.. وفي حياتهم ومعاشهم فراحوا يلهثون وراء هؤلاء القراصنة يطلبون ذليل العيش وساقط المتاع، لقد تحول سباعك إلى حيوانات أليفة يلوح لها القرصان بسوطه فتذل وتخنع، ويوجهها للطريدة فتنهش وتزأر لقد نسي أهلك طباع الأسود والفهود، وأتقنوا فنون البغام والقرود، فراحوا يقلدون القرصان في مشيه وأكله وتخنثه وعربدته، يضحكون إذا ضحك ويصيحون إذا تألم، وليتهم تعلموا مع ذلك فن المبارزة والتفكير، فالقرصان قد علمهم أن ذلك لا يليق بالعبيد.

لقد آلمتك يا جوهرتي وزدت همومك هموماً، ولكن لا بأس عليك فإن الصباح قريب وهناك خلف الظلمات المدلهمة تلوح أشعة الفجر البنفسجية، وبين هذه النفوس الخانعة نفوس سمت بإيمانها وعقلها أن تظل في نير القرصان.. لقد آمنت بربها وبدينها، واستعادت ثقتها بنفسها وبربها، ومشت على درب الفلاح.

وطاف بي الخيال في أودية مختلفة.. وطفت مع كوهينور في مختلف مراحل التاريخ، ماشياً معها منذ ولادتها وحتى أصبحت أسيرة في برج واترلو، ولم أنتبه إلا وبقية زملائي قد تركوني ومضوا.. وهرعت للحاق بهم ولم أدركهم إلا وهم يحطون ركابهم في القارب.. يتابعون فيها جولتهم على معلم المدينة وآثارها.. ومشى القارب بنا ثانية يمخر عباب نهر التيمز، وتراءت لي خلف الأفق جبال النور إلا أنّ النور هو الذي يضيء في قلب الإنسان.. وليس هو نور اللؤلؤ والمرجان..

"الله نور السماوات والأرض" ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور".

لندن 10 -6-1976

 (8)

الله.. والعلم.. والقدر

"روبرت" زميل إيرلندي مهذب ولطيف المعشر.. وهو وإن كان لا يزال شاباً في مقتبل العمر إلا أنه حصل على قدر كبير من الخيرة في جراحة الأذن ومستقبله يبشر بأنه سيكون جراحاً لامعاً..

تخرج من جامعة دبلن منذ قرابة ست سنوات، قضاها يعمل في المركز التعليمي لأمراض الأنف والأذن والحنجرة في مدينة برمنغهام.. وخلال ذلك حصل على شهادة الاختصاص وهو الآن يحضر الدكتوراه التجميلية للأذن عند المولود حديثاً فلا تراه إلا مطالعاً في المكتبات عن أحدث الطرق الجراحية أو في قاعات العمليات محاولاً إجراء أدق العمليات الجراحية وأكثرها اتقاناً..

وكل من عرفه يعلم أنه إنسان مخلص في عمله.. دقيق في مواعيده.. يبذل قصارى جهده لشفاء مرضاه وتخفيف آلامهم..

ولم نكن زميلين في العمل فقط.. وإنما في السكن أيضاً.. وقد كنا نسكن في شقتين متجاورتين داخل المستشفى، لا أكتمك أنهما ليستا مريحتين ولكنهما كانتا رخيصتي الكلفة تتناسبان مع دخلنا المحدود.. ولم أكن مهتماً بتغيير شقتي لأنني سوف أعود إلى الوطن قريباً.. أما زميلي فكان يبحث دائماً عن سكن مريح يؤويه وعائلته الصغيرة.. وطالما يشكو من عدم وجود حديقة تلعب فيها طفلته التي تجاوزت ثلاث السنوات من العمر.

     

جاء روبرت لزيارتي ذات يوم.. وكان الوقت متأخراً في إحدى أمسيات الصيف الماضي.. وأسميه صيفاً لأنه كان الصيف الوحيد الذي شاهدته منذ وطأت قدماي هذه البلاد.. بل ويقول المعمرون إنه الصيف الوحيد الذي أشعرهم بالدفء منذ زمان طويل..

ورغم أن الساعة كانت تشير إلى السابعة مساء إلا أن الشمس كانت لا تزال في كبد السماء فنزلنا نتجول في حديقة المستشفى.. ونتجاذب أطراف الحديث..

كان حر اليوم قد بدأ بالزوال وبدأت نسمات باردة عذبة تهب بين الحين والحين في دلال وتراخ فتشع في الجو حلاوة وأنساً..

ثم راحت أشعة الشمس تميل للغروب وانعكس لون الشفق المذهب على صفحة الماء فأصبحت كسبائك العقيان الصافي الذي يبهر الأبصار.

وبادرت روبرت بالحديث قائلاً: انظر إلى هذا الجمال الباهر أوليست الطبيعة لوحة فنّانة رسمتها يد فنان ماهر.. وقد أبدعتها يد خالق قادر هي يد الله..

قال: فكرة قديمة.. شاعرية.. ولكنها غير علمية..

وقد فوجئت فعلاً لهذا الجواب الجاف، ولم أكن أعلم شيئاً عن تفكير روبرت الديني من قبل..

فقلت: أما أنها فكرة قديمة فهذا صحيح..

وأما أنها شاعرية فهذا انطباع شخصي..

وأما أنها غير علمية فهذا حكم يناقض المنطق العلمي..

قال: إن فكرة الإله لا تروق لي.. وحتى لو وجد ذلك الإله فإنه كائن بعيد.. غير مهتم بشؤوننا على الإطلاق..

قلت: وهذا حكم شخصي آخر.. هل حاولت البحث عن الإله أو التقرب إليه في أي أمر من الأمور..

قال: إن الإله هو فكرة ابتدعتها خيالات الإنسان القديم لكي تعينه على تفسير المبهمات التي كانت تحيط به، فهو لم يكن يعرف ما وراء الغاية التي تحيط به، أو ماذا وراء النهر الذي يعوق مسيره، ينظر إلى الصواعق بعين الخوف، وإلى الشمس بعين الأمل.. فقال إن لهذه إله شريراً يخافه.. ولهذه إلهاً خيّر يرجوه.. وقد كان هذا منطقياً في زمن كانت فيه المعارف محدودة، وإمكانيات البشر مقيدة، - أما الآن وبعد أن اكتشف الإنسان مجاهل الفضاء ووصل إلى القمر وفلق الذرة وسيطر على الطبيعة- فلا مدعاة هناك لوجود الإله. إن الإله الذي يجب أن تعبده اليوم هو العلم.. فإذا تعرضنا لمشكلة لجأنا إليه وهو يحملها.

قلت: ولكني لا أوافقك على ما تقول.. لأسباب عديدة، أولها أن الإيمان بالله هو حاجة فطرية في الإنسان.. تجدها عند الشعوب البدائية وكذلك عند الشعوب المتحضرة.. وإذا كان الرغب والرهب من العوامل التي تقرب الإنسان من الإيمان.. فهما ليسا أهم هذه العوامل. إن الإيمان بالله يمنحنا تلك الطمأنينة النفسية.. والتوازن الروحي الذي يفتقده الملحدون.. إن الإيمان بالله يهبنا ذلك الملاذ الأمين الذي يهرع إليه واحدنا في شدته يستمد منه العون ويسأله الغوث.. وهو الحقيقة المطلقة والقدرة السرمدية التي تنظم أمور هذا الكون وتحفظه.

قال: لا أكتمك يا محمد.. أنك واحد من كثيرين من الشرق قابلتهم.. لا يزالون يؤمنون بفكرة الإله.. وقد أهملتها الشعوب الأوربية عملياً منذ أزمنة طويلة.

قلت: وهذا هو الداء يجثم عليكم اليوم، تتململون منه وأنتم لا تعرفون العلاج.

قال: بل نحن قوم متقدمون.. وفي مجيئك لطلب العلم في هذه البلاد برهان على ذلك.

قلت: والله أنت محق في جانب ومخطئ في جوانب.. نعم لقد جئت هذا البلد لكي أتعلم منكم الطب والعلاج.. وهو ميدان قصّرنا فيه ردحاً من الزمن.. ولكن عندما تأتي مسائل العقيدة والأخلاق.. والعلاقات الاجتماعية والإنسانية فإنني أشعر أن لديَّ الكثير لكي أعلمكم.. وفي الإسلام دروس لو عرفتموها لارتفعتم منازل عمّا أنتم عليه.

