ثورة النساء (1)

روايات إسلامية

ثورة النساء

قصة طويلة

عبد الودود يوسف

شخصيات الرواية:

سامورا: زعيمة المحررات المكرمات.

سوندا: صديقتها وشريكتها.

سانيت: والدة سامورا.

بيتان: والد سامورا.

بورجيه: أخو سامورا.

أندريه: سارق مشفى أندريه.

جابون: رئيس قسم التشغيل في مستشفى أندريه

هامونية: إحدى العاملات مع سامورا.

سوفان: أستاذ علم السلوك في معهد السكرتيرات.

وشخصيات ثانوية أخرى.

صرخت سامورا بالجموع:

زوجاً.. لا عشيقاً.

ابناً.. لا لقيطاً.. ولا يتيماً.

أماً لا خادمة ولا ملهاة.

أباً وأماً وأختاً في بيت واحد يظلله الحنان..

فهل تفهمون؟!..

          

- 1 -

كانت الشمس تميل إلى الغروب حينما كانت الأمور تتطور نحو الأسوأ باستمرار بين الفتيان الثلاثة: بورجيه من جهة. وتوتمان وبريجان  من جهة أخرى. وكانت سامورا تقف إلى جانب أخيها ضد منافسيه.. وأخيراً حدث ما خشيت منه. اختطف أخوها الكرة، وطعنها بسكين كانت معه، بعد أن أدخلها توتمان في شباكه، فربح إصابة ضده. هجم توتمان وبريجان عليه، لكنه أشهر سكينه وراح يتراجع إلى الخلف، بينما كان وجه سامورا يشتعل بالخوف عليه. أسرع بيرجان إلى حجر يريد أن يرميه به. وقفت سامورا في وجهه لتمنعه، ولكنه تخلص منها، وركض إلى الخلف قليلاً ورمى بورجيه بالحجر. كان بورجيه قد سلم ساقيه للريح فاراً، تاركاً أخته سامورا تعالج الأمر مع خصميه.

حاول توتمان أن يلحق ببورجيه، بينما أسرع بيرجان إلى سامورا. صاحت به: انتبه يا بيرجان، لست أنا خصمك، إنه أخي بورجيه. لكنه لم يلتفت إليها، أمسكها من كتفها، ورماها إلى الأرض وهو يصرخ: سأمزق ثيابك كما مزق أخوك بروجيه كرتي. وقفت بسرعة، وراحت تدافع عن نفسها. لكن توتمان – الذي رجع بعد أن يئس من اللحاق بأخيها بروجيه – أمسكها من الخلف، ثم رمى بها إلى الأرض. بينما كان بيرجان يشد ثوبها ليمزقه.

اشتعلت بالغضب، وقفت وراحت تهجم عليهما كاللبؤة. إن ثوبها لا زال جديداً، وأبوها لم يشتره لها إلا بعد سنة من الرجاء.

كان أخوها بورجيه ينظر من بعيد. كانت تناديه ليساعدها، لكن الجبان لم يلتفت إلى نداءاتها. تركها مع خصميه، فيئست من أن يساعدها، فزادت ضراوتها. ألقت ببيرجان إلى الأرض، وكادت تسحق عظامه. لكن توتمان دفعها عنه، وهرب وإياه بعيداً.

وقفت وهي تلهث، نظرت إلى ثوبها الجديد، فلم تجد فيه أي خرق. ابتسمت، لقد انتصرت. لكنها شعرت بضربة شديدة من حجر سقط على رأسها. ثم رأت تنهمر على الأرض. ثم غابت عن الدنيا.

اقترب منها أخوها بورجيه بسرعة. فلما رآها كذلك قال في نفسه: يبدو أن سامورا قد ماتت، أسرع إلى البيت، لم يخبر أحداً بما جرى، خوفاً من أن يناله عقاب أبيه.

أفاقت سامورا من غيبوبتها، فرأت الظلام مخيماً على الدنيا وقفت تريد الرجوع إلى بيتها، لكن قواها لم تساعدها. فدماؤها لا زالت تنزف بعنف. أحست برأسها كأنه جبل. صارت ترى الأشياء مزدوجة. حاولت الصراخ، لكن صوتها كان ضعيفاً. زحفت على الأرض تريد أن تصل إلى البيت قبل أن ينزف دمها كله، صاحت بكل ما لديها من قوة: يا بورجيه.. أخي بورجيه تعال إليّ. لكن بورجيه كان يشخر في فراشه كأنه خنزير. وأخيراً حانت النجاة.

سمعت سامورا ضحكات أمها من بعيد. التفتت فرأتها تغازل صديقها شاتران، ثم رأت شاتران يضم أمها بعنف. صاحت سامورا: ماما.. ماما.. أنقذيني يا ماما.. أنا هنا يا ماما. توقفت ضحكات أمها. تلفتت حولها، فلم تر في الظلام أحداً. عادت إلى حبيبها تغازله كأنها لا تريد أن يلهيها عن حبيبها أحد. لكن صرخات سامورا تكررت.

أسرع الصديق شاتران. نادته أمها: لا تلتفت إلى سامورا يا حبيبي، أظن أن هذه الملعونة تريد أن تشغلنا، إنها كاذبة. لكن شاتران لم يلتفت إلى سانيت رأى دماء سامورا فصاح: إنها صادقة يا سانيت، رأسها كله دماء. أسرعت الأم فلما رأتها غضبت، ولكنها ما كانت تستطيع إلا أن تسرع خلف شاتران الذي أسرع  بسامورا إلى سيارته. وضعها فيها، وركبت سانيت معه رغماً عنها، وأسرعا إلى المشفى لإسعافها.

مضت خمسة أيام وسامورا لا تحس بأحد، كأن رأسها لفافة من ضماد. وفي اليوم السادس فتحت عينيها فرأت أما تقبع في زاوية الغرفة، وأبوها يقبع في الزاوية الأخرى.

- اقترب منها شاتران وابتسم لها.. واقتربت منها فرانسوا عشيقة أبيها وابتسمت لها. أما أبوها وأمها فكانا يغليان من الغضب. عجبت سامورا لهما.

دخل الغرفة رجل كبير السن، يحمل في يده ورقة طويلة. اقترب من سرير سامورا ووضع الورقة في إضبارتها(1) وهو يقول: هذه ورقة حساب الجريحة سامورا. أرجو أن تدفعوا الحساب للمحاسب غداً على أبعد حد، لأن سامورا ستغادر المشفى غداً.

اقترب بيتان الأب من سرير سامورا، وأخرج ورقة الحساب من الإضبارة وراح يتأمل فيها. ثم تمتم: ألف وخمسون فرنكاً فقط. مط شفتيه، ثم التفت إلى سامورا بغضب وقال: أيتها الشقية، لا أرى منك إلا المصائب، يا ليتك مت كي أستريح منك. بكت سامورا بصمت، ثم قالت: يا ليتني مت حتى لا أزعجك يا أبي.

صاح بورجيه أخوها: إنها شريرة.. ضربت توتمان وبيرجان، فضرباها بحجر. اقتربت أمه منه وقالت له: وتعرف أنهما شجا رأسها وتتركها يا بورجيه؟!.. ارتبك بورجيه، بينما كانت شهقات سامورا تتزايد، ودموعها تملأ وجهها. غادر شاتران عشيق أمها القاعة، كما غادرتها فرانسوا عشيقة أبيها.

صاح أبوها موجهاً الحديث إلى أمها: ادفعي الحساب لابنتك، فتحولت الأم إلى مثل الوحش، وصرخت: ولماذا أدفع أنا تكاليف علاج ابنتك. صرخ بها إنها ابنتك كما هي ابنتي!!.. وأنا الآن في ضيق مالي، ادفعي الحساب أنت. صرخت سانيت الأم: لا أدفع فرنكاً واحداً، إنك تنفق أموالك على عشيقاتك، وتدّعي أنك في ضيق مالي؟!.. صرخ بها: لا دخل لك بحياتي الخاصة. لن أدفع فرنكاً واحداً. وغادر المشفى وهو يقول لنفسه: ليس من المعقول أن تتخلى سانيت عن ابنتها!!.

