ثورة النساء (2)

روايات إسلامية

ثورة النساء (2)

قصة طويلة

عبد الودود يوسف

- 8 -

سوندا حبيبتي، أريد أن أراك، قالت سامورا في الهاتف، أجابت سوندا، بعد دقيقتين سأكون عندك، عانقتها بحنان، وجلستا تتسامران في حديقة المشفى، كانت الساعة قريباً من العاشرة ليلاً.

قالت سامورا: سأتركك يا سوندا بعد أيام، لكنني لا أدري هل سأجد صديقة مثلك؟!! أم أعيش بعيدة عن كل عطف.. أرجوك هل تسمحين لي أن أتصل بك دائماً؟

نظرت سوندا إلى النجوم، وهمست: كتب علينا العذاب يا سامورا.. إن مجتمعنا الظالم لا يعرف الرحمة، لا يعرف الحنان، ولا يعرف المرأة إلا للمتعة، يلقي فيها الرجل شهوته، أو خادمة تعمل طوال العمر.

أما أن تكون ابنة محبوبة.. فلا

أما أن تكون زوجة لرجل واحد.. فلا

أما أن تكون أماً ترحم أطفالها.. فلا

أما أن تكون أختاً محترمة.. فلا

لكن هؤلاء المجرمين لا يدركون أن المرأة حين تشقى، فإنها تشقي الأمة كلها، إنها هي التي تلد اللقيط، وهي التي تهمل الابن، وهي التي تسعى خلف العشيق بعيداً عن الزوج.. لكنهم لا يريدون أن يفهموا.

بكت سوندا.. وطفرت الدموع من عيني سامورا.. ومرت ساعة كاملة وهما تبكيان بصمت..

قالت سامورا: لا ينفع البكاء يا سوندا، وكيف نغيّر هذا الوضع يا سامورا؟.. الظلام دامس.. قاطعتها سامورا: أنا أعاهدك أن لا أعاشر رجلاً إلا إذا كان زوجاً.. وإن تزوجت فسوف أشترط عليه أن أنجب له أطفالاً.. وأن أعمل خارج بيتي ما دام عملي لا يتعس طفلي وزوجي، فإذا سبب لهم إزعاجاً تركت العمل غير آسفة.. أريد أن أصبح أماً.. وأريد زوجي أن يصبح أباً.. وأريد أن يشبع أطفالي من الحنان.. قاطعتها سوندا.. كفاك أحلاماً يا سامورا.. ستموتين حتماً قبل أن تجدي لك زوجاً وطفلاً وحناناً.. أقول لك: من الأفضل أن نعيش كما يعيش الناس.. ونرضى بما يرضونه.. حتى لا نتعس مرتين.. مرة حين يتعسوننا ومرة ثانية حين نشعر أننا في تعاسة.

لمع في الليل فجأة خيط من نور.. ثم سمع الجميع انفجاراً.. عميقاً.. لكن سامورا صرخت: حريق.. حريق.. صرخت سوندا: إنه في جناح الأطفال يا سامورا.. صرختا وهما تركضان.. النجدة.. النجدة.. النجدة.. وصلت سامورا إلى جناح الأطفال.. وجدت موقد الغاز قد انفجر.. وكادت النار تصل إلى شقق الأطفال.. راحت تصرخ وتولول وتنقل الأطفال من أسرتهم.. اشتغل جميع العاملين في المشفى بإطفاء النيران.. وأخرجت سامورا وسوندا جميع الأطفال إلا شقة واحدة فيها ثلاثة أسرّة قد حاصرتها النيران.. بكت سامورا.. لم يجرؤ أحد أن يقترب.. لكنها أسرعت وجلست تحت صنبور الماء حتى بللت ثيابها كلها.. اخترقت النيران.. ووصلت إلى الشقة.. لفت الأطفال الثلاثة ببطانيات غليظة وحملتهم دفعة واحدة وخرجت عابرة سور النيران.. فلما اجتازت النيران وقعت على الأرض مغشياً عليها.. حملت إلى الإسعاف فوراً.. صاحت سوندا: أنت بطلة يا سامورا.. كانت تبكي.. بكاء مراً.. كانت تشرف بنفسها على إسعاف سامورا.. بقيت سامورا ثلاث ساعات غائبة عن الوعي.. وأخيراً أفاقت.. همست كيف الأطفال؟!.. همست لها سوندا: قد أنقذتهم كلهم يا سامورا.. كلهم بخير.. فكيف أنت يا حبيبتي؟! همست سامورا: إذا كان الأطفال بخير.. فأنا بخير..

لم تدر المسكينة سامورا أن الحروق قد أصابت كل موضع مكشوف من جسمها.. وشعرها الأسود الفاحم قد احترق كله.. وكذلك عنقها.. لكن الحروق كانت عادية.. لم تمس إلا بشرتها الناعمة.. في كل أنحاء جسمها تقريباً إلا ما ستره بنطالها السحري..

ابتسمت سامورا حين أخبرتها سوندا بذلك.,. فرحت.. وفرحت.. وفرحت.. حتى نسيت جميع ما أصابها من حروق.

أسفت بعد تسعة أيام أشد الأسف حين غادرت سريرها ورأت في المرآة أن شعرها الفاحم قد التهمته النيران.. أصبح شكل رأسها محزناً.. قالت لها سوندا: تضعين على رأسك شعراً مستعاراً يا سامورا ريثما ينبت شعرك الجديد.. أجابتها سامورا: لا.. سأغطي رأسي كالراهبات حتى ينبت شعري..

ناولتها سوندا بعد ساعات علبة رائعة الألوان.. فتحتها سامورا فوجدت فيها مترين من حرير متماوج الألوان.. أحاطت به سامورا رأسها.. فبرز وجهها كالبدر.. وغطى ذلك الحرير رأسها المحروق..

همست سوندا: رائع.. رائع.. أصبحت أجمل مما كنت يا سامورا.. ابتسمت سامورا ونظرت إلى تقويم الحائط وقالت: بقي لي ستة أيام حتى أغادر عملي في المشفى، قد أعود إليك يا سوندا.. لأعمل هنا وقد لا أعود.

زارها مسيو أندريه.. ومسيو جوبان.. وجميع العاملين والعاملات.. والأطباء كلهم أهدوها هدايا فاخرة..

ودّعوها جميعاً قبل يومين من انتهاء مدة عملها.. وأقاموا لها حفلاً ساهراً.. كانت نجمة بين نساء الحفلة.. بنطالها الجميل.. وغطاء رأسها الفاخر.. أحبها الجميع كراهبة متبتلة.. كانت تسمع الضحكات.. وترى الراقصين والراقصات.. لكن ما جرؤ رجل واحد أن يقترب منها.. كانت تتجول مع سوندا تعيشان حالة وداع قاس.. لقد كبرت ثلاثين عاماً في الأشهر الثلاثة الماضية..

عانقتها سوندا حين جمعت أمتعتها للرحيل.. وبكت العاملات كلهن على سامورا التي لم تتدنس.. تمنين جميعاً لو كن مثلها.. والرجال فقط كانوا يخشون منها.. ويخشون من المستقبل.. كانوا يقولون: إذا أصبح النساء كلهن كسامورا فلا متعة ولا شهوات.. بينما كانت العاملات كلهن يقلن: إذا كنا جميعاً مثل سامورا.. فسيضطر الرجال للزواج منّا.. واحترامنا.. سيختفي اللقطاء.. وتزول التعاسات من حياة الأبناء والبنات، وسنصبح من أسعد النساء..

لكن.. هل يمكن أن يتحقق ذلك؟!..

كن يتهامسن: أنا أراهن أن سامورا لن تستمر.. وتقول أخرى: لن تستطيع.. لن تستطيع.. وتكمل ثالثة: إلا إذا أصبحت راهبة.. وتقول رابعة: وإن أصبحت راهبة فهل ستنجو من الرجال؟!..