قال: وكيف ذلك؟

قلت: خذ المثل الذي ذكرته أنت وهو العلم.. يتفق الإسلام معكم في ضرورة طلب العلم والبحث وراء الحقيقة.. والحكمة ضالة المؤمن.. ولكنه وهو يسير وراء الحكمة يعلم أن للعلم مجالاً محدوداً.. ولا يتخذ منه إلهه المعبود.. وأنت تعلم أن العلم يناقض نفسه من حين لآخر.. وهو متحول مع الزمن.. وإذا عبدت متحولاً تزعزعت عقيدتك وطارت نفسك أهواء..

قال: ولكن العلم الحديث يسر لنا أمور المعاش.. انظر إلى هذه البيوت الفارهة حيث يتوفر السكن الهنيء لكل عائلة.. وإلى السيارات الحديثة الأنيقة التي ينكب العلماء على تحسينها ورفع مستوى الأمان فيها حتى جاءت صنعة مبدعة تسر الناظرين.

قلت: أوتأمن أن تصاب في إحدى حوادث الطرق التي تقع كل يوم وأنت في أكثر السيارات أماناً.. وأحدث الطرق تصميماً.

قال: لا..

قلت: وهذا هو بيت القصد.. وهنا تتجلّى الحكمة من الإيمان بالله، فأنت بحاجة إليه وإلى اللطف في قضائه مهما كانت إمكانياتك التكنولوجية والمادية.

واستمر حديثنا ساعة من الزمن تجولنا فيها في مفاهيم مختلفة عن الله والطبيعة والإنسان حاولت خلالها أن أبيّن له وجهة نظر الإسلام التي بدت له غريبة تماماً للوهلة الأولى.. ولكنها حرّكت في نفسه كوامن ونوازع عميقة قد ران عليها ظلام الفلسفة المادية الباردة برود الثلج الإنكليزي في يوم ضبابي ممطر..

كنت أعلم أن الجدل شجرة عقيمة لن تورق الإيمان مهما سقيتها وتعهدتها وأن نور الهدى هو الفجر الذي –يهبه الله لمن يشاء ويبزغ في قلبه شعاعاً مشرقاً ينير جوانبه ويدفئ حجراته-

     

ومرت الأيام سراعاً ووجد روبرت ضالته التي كان يبحث عنها، فقد ابتاع بيتاً أنيقاً حديث البناء في ضاحية جميلة من ضواحي المدينة، تناسقت فيها ألوان جدرانه الوردية مع خضرة الحديقة الصغيرة اليانعة التي تحيط به.

كان بعيداً عن ضوضاء المدينة وضجيجها، ولم يعكر صفوه إلا دخان يتصاعد من أحد المصانع الشامخة في الأفق البعيد..

وأصبح روبرت يقضي أيام فراغه عاملاً في الحديقة منسّقاً أزهارها.. مشذباً أغصانها وهو يرقب بعين الرضى طفلته التي تمرح في أرجاء الحديقة ضاحكة مستبشرة.

إلا أن ليالي الدهر حبالى لست تدري ما يلدْنَ.. ويد الحدثان تأتي بما لا يتوقعه قلب الإنسان.. فما هي إلا شهران اثنان حتى تلقّى روبرت إنذاراً بإخلاء بيته في أقصى سرعة ممكنة وذلك لأن الخطر محدق.. وأخذ صاحبنا يحزم حقائبه ثانية ولم يكن بعد قد انتهى من عناء حملها إلى بيته الجديد.

وقابلته في شقة المستشفى ثانية وقد اكفهرّ وجهه وبدت عليه علامات الاستياء والقلق ورحت أستطلع الخبر فعلمت أنه تلقّى إعلاماً من الشركة التي كانت مشرفة على البناء بأن بعض المواد المستعملة في بناء سقف البيت، غير أمينة وقد تسبب السرطان.. وأنه يجب إزالتها من السقف حتى يصبح البيت صالحاً للسكن ثانية.

قلت: وما هي هذه المادة بالله عليك؟

قال: إنها تدعى "إسمنت الأسبستوز" وهي مادة مركبة مؤلفة من خيوط الإسبستوز مع إسمنت بورتلاند وتستعمل لتغطية سقوف المنازل وجدرانها.. وأنابيب المياه وقنوات التهوية.. وقد انتشر استعمالها في بناء البيوت الحديثة لكونها صلبة ومقاومة للاحتراق والتلف.

قلت: أليست هي نفس مادة الإسبستوز التي تسبب تليّف وسرطان الرئة عند عمال صناعة المواد العازلة.. والمواد المقاومة للاحتراق.

قال: بلى إنها نفس المادة.. وهناك دلائل تشير إلى أن وجودها في سقوف المنازل قد يؤدي إلى حدوث سرطان الرئة أيضاً.. وأنا أحمد الله على أنني ما أقمت في هذا البيت إلا شهرين فقط، فإن بعض الناس أقاموا في بيوت مثله لسنوات عديدة.. وهم يفحصون الآن فحصاً طبياً دورياً نظراً لاحتمال الإصابة عندهم.

قلت: أهنؤك بنجاتك من الخطر المحدق.

قال: بل هنئني أنني عرفت الله بعد ضياع طويل.. لقد علمتني هذه الواقعة أن الله موجود وأن قدرته محيطة بنا تتحكم في أقدارنا.. إن العلم الذي حاول تقوية جدران بيوتنا وجعلها أكثر مقاومة للاحتراق.. لم يعلم أنه قد –يهبنا السرطان في نفس الوقت-.

قلت: وقد علمنا رسول الإسلام العظيم صلى الله عليه وسلم أن نسأل الله دائماً العفو والعافية، ونسأله من فضله العظيم، فإنه يقدر ولا نقدر، ويعلم ولا نعلم، وإنه وحده علاّم الغيوب. وكذلك علّمنا أن نسأله نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع ونسأله الرضى بعد القضاء..

(9)

كتب إليّ أمير يقول:

إذا نظرت إلى مستشفى أمراض الأنف والأذن والحنجرة في برمنغهام راعك قدمه.. وحداثة الأبنية المحيطة به.. فجدرانه سوداء مكسوة بالغبار تذكرك بالأيام الأخيرة للثورة الصناعية، بينما ارتفعت حوله الأبنية الشاهقة بجدرانها اللامعة ذات الواجهات الزجاجية البرّاقة.

وأول ما يسترعي انتباه المتجول في أسواق برمنغهام هو عصريتها وحداثتها نسبة للمدن البريطانية الأخرى.. ولا عجب في هذا فبرمنغهام والمناطق الصناعية الأخرى حولها قد نالت حصة الأسد من القنابل التي أسقطتها ألمانيا النازية فوق بريطانيا.

ويقال إنه في إحدى ليالي الحرب فقط أغارت خمسمائة طائرة ألمانية فوق المدينة تاركة مركزها كتلة من الأطلال التي يتصاعد منها اللهب والدخان.

وقد أعاد الإنكليز بناءها بشكل عصري جميل، أما مستشفانا الذي نجا من القنابل الهلترية، فإنه لم ينج من يد البلى تنخر في جدرانه وأثاثه.

وكثيراً ما طالب الناس بتجديده وتغييره إلا أن الضيق المادي في أوقات التضخم المالي قد حدا بالسلطات إلى الإبقاء عليه متعللين بقيمته التاريخية مرة وقيمته المعنوية مرة أخرى.

     

نزلت في أحد أيام السبت متجولاً في شوارع البلدة متسوقاً بعض الحاجيات عبر الشوارع التي تعالت على جانبيها أبنية البنوك وشركات التأمين وقد أطلّت من هنا وهناك العمارات الضخمة للشركات التجارية الاحتكارية، وما إن ابتعدت قليلاً عن مركز البلد إلى الناحية الجنوبية، حتى تراءت لي على البعد قبة خضراء بصلية الشكل أوحت إليّ بالقباب المرمرية لمساجد الهند العظيمة، وقد توسدت بناء جميلاً أحاطت به النوافذ ذات الأقواس البديعة في تناسق هندسي جميل.

لقد تراءت لي وكأنها زهرة عطرة بين غابة من الزهور الاصطناعية من كل جنس ولون، وشعرت بحنين فما زلت أقترب منها حتى أصبحت على بعد خطوات، وإذا بصوت مؤذن يتعالى..

الله أكبر   الله أكبر

حي على الصلاة   حي على الفلاح

ارتعشت مفاصلي وأنا اسمع كلمة التوحيد تنطلق من قلب هذه المدينة الباردة.. وشعرت وكأني أفيء إلى واحة خضراء عبر صحراء قاحلة موحشة.

