بدر الزمان (1)

بدر الزمان

فاضل السباعي

حكاية أسطورية للصغار والكبار

الفصل الأول

بدر الزمان في الضيعة

1

"بدر الزمان الطيب ينتظر أُخيَّته، القطّة بشيرة، الجنّية،  في فِناء كوخه، لحظة طلوع البدر"

في ليلة النصف القمري، جلس مربي الدجاج، الصغير، على العشب أمام كوخه، يترقب طلوع القمر البدر. كان أهل الضيعة قد جروا على مناداته بـ "بدر الزمان"، لحرصه على أن يتمتع، منفرداً، بمشاهدة القمر، في ليلة النصف من كل شهر، وظلوا ينادونه بهذا اللقب حتى نسوا، ونسي هو، اسمه الذي كان قد تلقّاه من أبويه يوم مولده. ولأنه كان فتى صادقاً ونشيطاً، فقد لقبوه أيضاً بـ"الطيب"!

كان بدر الزمان، وهو في فناء كوخه الصغير، مشدود البصر إلى الأفق البعيد، يرصد طلوع القمر البدر من وراء الأكمة. ولكنه كان يرهف سمعه نحو شجيرات عبّاد الشمس، التي تتمايل بجواره مع كل نسمة يرسلها الهواء العليل.

وكان يفكر، سعيداً، في دجاجاته التي يتزايد عددها، وفي البيض الذي يجمعه من تحتها ويسلّمه إلى الجمعية، صباح كل يوم. وهو، في سعادته، يحلم بأن يبني لها قناً كبيراً! وأما كوخه هذا، المتداعي، فإنه لا يعتزم تحسينه إلا حين تبلغ دجاجاته مبلغاً يمكّنه من أن يجني منها بيضاً وفيراً.. وعندئذ يبني كوخاً جديداً، ويشتري سريراً وخزانة ومتاعاً، ويخطب إحدى صبايا الضيعة الجميلات، ويصبح أباً حنوناً لعديد من الأولاد، الذين سيسهر على تربيتهم، وهو الذي فقد أبويه صغيراً، فكفله أناس في الضيعة، حتى شبّ عن الطوق، واستطاع أن يتملّك هذا الكوخ، والقنّ (الخم) بجواره، والدجاجات.

وراء الأكمة، هناك، سطع، فجأة، طرف البدر. وفي اللحظة عينها، كانت تترامى إلى سمع بدر الزمان خشخشة تنبعث من بين أوراق الشجر.

وفي عتمة الغسق لمحها: عينان وهّاجتان كمصباحين كهربائيين يأتلقان، في وجهٍ، في جسدٍ، حالك السواد.

اقتربت منه، وهي تموء:

"مياو! مياو!"

رحّب بها :

"أهلاً، قطيطتي العزيزة!"

نطقت القطة:

"عمت مساء، يا بدر الزمان"

أضحت القطة بين قدميه:

"عمت مساء يا بشيرة!"

- كيف حالك، يا طيّب؟

- إني بخير، كما ترين.

- ألا تحتاج إلى مساعدة؟

- أموري ماشية، والحمد لله. لا أحتاج إلى شيء. شكراً لك، يا أخيّتي.

- ألا تريد أن تتحول إلى .. يمامة؟!

أطلق بدر الزمان ضحكة من أعماق قلبه:

"لكي تنعمي بوجبة شهية، يا بشيرة؟!"

احتجّت:

"ومتى كانت الأخت تأكل أخاها، يا طيّب؟!"

تراجع:

"إني أمزح، يا أخيّتي.. أريد أن أقول: إني أخاف أن يصطادني الإمبراطور يان - تسون، فأقدَّم إليه في صحن على مائدته!"

أعلنت القطة:

"لتكن على يقين، يا بدر الزمان، من أن نهاية الإمبراطور ستكون، في يوم من الأيام، على يديك!!!..."

وههنا، انشقّت الأرض، تحت قدمي بدر الزمان، وابتلعت القطة، الجنية.

2

بين مقولة الشعب:

"مائدة طعام ليس فيها بيض، لا تعد مائدة طعام"،

وبين مقولة الإمبراطور يان - تسون:

"مائدة طعام ليس فيها يمام مشوي، لا تعد مائدة طعام".

كان الناس، في هذه الإمبراطورية العتيدة، الواقعة في ناحية من العالم، هم وإمبراطورهم يان - تسون، على طرفي نقيض:

هم يطمحون إلى الحرية والعدالة والمساواة، وهو يطوّقهم بأغلال من الظلم والقهر، ويتحيّز لحاشيته العريضة، مغدقاً النعم على كل من يمالئه ويهتف بحياته!.