وقفت سيارة المشفى أمام بيت سامورا.. في الساعة الثامنة مساء. نزلت سوندا.. حاملة مجموعة من علب الهدايا وأسرعن نحو باب المنزل.. بينما حلمت سامورا حقيبتين وأسرعت خلفها.. وحمل السائق ما بقي من أمتعة، لم يتحرك أحد في المنزل بعد أن ضغطت سوندا زر الجرس.. كانت الموسيقى تصدح داخل المنزل.. وقف الثلاثة قريباً من خمس دقائق، دون أن يفتح أحد.. التفتت سامورا إلى السائق، وشكرته، ورجته أن يعود إلى المشفى.

غادرت السيارة المكان.,. وراحت سامورا تنظر في عيني سوندا المترعة بالدموع.. رنت سامورا الجرس مرة أخرى.. سمعتا قهقهات وضحكات بعيدة.. إنها قهقهات سانيت أمها..

ابتسمت سامورا وقالت: إنها في الداخل.. يبدو أنها في حالة نشوة.. مع عشيق مناسب.. إنها لا تسمع رنين الجرس.. تناولت سامورا جميع الحقائب والعلب، ورتبتها قرب الباب.. وجذبت سوندا من يدها وهي تقول لها: تعالي نجلس معاً في هذه الحديقة.. همست سوندا: هل تعودين معي إلى المشفى لننام في غرفتنا.. امتعضت سامورا وهمست: لا.. لا.. لا تستعجلي.. لابد أن تخرج أمي من غرفتها لحاجة ما.. عندها نرن الجرس.. فتنتبه وتفتح لنا.. همست سوندا: حسناً سنبقى إذن قريباً من هذا الباب حتى نبادر إلى رن الجرس حين تخرج أمك من غرفتها.

كانت الضحكات البعيدة تتابع.. وأنغام الموسيقى تزيد اصطخاباً.. مع صرخات رجل يغني في حالة سكر كامل..

جلستا على درج الباب تتسامران..

همست سامورا: سوندا حبيبتي.. ما العمل الذي تقترحين أن أعمل في المشفى إن رجعت إليه. اختاري لي عملاً مريحاً ومعقول الأجر؟! أجابتها سوندا: إن مهنة الغسيل بالغسالات مريحة نسبياً.. لكن أقل المهن تعباً وأكثرها أجراً هي مهنة السكرتيرة؛ سكرتيرة أي مدير في المشفى. لكنهم يشترطون أن تكون السكرتيرة قد حصلت على شهادة خاصة بالسكرتارية؛ سألت سامورا: وهل هناك معاهد خاصة للسكرتارية؟!.. أجابتها: نعم يا سامورا.. ويمكنك أن تنتسبي إلى أحد هذه المعاهد.. لكن.. (وصمتت)... سألتها سامورا بلهفة: لكن ماذا يا سوندا؛! أجابت سوندا إن مدة الدراسة تستمر سنة، وهم يطلبون رسوماً مرتفعة كشرط للانتساب؛ ثلاثة آلاف فرنك!!. اصفر وجه سامورا وندت منها صرخة أسف: آه... هذا غير ممكن.. من أين آتيهم بكل هذا المبلغ..؟!.. أشارت سوندا بيدها إشارة ضجر وقالت لكن أجر السكرتيرة بعد تتخرج أجر مرتفع جداً يا سامورا.. ألف فرنك كل شهر... قاطعتها سامورا: لكن من أين نأتي بالرسوم؟!.. عجبت سوندا لقولها.. التفتت إليها بدهشة وقالت لها: قلت من أين نأتي بالرسوم!! كأنك تريدين أن ندخل معهد السكرتارية معاً.. إنها فكرة مدهشة حقاً، كانت دهشة سامورا أشد منها.. لقد خرجت الكلمات منها من دون وعي.. وابتسمت سوندا.. وتعانقتا على قارعة الباب.. قالت سوندا: لدي في البنك ألفان وخمسمائة فرنك، وفرتها خلال السنوات الثلاث الماضية..... قاطعتها سامورا: لا.. لا.. لن آخذ منك فرنكاً واحداً... ابتسمت سوندا وهمست: لن أعطيك يا سامورا.. أفكر في حل آخر..

فجأة زاد صخب الموسيقى.. واقتربت ضحكات ناعمة من الباب.. قفزت سامورا وهي تقول: قد خرجت أمي من غرفتها، أمسكت سوندا بيد سامورا وقالت: اجلسي يا سامورا أمك الآن في حالة سكر ونشوة.. لا تزعجيها حتى لا تتصرف معك تصرفاً أحمق.. انتظري.... انتظري.. نظرت إليها سامورا.. ثم عادت وجلست قربها.. وخيّم الصمت بينهما..

رأيا من بعيد سيارة تقترب.. ثم وقفت قربها.. وقفت سوندا وحاولت أن تسرع بسامورا بعيداً.. قالت لها: إنه مسيو أندريه يا سامورا.. تعالي نبتعد.. وقفت سامورا.. لكن مسيو أندريه نزل بسرعة من سيارته وقال: مساء الخير يا سوندا.. مساء الخير يا سامورا.. وقفتا.. اقترب منهما.. وصافحمها.. شعرتا بالحرج.. لولا أن سامورا بادرت وقالت: أحببنا أن نمضي بعض الوقت في هذه الحديقة.. رنت الساعة معلنة العاشرة.. نظر مسيو أندريه إلى ساعته وقال: قد تأخر الوقت.. هل تدخلان لنسهر معاً.. شدت سامورا بنطالها، وهمست.. أتمنى ذلك يا مسيو أندريه.. عجبت سوندا.. لكن سامورا ضغطت على يدها سراً.. فابتسمت.. أسرع مسيو أندريه إلى باب البيت فوجده مغلقاً.. ضغط الجرس.. فسمع الجميع خطوات سريعة تقترب.. فتح الباب وظهر شاب يبلغ الثلاثين من العمر.. كان ثملاً.. قال بغلظة: من تريد يا مسيو؟! أجاب: سانيت.. أريد سانيت.. أصابت الحيرة الشاب.. ثم قال: إنها.. إنها متعبة.. أقصد نائمة.. نائمة.. لكن قهقهات اقتربت.. صاحت: جان.. من هناك؟!.. زاد ارتباك جان.. وهمس يبدو أنها استيقظت.. تفضلوا.. تفضلوا.. خرجت سانيت من قاعة النوم.. ارتبكت قليلاً حين رأت مسيو أندريه.. قالت: أهلاً مسيو أندريه.. أشكرك على كرمك.. هل أحضرت سامورا ورفيقتها معك.. شكراًُ لك..

أجاب المسيو أندريه والدهشة تملؤه: لا.. لا.. ألا تدرين أن سامورا وسوندا هنا..؟!.. كانتا تتسامران في الحديقة.. نظر الجميع إلى سامورا حين قالت: عفواً.. كنت مع سوندا في الحديقة نتسامر فعلاً.. وجدنا الباب مغلقاً.. فلم نرغب أن نزعج أمي.. التي ظننتها نائمة.. راح جان يتأمل سامورا باستغراب وكذلك راحت أمها تتأملها.. سأل جان: هل أنت راهبة يا سامورا؟!.. قاطعته مسيو أندريه: لو دخلنا!! أتحبون أن نرجع..؟!.. صاحت سانيت الأم: لا.. لا.. عفواً.. تفضلوا.. دخل الجميع إلى قاعة الجلوس.. بينما راحت سامورا وسوندا تُدخلان الحقائب.. همست سامورا وهي تقدم لأمها علبة فاخرة: هذه هديتي لك يا أمي. تناولت سانيت الأم العلبة وفتحتها. وجدت بنطالاً رائعاً.. همست: جميل.. مدهش. شكراً يا سامورا.. نظر مسيو أندريه إلى سامورا مستغرباً، بينما كانت سوندا تتظاهر بالتشاغل مع جان.. قالت له: سعدت بلقائك يا مسيو جان.. اقترب منها وجلس قربها متودداً.. زاغت عينا سانيت، ثم وقفت بعصبية وجلست قرب مسيو أندريه، وقالت بصوت مسموع: كيف أنت يا حبيبي. التفت جان إليها غاضباً وقال هل تسمحان لي بالانصراف. قال المسيو أندريه: لا.. لا.. لا نريد إزعاجك تعالوا نسهر معاً.. هيا يا سانيت أسمعينا مقطوعة موسيقية راقصة. أسرعت سانيت، وابتدأت الألحان تنساب صاخبة مثيرة. همست سامورا: أمي أنا متعبة، هل تسمحين لي أن أنام.؟؟.. صاحت سانيت: ولتذهب معك صديقتك أيضاً. أما أنا فسأرقص مع مسيو أندريه ومسيو جان حتى الصباح. قالت سامورا: ستزدادين حلاوة إن رقصت بالبنطال يا ماما.. فكرت سانيت قليلاً ثم قالت: لا.. لا.. إنه سيضايقني ولا شك. ألبسه وأخلعه.. ثم ألبسه وأخلعه.. لا.. لا.. لن ألبسه الليلة، وقد لا ألبسه أبداً.. ابتسم الذئب أندريه. وابتسم التيس جان.. وغادرت سامورا القاعة مع سوندا..