كان الوقت ظهراً.. فاصطفت جموع المصلين للصلاة.. ووجدتني أركع وأسجد معهم في خشوع.. وكان بينهم العربي والماليزي والهندي وكان بينهم الأفريقي والأوربي أمم اختلفت أجناسها وتوحدت عقيدتها.. بكلمة أن "لا إله إلا الله.. محمد رسول الله" ثم انفضّت الصلاة وتفرّق الناس.. فأخذت مصحفي وانتحيت جانباً أتلو ما تيسر من كتاب الله.

ولم تمض إلا دقائق حتى دخل المسجد عدد كبير من الفتيات الصغيرات تتراوح أعمارهن بين الست والعشر سنوات، وقد تأبطن كتيبات صغيرة عرفت أنها أجزاء من القرآن الكريم صعدن الدرج إلى السرادق العلوي من المسجد وبدأ المدرس يعلمهنّ تلاوة القرآن ويفسر لهن بعض ما يقرأن.

كنّ يرتدين الألبسة الفضفاضة.. وعلى رؤوسهن شالات بيض تغطي شعورهن.. فبدون كالملائكة الصغار.. ثم ارتفعت أصواتهن الطفولية البريئة تتردد في جنبات المسجد وكأنها تهليلات من الملأ الأعلى.. "قل هو الله أحد.. الله الصمد".. "تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير".

وشعرت أن روحاً مباركة تسري في هذا المكان، واقتربت من الإمام وحييته بتحية الإسلام.. كان شاباً باكستانياً عليه علائم الطيبة والذكاء، وسألته عن تاريخ هذا المسجد وهذه المدرسة القرآنية القائمة فيه فقال:

"إن المسجد حديث البناء.. بل إن بعض أجزائه لم تتم بعد.. وقد قامت بإنشائه الجالية الإسلامية في برمنغهام وسوف تلحق به مكتبة إسلامية وقاعة للمحاضرات إن شاء الله".

ثم قال:

"إن هذا المسجد يقدم خدمات كبيرة للجالية الباكستانية في المدينة ولكثير من الجاليات الإسلامية الأخرى.. وقد وجدت الجالية نفسها وحيدة في المجتمع الإنكليزي وشعرت بحاجة ملحّة إلى مركز يتلقى فيه الناشئة تعاليم دينهم ولغتهم وإلا ذابوا وسط المجتمع الإنكليزي الجاهلي.. وقد بدأت مع الأسف بوادر هذا الانحلال وإن لم تدركنا رحمة من الله.. ضعنا".

قلت: وهل الجالية الباكستانية هنا كثيرة؟

قال: بدأت الهجرة من الهند والباكستان بعد الحرب العالمية الثانية فقد دمرت الصناعة الإنكليزية أثناء الحرب وأصبحت الحاجة إلى اليد العاملة كبيرة.. وخلال سني ما بعد الحرب وجد العمال الهنود والباكستانيون الذين كانوا يعملون على ظهر السفن التجارية البريطانية فرصة للعمل في المصانع الإنكليزية خلال الفترة التي تقضيها سفنهم للتصليح في الأحواض الجافة وقد وجد هؤلاء العمال أجوراً أعلى وشروطاً أفضل في هذه المصانع فآثروا البقاء وعدم العودة إلى ظهور سفنهم.

قلت: وكيف يعيشون هنا وعائلاتهم لا تزال في الوطن.

قال: لم يكن يوجد في الماضي أية قيود على دخول مواطني الكومنولت إلى بريطانيا ولذا فقد دعا هؤلاء العمال زوجاتهم وأولادهم وأقاربهم للعيش في بريطانيا.

قلت: وهل عدد الجالية هنا كبير؟

قال: عشرون ألفاً في برمنغهام وحدها.. وقد قدمت الغالبية العظمى من هؤلاء المهاجرين من مقاطعتي أزاد كشمير وسيلهت في الباكستان ومن قرى البنجاب وكجرات في الهند.. ولذا كان معظمهم من الطبقات الفقيرة غير المثقفة بل إن بعضهم كان يضطر لبيع ممتلكاته لكي يحصل على بطاقة السفر إلى بريطانيا.

قلت: ولكني صادفت كثيراً من المثقفين أيضاً.

قال: وهؤلاء مأساتهم أشد.. لقد بدأت هجرة المثقفين منذ أوائل الستينات وهم غالباً من الشباب ذوي المؤهلات العلمية الذين لم يستطيعوا الحصول على مراكز ترضيهم في الباكستان.. أو أن الرواتب التي يتقاضونها هناك لم تكن تتناسب مع ما كانوا يطمحون إليه، فهاجروا إلى هذه البلد وهم يحسبون أنها بلد الأحلام ذوات الأرصفة المفروشة بالذهب..

قلت: وهل حصلوا على ما يريدون؟

قال: إن القلّة القليلة منهم وجدت في بريطانيا ما كانت تطمح إليه أما غالبيتهم فقد أصيبوا بخيبة الأمل عندما وجدوا أن الشهادات التي حصلوا عليها في بلادهم لا تكاد تساوي الورق التي كتبت عليه.. فاضطروا أن يعملوا في الباصات أو موزعي بريد رغم مؤهلاتهم العالية.

قلت: ألا إنه شيء مؤسف حقاً؟

قال: ليس الحصول على لقمة العيش سهلاً يا أخي.. وقاتل الله الفقر إذ كاد الفقر أن يكون كفراً.

قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله.

قال: ولكن ليست هذه هي المشكلة الآن.. فمعظم هؤلاء العمال قد وجدوا ما يكفيهم ويسد حاجتهم.. بل أصبح بعضهم تجاراً من ذوي اليسار، بل إن مشكلتهم الآن هي المحافظة على شخصيتهم المسلمة وخصوصاً عند الأجيال الصاعدة.. التي ولدت وتربت في هذا البلد كأنها الأزهار البرية التي نبتت في أرض غريبة.. وإن لم تدركها رحمة الله وتسقى بمعين الإسلام، ذوت وضاعت في مجتمع منحل كافر.

وإننا نستصرخ ضمائر المسلمين في كل مكان لمساعدتنا للمحافظة على هذه البراعم الغضّة، والتي إن فهمت إسلامها كان الإسلام بخير في هذا البلد، بل يمكن للإسلام أن ينطلق من قاعدة صلبة إن شاء الله.. أما إذا ضاع هذا الجيل بين أعاصير الجاهلية الغربية.. وبين اللامبالاة الإسلامية، فإنه وزر يحاسبنا الله عليه إلى يوم الدين..

قلت: وماذا يمكن للطلبة المسلمين أن يعملوا؟

قال: إن أمامهم الكثير الكثير، إن بإمكانهم أن يعلموا أطفالنا تلاوة القرآن، وأن يدرسوهم اللغة العربية، وأن يشاركوا في إنشاء الجمعيات الإسلامية التي تلقن هؤلاء الأطفال مبادئ دينهم وتنشئهم في جو إسلامي واع.. يتعلمون فيه كيف يختلطون بالمجتمع الإنكليزي بمقدار.. وكيف يحافظون على شخصيتهم الإسلامية.. كيف يتأثرون بالمجتمع هنا وكيف يؤثّرون فيه، وكيف يكونون نماذج حيّة للإسلام في هذه الديار..

قلت: أنا معكم يا أخي.. بكل طاقاتي وإمكاناتي ولسوف أدعو من زملائي الطلبة والأطباء كل من قلبه ذرة من الإيمان للمشاركة في هذا العمل الإسلامي الجليل.

وعندما كنّا نتحدث بكلامنا هذا كانت أصوات الفتيات الصغيرات تتردد في جنبات المسجد.. "إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فسبّح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً". صدق الله العظيم.

(10)

كتب إليّ أمير يقول:

حملني جناح الشوق ذات ليلة إلى مساء دمشق الصافية.. فوجدتني أفترش بساطاً سندسياً جميلاً حملني فوق الغيوم، كانت تمر من تحتي الحقول الخضراء والجبال الشم وأنا أعتلي متن البساط السحري حتى حطّ بي في ليلة قمراء في صحن جامع بني أمية الكبير في قلب دمشق.

كانت نسيمات الفجر تهب على المسجد المهيب حاملة معها نفح الغوطة الرطيب وبرداها الفياض.. ولم تلبث أن تملكتني الدهشة والعجب.. إذ لم أر بين المصلين من أعرفهم.. ولا أصدقائي الذين عهدتهم في هذه الصبحيات الندية.. كانوا قوماً لم أرهم في حياتي قط وإن شعرت أن بيني وبينهم من أواصر القرابة ما يعجز عن خطه البيان.