لكن سانيت الأم لطمت ابنها بورجيه على وجهه، وصرخت به: هيا إلى البيت، وسنرى كيف سيدفع أبوك الحساب. خرجت من الغرفة، ثم عادت إلى سرير سامورا، وأخذت قائمة الحساب من الإضبارة، وكتبت عليها: إن عنوان والد سامورا هو:

(7- شارع شارل).

يرجى الاتصال به من أجل دفع تكاليف علاج سامورا وغادرت الغرفة وهي تقول في نفسها سنرى من سيدفع التكاليف؟!.

بقيت سامورا في الغرفة وحدها، لم يبق في صدرها عويل إلا أخرجته، ولما أخذ صوت بكائها يرتفع أدخلت رأسها في أغطية السرير، وراحت تصب الدموع، وتكبت أصوات نشيجها الشديد:

أخوها تركها للموت بلؤم. وأبوها تمنى لها الموت. وأمها تركتها للعذاب.. أما العاشق والعشيقة فقد انسحبا بلطف.

امتلأت سامورا بالخوف والحزن، تساءلت: ماذا سيفعلون بي في هذا المشفى إن لم يدفع أبي وأمي ما كلفه العلاج من تكاليف؟!.. تصورت الطفلة سامورا أنهم سيحبسونها ونسيت كل شيء حين دخلت الممرضة تحمل إليها الطعام والعلاج. عجبت الممرضة، لماذا تغطي سامورا رأسها بأغطية السرير؟!. مسحت سامورا دموعها، وكشفت وجهها المحتقن بالدماء. سألتها الممرضة بلهفة: هل يؤلمك شيء يا سامورا؟!.. أين ذهب أبوك وأمك؟!.. عاد النشيج إلى سامورا.. فأسرعت الممرضة وأحضرت الطبيب الذي أعطاها حبة من دواء، فنامت سامورا، وكم تمنت ألا تفيق.

          

- 2 -

أفاقت صباحاً... لم تر أمها ولا أباها.. دخل المحاسب... قال لها: لماذا ذهبوا دون أن يدفعوا؟!! أجابت سامورا: سأدفع ما تريد.. سأدفع أنا ما تريد.. ابتسم المحاسب وقال: حسناً حسناً.. ادفعي الآن.. أجابت: لا.. لا.. سأدفع بعد أن أشفى.. سأعمل ثم أعطيكم....

سألها: وأين ستعملين..؟!.. أجابته: في أي مكان تريدون.. أجابها: حسناً.. سأسأل مدير التشغيل إن كان لديه عمل يوكله إليك.. على كل حال أنا موافق على هذه الفكرة يا عزيزتي.. لا تشغلي بالك بالتكاليف.. أنت صغيرة.. قاطعته: لا.. لا.. أنا كبيرة.. عمري يزيد عن عشر سنين بثلاث سنين.. لست صغيرة.. قال: وهو يغادر الغرفة حسناً.. كما تريدين يا صغيرتي سامورا..

وبعد ساعة دخل إليها شاب وسيم، سألها: أنت سامورا..؟.. ماذا تجيدين من الأعمال.. أجابته: أجيد الغسيل والكي ومسح الزجاج.. ثم إني ذكية.. فأنا الأولى في مدرستي.. يمكنك أن تكلفني بما تريد.. وسترى أنني أتقن كل ما تريدني أن أعمله. تفرس الشاب فيها كوحش.. ثم ابتسم وقال: حسناً.. ستعملين عندنا في كي الثياب.. ثلاثة شهور.. مقابل تكاليف علاجك.. وستأكلين ما يأكله بقية الموظفين من أمثالك.. وسنهيئ لك مكاناً للنوم يناسبك.. هل تقبلين؟!.. أجابت سامورا: قبلت.. قبلت.. فأعطاها ورقة وقعتها.. ثم ودعها وخرج. أكلت سامورا بشغف.. ونامت طويلاً.. فقد انزاح عن صدرها همٌ ثقيل. قالت لنفسها: سأترك المدرسة، سأعمل منذ الآن.. لست محظوظة مثل رفيقاتي اللواتي يكملن تعليمهن.. سأبدأ العمل قبل أربع سنين.. لكن لا بأس.. سأخفف عن أبي وأمي شيئاً من عبئي الثقيل. تنهدت وراحت تحلم: سأعمل وأكسب المال.. سأشتري شقة وسيارة.. وأجد لي زوجاً شهماً أنجب منه الأولاد.. وعندما سيولدون سأبذل لهم راحتي وروحي.. وسأجعلهم يعيشون في جنات النعيم.

عجبت لنفسها حين خطرت لها كل هذه الخواطر!! سألت نفسها: هل سأترك أخي وأمي وأبي؟ هل سأترك بيتي ومدرستي..؟ أجابت: يجب أن أعمل لأصبح حرّة.. يجب أن أكسب المال.. ولم تدر سامورا أن عمرها لا يزيد إلا قليلاً عن عشر سنين. فُتح باب الغرفة.. واقتربت منها الممرضة وهي محتقنة الوجه، سألتها: أصحيح أنك تريدين أن تعملي هنا؟! ابتسمت سامورا وقالت: نعم.. نعم.. أريد أن أغدو حرّة.. دمعت عينا الممرضة وقالت: لكنك صغيرة يا سامورا.. أنصحك أن تبقي مع أبيك وأمك.. وأن تستمتعي بحياة الطفولة.. إنها أحلى فترات العمر.. ولماذا تستعجلين الشقاء يا سامورا؟.. فوجئت سامورا بقولها، وعجبت لكن الممرضة لم تأبه لدهشتها، تابعت تقول لها: إن لم يدفع والدك لك تكاليف العلاج، فأنا أدفعها لك يا سامورا.. أنا أدفعها لك.. أحذرك من العمل.. إنهم الآن يخططون لسهراتك.. سمعتهم بأذني يتندرون.. فهل تسمعين.. أنا أعطف عليك يا سامورا.. عودي إلى بيتك يا سامورا.. مهما كان عذابك في بيتك شديداً، فعذابك خارجه أشد بكثير.. لم تستطع الممرضة أن تستمر.. بكت بحرقة.. أسرعت إليها سامورا ومسحت لها دموعها وقالت لها: أرجوك هل أساء إليك أحد؟.. أنا أعتذر إن أسأت إليك يا حبيبتي.. مسحت الممرضة دموعها وقالت: أنت حرّة يا سامورا.. افعلي ما تريدين.. لكنني أحببت أن أنصحك.. قبلتها من وجنتها.. وغادرت الغرفة مسرعة.

لم تفهم سامورا من كلام الممرضة شيئاً.. سألت نفسها: كيف يخططون لسهراتي.. ولماذا أعود إلى بيتي.. وأنا هنا سأكسب المال وأصبح حرّة؟.. لكن إخلاص الممرضة كان واضحاً.. تريد أن تدفع لها أجور العلاج من جيبها.. وتريدها أن تعود إلى بيتها.. لكن سامورا كانت شهمة.. ما كانت تريد أن يدفع لها أحد فرنكاً.. قالت: على كل حال.. سأعمل هنا ثلاثة أشهر.. وسأرى ماذا سيحدث.. فإن وجدت العمل مناسباً بقيت.. وإلا تركته لأذهب إلى البيت. بيت أمي وأبي؟.. دخل الطبيب ومعه الممرضة ابتسمت سامورا للممرضة، لكن الممرضة لم تلتفت إليها.. ومن خلف الطبيب ابتسمت لها وأشارت إليها أن تخفي صداقتها معها.. عجبت سامورا لذلك.. لكنها نفذت ما تريد منها الممرضة.

قصّ الطبيب أربطة رأسها.. رأى جرحها قد التأم.. قال لها: أهنئك يا سامورا.. لقد شفيت.. بعد يومين ستغادرين سريرك.. فما رأيك؟ أجابته: كما تريد يا سيدي.. سألها: لكنني لا أرى أمك.. ولا أباك؟ صمتت.. فتابع وهو يجمع أدواته: حسناً.. لا بأس.. كثير من الآباء مشغولون.. وكذلك الأمهات يا سامورا.. بأمور كثيرة.. العمل.. وكسب المال.. والبحث عن المتعة واللذة.. والسهرات.. نظر إليها مندهشاً حين قالت: قد أعمل معكم لثلاثة أشهر يا سيدي.. خشي الطبيب أن تكون لا أب لها أو أم.. فاحمرّ وجهه.. وهمس وهو يغادر الغرفة: سنسعد معك يا سامورا.. وداعاً.. وخرجت الممرضة معه.. كانت حزينة.. لم تقبل سامورا عرضها..