قالت سوندا: والآن.. هل تسمحين لي أن أذهب؟!. قالت سامورا بغضب وهي تحاول إخفاء صوتها: تغادرين؟!.. ألم نتفق أن تنامي عندنا الليلة.. ثم كيف تتركينني يا سوندا مع هؤلاء الذئاب؟!.. سيسكرون.. ويسكرون.. ويسكرون ثم سيفقدون عقولهم.. ولا أدري كيف سيفكرون بعدها.. وكيف يتصرفون..؟!.. قالت سوندا: حسناً سأبقى معك يا سامورا. دخلتا غرفة فيها سريران، أغلقتا بابها.. ثم أقفلتاه.. ثم أطفأتا المصباح.. "نامتا" بينما كانت ضحكات سانيت، وأغاني جان وأندريه تسمعان من بعيد. همست سامورا وهي تغطي رأسها: ما أوقح هذه الأغاني..؟!.. لم تعلق سوندا بكلمة، لأنها كانت تفكر فيما هو أهم من ذلك. هل تترك المشفى وتدخل معهد السكرتارية مع سامورا؟!.. قالت: إذا أصبحت سكرتيرة فقد أجد زوجاً. أما وأنا مدفونة بين الأحذية والغسيل في المشفى فالزوج مستحيل. ثم ابتسمت برضى، ثم تابعت تفكيرها: لكن كيف سأوفر لسامورا المال اللازم للمعهد.. يجب أن ندخل المعهد معاً، إذا تابعت عملي في المشفى ثلاث سنين أخرى حتى يتوفر لنا المال اللازم.. فهذا طويل سيصبح عمري كبيراً، وقد تفلت فرصة الزواج مني. يجب أن أجد حلاً أفضل. تسألت: سامورا فتاة قوية وحازمة. لماذا لا نعمل معاً حتى نوفر المال اللازم؟!.. ابتسمت وقالت: عظيم.. عظيم.. لكن في أي ميدان ستعمل مع سامورا..؟! اتعب هذا السؤال رأسها، وبقيت ساعتين تفكر كي تجد حلاً. وأخيراً نامت رغماً عنها.

          

- 9 -

دقت الساعة معلنة الخامسة.. فقفزت سوندا من فراشها كالمجنونة.. صاحت الخامسة؟!.. ابتدأ العمل دون أن أكل وألبس؟!.. فتحت سامورا عينيها فوق السرير وهي تقول: أوه.. ما أجمل الإجازة.. غطّت نفسها.. ثم راحت في نوم عميق..

نهضت سامورا بهدوء.. وخرجت من الغرفة بعد أن لبست ثياب العمل.. تفقدت البيت كله بهدوء.. ثم راحت تنظفه وترتبه.. الطاولات مشعثة.. بعضها عليه كؤوس مقلوبة، وبعضها عليه زجاجات خمر فارغة.. وصحون طعام.. بعضها على الطاولات.. وبعضها على الأرض.. وأشرطة الموسيقى مرمية بعضها على الأرض.. وبعضها على طاولة قريبة.. وبعض الثياب مبعثرة هنا وهناك.. منها بنطالان رجاليان، وقميص نسائي، وجرابان نسائيان.

أسرعت.. فوضعت كل شيء في مكانه.. ورتبت القاعة ثم مسحتها.. ومسحت الطاولات.. واقتربت من غرفتها القديمة.. لم تجد فيها سريرها.. ولا سرير أخيها بورجيه، رأت الغرفة قد تحولت إلى مستودع للخمور، لها رفوف مملوءة بزجاجات الخمر..

دخلت المطبخ وراحت تنظفه وتغسل الصحون.. وتهيئ فطوراً للجميع.. هيأت طاولة الطعام لخمسة أشخاص.. ثم عادت إلى غرفتها تسير على رؤوس أصابعها..

لم تجد سوندا في فراشها.. عجبت لذلك.. هجمت عليها سوندا من الخلف.. وتضاحكت الاثنتان كان يوماً سعيداً..

قالت سامورا: سأعمل خادمة عند أمي.. لاشك أنها أرحم من إدارة المشفى.. همست: لا أدري أين ذهب أبي!! وأين هو أخي!!

قالت سوندا: كم تقدرين أن تدفع لك أمك؟

أجابتها: سأقبل منها أن تطعمني وتؤويني.. ريثما أفكر في عمل مناسب.. لا أريد أن أطلب منها فرنكاً فوق ذلك.. إنها أمي..

همست سوندا: ما أروعك يا سامورا!! هل ترين أن ندخل معهد السكرتارية معاً؟.. لم تنتظر إجابتها بل بادرت تقول: عزمت على ذلك.. وانتهى الأمر.. وفكرت أن نعمل في عمل ما ونجمع منه بقية الرسوم لي ولك..

قالت سامورا: تعيشين في الأحلام يا سوندا؟.. أطلت من النافذة إلى الحديقة فرأت سيارة أطفال فيها ممرضة تتناول من جيرانهم طفلاً رضيعاً.. فراحت تتابع المنظر حتى تحركت السيارة مبتعدة.. ثم وقفت أمام بيت آخر على بابه امرأة تحمل بيدها طفلاً آخر.. وما زالت السيارة تنتقل من بيت إلى بيت حتى جمعت عشرة أطفال.. كانت تتابع المنظر معها.. جلست سامورا على كرسي وقالت: لقد وجدت المال اللازم لمعهد السكرتارية يا سوندا..

نظرت سوندا إليها بدهشة، لم تجد بين يديها شيئاً، قالت وهي تبتسم: وهل نزل المال عليك من السماء يا سامورا؟ كأنك نبيّة من الأنبياء؟! همست سامورا: نبيّة من الأنبياء؟! ما معنى هذا الكلام؟! لا أفهم ما تقولين.. قاطعتها سوندا لا بأس.. سأفهمك معناه يوماً.. لكن قولي لي الآن: أين المال الذي تتحدثين عنه؟!..

ضحكت سامورا لأول مرة منذ ثلاثة شهور، وقالت: سأفاوض أمي أن تفتح في بيتها هذا دار حضانة تؤدي فيها خمسين طفلاً من أطفال الحي. قفزت سوندا وصاحت: فكرة مدهشة، قاطعتها: كم تأخذ دور الحضانة أجوراً عن كل طفل في الشهر؟! قالت سوندا بحماس: عشرين فرنكاً، مع تكاليف الطعام وأجور السيارة. أما أجور السيارة فيأخذها صاحب السيارة لأنك لا تمتلكين سيارة. قالت سامورا: لا.. إن أمي تملك سيارة.. انظري إليها. نظرت سوندا إلى الحديقة فرأت سيارة صغيرة. تابعت سامورا: عظيم.. عظيم. ستقود أمي السيارة، وأتناول أنا الأطفال، ثم ننقلهم إلى بيتنا، وأعتني أنا بهم.. ضمتها سوندا إلى صدرها بعنف، فشدّت سامورا بنطالها، ولما رأت سوندا ذلك منها.. نظرت إليها بدهشة، ثم ضحكتا معاً ضحكة رائعة..