ودمشق ليست دمشق التي عهدتها.. فليست هنالك جلبة السيارات والباعة ولا تلك الأبنية الشاهقة التي تحيط بالمسجد من كل جانب..

وعلمت على حين غرة لآن بساطي السحري لم يخترق بي حواجز المكان فقط.. وإنما سار بي عبر حواجز الزمان فنقلني إلى دمشق الشام.. يوم كانت عاصمة الدنيا.. وبيضة الإسلام..

وفي المصلى الكبير جلس مروان بن الحكم وحوله الجند والأعوان يدبرون أمور الجند وعسكر الفتوح.. كان بين الجند شاب عربي السمات، ذو لحية خفيفة حاد ملامح الوجه ثاقب النظرات له قسمات الهزبر الرئبال، قلت من هذا.. فقالوا هو محمد بن القاسم البطل العربي المسلم فاتح الهند والسند وناشر ذؤبة الإسلام في تلك الديار..

ارتعشت مفاصلي وأنا أسمع هذا الكلام وبحركة لا شعورية قمت من مجلسي أود أن أحتضن هذا البطل المسلم الذي طالما داعبت ذكراه مخيلتي ومددت يدي لأقبله وأستنشق منه عبير الإيمان والأريحية والشمم.. وفجأة فتحت عيني وعرفت أني كنت في حلم جميل..

     

وأخذتني الغمة عندما علمت أنني ما أزال في فراشي البارد في بريطانيا.. كانت المدفأة قد تعطلت والرياح تعوي في الخارج عواء الذئاب.. مفاصلي ترتعش في جو الغرفة البارد والساعة تشير إلى الخامسة صباحاً.. فحمدت الله أن ذلك موعد صلاة الفجر.. فتوضأت وصليت ودعوت الله.

ومما زاد في همي أنني كنت على أبواب التقدم للامتحان وما زال أمامي الكثير من الكتب والصفحات التي علي أن ألتهمها قبل أن تلتهمني.. وهيجاء العلوم أصعب من هيجاء السيوف سيما إذا كان السعي للهيجا بغير سلاح!!

وكان أحد زملائي الهنود في العمل يدعى (راج) ويستعد لنفس الامتحان، فاتفقنا على أن ندرس بعض المواضيع معاً ففي هذا ما يخفف الوحشة.. ويزيل بعض عقبات الطريق.. وراج هذا شاب هندوسي ذو بشرة داكنة وأنف مفلطح وكان كذلك ذكياً ومجداً في العمل.. يذكر أباه دائماً في شوق ويذكر قريته الصغيرة في الهند بحقولها ذات الزهور العطرة.. كان راج نباتياً وكثيراً ما كان يؤنب نفسه التي لم تستطع مقاومة بعض أطباق لحم البقر الشهي.. ويحمد الله أن أباه لم يكن معه في هذه المناسبة أو تلك.

كان راج في غرفة خارج المستشفى قريبة من محطة القطار فاتفقنا على أن نقضي الليلة السابقة للامتحان في غرفته لندرس بعض المواضيع نستغل بعدها في الصباح الباكر القطار الذاهب إلى لندن، حيث يجب أن نؤدي الامتحان.

توجهت إلى غرفته أول المساء وما إن طرقت الباب حتى فتحه لي بوجهه البشوش المعتاد وكان قد أعدّ كوباً من الشاي أضاف له العديد من التوابل الهندية التي قضت على طعمه الأصلي تماما!! وأول ما استرعى انتباهي هو وجود لوحة معلقة على الجدار عليها صورة إنسان قصير القامة، عظيم البطن، رأسه رأس فيل طويل الخرطوم، ولم أكن قد رأيت هذه قط رغم زياراتي المتكررة له، فقلت له مستغرباً: إنها صورة غريبة، جسم إنسان ورأس فيل..

فقال ضاحكاً: إنها صورة أحد الإلهة المشهورة في الديانة الهندوسية.

قلت له: صورة إله!! له رأس فيل.. وما معنى هذا؟

قال: إن هذا هو غانيزا، إله الحظ السعيد المزيل للعقبات ونحن عادة نبدأ الصلاة باسمه خصوصاً عند القيام بالمشاريع التجارية أو قبل الامتحانات.

قلت: وما فائدة رأس الفيل لإلهك هذا..

قال: إن لذلك قصة طويلة.. فإن غانيزا هو أحد أبناء إله الهند الكبير (سيفا) أو الإله المدمر فقد رزق ابنه من زوجته (بارفاني) وقد كان الإله (سيفا) في حالة نفسية حادة عند ولادة غانيزا ولم يكن يعلم أنه ابنه فقطع رأسه وعندنا حزنت أمه برفاتي عليه كثيراًُ وعدها سيفا بقطع أول رأس كائن حي يصادفه ليعوّض بذلك رأس ابنها المقطوع وينقذ بذلك حياته.. وكان الفيل أول كائن حي رآه فقطع رأسه ووضعه فوق جسد ابنه غانيزا المشرف على الهلاك فعاش بعد ذلك حتى اليوم!!

كدت لا أصدق أذني وأنا أسمع هذا الكلام.. أهو يا ترى راج الذي أعرفه؟ أهو الذي يتكلم أمامي أم هو إنسان آخر.. لقد انقلب فجأة من إنسان منطقي ذي فراسة في الطب إلى إنسان خرافي يعيش في مجاهل القارة الهندية العميقة!!

قلت له: حسناً.. وبفضل رأس الفيل هذا عاش غانيزا وأنت اليوم تعبده..

قال: نعم ولا أزال أذكر في طفولتي تلك الاحتفالات الكبيرة لهذا الإله التي كانت تقام في ساحة القرية.. لقد كانت تجمع حقاً أهل القرية جميعاً تحت ظل الإله هذا في حلقات راقصة بديعة تهتف بحياة الهند وسقوط الاستعمار البريطاني!!

قلت: هذا هو الإله الصغير فمن أبوه (سيفا)؟

قال: إن سيفا هو أحد كبار الإلهة الثلاثة الرئيسية في الهند، وهو أقواها وله ثلاثة عيون.. واحدة منها للرؤية الداخلية.. ولكنها تستطيع الحرق إذا وجهت للخارج ونحن نعتقد أن نهر الغانج المقدس ينبع من رأسه.

قلت: نهر الغانج ينبع من رأس هذا الإله؟!

قال: نعم.. إنه ينبع من رأسه وحتى تدفقه عبر شعره الطويل فيقسم النهر إلى شلالات عديدة وراح يسترسل شارحاً حالات التقمّص التي تصيب الإلهة فينتقل الإله من صورة فيل إلى إنسان إلى سمكة إلى أفعى.. إلخ..

قلت لنفسي: أستغفرك اللهم إلى أي درك ينحط العقل البشري إذا ابتعد عن وحي السماء لقد كان صاحبنا يعيش في عالم أسطوري موغل في القدم.. غابة متشعبة من الأشباح.. والآلهة الوثنية الهمجية كجراثيم فتاكة غزت عقله فأصابت توازنه وتركته يهذي بما يقول ولا يعقل..

فقلت في حيرة ورجاء: ولكن يا راج يبدو لكل من له عقل منطقي أن كل ما قلته هو مجموعة من الأساطير التي يربأ عقلك أن يصدقها.

قال: قد يبدو ذلك في قالب أسطوري ولكنه يعبر عن حقائق لا يعرفها إلا من يؤمن بها ألا ترى ذلك الإله سيفا إنه الإله المدمر فعلاً وأنا أعلم أن عدداً من الناس الذين كفروا به قد لحقتهم لعنة سيفا فمنهم من توفي بحادث سيارة، ومنهم من مات بالسكتة القلبية وهكذا.. وأنا لا أريد أن تلحقني لعنته..

وفعلاً كان يبدو من كلامه أنهه يخشى هذا الصنم فعلاً.. وهناك خوف مبهم غامض يقبع في أعماق نفسه.. خوف تغلغل في أعماقه وأعناق أبيه وقريته.. فأصبحوا كلهم فرائس سهلة لهذا الوهم الغامض الذي غلف حياتهم بهذا الغلاف الأسطوري الأسود..