كانت سامورا فرحة.. إنها ستبدأ حياة العمل.. ستدخل بوابة الحياة.. ستصبح حرة.. ستملك الأموال.. ستتصرف كسيدة رغم أن عمرها لا يزيد عن ثلاثة عشر عاماً.

          

- 3 -

العمل في المشفى يبدأ مبكراً، يبدأ في الساعة الخامسة.. استيقظت سامورا قبل الخامسة بساعة.. إنها تحب العمل.. رأت زميلتها سوندا لا تزال نائمة.. إنها شابة عمرها عشرون عاماً.. قالت سامورا: أنا سعيدة.. سأستعين بسوندا.. وأكتسب منها الخبرة اللازمة.

أسرعت إلى ملابس العمل التي أعطوها إياها فلبستها.. وجلست تنتظر، سرّحت شعرها.. وغسلت وجهها.. ورأت نفسها في المرآة جميلة حقاً.. قالت: سيساعدني جمالي لأشق طريقي في أعمال ناجحة..

طُرق الباب.. ودخل شاب وسيم.. إنه رئيس المشاغل.. أندريه، اقترب منها وقال: أهلاً سامورا.. هل أنت مستعدة للعمل؟.. أجابته: طبعاً.. جلس إلى جانبها.. كان يتفرّس فيها بشكل عجيب.. تمتم: لا شك أنك ستتعبين.. لأن العمل هنا شاق.. لكن قد أجد لك عملاً مناسباً.. أجابته: شكراً لك يا سيدي.. كان يشرد وهو يتأمل عينيها.. وخصلات شعرها.. شعرت سامورا بالفرحة.. هاهو جمالها يخدمها منذ اليوم الأول، اقترب منها أكثر فأكثر.. همس لها: أين ستسهرين الليلة يا سامورا؟.. عجبت من سؤاله. إنها لم تسهر ولم تعرف السهر!! لم تجبه.. امتلأ وجهه بابتسامة ماكرة وقال: إن شئت أن تسهري معي.. فسوف أكون مسروراً جداً.. أجابت سامورا: حسناً.. سأسهر معك.. صافحها بحرارة.. وغادر الغرفة بينما كانت سوندا تتحرك في فراشها.. رنت الساعة معلنة تمام الرابعة والنصف، فقفزت سوندا من سريرها.. رأت سامورا.. فصاحت بها: صباح الخير يا سامورا.. أراك قد سبقتني.. يبدو أنك نشيطة.. أؤكد لك أن نشاطك هذا لن يستمر أكثر من شهر.. خصوصاً إذا كانت سهراتك كثيرة.. لم تجبها سامورا إلا بعد لحظات قالت لها: أرجو أن أبقى نشيطة دائماً.. قهقهت سوندا وهي تغسل وجهها.. وقالت: أرجو ذلك.. أرجو ذلك..

كانت سوندا تتأمل سامورا وهما تتناولان الطعام.. كانت مندهشة لجمالها.. قالت لها: كم عمرك يا سامورا؟.. ولم تنتظرها حتى تجيب بل تابعت.. خمسة عشر عاملً.. أليس كذلك.. لكن سامورا أجابت: بل أقل من ذلك بسنتين، وضحكت كأنها قد انتصرت.. تلوّن وجه سوندا بالشحوب.. وسألتها: ولماذا تعملين يا سامورا منذ هذه السن.. أين أبوك.. أين أمك؟.. شحب وجه سامورا وامتعضت.. فسارعت سوندا وقالت: عفواً يا سامورا.. ما قصدت أن أسئ إليك.. قد تندهشين إذا قلت لك إنني لا أعرف لي أماً ولا أباً.. فأنا لقيطة.. كمعظم العاملات في هذا المشفى.. لكنهم قالوا لي إن لك أباً وأماً.. أليس كذلك؟! ابتسمت سامورا ابتسامة صفراء وتمتمت: نعم.. نعم.. فسارعت سوندا إليها وضمتها وقبلتها وقالت لها: أهنئك يا سامورا.. فأنت أحسن حظاً منّا جميعاً.. لم تدر سامورا بماذا تجيبها.. لكنها قالت في نفسها: أبي وأمي موجودان، إنني لا أدري ماذا ينفعني وجودهما.. لقد تركاني وذهب كل منهما إلى عشيقته.. سمعت سوندا نقول لها: لا شك أنك أسعد منّا.. يا ليت لي أباً.. وأماً وأخاً.. قد يسيئون إليّ.. لكن هذا بسيط مقابل أن لا أعرف لي أماً.. ولا أباً.. ولا أخاً.. ولا أختاً.. نظرت إليها سامورا بحزن عميق وهمست: وهل نحن مجبرون على العيش إمّا بلا آباء.. أو بآباء ظالمين.. قالت سوندا: يا ليتهم يعطونني أباً وأماً وأخاً.. ثم يذبحونني.. رنّت الساعة معلنة تمام الخامسة.. فأسرعتا إلى الباب.. ووقفتا أمامه.

حضر مدير قسم الكي جابون، وقال: أهلاً سامورا.. أهلاً سوندا.. من سوء حظ سامورا اليوم أنّ المصعد معطل.. ستتعب كثيراً بنقل الغسيل من المناشر إلى غرف الكي.. لكن ما العمل؟!.. هذا حظها!.. قالت سوندا: هل أعاونها يا سيدي.. أجاب: لا بأس.. لا بأس.. لكن بعد أن تكملي عملك في تهيئة المغاسل وأدوات الأطباء.. وتلمعي سائر الأحذية.. هيا إلى العمل يا سوندا.. وتعالي معي أنت يا سامورا لأدلك على مكان المناشر.

أسرعا معاً.. سارا ربع ساعة.. كان رجلاً جاداً.. فلما وصلا إلى المناشر قال: انظري يا سامورا. هذا الغسيل قد جفّ.. يجب نقله إلى غرف الكي.. في الطابق السابع.. نظرت فرأت ألوف القطع ذات الألوان المختلفة منشورة.. قالت في نفسها: هل سأنقل هذا كله إلى الطابق السابع؟!.. همس: هيا يا سامورا.. بعد ساعة ستبدأ الكاويات بالعمل.. إياك أن تؤخريهن.. إن تأخرت تأخرن.. وإن تأخرن تأخر المشفى كله عن العمل.. على كل حال سأتفقدك كل نصف ساعة.. أمسك بيدها وقال: تعالي معي.. عجبت له.. لم يترك يدها.. بل راح ينظر إلى وجهها بدهشة.. كأنه يراها لأول مرة.. قال لها: لا تزال يدك غضة يا سامورا.. أنت دافئة.. سحبت يدها منه بلطف وقد احمرّ وجهها.. سألته بجد كيف سأبدأ العمل؟! أجابها: تطوين قطع الثياب بسرعة.. وتضعينها في هذه الصناديق.. وتنقلينها في هذه العربات.. إلى أول ذلك الدرج.. ثم تصعدين إلى الطابق السابع بعد أن تحمليها وهناك يستقبلك الكواؤون والكواءات ليأخذوها منك.. هيا إلى العمل.. ابتعد وهو يقول لها: أسرعي يا سامورا الوقت ضيق.. والعمل كثير.. على كل حال.. سآتي إليك بعد نصف ساعة..

قفزت سامورا إلى قطع الثياب وراحت تطويها بسرعة وترتبها في الصناديق.. فكرت.. وقالت لنفسها: إن طويت جميع الغسيل فقد يتأخر الكواؤون.. ويتعطل المشفى كله عن العمل.. سأطوي بعض الصناديق.. وأوصلها إلى الكوائين ليعملوا.. ثم أعود إلى الطي.. ملأت سنة صناديق وأسرعت فحملت واحداً منها وأسرعت إلى الطابق السابع.. وصلت وهي تلهث.. لكنها لم تبال.. دخلت غرفة الكوائين فلم تجد أحداً.. فرحت.. وضعت الصندوق عند إحدى طاولات الكي.. وأسرعت هابطة إلى المناشر.. وما زالت تنقل صندوقاً بعد صندوق حتى نقلت عشرين صندوقاً في ساعة واحدة..