قالت سامورا: والآن تعالي ندرس أين سنضع أسرة الأطفال، حتى تكون فكرتنا واضحة تماماً، لا تثير عند أمي سانيت أي اعتراض..

سألت سوندا: كم غرفة في بيتكم يا سامورا؟ أجابتها: أربع غرف عدا قاعة الرقص وغرفة النوم التي تلاصقها. قالت سوندا: حسناً تعالي نشاهد الغرف الأربعة.. رأتا غرفتين كبيرتين، وغرفة صغيرة قربها مطبخ، وغرفة أصبحت مستودعاً للخمور. قالت سامورا: إنها كانت تنام فيها مع أخيها بورجيه.

اتفقتا أن الغرفتين الكبيرتين تتسع كل واحدة منهما لعشرين سريراً ويمكن أن توضع عشرة أسرّة في الغرفة الصغيرة مع خزانة الألبسة وزجاجات الإرضاع.

كانت الغرف الثلاثة تطل على الحديقة، تدخلها الشمس حتى الظهر، وهن فارغات إلا من بعض عفش البيت وأدواته المعطلة، مع خزانة ألبسة أبيها وأخيها، وثيابها هي، وثياب أمها العتيقة والمهجورة.

          

- 10 -

تناول الخمسة طعام الإفطار، وغادر مسيو جان ومسيو أندريه البيت، كانا قد أصبحا صديقين حميمين بعد تلك الليلة الحمراء المشتركة. اتفقا أن يعودا إلى بيت سانيت الأم بعد يومين على الأبعد.. ليسهر الثلاثة معاً.

سألت سانيت الأم: ماذا ستعملين يا سامورا؟! هل وجدت عملاً. لا أستطيع الإنفاق عليك؟!

ارتجفت سوندا من المفاجأة، ما كانت تتوقع أن تكون الأمهات على هذه الشاكلة، إنها معذورة، لأنها لقيطة.. لم تعرف أماً ولا أباً..

ابتسمت سامورا وقالت: سأجعلك تربحين الكثير من المال يا ماما.. فما رأيك؟ انتبهت سانيت الأم بعنف ولانت جلستها وسألت: وكيف ذلك يا سامورا؟ أجابتها: تعلمين أنني قد عملت في رعاية الأطفال في المشفى.. لقد أتقنت هذا العمل بشكل ممتاز.. قاطعتها حسناً.. تابعت سامورا: علمت أن دور الحضانة تأخذ عشرين فرنكاً على الأقل عن كل طفل.. دون أجور السيارة وثمن الطعام!! همست سانيت: فكرة رائعة.. لقد كبرت كثيراً يا سامورا.. ابتسمت سوندا.. وتابعت سامورا: إن خمسين طفلاً يدفعون ألف فرنك.. وأجور السيارة خمسمائة فرنك.. ويتوفر لنا من ثمن الطعام الذي نشتريه بالجملة سبعمائة فرنك أخرى.. فيمكن أن نقول أن الربح سيكون ألفين من الفرنكات.. إذا اعتبرنا أن تكاليف السيارة ستكون مائتي فرنك في الشهر.. فما رأيك؟! هتفت سانيت الأم: عظيم.. عظيم.. لكن كم يكلف ثمن الأسرّة والفرش وثمن الزجاجات. والأدوات اللازمة.. أجابت سوندا: لن يكلف ذلك أكثر من خمسة آلاف فرنك، يمكن أن تدفع تقسيطاً..

قاطعتها سوندا: فإذا اتفقنا أن تأخذ سامورا النصف، وأنت يا سيدتي النصف فيكون ربحكما عظيماً..

أجابت سانيت الأم: قبلت بشرط أن لا تأخذ سامورا خلال الأشهر الثلاثة الأولى فرنكاً واحداً حتى ندفع ثمن التجهيزات.. وبعدها تأخذ نصف الربح..

هتفت سامورا: أنا موافقة.. تعالوا نكتب عقداً لمدة ستة أشهر بهذا المعنى.. لنجرب ما سيجري معنا.. كتبت سوندا العقد.. وقالت: سأسجل هذا العقد في سجلات المخفر.. فما رأيكما؟ وافقت سامورا.. ووافقت سانيت الأم لأنها رغبت أن لا تغير سامورا رأيها.. وفعلاً تم تسجيل العقد في مخفر شرطة الحي.. فأصبح المخفر ضامناً لتنفيذه..

          

- 11 -

وزع الثلاثة دعوة مطبوعة على بيوت الحي.. وتم التعاقد مع أهل خمسين طفلاً.. واشترت سوندا و سامورا التجهيزات اللازمة.. وغادرت سوندا البيت في اليوم التالي وهي في غاية الفرحة، إنها ستدخل مع سامورا معهد السكرتارية بعد ستة شهور أو سبعة..

مضت الشهور الثلاثة الأولى بسلام عرفت سامورا خلالها أن أباها يعاني من أزمة مالية.. وعلمت أن أمها سانيت قد طردته من بيتها الذي ورثته عن أبيها على أمل أن يقطع علاقاته مع عشيقاته.. لكنه كان قد ملّ هو من عشاقها.. فترك البيت.. وأمها سانيت لم تأسف عليه. أما أخوها بورجيه فقد حزن على فقدان أبيه وأخته، فطردته أمه من البيت بحجة أنه قد أصبح له من العمر ثمانية عشر عاماً وأصبح مسؤولاً عن نفسه. زار أخته سامورا، وزار أمه، ورضي أن يكون سائقاً لسيارة أمه التي تحمل أطفال الحضانة، من بيوتهم إلى بيت سانيت، مقابل أن تعطيه أمه ثلاثمائة فرنك في كل شهر أجراً، مع طعامه، كان يتابع دراسته في قسم الأديان في الجامعة.

أخبرتها سوندا أن معهد السكرتارية قد قبل طلبهما مشروطاً برؤيتهما في مقابلة اختبارية أمام لجنة قبول السكرتيرات في المعهد.

          

- 12 -

كانت أمسية رائعة حينما قبضت سامورا أول ألف فرنك في نهاية الشهر الرابع: قبلتها سوندا ألف قبلة.

عجب بورجيه أخوها، لماذا تأخذ ألف فرنك؟ همس في أذن أمه لماذا تأخذ سامورا أخته نصف الأرباح.. لو أحضرت ممرضة بدلاً منها لرضيت منك بخمسمائة فرنك في كل شهر، العمل لا يزيد عن أربع ساعات كل يوم، طاش صواب سانيت الأم وقالت في نفسها: صدق بورجيه، استدعت سامورا وصرخت بها: سامورا إما أن تقبلي بخمسمائة فرنك كل شهر أجراً، أو أطردك من بيتي. بكت سامورا وقالت: لكننا اتفقنا هكذا يا أمي، أريد أن أجمع قسط المعهد خلال الشهور الثلاثة التي اتفقنا عليها. صاحت بها أمها: أنا لا أعرف، أنت مخادعة، إما أن تقبلي بخمسمائة فرنك راتباً كل شهر، أو أطردك. وتدخلت الشرطة وأجبرت سانيت الأم على إتمام عقدها مع ابنتها سامورا لمدة ستة أشهر بالشروط السابقة، وما إن انتهت الشهور الستة حتى قبضت سانيت الأم على عنق سامورا وقالت لها: ها قد صار معك ثلاثة آلاف فرنك، اخرجي من بيتي. قالت لها سامورا وهي تجمع ثيابها: والله لو لم أكن بحاجة لهذه الآلاف لدخول معهد السكرتارية لأعطيتك إياها كلها يا أمي. صرخت بها أمها: كاذبة.. كاذبة.. اخرجي من بيتي.

خففت سوندا عنها، وقالت لها: لا بأس.. غداً سنبدأ الدوام في المعهد، سننام هناك، ونأكل لمدة سنة كاملة، وقد نجد عملاً نملأ به ما لدينا من وقت. أجابتها سامورا: لكنهم لم يقبلونا بعد يا سوندا!! قد يرفضوننا، قاطعتها سوندا: لا.. لا.. إنهم يشترطون أن لا تدخل المعهد إلا الجميلات، ولن يروا أجمل منك. أما أنا فمقبولة. ضحكت سامورا وشدت بنطالها، وضحكت سوندا معها من كل قلبها، وفعلاً رأت سامورا على باب المعهد حين دخلته لافتة مكتوب عليها: عفواً، نرجو من غير الجميلات ألا يتقدمن لمعهدنا.. شاع في نفسها أسى بالغ..