وقد حاولت أن أشرح له بعض تعاليم الإسلام وعقيدة التوحيد لكي أطلعه غلى الأقل على بعض العقائد الصافية ولكني وجدت أن بينه وبين كلمة الإسلام عداوة شديدة دفينة، قبل الدخول في أية مناقشة، فهو يعتبر الإسلام هو أخطر استعمار حلّ بشبه القارة الهندية، فسلخ من أهلها مائتي مليون تركوا ديانة آبائهم وأجدادهم، وعلمت من خلال المناقشة أنه منتسب إلى إحدى الطرق الهندوسية الحديثة التي تعمل على إحياء التقاليد والعادات والإلهة الوطنية الهندية!!

لقد أثار في نفسي هذا ألماً نسيت معه الامتحانات وهمومها، وحسبت كم يقاسي المسلمون في الهند تحت الحكم الهندوسي الوثني الذي يؤله سيفا وكرشنا وبهارى وسواهم ويسجد للبقر والأفاعي والفيلة بدل السجود للواحد القهّار.

ووددت لو أرجع إلى حلمي لألقى محمداً القاسم فأضمه ثانية وأشكو إليه ما فرط المسلمون في دينهم..

ولكنني سمعت منادياً يقول لي، لا تيئس –يا مسلم- ولا تشكو فما الشكوى تنفع المؤمنين! قم واعمل "وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة".. وابدأ بنفسك ثم بصاحبك راج هذا.. "والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم".

(11)

وا... أرض المعراج

كتب إليّ أمير يقول:

أتذكر يا محمد أيام الصبا.. يوم كنا نستيقظ صباحاً كالطيرين الطليقين ننطلق في بساتين الغوطة الغناء نسرح في أفيائها ونتنسّم من هوائها ونمرح بين المروج المضخة بعبير الورد وعطور النارنج، وأنا إذ أذكرك بأحلام الصبا.. لا أعني أننا قد بلغنا من الكبر عتيّا، ولكن للنفس هموم وحسرات، وللقلب دقات وخفقات، وأنا هنا بعيد عن الوطن وأي وطن هذا الذي أحدثك عنه.. وقد هانت أوطاننا بهوان مواطنينا، وهان مواطنونا بهوان عقيدتنا. إن فؤادي يكتوي ناراً.. ونفسي تعتلج غضباً.. فإن من الجراح ما يندمل وتشفى بشفائه، ومنها ما يندمل على بؤرة متقيحة تبقى آلامها ويستعصي شفائها.

استيقظت ذات صباح مكتئب النفس مغموم الفؤاد.. وما تلك عادتي في الصباح، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم.. وسألته العفو والعافية.

كان اليوم عطلة، وكان نصيبي أن أكون مناوباً.. ولم يكن قد بقي في المستشفى من زملائي أحد، فمنهم من ذهب للصلاة في الكنيسة، ومنهم من ذهب إلى أقرب مشرب يعاقر بنت الحان.

وما إن بدأت باحتساء فنجان القهوة حتى رنّ جرس الهاتف.. آه منه ذلك اللعين، لقد أدمن إزعاجي في مثل هذه الأوقات، ولكن قلت في نفسي: وما ذنب ذلك المعدن الجامد حتى ألعنه.. ولاشك أن يداً تقرعه وربما بالرغم عنه، هرعت إليه وأمسكت برقبته الباردة.. فإذا صوت يصيح: هلمّ يا دكتور، أسرع إن المريض في حالة سيئة وقد قارب الاختناق.. وما حدث له؟

- صدمته سيارة منذ هنيهة قليلة.. ولديه كسر في الجمجمة ونزف في الرقبة.. وإن النزف في رقبته يزداد ويضغط على المجاري التنفسية، وهو بحاجة إلى عملية مستعجلة.

وعلمت أن المريض في مستشفى يبعد قرابة عشرة الأميال عن مستشفانا، والمريض في حالة ليس من الممكن معها نقله إلينا –وكان الأمر بمنتهى الجد- فاعتذرت لفنجان القهوة الذي ما زالت الأبخرة تتصاعد منه، فقال لي أنه قد ألف الاعتذار!

     

انطلقت بنا سيارة الإسعاف تطوي الأرض طيّاً.. كانت الشوارع خالية في صباح هذا الأحد، فاجتازت مركز المدينة بسرعة فائقة.. واندرجت تقطع السهول المحيطة بها.. كانت السهول مزروعة بالمصانع الواحد تلو الآخر، ارتفعت مداخنها في السماء تنفث بين الفينة والأخرى ضباباً كثيفاً أسود، وكأنها تنفث عن عمومها وآلامها.

قال لي سائق السيارة: نحن الآن نقطع البلاد السوداء.. وهي قلب الصناعة الإنكليزية ومهد الثورة الصناعية في العالم.. وقد سميت بالسوداء لأن دخان المصانع قد غطاها بطبق من السواد الفاحم، وهي وإن غطت جدران البيوت الخارجية بالسواد إلا أنها قد ملأت داخلها بضروريات الحياة ورفاهياتها.. من ثلاجات وغسالات وتلفزيونات.

قلت للسائق بلهجة المستغيث: أسرع بالله عليك، فإن المريض في حالة خطرة.

قال: وما به؟

قلت: إنه أحد ضحايا الثورة الصناعية، صدمه عملاق معدني يسمونه السيارة فتهشمت عظامه.. ونحن الآن ذاهبون لنرى نتيجة الصراع بين عملاق الفولاذ، وعملاق الدم والعظم.

ولم يمض طويل من الزمن حتى كنا في المستشفى.. كان المريض ممدداً على طاولة العمليات ومن حوله أجهزة التخدير والأطباء يحاولون إجراء تسيد القلب والتنفس الاصطناعي، ولما استطلعت الخبر علمت أن قلب المريض قد توقف عن الخفقان منذ قرابة عشر دقائق، وكان يبدو جلياً أنه فارق الحياة..

كان المطر الغزير ينهمر على زجاج نافذة العمليات وكأنها دموع تبكي على المريض الراحل.. وحق لهذه الدموع أن تذرف فإن حياة هذا المريض لم تستذرف دمعة واحدة من عيون الأطباء والممرضات الذين كانوا حوله.. أهي معايشة الموت والمرض الذي حجز أفئدتهم وجمد دموعهم، أم أنهم أمثلة حيّة للإنسان العصري الذي يعتبر العواطف شيئاً معيباً في غابات الأبنية الإسمنتية والمنشآت الفولاذية.

     

قد تقول لي يا أخي وما معنى الكلام الذي سردته عليّ حتى الآن.. والواقع أنني لم أبتدأ بسرد ما أردت أن أقوله بعد، وسواء سميتني ثرثاراً أم لا.. فإنني سأسرده وأعانك الله. ذهبنا إلى غرفة الاستراحة بعد خروجنا من العمليات كالجيوش المهزومة التي أعياها الانكسار.. وكانت سبقتنا لهناك طبيبة التخدير التي استدعيت أيضاً لإسعاف هذا المريض المسكين.. كانت امرأة في متوسط العمر، ذات قامة ممتلئة، وقد تربع أنفها المعقوف وسط وجهها، وكأنه احتل مكاناً أكثر مما يحتاج لأداء وظيفته. توحي لهجتها أنها إنكليزية صرفة، وإن دلّت تقاطيع وجهها على العكس.. بادرتني بالسؤال:

- ألست من الشرق الأوسط يا دكتور؟

قلت: بلى..

قالت: إن ظني صحيح..

قلت: وأنت؟

قالت: أنا يهودية.. هاجر أجدادي إلى بريطانيا منذ قرون، ولي ابن شاب.

قلت: أنا عربي.. وليس لي ببريطانيا أجداد ولا أحفاد..

قالت: إن ابني طبيب أيضاً.. هاجر إلى إسرائيل منذ سنوات، وهو حالياً ضابط في الجيش الإسرائيلي في سيناء.

قلت: ما شاء الله.. وهل يكتب لك؟

- نعم، بشكل منتظم.. وقد ذهبت لزيارته في العام الماضي، إن عائلته تقيم في إحدى المستوطنات في الضفة الغربية.. وهو يتردد عليها بشكل منتظم أيضاً.

قلت: وما حمله على الذهاب إلى إسرائيل؟

قالت: لقد آثر الرحيل.. رغم أنه كانت له عيادة خاصة وبيت جميل، بالإضافة إلى عمله في المستشفى.

كانت من النوع الواثق بنفسه.. الهادئ والمتعصب للصهيونية معاً.. كانت تتكلم بلهجة مسترخية وعلى وجهها ابتسامة خفيّة.