كان العرق يتصبب من وجهها.. الذي أصبح كأنه قطعة من أرجوان لكنها كانت تريد أن تثبت لهم أنها عاملة ممتازة.. حملت صندوقاً جديداً بعد أن ملأته بالثياب المغسولة.. وراحت تركض به خارج المناشر مقتربة من الدرج: سمعت مدير قسم الكي جابون يصيح خلفها: أحسنت يا سامورا.. أحسنت.. أنت عاملة نشيطة.. هيا أوصلي الصندوق وارجعي سأنتظرك في المناشر..

امتلأت نفس سامورا بالزهو.. لقد أثبتت منذ اليوم الأول أنها عاملة نشيطة.. نسيت تعبها.. وزادت من ركضها.. عادت إلى المناشر.. وجدت هناك مديرها جابون يقف أمام صناديق الملابس، يعمل في طي الغسيل المنثور، فلما اقتربت منه. نظر إليها بدهشة.. زاد العمل من جمالها، وجهها كالبدر.. وخصلات شعرها المشعثة السوداء تأخذ بالألباب.. وتنفسها العميق بعد التعب الشديد يبرز صدرها أكثر وأكثر.. وقفت أمامه برهة.. ثم هربت منه إلى عملها.. سألها وهو يتأملها: أين ستسهرين الليلة يا سامورا؟.. أجابته: دعاني مدير التشغيل إلى السهر معه.. اقترب منها وهمس إياك أن تستسلمي له. إنه ماكر خبيث.. لم تفهم سامورا شيئاً.. سألها: وغداً.. هل تسهرين معي يا سامورا؟.. عندي شريط لأغنية جديدة رائعة.. سنرقص على أمتع الألحان.. ماذا تحبين من الشراب يا سامورا لأحضر لك؟!.. لم تجبه بحرف.. تابع: أعرف أنك صغيرة.. وغير مجربة.. لكنني لست ذئباً.. لم تجبه.. لأنها لم تفهم كلمة من كلامه.. كل الذي فهمته أنه يدعوها إلى سماع أغنية جديدة.. ويريدها أن ترقص عنده على أنغامها.. وهي تحب الرقص.. وتحب الأغاني.. قال لها: سأحضر لك شراباً رائعاً.. خمراً معتقاً منذ عشرين سنة.. ما رأيك يا سامورا؟!! سال لعابها.. إنها تسمع عن الخمر لكنها لم تتذوقه في حياتها الطويلة مرة واحدة.. إنها تشرب الرديء من الخمر الذي كان أبوها يحضره إلى البيت.. إنها دعوة رائعة.. ستشرب الخمر المعتق كما يشربه الملوك وأصحاب الملايين.,. ابتسمت، وقالت بدلال: سنسهر غداً في شقتك.. عجبت له حين أسرع إليها يصافحها بحرارة.. كان يحاول أن يضمها.. لكنها هربت منه.. حملت صندوقاً من صناديق الغسيل وأسرعت إلى الدرج مهرولة بينما كان جابون يتابع خطواتها مسروراً، ونفسه تثور بألف ذئب وألف ثور وتيس.. كان شيطانه يقول له: إنها تستحق عشرين زجاجة من خمر معتق.. لكن كيف العمل حتى لا يصل إليها مدير التشغيل أندريه؟!.. قال في نفسه: إذا أنا أتعبتها في العمل اليوم فسوف لا تستطيع السهر.. لذلك قد تعتذر.. أما غداً فلن أدعها تعمل أي عمل.. حتى تكون مستريحة.. وهكذا تسهر معي حتى الصباح.. خرج من المناشر وهو يغني: ما أحلى السهر.. مال أحلى السهر.. ما أحلى السهر..؟!

          

- 4 –

كاد التعب يقتل سامورا عندما رنت الساعة معلنة الثانية عشرة.. همست: عملت حتى الآن سبع ساعات.. لكن جسمها كان محطماً.. لقد صعدت إلى الطابق السابع سبعين مرة ثم نزلت.. وقف العمل كله.. وذهب العمال إلى المطعم ليتناولوا طعام الغداء.. ويستريحوا بعدها في غرفهم نصف ساعة..

دخلت المطعم.. فالتفت إليها العمال والعاملات كلهم.. سمعت سوندا تناديها: سامورا.. تعالي إلى هنا.. أسرعت سامورا إليها.. وراحت تتناول طعامها كالبرق.. إنها متعبة.. وتريد أن تستريح شعرت بوطأة العمل المرهق منذ اليوم الأول.. أكلت نصف طعامها.. وقامت مسرعة إلى غرفتها.. شدتها سوندا إلى كرسيها وقالت: كل طعامك يا سامورا.. إن عملك متعب.. إنك بحاجة إلى الطعام حتى لا تمرضي.. نظرت إليها بامتنان.. لكنها تركتها وقامت متثاقلة تريد أن تذهب إلى غرفتها، فالتعب قد هدّها هدّاً.. تناولت سوندا طعامها بسرعة.. وقامت لتلحق بسامورا.. وجدتها مطروحة كالميتة على سريرها.. إنها تئن من التعب.. اقتربت منها وقالت: يبدو أنك قد تعبت كثيراً يا سامورا.. لكن هذا اليوم هو يوم شاذ.. فالمصعد معطل.. ولو كان غير معطل لكان العمل مريحاً.. جلست على سريرها وراحت تتأمل وجهها الجميل.. ثم أسرعن إلى خزانتها وأخرجت منها حبة، وملأت كوباً من الماء واقتربت من سامورا وقالت: خذي هذه الحبة المنشطة.. قد يخفّ تعبك يا سامورا.. ابتلعت سامورا الحبة مع قليل من الماء وهمست: شكراً لك يا سوندا.. أنت صديقة رائعة.. سأرد لك الجميل يوماً.. قاطعتها سوندا: سينتهي العمل في السابعة مساء.. في السابعة والنصف يجب أن ننتهي من تناول طعام العشاء، وفي الثامنة يجب أن تنامي.. أجابت سامورا: لكن مسيو أندريه قد دعاني للسهر معه الليلة.. سألت سوندا باستغراب عظيم: مدير التشغيل؟!.. يا ويلهم.. ومنذ اليوم الأول يا سامورا يريدون أن تسهري معهم.. جلست سامورا وقد هيجها استغراب سوندا فسألتها: وما المانع يا سوندا؟!.. إنهم يريدون أن يخففوا عني.. وفي الليلة التي بعدها أسهر مع جابون مدير قسم الكي.. صفرت سوندا صفيراً طويلاً وقالت: عليهما اللعنة.. احذري يا سامورا.. هؤلاء الرجال أنانيون.. لا يريدون إلا متعتهم.. إياك أن تستسلمي لهم.. أحذرك يا سامورا..

كانت سامورا تفكر في حديث سوندا.. حين رنت الساعة معلنة الواحدة تماماً.. فقد بدأ العمل من جديد.. دخل جابون إلى غرفة سامورا فوجدها ممددة على سريرها.. فابتسم وقال:

بدأ العمل يا سامورا، صاحت سوندا: علمت أن المصعد قد عاد يعمل التفت إليها جابون وأجاب: هذا عظيم لو كان صحيحاً يا سوندا.. لكنه عاد فتعطل.. عليه اللعنة ما أسوأه.. تنهدت سامورا بعمق.. كأنها تحمل فوق صدرها جبلاً من الهمّ.. أسرعت خارجة وأسرع معها جابون يلاطفها.. تابعتهما سوندا بقلق ثم صاحت: سامورا.. سنلتقي في السابعة في المطعم.. أليس كذلك؟.. أجابتها سامورا: طبعاً.. طبعاً يا سوندا.. لكن جابون همس لها: ألن تسهري الليلة مع مسيو أندريه يا سامورا.. أجابت: نعم.. نعم.. سيكون ذلك بعد العشاء يا سيدي.. أمسك بيدها بلهفة وقال: أرجو أن تتناولي العشاء معي غداً قبل السهرة.. هل يسرك ذلك يا سامورا؟ سأحضر لك طعاماً رائعاً.. سحبت يدها منه بلطف وهمست: لا بأس إن كنت ترى ذلك..