قالت لسوندا: مسكينات غير الجميلات.. كيف يعشن؟! المعاهد لا تقبلهن، والرجال لا يقبلون عليهن، فليس أمامهن كي يعشن إلا الأعمال الشاقة طوال العمر، مع الحرمان من كل عاطفة احترام أو حب.

          

- 13 -

راح رئيس لجنة المقابلة في معهد السكرتيرات يتفرس في سامورا طولاً وعرضاً، رأته ذئباً كبيراً. قال لها: لماذا تضعين هذا الغطاء على رأسك يا سامورا.. هل أنت قرعاء؟! فكّت سامورا غطاء رأسها، فظهرت خصلات شعرها الفاحمة التي كانت تنسدل كالليل على وجهها الأبيض وعنقها الناعم قالت: أصابني حريق، فذهب بشعري، فصرت أغطيه حتى ينمو ثم اعتدت على غطاء الشعر هذا.. إنني أشعر بألم في رأسي كلما خلعته، وسوف أستشير طبيباً من أجل ذلك..

لكن أعضاء اللجنة كلهم ما كانوا يفهمون من كلمتها أي حرف.. كانوا يتأملون خصلات شعرها الفاحمة.. كأنهم لم يروا في حياتهم شعراً.. عجبت سامورا.. من رئيس اللجنة حين مدّ يده يريد أن يداعب شعرها.. فابتعدت كأنها لسعت. فانتبه من غيبوبته.. بينما كان أعضاء اللجنة كلهم يتنحنحون.

قبل رئيس المعهد سامورا في معهده.. كما قبل سوندا.. وأعطاهما غرفة نوم واحدة.

لم تنس سامورا نظرات أعضاء اللجنة إلى شعرها وعنقها، فكرت طويلاً، هؤلاء ذئاب يجب أن لا يروا شيئاً من المرأة على الإطلاق.. كل شيء فيها يثيرهم.

كانت حفلة بداية العام ذلك اليوم، كان الأساتذة يصافحون المقبولات واحدة واحدة، ابتدأت الموسيقا تصدح، وراح الجميع يرقصون ويسكرون، وانتحى كل أستاذ بمن أعجبته من فتيات المعهد.

كانت سامورا تكاد تختنق ألماً على أولئك الفتيات، إنهم يلعبون بهن.. وهن مسرورات.. وكانت سوندا تخفف عنها من آلامها، ثم جرتها إلى حديث عن آمالها في الحياة المقبلة. همست سامورا: كم أتمنى أن يكون لي زوج أحبه ويحبني.. ابتسمت سوندا وقالت: ستكونين أعظم عاشقة في الدنيا، رأتا رجلاً وسيماً في الثلاثين من عمره يقترب منهما. خفق قلب سامورا له، واحمر وجهها، قال لها: هل تسمحين أن أجلس معكما. ترددت سامورا وأسرعت سوندا تقول: تفضل يا دكتور سوفان.. عجبن سامورا لكن سوندا قالت لها: مسيو سوفان، أستاذ مادة، السلوك العملي.. ألا تعرفينه يا سامورا؟ ابتسمت سامورا وراح يتأمل شعرها الفاحم نظرت في عينيه فرأت صفاء عجيباً، لم تعرف لماذا كان قلبها يخفق بعنف كلما رأت وجهه. قال: لا أحب الرقص مع فتيات المعهد. يجب أن يكون الأستاذ أباً أسطورياً لتلميذاته. هذا ما أؤمن به كسلوك عملي يجب أن يسود ما بين الأساتذة والطالبات. عجبت سامورا لما سمعت، إنها تسمع لأول مرة رجلاً يتحدث عن الأخلاق كما تؤمن بها..

انتاب سامورا قلق عجيب وهي تتقلب على فراشها. كانت صورة مسيو سوفان لا تغادر مخيلتها أما سوندا فكانت تنام ملء عينيها، ولأول مرة في حياتها.

دخلت التلميذات إلى قاعة المحاضرات. وجلست سامورا إلى جانب سوندا، ودخل الأساتذة القاعات، خفق قلب سامورا بعنف حينما دخل الدكتور سوفان إلى القاعة، حيّا الطالبات جميعاً وابتدأ بشرح بعض جوانب السلوك العملي الذي يجب أن تسلكه الطالبات. لخص المحاضرة كلها في ثلاث نقاط: الأدب الجم، ترافقه سرعة التجاوب، مع مقاومة كل ضغط، والتمتع بالحرية الكاملة، كانت عينا سامورا تقع في عينيه، فيطيل النظر إليها، وهي لا تمل من النظر إليه. أعجبها حزمه، وعلمه، وأدبه، سألته: لو ضربت لنا بعض الأمثلة عن مقاومة الضغوط مقرونة بتمتع السكرتيرة بحريتها الكاملة. أجابها: الإنسان بشكل عام يجب أن يكون مع الحق، مع الحقيقة، مع ما يؤمن به. فإن وجه إليه أحد ضغطاً فيجب أن لا يستسلم له. عليه أن يقاوم الضغط ويتغلب عليه، ليحافظ على كرامته النابعة من حريته. والسكرتيرة يجب أن تكون قد هضمت قوانين العمل، وعرفت حدود كل إنسان في محيطها، فهي أمام ذلك يجب أن تعطي كل إنسان حقه وفق ما تعرفه عن القوانين التي تنظم حياة المحيط الذي تعيش فيه. قد يخالف أحد الناس نظم هذا المحيط، ويكون صاحب سلطة، يجب أن تقف السكرتيرة أمامه بحزم، وتلزمه حدّه، ولا تخضع لضغطه.

سألها: أفهمت يا سامورا؟! هزّت رأسها وهمست: نعم، فهمت.. رأت في هذا الكلام نفسها، لقد قاومت كل ما سلط عليها من ضغوط.

سألته: كيف نصل إلى الحقيقة؟!! أجابها: بالعلم والتجربة، على كل حال الحقيقة دائماً تبعث الراحة في الوسط والنفس والعقل. إنها وضاءة نيّرة، تهفو إليها القلوب الحرّة.

سألته: هل لدى المعهد مكتبة؟! أجابها: نعم.. فيها ألوف الكتب الثمينة..

كان يتأمل شعرها طوال الوقت.. قالت في نفسها: هذا الشعر يجب أن أغطيه.

قسمت سامورا وقتها إلى ثلاثة أقسام: قسم للدراسة والمحاضرات، وقسم للمطالعة العامة، وقسم للعمل في معهد السكرتيرات، فقد طلب إليها الدكتور سوفان أن تعمل سكرتيرة خاصة لأعماله خارج دوام المعهد، وفي مبنى المعهد ذاته.

كان يبادلها الاحترام، ويعجب بذكائها العظيم، مضت تسعة شهور قرأت فيها سامورا خمسين مجلداً.

همست لها سوندا ليلة: يقولون إنك عاشقة يا سامورا؟! كم ليلة سهرت معه؟! أجابتها: لم أسهر معه أبداً.. لكنني أشعر أنه لا يغيب عني، إني أفقده في العطلة، وأشعر بالحنين إليه، وعندما أنام ينام معي، قالت لها: لكنهم يتحدثون أن له عشيقة وعشيقات، خارج المعهد. أجابتها سامورا: وقد رأيت بعضهن يترددن عليه. على كل حال لن أترك ما آمنت به، لن أقبل أن أكون عشيقة، لا أقبل أن أكون إلا زوجة، ولي شروط أخرى.