كان الدم يغلي في عروقي.. وأنا أستمع لها تتحدث عن بناء المستعمرات الإسرائيلية في الضفة الغربية.. وكأنها تتحدث عن بناء غرفة جديدة في بيتها القديم. ولكنني ما أردت أن أفقد أعصابي لأن ذلك يجعلني في موضع الضعيف سلفاً.. سيما وأنني وهذه اليهودية قد تحولنا بشكل أوتوماتيكي إلى طرفين متحاورين، جلس بقية الحاضرين يرمقوننها.

قالت: وماذا عن تطورات السلام الأخيرة..؟

قلت: وأي سلام هذا..

قالت: السلام الذي يسعى إليه العرب واليهود معاً.

قلت: إن العرب لم يسعوا.. ولا يسعون الآن إلى السلام.

قالت: ولكن وفود مصر وسورية والأردن.. تذهب وتأتي إلى الأمم المتحدة وأمريكا وروسيا يطلبون السلام.

قلت: إن وفود مصر وسورية والأردن.. تمثل حكام مصر وسورية والأردن، أما شعوب المنطقة فما زالت مؤمنة بحقها وبدينها وبأرضها، ولا ترضى عن تحرير فلسطين بديلاً..

قالت: إنك تتلكم بلهجة الأربعينيات والخمسينيات، وكأنك لم تتعظ بكل الأحداث الماضية.

قلت: إن كان من عظة في الأحداث الماضية، فهي أن لا سلام في هذه المنطقة ما لم تسلم من وجود إسرائيل فيها.

كانت أمارات الانفعال والقلق تبدو عليها شيئاً فشيئاً ثم..

قالت: ولكن فلسطين أرضنا.. عشنا فيها منذ آلاف السنين، وبذلنا في سبيلها الدماء والأرواح. لقد قاتلنا وما زلنا نقاتل في سبيلها، إننا لم ننس فلسطين ولا القدس. إن خيال الأرض والمعبد والزيتون ما زال يداعب خيال اليهود على مرّ الزمن.. حتى تحققت النبوءات ورجعنا إلى أرض الميعاد.. ورغم أن لم تقم دولتنا في القدس إلا لسبعين سنة.. إلا أننا لم ننس القدس وما زالت القدس تعيش في ضمائرنا وأفئدتنا.

قلت: أو تعتقدين أن اليهود الذين عاشوا في القدس سبعين سنة لم ينسوها، وإن المسلمين العرب الذين عاشوا فيها ألفاً وأربع مائة سنة سوف ينسونها، وإذا قلت أن اليهود حاربوا في سبيل فلسطين، ألم يحارب العرب في سبيلها أيضاً.. بل إن شهداء العرب كانوا أضعاف قتلى عدد اليهود باعتراف العدو والصديق.

وأما قتالكم في سبيلها فهذا لا يجعل لكم الحق فيها.. إذ قد تقتتل أي عصابة لسلب ما ليس لها.. وقتالها هذا ليس دليل أحقيتها..

وفجأة انقلبت محدثتي من إنسانة متزنة هادئة.. إلى امرأة محمرة الوجه، منتفخة الأوداج، وقد بدت في عينيها علائم الغضب والحقد الدفين.. لقد انطلق فجأة المارد القابع في أعماقها، من قيود الأدب والاتكيت الإنكليزي، وأصبح يرغي ويزبد في انفعال ظاهر..

لقد تذكرت هنا كلمة قالها أحد الإنكليز.. من أن اليهود هنا يبقون عاقلين ومخلصين ومنطقيين حتى تبدأ مناقشة فلسطين، وفجأة ينقلبون إلى أناس انفعاليين ومتعصبين ولا منطقيين.

ثم تابعت تقول:

- هل تستطيع أن تقول لي لماذا هزم العرب في أربعة حروب متتابعة؟

قلت: وهل لديك تفسير؟

قالت: بلى.. لأن العرب الذين يقاتلون في سبيل فلسطين لا يضحون في سبيلها.. لأن السوري يعلم أن سورية هي بلده.. وليس لديه استعداد للموت في سبيل بلد أخرى.. وكذلك المصري والأردني.. فلكل وطنه الذي يعود إليه إذا خسر المعركة.. أما الإسرائيلي فإنه يقاتل وهو يعلم أن الأرض أرضه وليس له سواها إذا هُزم.

قلت: ولكن لي تفسير آخر. إن فلسطين جزء من أرض العرب والإسلام.. لا يختلف في هذا المصري ولا السوري ولا الأردني ولا الفلسطيني، ولكن يد الجندي العربي الذي قاتلكم، وإن كانت مليئة بالسلاح.. إلا أن قلبه كان خاوياً من الإيمان الذي يدفعه للتضحية.. أنا يؤلمني أن أقول هذا ولكن هذا هو سر انتصاركم وانخذالنا حتى الآن.. صحيح أن التسلح الإسرائيلي كان متفوقاً ولكن هذا ما كان ليبرر ولا عشر الهزيمة التي لحقت بالعرب في 1967، ولم تردَّ حرب رمضان إلا أشتاتاًَ من العزة المهدورة التي كادت هي الأخرى تضيع في متاهات المناورات الدبلوماسية والاستعطافات السياسية لأمريكا.

قالت: وهل تعتقد أن اليهود هم مخطئون إذ هم يفاوضون من أجل السلام الآن..

قلت: هم ليسوا مخطئين قطعاً.. لأنهم لا يفاوضون من أجل السلام أصلاً.. لقد اقتطعوا أشلاء من أجسادنا.. وبينما نحن نصيح من الألم قالوا: تعالوا نتفاوض ولكن بشرط أن يكون ما اقتطعنا لنا.. لقد اقتلعتم من جسد أمتنا قلبها، أخذتم القدس والأقصى والحرم الإبراهيمي ثم تقولون تعالوا نتفاوض!؟ وعلى ماذا نتفاوض؟!

قالت: لقد قابلت كثيراً من العرب.. ولكن لم أقابل أحداً مغلق الفكر ومتعصباً مثلك.. وأنا غير مستعدة للنقاش أكثر من هذا.. لأن هذا لن يزيد من المودة بيننا..

قلت: أنا ما قصدت أن أسيء إليك.. ولكن أحببت أن تطلعي على نموذج من التفكير بعيد عن تحويرات السياسة وبهارج الإعلام!! فإن الحقائق لا تصلكم إلا بعد أن تجري لها العمليات الجراحية التجميلية اللازمة.. فتوافق الشكل الذي تحبونه.

قالت: وهل أنت جاد في التفكير بأن إسرائيل يمكن أن تزول، وأن اليهود يمكن أن يخرجوا من فلسكين.. وأن يتركوها..

قلت: أنا لا أفكر فقط بإسرائيل يمكن أن تزول وإنما أعتقده.. وبهذا أخبرنا رسول الإسلام العظيم.. أما إلى أين يذهب اليهود؟ فنحن لم نخلق مشكلة وجود اليهود في فلسطين وليس علينا حلها! وعلى كل فلسنت أعتقد أن بريطانيا صدرت ابنك إلى فلسطين.. تضيق عن استيراده ثانية.

فما كان منها إلا أن قامت مستأذنة.. بسرعة غير عادية.. وأغلقت الباب وراءها بحركة عصبية ظاهرة..

     

وبينما كنت في غمرة النقاش، لم أكن منتبهاً لوجود زميل مصري عرفته منذ مدة، وعرفت من أنه واحد من المسؤولين عن الدارسين المصريين في المملكة المتحدة.. ومن أعضاء الاتحاد الاشتراكي!! لم ينبس خلال المناقشة ببنت شفة.. ولكني رأيته ينظر إليّ باتفاق.. ولعله أنكر عليّ جلافة المنطق الذي كنت أتحدث فيه.

قال: تعلم أنك في بلد غريب.. وليس من الحكمة إطلاقاً أن تتحدث لهذه اليهودية بهذا المنطق، فهذا لن يزيد من تعاطف الإنكليز معك ومع القضية.

قلت له: ومتى كان انتصار القضية يبدأ من تأييد الإنكليز لها!! وكيف ينفع القضية تأييد الإنكليز لها.. إذا تنكر العرب لها.. أليس السادات والأسد وحسين وخالد هم الذين يدعون للمفاوضات مع العدو.

قال: ولكنك لا تعلم خفايا السياسة وألاعيبها.. ولعلهم يحصلون باللعبة السياسية على ما لم يستطيعوا الحصول عليه بالحرب.. وأنت تعلم أن أمريكا بيدها مغاليق الأمور في العالم.