وصلا إلى المنشر.. فضحك جابون وقال: لقد انتهى العمل في المنشر يا سامورا.. ستوزعين الصناديق التي كواها الكواؤون من الطابق السابع على أقسام المشفى.. وتستلمين الثياب الوسخة وتوصلينها إلى قسم الغسيل.. هيا.. إن شعرت بالتعب فسوف أرسل لك من يساعدك.. تركها.. وذهب..

كان يقول في نفسه: لقد عطلت المصعد بعد أن أصلحوه.. لتهلك سامورا من التعب.. لا أريدها أن تسهر مع مسير أندريه الليلة.. يجب أن لا يسبقني إليها أحد.. بينما كانت سامورا تصعد الدرجات بخفة لتنجز عملها المطلوب.

فوجئت حين رأت سوندا خارجة من المشفى.. عجبت لها.. وتساءلت: إلى أين هي ذاهبة.. أحست بالقلق.. إنها الوحيدة التي تعطف عليها.. أما الآخرون فينظرون إليها نظرات شرهة عجيبة.. وبعضهن ينظرن إليها بحقد.. لم تعرف لماذا.. كانت تحمل صناديق الملابس المكوية بسرعة.. كانت العاملات يبتسمن ويقلن: هذه المسكينة ستندم على ما تبذله من جهد.. أما هي فكانت قلقة لغياب سوندا.. كانت كلماتها الحلوة تطربها إنها تواسيها حين تتعب.. قالت مع من سأتناول طعامي اليوم في هذا المكان الغريب.. ومن سيخفف عني من تعبي في الساعة السابعة والنصف.. قلقت، وحزنت.. لكنها طارت من الفرح حين رأت في الساعة السابعة سوندا تدخل المطعم.. أسرعن إليها وسلمت عليها بحرارة.. فرحت سوندا واقتربت من أذنها وقالت لها: أتيتك بهدية رائعة يا سامورا.. ستفرحين بها لا شك.. عجبت سامورا.. وزاد فرحها.. إنها لم تعرف مثل هذا العطف حتى من أمها وأبيها..

ارتجفت من الانفعال حين ذكرت أمها وأباها.. لكنها قالت لنفسها: وداعاً يا أبي.. وداعهاً يا أمي.. قد لا ألقاكما أبداً.. لكنها عجبت لهذا الخاطر الذي خطر لها.. لم تفق من خيالاتها إلا حين سمعت ضحكة سوندا، انتبهت فسمعتها تقول لها: لماذا لا تجلسين يا سامورا.. نظرت حولها فرأت جميع الرجال والنساء ينظرون إليها.. فاحمر وجهها خجلاً وجلست قرب سوندا مسرعة.. تناولت طعامها ببطء.. عرفت أن نصيحة سوندا كانت لها غالية.. فقد شعرت بالجوع الشديد طوال الساعات السبع الماضية لأنها لم تأمل طعاماً كافياً.. التهمت جميع ما أعطوها من طعام.. ابتسمت سوندا وفرحت بسامورا الذكية ثم قامت معها إلى غرفتهما المشتركة..

تمددت سامورا على سريرها بينما أسرعت سوندا إلى خزانتها، وأخرجت منها علبة رائعة الألوان.. اقتربت من سامورا وقالت لها: هذه هديتي لك يا سامورا..

كادت سوندا تصعق من الدهشة حين قالت سامورا: أهي لعبة يا سوندا.. كم أتمنى أن تكون لي عروس ألهو بها..

انهمرت الدموع من عيني سوندا وهمست لنفسها: ألا لعنة الله على هذا المجتمع الذي أجبرك على العمل منذ طفولتك.. كان يجب أن تلعبي في بيتك.. لا أن تكوني عاملة في أكثر الأعمال تعباً.

عجبت سامورا لها: أسرعت إليها وقالت: هل أحزنتك يا حبيبتي.. لم أقصد ذلك يا سوندا.. سامحيني يا سوندا.. ابتسمت سوندا وقالت: عفواً يا سامورا.. تذكرت أنني لقيطة، فتمنيت أن يكون لي أب وأم وأخوات.. فبكيت..

التفتت سامورا.. ونظرت إلى النافذة.. وهمست: وما فائدة الآباء والأمهات إن كانوا لا يسألون عن أبنائهم وبناتهم.. ولا يدفعون لهم تكاليف العلاج؟!..

اقتربت منها سوندا وهمست والدموع تنحدر من عينيها: لا تحزني يا سامورا.. كفاك من التعب.. إننا كلنا مظلومات في هذا المجتمع الملعون..

التفتت إليها سامورا وراحت تمسح دموع عينيها ودموع سوندا.. ضمتها سوندا إلى صدرها وهي تقول لها: حبيبتي سامورا.. إياك أن يخدعك الرجال.. إنهم لصوص وشياطين وذئاب.. وأنت صغيرة.. وحلوة.. تعالي لأعطيك هديتي.. تعالي.. تعالي يا حبيبتي..

تناولت سوندا العلبة التي أخرجتها من خزانتها.. واقتربت بها من سامورا التي كانت تفكر: يخدعني الرجال؟! هم لصوص وشياطين وذئاب!! لا أفهم معنى هذا الكلام.. بقيت سوندا أمامها لحظات دون أن تنتبه إليها سامورا.. كادت سوندا تبكي من جديد.. ظنت أن سامورا لا تريد هديتها.. كادت تتهاوى على الأرض.. لكن سامورا انتبهت فجأة.. وتناولت العلبة منها وهي تعتذر.. فرحت سوندا.. وفكت سامورا شرائط العلبة.. وفتحتها.. وجدت فيها بنطالاً رائعاً.. طارت من الفرح وهي تقلبه وتنظر إليه.. قالت لها سوندا: أتيتك بهذا البنطال.. لتلبسيه في سهرتك اليوم مع مسيو أندريه.. ولتلبسيه غداً في سهرتك مع مسير جابون.. هجمت سامورا على سوندا تقبلها.. لكنها لاحظت أن سوندا ترتجف من الانفعال.. قالت سوندا وهي تكاد تختنق: انتبهي إليّ جيداً يا سامورا.. فتراجعت سامورا وانتبهت.. رأت سوندا تتكلم كأنها راهب عتيق, قالت لها: سامورا.. إياك أن تخلعي هذا البنطال أثناء السهرة.. عجبت  وسألت: ولماذا أخلعه يا سوندا.. بكت سوندا ورددت مرة ثانية: اذكري كلامي جيداً.. إياك أن تخلعي بنطالك يا سامورا.. إن خلعته ذهبت في طريق العذاب الذي ليس له آخر.. إياك ثم إياك.. إن خلعته يا سامورا سوف يزيد اللقطاء من أمثالي واحداً.. هل تريدين أن تزيدي عدد الأشقياء؟!

بكت سامورا، وألقت بنفسها على سريرها.. وزهي تصرخ: لا أريد.. لا أريد.. لا أريد..

اقتربت منها سوندا وهمست: لقد أوجعتك يا حبيبتي.. لكنني أقول لك من جديد: لا أريد إلا سعادتك يا سامورا.. لا أريد إلا سعادتك يا سامورا.. والآن.. أرجوك أن تسامحيني.. فقد تدخلت في حياتك.

قفزت سامورا من سريرها.. وضمت سوندا إلى صدرها وقالت لها: أنت عظيمة يا سوندا.. سأنفذ كل كلمة تقولينها لي.. رغم أنني لا أفهم ما تقولين..

لبست سوندا ثيابها وقالت: سأخرج لألقى خطيبي.. وسأترك لك الغرفة حتى إذا جاء مسيو أندريه وجدك لوحدك.. هيا البسي ثيابك.. والبسي بنطالك أولاً.. وقبل أن أذهب..