دعاها مساء ذلك اليوم إلى الخروج معه في نزهة، ركبت سيارته، وانطلقا خارج باريس، حيث الجنائن والحدائق والغابات. دخلا غابة رائعة، نزلا وراحا يتمشيان.. قال لها: كم عمرك يا سامورا؟! أجابته: بعد شهور يصبح عمري في الخامسة عشرة. قال لها: لكن ذكاءك يفوق ذكاء بنت الأربعين. ابتسمت.. سألها: هل أحببت يوماً يا سامورا؟.. أجابته: نعم أحببت. سألها ومنذ كم؟! أجابته: منذ سبعة شهور فقط. سألها: وهل يحبك من تحبينه؟! أجابته: لا أدري.. لكنني أنتظر أن يفاتحني بذلك، وسوف أطلب منه دليلاً على حبه. دهش الدكتور سوفان. وصلا إلى مقعد مريح، فدعاها إلى الجلوس فجلست: قال لها وهو يتأمل شعرها: هل تقلبين بي حبيباً؟! ابتسمت سامورا وقالت: بعد أن تبرهن لي عن صدق حبك. قال لها: حسناً.. هل تسهرين الليلة عندي؟! أجابت: لا أظن أنك تستطيع أن تقدم لي دليلاً على حبك خلال السهرة. قاطعها: حسناً، لن نسهر، وسترين الأدلة. هل تسمحين أن أمسك بعض خصلات شعرك الرائع.. أجابته: بعد أن تقدم أدلة كافية.

قبل أن يفترقا على أبواب المعهد قالت له: أعتذر عن الاستمرار في العمل معك كسكرتيرة. شحب وجهه وقال لها: ولماذا هذه القسوة يا سامورا؟!.. لكنها أصرت بلطف، وفي عينيها دمعتان لؤلؤيتان. صافحته، فأمسك يدها، فسحبتها بلطف، وودعته، ثم استدارت ودخلت المعهد. لم يخطر على بالها إلا أن عليها أن تغطي شعرها الفاتن.

عجبت سوندا في اليوم التالي، فسامورا لم تذهب إلى مكتب الدكتور سوفان، كما لم تذهب إلى المكتبة، بقيت في سريرها تضع كفيها تحت رأسها، وتنظر إلى السماء وتفكر.

حضر العشاء فلم تأكل، بقيت حتى منتصف الليل مستلقية لا تنام. عرفت سوندا ما بها، همست لها: إنه لاشك يحبك يا سامورا، لكن هل يرضى بشروطك. زوجة، وأم أولاد، تعطينهم الحنان، ويعطونك البر والاحترام؟! قلبت سامورا شفتيها، وهمست: إذن لن يراني.. ولن أراه.. تنهدت سوندا وقالت: يا ليته يقبل..

مضى شهر كامل، كان يرسل إليها الهدايا فتردها، وتكتب له عليها: ليس هذا دليلاً كافياً.

انتهى العام، وانهمكت إدارة المعهد في الإعداد لحفلة التخرج، وأرسلت الشركات والإدارات أسماء مندوبيها للحفل الختامي، وكلفتهم أن يختاروا من يريدون من السكرتيرات، دعت سوندا جميع العاملات في مشفى أندريه لحضور حفلة التخرج ووافق مسيو أندريه على منحهن إجازة لنصف يوم يحضرن خلالها حفلة تخرج السكرتيرات.

اقترح مدير المعهد أن تتضمن الحفلة اختيار ملكة جمال الدورة.. على أن يراعى أثناء الاختبار: الطول، وجمال الساقين، وجمال الوجه، وجمال الشعر، وجمال العنق والصدر.

فوجئ الجميع أثناء الحفل بسامورا تدخل وقد لبست بنطالها، وغطت شعرها بغطاء حريري مدهش ينسدل على صدرها تهامسن: هل أصبحت سامورا راهبة؟ بينما ابتسمت سوندا وابتسمت العاملات كلهن. أما الدكتور سوفان فكان يعيش قلقاً مخيفاً. بدا الهزال على وجهه، لكنه كان حازماً، كانت تشع من وراء شفتيه ابتسامة متهيبة وكأنه اليوم على موعد، توقعت منه سامورا موقفاً، لكنها لم تعرف نوع هذا الموقف.. ولم تتعب رأسها في التفكير فيه.

صفق الجميع للخريجات، وصفقوا جداً لسامورا.. هتف رئيس المعهد: لتتهيأ السكرتيرات لانتخاب ملكة جمال الدورة. شعرت سامورا بالتقزز حين قال رئيس المعهد: من كانت تلبس بنطالاً أو غطاء رأس فلتخلعه، أقصد سامورا وسوندا وهامونيه. صمت الحفل كله حين رأوا وجه سامورا يتلون بالغضب، ثم سمعوها تصرخ:

- لا.. لا أريد أن أكون سلعة رخيصة للعرض.. أرفض أن أشترك في حفلة الانتخاب، ولن أخلع بنطالي.. ولن أرفع غطاء رأسي..

عجب الناس كلهم لهذا الموقف، لكن المفاجأة كانت أضخم حين تقدم الدكتور سوفان إلى وسط القاعة وصاح: أعلن طلبي لسامورا زوجاً لي، فهل تقبل؟!. أصبحت القاعة هي السكون بذاته، وكادت أصوات القلوب تسمع.

ابتسمت سوندا، وصفقت هامونيه، وصفق الحفل كله بعدها، إلا رئيس المعهد لكن المفاجأة كانت صاعقة على الدكتور سوفان حين قالت سامورا: أرفض عرض الدكتور سوفان إلا إذا وافق على شروطي كلها.

تساءلت العاملات كلهن: وما شروطك يا سامورا؟!..

بكت سوندا.. وهجمت هامونيه على سامورا تقبّل أقدامها..

صاح الدكتور سوفان: وصوته يرتجف: قولي شروطك يا سامورا؟! قالت وهي تشير بيدها بحماس ممزوج بالأسى العميق: أعرف أن واحداً من الرجال لن يقبل شروطي.. لكنني لن أقبل الاقتراب من رجل إلا إذا قبل بها..

- أرفض أن أعيش بلا ولد..

صاح سوفان: قبلت.. ابتسمت سامورا، وقفز قلب سوندا وتابعت سامورا:

- أرفض أن يكون لزوجي عشيقة أو عشيقات.

صمت سوفان، وأصيب قلب سوندا بطعنة لصمته، وتابعت سامورا بحزم كالجبال:

- ولن أكون إلا له وحده. ضجّت القاعة بالتصفيق..

- أريد أن أكون أماً.. أحمل الحنان كله لطفلي.. وأريد أن يكون زوجي أباً يعطي كل العطف لطفله.

بكت العاملات كلهن بكاء محرقاً. وصرخ بعضهن: ليكون الطفل سوياً، لا لقيطاً.. وتابعت سامورا. أما سوفان فقد انهار:

- سأعمل.. وسأكسب المال، بشرط أن لا يتعارض ذلك مع خدمتي لطفلي وزوجي، لأنني لا أريد لطفلي أن تربيه الخادمات، ولا أريد لزوجي أن يتناول طعامه في المطاعم. أريد أن أطبخ له بيدي هاتين. إنه حبيبي الأول والأخير، فإذا لم أستطع أن أحمل عبء البيت، وعبء العمل، فسأترك العمل لأتفرغ لسعادة زوجي وأولادي، وعلى الزوج أن ينفق علينا جميعاً.

تلوّن وجه دكتور سوفان بالأسى،. وضجّت القاعة بالصرخات، بعضها يؤيد سامورا، وبعضها يلومها، انتظر الجميع موقفاً من الدكتور سوفان، وقف، فهدأت القاعة كلها.

قال: أعتذر عن طلبي، لا أستطيع تلبية طلبات سامورا. فوقعت سوندا مغشياً عليها، بينما كانت سامورا تصرخ:

- لن ترضى.. لأنك تريد أن تعشق.. تريد أن تهمل طفلك.. تريد أن تستمتع بمال زوجك.. تريد البيت محطة.. تريد لطفلك أن تربيه المربيات والخادمات..

صاحت هامونيه: أيتها النساء.. هؤلاء هم المحبون من الرجال.. إنهم ذئاب يريدون النساء فريسة للمتعة.