قلت: إن ملوكنا ورؤساءنا الذين لبسوا مسوح الرهبان وذهبوا يتعبدون في محراب أمريكا.. قد لبسوا نفس المسوح وتعبدوا في محراب روسيا من قبل.. فما أغنتهم المسوح ولا المحاريب!! إن حكامنا فقد فقدوا ثقتهم بربهم.. ويئسوا من أنفسهم واحتقروا شعوبهم وهنا يكمن الداء!

قال: وكيف؟!!

قلت: إن أعظم جريمة يقوم بها حكامنا الآن.. هي أنهم لم يكتشفوا شعوبهم.. ولم يعثروا على الطاقات والكنوز المخبوءة في مواطنيهم بعد.. لم يفجروا في شعوبهم شعلة الجهاد التي إن اشتعل أوارها زلزلت إسرائيل ومن خلف إسرائيل.. وربما علموا أن شعلة الجهاد إذا اشتعلت فإنها ستزلزلهم كما تزلزل إسرائيل معهم، فآثروا السلامة مع إسرائيل على الزلزال بدوننا.. وما زالوا يلوحون لشعوبهم بعدالة الاشتراكية ورفاهية الرأسمالية وشعوبهم تضحك منهم! وتبكي من ضرباتهم القاسية.

قال صاحبي وكأنه خاف على مركزه في الاتحاد الاشتراكي أن يزول إذا لم يقل:

- ولكن حكام العرب اليوم أكثر اعتدالاً وواقعية.. لقد\ عرفوا أنهم لا يستطيعون سحق إسرائيل فآثروا التعايش معها.. وهذا منطق.. أليس كذلك؟

قلت: ليس في وسع حكام العرب أن يطلبوا سحق إسرائيل وهم ليسوا مهيئين لهذا الطلب أصلاً.. إنهم أصغر من هذا.. والخطب جلل.

قال: ولكن لعل في الأمر خدعة.. ولعلهم يريدون خداع إسرائيل حتى يمكنهم الزمن، من استعادة قوتهم ثم الكرة عليها ثانية..

قلت: أما أن الحرب خدعة فهذا صحيح.. وأما أن يبتدئ حكام العرب بخداع شعوبهم قبل خداع أعدائهم.. فليس ذلك من فن السياسة ولا من حكيم الخداع.. وإن دلّ على شيء فعلى نفس ضعيفة، وشهوة كبيرة.

وعندها انسلّ صاحبي من الغرفة بسكون.. قبل أن يطلع على اشتراكه في هذا النقاش رفيق آخر من رفاق الاتحاد الاشتراكي!!

     

إن قبة الصخرة تستغيث ولا من مغيث..

وإن المسجد الأقصى يستحثّ همم الصيد الأباة.. والميدان فارغ والساحة قفر، إلا من جلاد صال وجال.. ومؤمن بالله يرسف بالأغلال.

أقفرت الساحة إلا من تجار النخاسة.. والرقيق.. ومن الكرامة المهدورة على أرصفة الأمم المتحدة.. وأبهاء السفارات الأمريكية والروسية.. إيه يا عملاق الإسلام العظيم.. لقد طال الدجى والليل بهيم.. لقد تعبت مسامعنا من نقيق الضفادع ونعيق البوم. فدعنا نسمع زأرة الحق الجليل..

دعنا نسمعه الصوت الجهوري الأصيل..

فمن غير فارس الإسلام للخطب.. والخطب جليل..

(12)

مدينة العلم

كتب إليّ أمير يقول:

ليست مدينة العلم التي أحدثك عنها مدينة حقيقية شامخة بأبراجها العالية ومزهوّة بمختبراتها العظيمة، وإنما هي حلم جميل راود اثنين من معارفي سرعان ما تطاير متبخراً، وتحطّم على صخرة الواقع الأليمة.

وأبطال هذه القصة ليسوا جهابذة العلوم، وأصحاب المخترعات، وإنما طبيبان متواضعان عاشا معنا هنا لفترة من الزمن، إحداهما سوري يختص بأمراض الجراحة، والآخر مصري يختص بأمراض النساء والتوليد.

أما زميلنا السوري الدكتور منذر فكان متوسط القامة، وسيم القسمات، يبدو أنه في أواخر العقد الثالث من العمر، وهو وإن كان أصلع الرأس في هذا العمر المبكر إلا أن بقية من شعرات نبتت على فوديه، ثم استرسلت لتغطي أذنيه وكأنها شاهد على أنها هي الأصل، وأن الصحراء المجاورة لها ليست إلا عادية من عاديات الزمان.

كان زميلنا هذا حاد المزاج، به شره للمال واضح، وقد آلى على نفسه ألا يرجع للوطن بدون سيارة وثلاجة وتلفزيون ملون، فأرسل زوجته وطفله الوحيد إلى الوطن واقتنع بسكن غرفة صغيرة في المستشفى رخيصة الأجرة، تجعله قادراً على توفير بعض النفقات التي تمكنه من تحقيق حلمه.

أما زميلنا المصري الدكتور بهجت فكان طويل القامة، أسمر البشرة يعتني بهندامه إلى الحد الذي يثير انتباه زملائه من إنكليز وغير إنكليز، لم يكن قد تزوج بعد، وإن كان يبدو أنه في الثلاثينات أيضاً.

كان منذر اشتراكياً، يؤمن أن الاشتراكية هي قدر أمتنا، ومؤمناً متحمساً بالقومية العربية وراياتها الخفاقة من المحيط إلى الخليج، بينما كان بهجت أقل حماساً لذلك ويحمل من التديّن قشرة رقيقة لم تصل به إلى إقامة الصلاة، وإن كان لا يتنازل عن صيام رمضان بأي حال من الأحوال. وقد كان دائماً ينقد المجتمع الإنكليزي المتحلل الذي يعيش بين ظهرانيه نقداً لاذعاً، ورغم أنه لم يكن اشتراكياً إلا أن إعجابه بالقومية العربية جعل بينه وبين منذر أرضاً مشتركة طالما قضيا الساعات الطوال في نقاش حولها. وقد أصبحا صديقين حميمين رغم أنه لم يمض على إقامتهما في المستشفى سوى بضعة أشهر، ولم يعكر صفو هذه الصداقة إلا صياح بين الفينة والأخرى خاصة عند مناقشة أمر خطير كأمر الوحدة السابقة بين مصر وسورية، وعندها يتراشقان الاتهامات حول الخطأ والصواب والحق والباطل.

حاولت أن أحسّن علاقتي ببهجت بادئ ذي بدء، خصوصاً وأن فيه طيبة وأثراً –وإن كان باهتاً- من دين، وقلت لعله ينتبه من غفلته وتزهر في قلبه زهرة الإيمان التي يبدو أنها ذبلت وجفّ فيها ماء الحياة.

ذهبت لزيارته على غير موعد، وما إن فتح لي باب غرفته حتى امتقع لونه وفأفأ بكلمات ترحيب خرجت من بين شفتيه مرغمة، وشعرت ساعتها بأني ضيف ثقيل، إلا أن موقفه هذا حمل رغبتي في الدخول أكبر، فقد كنت أخشى على بهجت السوء، وانتابني شعور قوي بأن الشيطان يلعب هنا لعبة قذرة، جمّعت ما تبقى لدي من شجاعة وخطوت داخلاً وعرفت ساعتها سرّ اللون الزعفراني الذي غطى صاحبنا من رأسه إلى قدميه.

كان في الداخل فتاة إنكليزية قدّمها لي على أنها صديقة وهي طالبة في كلية الطب تعرّف عليها في أثناء عمله في المستشفى. كانت فتاة رقيقة لها من زرقة العيون وشقرة الشعر ما يجعلها مثلاً أعلى لشباب الشرق الهائمين وراء القدود الممشوقة واللحوم البيضاء!

     

- هذه ماري صديقتي.

- ماذا؟

- مجرد صداقة، قابلتها في المستشفى، وقد أرادت أن تزورني فلم أمنعها، وقد مضى على صداقتنا عدة أشهر الآن.

- ولكن يا بهجت هذا لا يجوز، ألا تخاف الله؟ وهل ترضى لأختك أن تسلك هذا المسلك الشائن؟

لم يبدُ أن الفتاة الإنكليزية قد فهمت كثيراً مما قلنا، ولكن أدركت أن الأمر ليس سمناً وعسلاً.