غسلت سامورا وجهها.. ويديها ورجليها.. ولبست ثيابها.. ولبست بنطالها.. عندها ودعتها سوندا وذهبت إلى خطيبها الذي ينتظرها.. قالت لها وهي تخرج: يجب أن لا تطول سهرتك يا سامورا.. سألقاك هنا في العاشرة.. فما رأيك.. أجابتها: سأكون هنا في العاشرة حتماً.. أنا متعبة.. يجب أن أنام.. حتى أستيقظ صباح الغد يا سوندا.. العمل هنا شاق جداً..

          

- 5 -

أسرعت سامورا  إلى الهاتف حين رن.. إنه مسيو أندريه ينتظرها في سيارته خارج المشفى.. أسرعت.. وركبت إلى جانبه.. وانطلقا بسيارته الرائعة..

نسيت سامورا  كل همومها وأتعابها.. حين راح مسيو أندريه يتجول بها في حدائق باريس الرائعة.. وأخيراً وصلا إلى قصره الجميل..

كان يسألها طوال الطريق عن عملها.. وكيف وجدته.. ويسألها أسئلة مختلفة.. بعضها فهمته.. وبعضها لم تستطع فهمه..

سألها مثلاً: كم لك من الأصدقاء يا سامورا.. فأجابته: لا أعرف إلا توتمان وصديقه الشقي اللذين شجا لي رأسي. لا أعرف غيرهما. ابتسم مسيو أندريه بخبث، وبدت على وجهه الفرحة، سألها: وماذا تحبين من الخمور يا سامورا؟.. أجابت: لم أشرب طوال حياتي إلا البيرة. وأنواعاً رديئة من الخمور ما أحببتها!.. ضحك مسيو أندريه وقال: ستشربين الليلة ألذ أنواع الخمور يا سامورا. فرحت وقالت: شكراً لك يا مسيو أندريه على هذا الكرم. أنا سعيدة بالسهر معك يا سيدي.

 وأخيراً دخلت السيارة حديقة (فيلا) مسيو أندريه، عجبت حين أسرع وفتح لها باب السيارة، ومدّ يده ليساعدها كي تنزل.. لكنها لم تدر لماذا تصورت كأن يده الممتدة هي يد ذئب.. نزلت دون أن تمسك يده..

شعرت بالخوف حين دخلت قصره، رأت خدّامه يبتسمون بخبث، ويتفرسون فيها كالوحوش.. سمعته يوشوش لهم وشوشات غامضة. تمنت لو كانت سوندا معها. لكنها كادت تنسى كل شيء حين بدأت الموسيقى الراقصة تصدح.. وحين كان الخدم يدورون حولها يطلبون رضاها. أُطفئت الأنوار الصاخبة، وأُضيئت الأضواء الخافتة الملونة، تمنت لو رقصت على هذه الأنغام.. وفي هذا الجو السحري الممتع.

التفتت دون قصد فرأت غرفة النوم مفتوحة.. ورأت داخلها الفرش الرائعة.. واللوحات الثمينة، وباقات الزهور التي تنضج بالعطور. تمنت لو نامت هناك.. أدارت وجهها وقد شعرت بالتعب كله..

اقترب منها مسيو أندريه، قال لها: ما رأيك في كأس من الخمر العتيق يا سامورا؟! ابتسمت ووافقت، فحمل زجاجة، وصب لها حتى تشرب، فشربت كأساً، وكأسين، شعرت بالنشوة، وتمنت أن ترقص.. فلما مدّ لها يده يدعوها للرقص وقفت معه والطرب يهزها من أعماقها، أخذ عنها معطفها، نظر إليها، ثم قبلها عشر قبلات.. كان ثملاً.. فرحت بذلك. إنه يكرمها بعمله اللطيف هذا، وأخيراً أمسك بيدها وتوجها إلى باحة الرقص رأت غرفة النوم بكل تفاصيلها.. فتمنت لو تنام.

نظر إليها مسيو أندريه من أولها إلى آخرها وهمس: حبيبتي سامورا.. هل تشعرين بالبرد.. هل آمرهم أن يوقدوا الشوفاج؟!.. إنني لا أشعر بالبرد. أجابته: وأنا لا أشعر بالبرد أيضاً. سألها ولماذا هذا البنطال إذاً؟..

يبست سامورا كقطعة من خشب، وصار وجهها مثل الشمع. ذكرت وصية سوندا لها، وشعرت بتعب الدنيا يحل جسمها، صاحت: أشعر بالتعب، أكاد أموت.. أرجوك خذني إلى غرفتي في المشفى.. أريد أن أنام.. قال لها: أهلاً بك.. تنامين عندنا الليلة.. تعالي انظري إلى غرفة نومي الفاخرة.. قالت برجاء: أرجوك.. رأسي يكاد يتحطم من الألم.. إنني مرهقة.. أجابها: كما تحبين يا سامورا.. هيا اخلعي ملابسك ونامي هنا.. تيبست مرة ثانية.. وأصبحت شاحبة كالموتى.. لكنها تحولت إلى لبؤة كاسرة.. قالت بحزم: أريد أن أذهب إلى المشفى فوراً.. وإلا قتلت نفسي.. سألها مسيو أندريه كما تحبين يا سامورا.. لا أريد أن أزعجك.. لكننا لم نسهر الليلة.. لم نرقص.. ولم نشرب.. ولم نلعب.. ولم.. ولم.. ولم.. هل تعدينني أن تسهري عندي غداً؟؟.

أجابته: لقد وعدت المسيو جوبان أن أسهر معه غداً.. انتفض مسيو أندريه وقال متصنعاً الهدوء: أنا سأعتذر لك منه.. قاطعته: لكنني أظن أنني لن أستطيع السهر طوال عمري إذا كان عملي المتعب سيستمر..

وقف بكل حزم وقال: إذاً.. لن تخرجي من هنا قبل أن نكمل سهرتنا.. أو تعطيني وعداً أن تسهري عندي غداً..

شعرت سامورا بالخوف.. تمنت لو كانت معها سوندا.. قالت له: سأسهر معك غداً.. بشرط أن تعتذر لي من مسيو جوبان.. ضحك مسيو أندريه وقال: لك ما تريدين.. واقترب منها بسرعة يريد أن يضمها ويقبلها.. فابتعدت عنه فزعة.. وفجأة رن جرس البيت..

توقف المسيو أندريه قليلاً كأنه يتساءل من القادم، بينما كانت سامورا تنظر إليه برعب.. أسرع أحد الخدم وقال: سيدي مسيو أندريه: سوندا مع خطيبها يطلبان مقابلتك.

فرحت سامورا.. وأشار المسيو أندريه أن يدخلهما.. لبس ثيابه.. وذهب لاستقبالهما، بينما كانت سامورا تسرع إلى معطفها وقبعتها..

دخلا.. نظرت سوندا بلهفة باحثة عن سامورا.. فلما رأتها.. أمعنت النظر فيها حتى تأكدت أنها لا تزال تلبس بنطالها.. همست: سيدي مسيو أندريه.. والدة سامورا تنتظرها في المشفى.. قاطعها مسيو أندريه: لو أتيتما بها إلى هنا لتسهر معنا.. أجابت سوندا: كنا نتمنى ذلك يا سيدي.. وقال خطيب سوندا: قالت أنها لا تستطيع ذلك.. وأخبرتنا أننا إن تأخرنا فسوف تذهب.. أسرعت سامورا وقالت: لا.. لا.. يجب أن أراها.. وغذاً نسهر معاً.. ابتسم مسيو أندريه بحسرة.. وقال: حسناً كما تريدين.. هل أوصلكم إلى المشفى؟!.. أجابته سوندا: لا نريد أن نزعجك.. فخطيبي لديه سيارة صغيرة..

ركبوا.. فأسرعت السيارة نحو المشفى.. بينما كانت سوندا تقترب من سامورا وتسألها: هل أصابك مكروه يا سامورا؟ أجابتها: لا.. لا.. لكنني أشعر بتعب شديد.. قاطعتها: لقد خفت عليك.. فاخترعت قصة أمك.. فأمك لم تأت لتسأل عنك.. لكنني حرصت على إخراجك من السهرة بهذه الحجة.. فهل أزعجتك يا سامورا؟!.. أجابتها سامورا: لقد شعرت بالخوف الشديد.. رغم ما رأيته من ترف في قصر مسيو أندريه.. لقد دعاني إلى النوم عنده في غرفة نومه.. ولا أدري لماذا رأيت فيه ذئباً مفترساً.. ذكرت أقوالك لي يا سوندا.. وتمنيت لو كنت معي..