صرخت العاملات اللقيطات: لتنتج المرأة طفلاً ترميه في صناديق القمامة، ليعيش لقيطاً، لا يعرف حناناً، ولا يدرك معنى الأم والأب.. بكى النساء كلهن.. بينما كانت سامورا تصيح: يجب أن نعلن ثورة على هذا المجتمع الظالم حتى ينصفنا.. وإلا فسوف نهدمه.. ثم سقطت مغشياً عليها.. صرخ النساء كلهن:

- سامورا.. سامورا.. أنقذوا سامورا..

فتحت سامورا عينيها لتجد سوندا عند رأسها، والدكتور سوفان وهامونيه معها، كان وجه الدكتور سوفان شاحباً، هنأها بنجاحها في الدورة، وعرض عليها أن تعمل سكرتيرة عنده، فاعتذرت وهي ترتجف.. فغادر القاعة لا يلوي على شيء.

ضجّت باريس كلها بما جرى في حفل تخريج السكرتيرات، وأصبح اسم سامورا على كل لسان، النساء يتخذنه رمزاً لتحررهن، والرجال يعتبرونها عدوة لهم.

قفزت سامورا من سريرها وقالت لسوندا وهامونيه: أنا لن أتراجع عن موقفي فهل تريدان الاستمرار معي؟؟ صرختا معاً: وحتى الموت يا سامورا. جلسن حول طاولة ورحن يتناقشن:

سامورا: أرى أن نعمل في مكان واحد من المدينة.

سوندا: وقريباً من تجمعات النساء أكثر عذاباً في باريس.

هامونيه: اللقيطات الفقيرات..

سامورا: حسناً.. إذن قرب المشفى الذي سرقه مسيو أندريه من صاحبه..

هامونيه: رائع.. رائع..

سوندا: إننا نعرف العاملات كلهن في هذا المشفى.

سامورا: سأغيّر اسمي في مكان عملي..

سوندا: لكنهن يعرفنك يا سامورا.

سامورا: سأعمل في مكان بعيد عن الأنظار. لن أعمل في مشفى أندريه.. قد أعمل في أحد المحلات التجارية البسيطة.

سوندا: ومن سيقود العمل؟!!.

سامورا: سأظهر في لقاءات جماهيرية.. أو في أماكن العمل المزدحمة بالنساء، ولفترات زمنية خاطفة.

سوندا: كما كان يفعل الأنبياء يا سامورا؟!.

هامونيه" لا أفهم..

سامورا: الأنبياء؟!! ماذا تقصدين يا سوندا؟!!

سوندا: تقول الأساطير أن الأنبياء كانوا يحملون لواء الإصلاح.. ويدعون الناس إلى الإيمان بمبادئهم المنقذة، يظهرون ويختفون.. ولا يؤمن بهم إلا الصغار والمسحوقون والحكماء..

سامورا: دعك من هذا يا سوندا.. والآن هيا إلى العمل.. سنستأجر بيتاً واحداً..

سوندا: أنا أبحث لكل واحدة منكن عن عمل..

سامورا: اسمي أروماس.. وهو عكس سامورا..

ضحك الثلاثة.. ثم قالت هامونيه، وأنا أبحث عن بيت مناسب لنا.. وقالت سامورا: وسأبدأ أنا فوراً بوضع دراسة عن العاملات في مشفى أندريه..

استأجرت هامونيه بيتاً ضخماً فيه ثلاث غرف وقاعة ضخمة قرب مشفى أندريه، ووجدت سوندا لسامورا عدة أماكن عمل.. سكرتيرة في مجمع تجاري ضخم يؤمّه الأغنياء.. وسكرتيرة لمدير مرقص.. ومديرة لمطعم شعبي تؤمّه العاملات الفقيرات.. قرب مشفى أندريه.. فوافقت سامورا على العمل في المطعم الشعبي.

أما سوندا فقد رحب بها مسيو أندريه، ورجاها أن تكون سكرتيرة له.. وعملت هامونيه سكرتيرة في قسم الأديان في الجامعة.

          

- 14 -

عجب نساء مشفى أندريه حين رأين في جميع مصاعد المشفى.. وعلى جميع الطاولات أوراقاً صغيرة مكتوباً عليها: (عشيقة لا.. زوجة نعم..) رددن هذه الكلمات بسرور عظيم.. فوجئ النساء كلهن.. حين سمعن عاملة جميلة تصرخ في وجه مسيو جابون: كفاك إلحاحاً على أن أسهر معك.. عشيقة لا.. زوجة نعم.. فقهقه وصاح بها: أيتها المجنونة.. أتظنين أن أقبل بك زوجة أحمل عبئها.. وهؤلاء العاملات كلهن تحت تصرفي.. أختار منهن من أشاء كعشيقات؟ وقفت العاملة وقالت: أسمعتن أيتها العاملات؟.. صرخ بها مسير جابون: إن لم تسهري الليلة معي فسأطردك من هذا المشفى.. صرخت به: لست كلبة حتى أسهر معك.. صرخ بها: تريدين أن تقلدي سامورا؟! صرخت العاملة: لتحيا سامورا.. فرددن جميعاً لتحيا سامورا .. صرخ بها أنت مطرودة من عملك.. فتدخلت سوندا وصرخت: وكلنا نترك المشفى معها يا مسيو جابون.. فإما أن تبقى.. وإما أن نترك المشفى كلنا.. صحن جميعاً: سنترك.. سنترك.. تدخل مسيو أندريه وقال: لا.. لا.. لن تطرد من عملها، أما أنت يا جابون، فستنقل إلى مكان آخر.

          

- 15 -

كانت جلسة حامية بين جابون وأندريه، قال له: ويحك يا جابون.. أتريد أن تغلق مشفاي؟! أجابه جابون: ما كنت أظن أن شعارات سامورا تسيطر على النساء بهذا العنف.. سحب أندريه نفساً عميقاً من سيجارته وهمس وهو يسبح في الخيال: يجب أن نسلك مسلكاً آخر.. نحصل منه على ما نريد من النساء.. دون أن نتقيّد بقيودهن.. التفت إلى جابون وقال له: والآن.. ستعمل في القسم الخارجي للمشفى.. ولتجد لك عشيقات خارج مشفانا.. أطرق جابون رأسه.. وخرج.

بينما كان مسيو أندريه يسير بعصبية جيئة وذهاباً، طرق الباب ودخلت سوندا.. تغيّر شكل مسيو أندريه فوراً.. إنه يريد أن ينفّذ خطة ماكرة..

ابتسم ابتسامة عريضة وقال: كنت بطلة يا سوندا.. فامتلأت بالفرح.. شعرت أنه معها.. مد إليها يده، فلما صافحته، وضع يدها بين يديه.. وراح يفركها بلطف.. شعرت سوندا بالراحة بين يديه.. واهتز جسدها كله بقشعريرة ناعمة.. كان يتابع كلمته.. مدحاً لها.. كم أنت جميلة يا سوندا.. أنت رائعة.. عمتها النشوة.. همست: أحقاً أنا كذلك يا مسيو أندريه؟.. ماذا يعجبك فيّ؟ أجابها وهو يتابع فرك يدها: عيناك سحر يا سوندا.. سحر.. وطولك يأسرني. همست له وقد انتشت كالأرض العطشى هطل عليها المطر ناعماً مدراراً: تذكرت سهرتها الممتعة، فتمنت لو ضمها.. لكنها انتبهت من غيبوبتها وقالت له: عشيقة يا مسيو أندريه؟!! همس لها: لا.. لا.. أريد عشيقات.. لقد مللت التنقل من امرأة إلى أخرى.. أريد زوجة.. زوجة أرجع إليها كلما أتعبتني الحياة. عاشت سوندا في عالم الأحلام، كم تمنت أن يكون مسيو أندريه زوجاً لها.. كفاها معاناة.. إن عمرها قد كبر.. وهي لم تعرف الزوج ولا السهر منذ تركها خطيبها.. ما أحلى البيت الذي يؤويها مع زوج قادر مثل مسيو أندريه؟!..

كان يتابع فرك يدها.. وكانت هي تزداد نشوة، وكانت كلماته تهزها من الأعماق.. إنه يعدها بالسعادة في بيت هانيء.