- لا أكتمك أنني أحببت هذه الفتاة الإنكليزية، وهي فتاة مهذبة وذات خلق حسن، ما رأيك بها؟

- ليست القصة أمر رأيي في هذه الفتاة، لكنه رأيي فيك أنت، وقد آلمني –والله- أن تكون على هذا القدر من الاستهتار بآداب الإسلام. ألم تذكر يا بهجت أننا كنّا نصوم ونصلي التراويح معاً!؟

- بلى، ولكن ليس لدينا –نحن البشر- القدرة على التحكم في عواطفنا، وهذه مجرد عاطفة نظيفة نتبادلها.

- ألا تذكر قول الله تعالى: "ولأمَة مؤمنةٌ خيرٌ من مشركة ولو أعجبتكم"؟

- لا أنكر هذا، ولكن ألا يحق الزواج من الكتابيات؟

- إن قاعدة الإسلام أن تظفر بذات الدين، وحتى في حالة كحالتك فإن للإسلام مخرجاً نظيفاً، فزواج هذه الفتاة أفضل من اتخاذها خليلة، وبذلك تنأى بنفسك عن ارتكاب المحرّم.

- أنا أنوي أن أتزوجها فعلاً، ولكن بعد حصولي على الشهادة، لأن زواجي الآن يضع أمامي عقبات أنا في غنى عنها!

- إن شيطانك قوي يا بهجت، ليست هذه قولة رجل يخاف الله، فاتق الله عز وجل.

*  *  *

وبينما نحن بين أخذ ورد إذ طرق الباب طرقات قوية متتالية، وما أن فتحه بهجت حتى دخل منذر وهو منهمك كعادته في توزيع الابتسامات وإلقاء النكات السخيفة، كان يحمل في يده صحيفة عربية لم أعد أذكر اسمها، وباليد الأخرى علباً صفيحية من البيرة، ألقى السلام على بهجت وصديقته بشكل يوحي أن صحبته معها قديمة العهد وبادر الجميع قائلاً:

- أخبار هامة اليوم، نقطة تحوّل في تاريخ العالم العربي!

- وما ذلك؟ هل حررت فلسطين!؟

- لا وإنما هناك مشروع ضخم لمدينة علم عربية يقيمها معمر القذافي في ليبيا بالأموال العربية ويجلب إليها العلماء والأدمغة من كل بلاد العالم. ياله من تخطيط رائع يغنينا عن التبعية الاقتصادية للبلاد الصناعية ومن ثم يغنينا عن التبعية السياسية، والتبعية الفكرية.

ثم أخذ رشفة من إحدى صفائح البيرة التي جلبها معه وتابع قائلاً:

- لاشك أن العامل الاقتصادي هو أهم عامل في حياة الشعوب ومسار التاريخ، وفي اليوم الذي يتحرر فيه العرب اقتصادياً فسوف يتحررون سياسياً وفكرياً.

وكأنما سرت في البيت رعشة كهربائية، وقام الاثنان يقرآن الصحيفة بشغف ويتناقشان بينهما ويعلو صياحهما لأقل خلاف.

- يجب الإصرار على العلوم التطبيقية أكثر، وجلب العلماء المهتمين بالصناعة.

- والأبحاث.

- أيضاً يجب الاهتمام بالعلوم الذرية ويجب على البلاد العربية أن تملكها أيضاً.

- انظر يجب أيضاً حماية العلماء من الهجمات التي قد تقوم بها إسرائيل ضدهم.

- بل يجب استدعاء العلماء العرب الموجودين في لخارج، فنحن لدينا العلماء الكبار في الغرب الذين لا تستفيد منهم البلاد العربية شروى نقير.

وراح الاثنان يحلمان بهذه المدينة العلمية الضخمة التي سوف تغطي رقعة واسعة من الأرض، وترتفع فيها المراصد الفلكية ومدارس الطب الراقية، ولم يبد منهما معارضة للعودة إلى هذه المدينة للتدريس في جامعتها إذا طلب منهما ذلك. ثم طفقا يتناقشان حول كيفية الاستفادة من الأبحاث العلمية المقبلة ولمن سيكون حق براءة الاختراعات في هذه المدينة العجيبة، ومن أين يُستورد الإسمنت لبنائها؟ وكيف تُعبّد الطرق الموصلة إليها.

لم يكن يبدو على الفتاة الإنكليزية أي اهتمام فسألتهما أن يكفا عن هذا الحديث الممل، وفعلاً قد استجابا بسرعة واعتذارا عن عدم اتباعهما "الاتكيت" في التحدّث عن موضوع يهم الجميع.

ثم استدار منذر يمازح الفتاة الإنكليزية بشكل ماجن وهي تستجيب لنكاته وغمزاته بشكل يبعث على الاشمئزاز، ولم يكن يبدو على بهجت أي تذمّر من هذا وكأنه لم يضن على صديقيه أن يتبادلا أطراف الحديث البريء.

وبينما انهمكت أنا وبهجت في مناقشة سوء فكرة الزواج بالأجنبيات، غاب كل من منذر وماري في حديث طويل يعلو حيناً ويخفت أحياناً، وتنطلق بين الفينة والأخرى ضحكات يُزعج سماعها الآذان، وانفضّ الجميع وأنا منقبض النفس موجع الفؤاد.

     

ومضت أيام وتلتها شهور وكلنا منهمك في دراسته، ومدّخرات منذر تزداد يوماً فيوماً، ومثلها أيضاً يقترب حلمه المنشود من التحقق، ومدينة العلم تكتسب أبعاداً جديدة من حيث الأهمية والاتساع في محاورات منذر وبهجت التي لا تنقطع.

وذات مرة لاحظت انقطاعاً مفاجئاً في العلاقات الودية بينهما، تلاه جفاء وصدود، تحوّل بعد ذلك إلى عداوة سافرة، واستحالت تلك الجنة الحالمة التي كانا يعيشان فيها إلى رمضاء لافحة في صحراء قلّت أفياؤها وكثرت أشواكها.

ولم يحتمل الأمر أكثر من هذا، فقصدت بهجت مرة أخرى زائراً أستطلع جلية الخبر، كان قد انقلب إنساناً آخر تماماً، وكان يبدو ساهم التفكير ترتسم على وجهه علائم الحزن والألم.

- تباً لهما ما أقذرهما!

- وما الخبر؟

- ذلك الخنزير القذر منذر.. راح يراود ماري عن نفسها حتى استسلمت له!

- لا حول ولا قوة إلا بالله.

- وليت الأمر اقتصر على هذا.. إذ أنني بعد أن علمت بالحادثة ذهبت إلى ماري وعروقي تكاد تنفجر من الغضب، فأمسكت بها وأخذت أعنفها: ألا إنك عاهرة! ألا تعلمين مدى صداقتنا ومنزلتك في قلبي؟ ويا للمصيبة! أتعلم ماذا كانت إجابتها: لقد ابتدأت بالبكاء ثم اعتذرت عن فعلتها قائلة إنها لم تتوقع أن تثير الحادثة غضبي بهذا الحد، وقالت إن منذر قد طلب منها ذلك مراراً وهي ترفض ولكنها لم تشأ أن تكسفه هذه لمرة! تصوّر العاهرة القذرة، لو أحبته لكانت المصيبة أهون، أمّا أن تتنازل عن شرفها في سبيل ألا تكسف هذا الماجن فذلك ما يكاد يطير له صوابي وينفطر له قلبي.

وقد كان المسكين يئن وهو يتكلم، وكنت أشعر أن الخنجر قد غار في قلبه إلى الصميم.

- هوّن عليك يا بهجت، ولعل هذه الحادثة قد كشفت غشاوة عن عينيك ونوّرت لك السبيل، ولعل نجاتك من براثن هذه الفتاة كانت نعمة عليك في هذه المرحلة قبل أن تتزوج منها وتنجب لك البنين والبنات، وعليك أن تتذكر دائماً قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم وخضراء الدمن. قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء".

- ومضت شهور وشهور، وتوقف الأحاديث عن مدينة العلم توقفاً تاماً، فلا مبانيها ترتفع في السماء، ولا مؤسساتها الذرية تصنع القنابل أو تزيل ملوحة البحر، بل هي قفر خلاء إلا من الغربان تنعق في فضائها والبوم يعشعش في خرابها.

- لقد بنيت مدينة العلم هذه على صفحة جريدة، وارتفعت في قلب ماجن، وتحطمت على قدمي امرأة.

- إن الشباب الماجن الراكض وراء ملذاته، لن يستطيع البناء ويكفي أمتنا أن يكفّ هؤلاء الخليعون عن تحطيمها فضلاً عن أن يبنوا مدن العلم.

تمت