وصلوا إلى غرفتهما في المشفى.. وودعهما خطيب سوندا.. وألقت سامورا بنفسها على سريرها.. بكت وقالت: يا ليت كذبتك كانت صادقة.. يا ليت أمي تزورني وتنقذني من هذا الجحيم.. ثم استسلمت لنوم عميق.. غطتها سوندا.. وأطفأت النور.. وأوت إلى فراشها لتستريح.. خنقها البكاء.. لكنها نامت رغماً عنها من عناء يوم شديد.

          

- 6 -

امتلأت سامورا بالفرح ذلك الصباح.. فالمصعد يعمل.. ومسيو جوبان قد عيّن لها زميلة تعينها في عملها.. نقلت جميع الغسيل بالمصعد.. انتهت منه وهي لا تشعر بأي تعب.. لكن جميع عاملات المشفى عجبن لبنطال سامورا الجميل.. سألتها: ألا يضايقك هذا البنطال يا سامورا؟ كانت تبتسم وتقول: بل أنا في غاية السعادة مع هذا البنطال الجميل..

قال بعضهن: يبدو أن ساقي سامورا فيهما مرض.. وهي تحاول إخفاءه بلبس هذا البنطال. لكن من رأينها البارحة أكدن أن ذلك ليس صحيحاً على الإطلاق.. أما سامورا فقد شعرت بالراحة لهذا البنطال العجيب.. كانت كلما حاولت أن تخلعه تشعر بالرعب الشديد.. ولا تهدأ نفسها إلا إذا طردت فكرة خلعه من رأسها الصغير..

كانت مسرورة جداً حين دخلت المطعم لتتناول الغداء.. فرحت بها سوندا.. رن هاتف المطعم.. وصرخ الخادم: .. مسيو أندريه يريد الحديث إليك.. أسرعت ونفسها تغلي بالخوف والألم معاً.. شدت بنطالها.. وأمسكت السماعة.. سمعته يقول: أهلاً سامورا سنسهر الليلة معاً.. أليس كذلك؟.. لقد أخبرت مسيو جوبان.. واعتذرت له.. أجابته: لقد سعدت البارحة بالسهر معك.. لكنني متعبة يا سيدي.. وأخشى أن أمرض إن لم أسترح بعد العمل فوراً.. وعلى كل حال.. الأيام بيننا.. وأنا حريصة أن أسهر معك كل ليلة.. ففي اليوم الذي أشعر فيه بالراحة سأتصل بك كي نسهر معاً.. فما رأيك يا سيدي؟! أجابها: حسناً.. أنا موافق..

كان جوبان يسمع كل كلمة.. فرح فرحاً شديداً.. قال في نفسه: لن تصل إليها ما دمت أنا جوبان في هذا المشفى، إنها لي وحدي.. سامورا لي وحدي..

مضى النهار وعادت سامورا إلى غرفتها.. جلست مع سوندا نصف ساعة تتسامران ثم راحت في نوم عميق.. ابتسمت سوندا.. وغطتها.. ولبست ثيابها.. وغادرت المشفى لتلتقي بخطيبها.. لكنها عادت بعد ساعة وهي تبكي.. حاولت أن تكتم بكاءها حتى لا توقظ سامورا.. بقيت طوال الليل تبكمي.. وأخيراً نامت رغماً عنها من شدة التعب.. فلما أعلنت الساعة تمام الرابعة صباحاً.. استيقظت سامورا.. اقتربت من سرير سوندا فوجدت وجهها محتقناً بالدماء والعرق يتفصد من جبينها.. همست لنفسها: إنها مريضة.. رفعت سماعة الهاتف وقالت: ألو.. إسعاف.. أرجوك تفضل.. سوندا مريضة جداً.. حملوها وهي تهذي.. بكت عليه سامورا.. لم تستطع البقاء معها.. حان وقت العمل.. فرحت أن المصعد لا يزال يعمل.. لكن مسيو جابون أخبرها أنها قد عينت في قسم رعاية الأطفال.. فرحت سامورا.. وذهبت مع مسيو جابون ليدلها على العمل الجديد.. قال لها في الطريق: متى سنسهر معاً يا سامورا؟ فلم تجبه بكلمة.. امتلأ وجهه بالغضب.. وقال لها أنا آسف لإزعاجك يا سامورا.. دخلا جناح الأطفال.. وقال لها: هنا سيكون عملك الجديد استقبلها مدير التشغيل مسيو أندريه وقال لها: إن مهمتك بسيطة يا سامورا.. عندك هنا مائة طفل.. يحتاجون إلى خمس وجبات طعام وثلاث مرات تنظيف.. وعندك ما تحتاجينه من أدوات.. هذه الغسالة.. وذاك الفرن.. وهذا هو الحليب.. وهنا خزانة زجاجات الحليب المعقم.. وتلك هي لفافات التغيير (الحفاضات).. وسوف تتناولين طعامك هنا إن شئت.. على هذه الطاولة.. دون أن نزعجك بالذهاب إلى المطعم.. والآن وداعاً يا عزيزتي.. أتمنى لك يوماً طيباً.. أنا بانتظار أخبارك عن موعد سهرتنا الجديد.. أتمنى أن تكون في أقرب فرصة.. ابتسمت سامورا.. وصافحته.. ودخلت لتبدأ عملها الجديد..

          

- 7 -

بكى بعض الأطفال.. فأسرعت إليهم.. لا تريد أحداً أن يبكي.. هيأت الطعام لهم وراحت تطعمهم حتى انتهت من إطعام الأطفال كلهم.. ثم راحت تغسل الزجاجات وتهيء لهم الوجبة التالية.. ما كادت تفرغ من تحضير الوجبة التالية لمائة طفل حتى دقت الساعة معلنة الثامنة.. لقد جاء وقت تنظيفهم.. وراحت تركض باذلة كل طاقتها لتنظيفهم.. مضت ثلاثة ساعات أخرى... والتعب يكاد يشقيها.. وما إن انتهت من تنظيفهم حتى أعلنت الساعة تمام الحادية عشرة.. وابتدأت وجبة الطعام الثانية.. في الواحدة انتهت.. فأسرعت لتناول طعامها.. وخلال نصف ساعة أكلت ثم جلست كي تستريح.. لكن كيف تستريح ومائة طفل يصرخون.. يريدون أن ينظفوا.. ابتدأت حملة التنظيف الثانية ثم وجبة الطعام الثالثة.. ثم جلست لتستريح بين ضجيج الصراخ والعويل.. بكت من التعب.. ذكرت صديقتها سوندا.. رفعت السماعة.. طلبتها قالوا لها لقد نامت الآن.. إنها مصابة بحمى شديدة.. إنها تهذي.. سمعوها تقول: سامورا.. احذري يا سامورا.. بكت سامورا لما علمت بذلك.. تمنت لو تذهب إلى سوندا لتزورها لكن كيف.. فالوجبة الرابعة بدأت.. والتنظيف الأخير ينتظر.. أطعمتهم ونظفتهم.. ثم أطعمتهم الوجبة الخامسة.. وهدأ كل شيء تقريباً.. الأطفال بدءوا ينامون.. اتصلت برئيس قسم الأطفال: قالت له: أرجوك أريد زيارة سوندا.. هل أستطيع ذلك؟ أجابها: كما تحبين يا سامورا لقد انتهى عملك اليوم.. أسرعت سامورا والساعة قد جاوزت الثامنة.. دخلن غرفة سوندا.. اقتربت من سريرها.. رأتها نائمة.. جلست عند سريرها.. اقتربت منها وقبلتها.. فتحت سوندا عينيها.. رأت سامورا.. صاحت بصوت واهن: حبيبتي سامورا.. كيف أنت؟.. بكت سامورا وقالت: أنا قلقة عليك يا سوندا.. ما هذا المرض المفاجئ.. بكت سوندا.. ثم مسحت دموعها وقالت: خطيبي تركني.. صعقت سامورا وسألتها: ولماذا يا سوندا؟ أجابتها: منذ سنتين ونحن يجرّب بعضنا بعضاً، لقد أعجبني.. فهو ذكي ولطيف.. وقد حملت منه.. فأنا الآن في الشهر الثالث.. لكنه هددني.. إما أن أسقط حملي.. أو يتركني.. إنه لا يريد طفلاً.. رجوته خلال الشهر الأخير كثيراً أن يحافظ على الجنين.. إنني أحبه.. إنه ولدي.. أريد ولداً.. لكنه أصر على رأيه.. وقال: إن تجربتنا لم تنته بعد.. قلت في نفسي: سأترك الأمر دون أن أفاتحه به.. لعله يغيّر رأيه.. سألني آخر مرة رأيته فيها.. ماذا ستصنعين بالجنين؟ فلم أجبه.. فلما ذهبت لأراه البارحة لم أجده.. ترك ليس ورقة يقول فيها: سوندا.. انتهت علاقتنا.. إن تجربتنا قد فشلت.. إنك رفضت أن تسمعي طلبي.. وداعاً..