نطق بخبث: أحبك يا سوندا.. أحبك..

لم تعرف سامورا ماذا جرى لسوندا ذلك اليوم.. كانت كلمات أندريه ترن في أذنها، وكانت تعيش في الخيال معها.. وبنشوة عارمة. نامت طوال تلك الليلة وهي تحتضن وسادتها منذ وصلت إلى البيت.

أما هامونيه فكانت تبكي هي الأخرى منذ دخلت غرفتها أول الليل.

حارت سامورا.. ماذا جرى لشريكتها؟! لم تنم تلك الليلة.. كانت تفكر.. عرفت أن هامونيه قد سقطت.. وأن سوندا في طريق السقوط.. أعدت لها عشاءً لذيذاً.. ثم دعتهما للطعام.

سألت سامورا هامونيه: ما بك يا حبيبتي؟! أجابتها: لا أستحق أن أكون معكن.. فتحت سوندا آذانها.. وهزتها رجفة حزينة: وتابعت هامونيه: إنه شاب لطيف، في كل يوم يقذفني بكلمة لطيف.. قذف في نفسي: لماذا لا أسايره.. قد يقبل بي زوجة، إنه غني، ومدرس في قسم الأديان الذي أعمل فيه، وهو جميل.. جميل.. كنت أشعر بالمتعة كلما صافحته، كانت كلماته اللطيفة تتزايد، حتى جلسنا منذ شهر لساعة كاملة، كان يحدثني فيها عن آماله وأحلامه ببناء بيت سعيد. قال لي أنه يحبني، فقلت له: إنني أحبه أيضاً، فأشعرني أنه قد حصل على الدنيا كلها..

في كل يوم كان يأتيني بقصيدة غزل، وأخيراً دعاني إلى مطعم بعيد، وأكلنا.. وشربنا خمراً معتقاً.. ورجاني أن أقبل دعوته في اليوم التالي، فقبلت، كان غزله يهز كياني، ويملأ أحلامي عذوبة ولذة، وجدنا المطعم مغلقاً، رحنا إلى مطعم آخر، فوجدناه وسخاً، قال لي: لماذا لا نتناول العشاء في بيتي؟! ترددت، لكنه قال: ونبحث معاً موضوع زواجنا.. ما رأيك؟! فزال ترددي. وذهبنا إلى بيته نتناول الطعام.. سقاني الكثير من الخمر بيديه.. وسقاني أكثر من ذلك غزلاً رقيقاً.. والموسيقى الراقصة الرائعة التي كانت تصدح كانت تدق أوتار قلبي، وتهيجني، وتكاد تقتلني. دار رأسي نشوة وطرباً.. وسيطرت عليّ الخمرة، فشربت كثيراً جداً. وبعد ذلك؟.. تلعثمت هامونيه: وبعد ذلك.. صرخت سامورا: نعرف ماذا جرى بعد ذلك.. نعرف.. عليهم اللعنة ما أمكرهم.. لمسات منعشة بالأيدي، وجلسات خلوية، وغزل مخيف، ووعود بالزواج تطرق أوتار قلوبنا المعذبة، نحن اللواتي نعاني الحرمان.. ونتوق إلى الزوج والطفل والحنان، من هنا يدخل أولئك الذئاب. صرخت تبكي: من هنا يدخلون.. إنهم يخدعوننا.. إنهم ذئاب.. ذئاب.. ولو غطوا أنيابهم بالحرير.. ولو لبسوا ثياب الرهبان..

وقفت سوندا وقالت: وأنا أيضاً كدت أسقط. وحكت لهما ما حدث معها. صرخت بها سامورا: أنت في أول الطريق.. أتذكران ما فعلت مع الدكتور سوفان حين صارحني بحبه، لقد تركت العمل معه. نعم تركته بفظاظة. بكت سامورا بحرقة.. وقالت وهي تهتز من الانفعال: أقول لكما: إنني أحبه.. أحبه.. أحبه من كل قلبي، لكنني لن أرضى به عشيقاً، زاد صراخها حتى أصبحت كالمجنونة: أحبه زوجاً.. زوجاً.. ولا أزال أحبه.. ولا أزال أحبه.. إنني لا أنساه.. ولا يغيب عن خاطري لحظة من ليل أو نهار.. لكنني لا أريد لطفلي أن يصبح لقيطاً، لا أريد أن أصبح مرحاضاً يلقي فيّ حبيبي شهوته ويمضي.. شهقت وبكت.. ثم شهقت وبكت.. أضجعتاها.. وارتفع عويلهما معها أكثر مما تظنان..

ثلاث ساعات مضت والثلاثة يبكين بكاء مرّاً، حتى كدن يمتن من شدة النواح.. دخلت سامورا غرفتها.. فدخلتا معها.. استلقت على سريرها فاستلقتا إلى جانبها.. خفن عليها.. تعبن من البكاء.. وأخيراً غلبهن النوم فنمن كالقتيلات.

كان الأسى يحيط بسامورا حين جلست مع سوندا وهامونيه على مائدة الإفطار. همست: أول العشق لمسة. وكلمة غزل.. وخلوة..

هذا حرام كالعشق ذاته. وتابعت هامونيه: يجب أن نرفض اللمسة وكلمة الغزل والخلوة، كما نرفض العشق. وقالت سوندا: ستكون حياتنا صعبة، أكملت سامورا: لكننا سنتحرر من العذاب كله.. وسنحرر الأجيال كلها من العذاب.

عجبت هامونيه حين دعاها بورجيه إلى سهرة ثانية، فلما رفضت قال لها بوقاحة: كأنك تتبعين مبادئ سامورا؟! لكنك سقطت بين يدي البارحة كالحمل يا هامونيه.. إنك ممتعة.. كيف تتركين هذا الجمال يذوي دون عشيق.. تعالي أقل لك سراً: هل تعلمين أن سامورا هي أختي؟!.. فوجئت هامونيه وكادت تصعق. تابع بورجيه: إن كنت ترينها فقولي لها أخوك بورجيه قد أصبح غنياً.. تزوجت ثرية كبيرة السن.. لا أولاد لها أصلها لقيطة.. جمعت أموالها من عشاقها.. ثم.. (تردد قليلاً.. ثم تابع) ثم ماتت.. لا أدري ما السبب؟! المهم أنها قد ماتت.. وورثت أنا أموالها.. لماذا؟ لأنني لم أتزوجها إلا بعد أن اشترطت عليها أن توصي بأموالها كلها لي.. وفعلت المسكينة.. كانت تحن إلى زوج يحميها.. ويرأف بها.. ثم ماتت.. وخرجت أنا من الموت، من الفقر.. طاش صواب هامونيه من هذا المخادع.. تساءلت كيف ماتت تلك المسكينة بعد أن أوصت له بنقودها.. لاشك أنه قد قتلها..

رأت رجلاً مسناً يقترب من بورجيه، كانت ثيابه مهلهلة. ورأسه أبيض من الشيب. لما رآه بورجيه انقلب ذئباً.. حاول أن يخفي علاقته مع هذا الرجل.. أدخله مكتبه.. وأغلق الباب.. ثم سمعت بورجيه يصرخ اخرج من هنا.. لا أعرفك.. إنك تحصد نتائج أعمالك السيئة.. أتذكر يوم تركت سامورا في المشفى ولم تدفع لها أجور علاجها.. خرج الرجل مسرعاً.. ووجهه شاحب مثل الليمون.. كان يبكي.. مر قريباً من هامونيه وهو يقول: ظلمنا أبناءنا.. والآن يظلمنا أبناؤنا.. صعقت هامونيه من الدهشة.. اقتربت منه وقالت: أنت والد سامورا؟! التفت إليها كالمذعور ولم يجبها.. عاودت السؤال: قل لي، فقد أستطيع تقديم مساعدة لك.. أجابها بسرعة: أنا والد بورجيه وسامورا.. نعم.. أرجوك إن كنت تعرفين سامورا فبلغيها سلامي.. ثم أسرع.. حاولت أن تبقيه قليلاً.. لكنه رفض.. أسرع بعيداَ ثم اختفى..

يتبع