كانت سامورا تجن من الحزن.. لكنها لم تُظهر ذلك خوفاً على سوندا، همست سوندا: منذ سنتين وأنا معه.. أخلصت له.. أحببت أن يكون زوجي.. وتمنيت أن يأتيني منه ولد أرعاه ويرعاه معي.. لكنه لا يريد.. يريد أن يستمتع بي دون مسؤولية.. حتى يتخلص مني متى شاء وقد حدث ذلك وتخلص مني مثلما يتخلص من حذائه العتيق.. ما أتعسنا نحن النساء وما أشقانا..

مسحت سامورا جبين سوندا وهي تقول: لا زلت شابة يا سوندا.. لا خوف عليك.. سيتهافت عليك الرجال.. إن ذهب واحد أتى عشرة..

لم تُجب سوندا بكلمة كان بكاؤها هو الجواب..

اقتربت الممرضة من سامورا وهمست: انتهى وقت الزيارات يا سامورا.. أرجوك.. ودعت سوندا.. وراحت تجر قدميها نحو مضجعها في غرفة مائة طفل.. دخلت غرفتها.. أحست بالغربة في هذا العالم الملعون.. كان صراخ الأطفال بصمّ أذنيها.

ألقت بنفسها فوق السرير.. غطت رأسها.. وراحت تبكي وتصيح من تحت الغطاء: أريد حناناً.. أريد حناناً.. أريد حناناً!! أين الحنان يا رب؟! أين الأب؟؟ أين الأم؟! أين الأم التي أضع رأسي على صدرها أين الأب الذي ينفق عليّ ويرعاني أين الأخ الذي يحميني من الذئاب.. أين.. أين؟.. أين الأوفياء في هذه الأرض؟..

رمت بغطائها.. وقامت منفوشة الشعر.. قالت: سأستريح اليوم.. سأستريح. أسرعت إلى خزانة فيها سكين.. أرادت أن تنتحر، لكنها ذكرت وهي في منتصف الطريق أن لها أباً، وأماً، وأخاً، وأنها لن تبقى في هذا المشفى إلا ثلاثة شهور. قالت: سأستريح بعد ثلاثة شهور، سأذهب إلى بيتنا لأبقى مع أمي وأبي. هانت عليها الأمور عندما فكرت بذلك، فعادت إلى سريرها لتنام نوماً هانئاً رغم صراخ الأطفال حولها والعويل.

مضى الشهر الأول، واعتادت سامورا على حياتها الشقية المتعبة، كان الرجال يحومون حولها كالذئاب، صاروا يضايقونها لأنها لم تلن لهم. وأشد ما كان يؤلمها أن سوندا دخلت قسم التوليد بعد أن شفيت، وطلبت إجهاضها، وبعد أن شفيت، صارت كالنساء الأخريات، لا ترد طالباً، ولا تستنكف عن دعوة حمراء. قالت لسامورا: لا أنصحك أن تفعلي كما أفعل، لكنني –بسلوكي هذا- قد أعثر على خطيب جديد، قد أعثر على شهم يرضى أن أكون له، ويكون لي، ويكون لنا ولد نربيه.

ومضى الشهر الثاني ومنتصف الشهر الثالث، والحياة كما هي دون تبديل..

فجأة حدث ما لم تتوقعه سامورا: رأت أمها تدخل المشفى مع مسيو أندريه شحب لونها من المفاجأة، ظنت أنها جاءت تسأل عنها، فقالت في نفسها: بعد كل هذه المدة جاءت أمي تسأل عني؟! لكن لا بأس.. تعرضت لها.. وصاحت: ماما.. أنا هنا يا ماما.. تريثت أمها قليلاً، ثم أسرعت إليها، وصافحتها بحذر، قالت لها: ماذا تفعلين هنا يا سامورا؟! أجابتها: منذ تركتموني وأنا أعمل هنا مقابل أن يعفيني المشفى من تكاليف علاجي.. عجبت الأم وقالت: ظننت أن أباك قد أخرجك من المشفى وأخذك معه وابتعد عنا.. إننا لم نره منذ افترقنا..

بكت سامورا وقالت: إنني أعيش هنا العذاب يا أمي، لقد شفيت أرجوك خذيني معك..

كان أشد الجميع عجباً هو المسيو أندريه، سأل سانيت الأم: هل هي ابنتك حقاً؟!.. أجابته بهزة رأسها: نعم.. فهمس: مسكينة يا سامورا أظنك قد شقيت في عملك.. هيا إلى ملابسك.. ثم إلى بيتك مع أمك وسأدفع أنا بقية ما عليك للمشفى.

امتعضت سانيت الأم، بينما كانت سامورا تسبح في الخيال، كانت تسأل نفسها: هل انتهى عهد الشقاء؟! لكنها نظرت إلى مسيو أندريه، رأته يحمل عيني ذئب، شعرت أنه يريد أن يقبض منها ثمن معروفه سهرات وسهرات، ونظرت إلى أمها سانيت رأتها قد ضاقت بها ذرعاً، فقالت وهي تنظر إلى الأرض: شكراً يا مسيو أندريه. سأكمل مدة عملي هنا، وأذهب بعدها إلى بيتي/، وقد أعود لكم لأعمل طوال حياتي في هذا المشفى. ابتسمت سانيت الأم. بينما كانت سامورا ترتجف من الألم، لكنها كانت تكبت دموعها بسد من ألم. ابتسمت، وقبلت يد أمها، وصافحت مسيو أندريه، والتفتت عائدة إلى عملها في محضن الأطفال.

قال مسيو أندريه: إنها عنيدة، إنني أحاول أن أرفّه عنها منذ أن بدأت عملها في هذا المشفى.. لكنها تتهرب مني، ومن غيري، كأنها ليست امرأة.. احتقن وجه سانيت الأم بالغيرة، همست لنفسها: هذه الخبيثة يركض الرجال خلفها، وتفرّ منهم، ونحن نلاحق الرجال دون أن نحظى بواحد منهم إلا بعد عناء.

أدرك مسيو أندريه ما دار في خاطر سانيت الأم، همس: سيدتي سانيت، ستكون سهرتنا هذه الليلة صاخبة، تريدينها في بيتي أم في بيتك؟!! تمتمت وقد عادت إليها روحها، في بيتك.. كله أناقة وجمال ومتعة، لن أنسى طوال حياتي سهراتي معك في ذلك البيت السحري. ابتسم مسيو أندريه وقال: أنا موافق.. بشرط أن تكون سهرتنا التالية في بيتك بعد ثلاثة أسابيع. لم تفطن لما يريد.. إنه يريد أن يستمتع بسامورا.. فهي بعد ثلاثة أسابيع ستكون في بيت أمها.. وافقت فوراً، وغادرت المشفى وهي تمني نفسها بالمتعة.. لقد فازت الليل بصيد ثمين شره.

الهوامش:

(1) الحزمة من الصحف (لسان العرب جـ4).

يتبع