هم يحبون أكل البيض حباً جماً، حتى إن من أقوالهم السائرة: "مائدة طعام ليس فيها بيض، لا تعد مائدة طعام!".

وأما هواية إمبراطورهم، المحببة إلى قلبه، فهي صيد اليمام، ثم التهامه بشراهة لا حدّ لها، وفي ذلك يقول: "إن مائدة طعام ليس فيها يمام مشوي، لا تعد مائدة طعام!"!

كان الناس يعطفون على اليمام، هذه الطيور الوديعة، التي تألفهم فلا تبني أعشاشها إلا في شبابيك بيوتهم أو على أغصان الشجر قرب المنازل، مرسلة، صباح مساء، هديلها الحنون: "كوكو كوكو".. فكان يحزنهم كثيراً أن يروا إمبراطورهم، الطاعن في السن، السمين، الضيق العينين، يفاجئ هذه الطيور الأليفة، مطلقاً عليها من بندقيته ناراً صغيرة، تجعل اليمام الآمن يتساقط على الأرض، مرفرفاً بأجنحته، مضرجاً بدمه، وعندئذ يقوم الإمبراطور بتقطيع رؤوس اليمامات القتيلة بيديه، وينتف ريشها متلذذاً، قبل أن يدفع بأجسادها إلى طباخيه المهرة -وما أكثرهم!- كي يقوموا بشيّها على نار فحم لينة.. ولحظة يقع بصره الكليل على صحون اليمام مصفوفة على مائدته، يهتف بفرح جنوني: "هذا هو الإكسير الذي يطيل حياتي؟".

فكان أن هجر اليمام، المسكين، أعشاشه، ورحل عن المدن والقرى، في اتجاه الغابات البعيدة.

ولكن كيف استطاع هذا الطير الوديع، الذي لا يملك مخالب جارحة ولا مناقير حادة، أن يعيش في الغابات؟!

لقد كانت، في الحق، طيور الغاب ووحوشها الكاسرة، أكثر عطفاً على اليمام من قلب الإمبراطور. فقد أفسحت الصقور والعقبان لليمام أرحب مكان في غاباتها، واتفقت، هذه الطيور الجارحة، مع الأُسود والنمور وبنات آوى، على حماية اليمام مما يتهدّده في الغابة من خطر، سواء أهبط هذا الخطر من السماء أم نجم من الأرض عبر جذوع الشجر.

وأما الإمبراطور يان - تسون، الشّره، فقد جعل يرسل رجاله في كل مكان، أملاً في أن يعودوا إليه محمّلين بصيد من اليمام. فكانوا يقطعون الفيافي والأودية، بحثاً عن الطيور المهاجرة، دون جدوى. فحين يصلون إلى تخوم الغابات، تلك التي يتحصّن فيها اليمام، يقفون أمامها عاجزين عن اقتحامها، فالأصوات، التي تطلقها في وجوههم الوحوش الأرضية والجوارح الفضائية، كانت تبعث في قلوبهم الذعر. وعندما يعودون إلى إمبراطورهم، مثقلين بخيبتهم، ينهال عليهم تقريعاً، متّهماً إياهم بالخوف والعجز وضعف الحيلة.

ومنذ اختفى اليمام من سماء الإمبراطورية، وغاب لحمه عن مائدة الإمبراطور، أصبح مألوفاً لدى رجال الحاشية أن يسمعوا إمبراطورهم يردّد متحسِّراً:

"الله أعلم أنّ افتقادي لحم اليمام سيقرّب أجلي! إن في اليمام غذائي ودوائي!"

ويشيع ذلك بين المواطنين، فلا يحسّ أحد بالعطف، أو أنه سوف يحزن إن نزل قضاء الله بالإمبراطور، بل يرون أنّ في موته خلاصاً لليمام من نكبته، كما يتحرر الناس من ظلمه وطغيانه:

"قصف الله عمر الإمبراطور، حتى يتخلّص منه اليمام، ومع اليمام نتحرر من ظلمه وطغيانه!"

3

في أنّ الإمبراطور يان – تسون إذا ما احتاج إلى مال، لم يصعب عليه ابتكار موارد جديدة!

قبل صياح الدّيكة، استيقظ بدر الزمان من نومه نشيطاً. حمل سطليه، واتجه بهما نحو الجدول. كان سعيداً جداً، لأنّ أخيّته ظهرت له مساء أمس، كعادتها في ليلة النصف القمرية. ملأ سطليه من ماء الجدول الرقراق.

حدّث نفسه: منذ حين، وكلما ظهرت لي أُخيتي، أراها تختم حوارها معي بهذه العبارة الغريبة: "إن نهاية الإمبراطور ستكون، في يوم من الأيام، على يديك!". عجباً؟ كيف يمكن لرجل مثلي، أن ينهي حياة إمبراطور؟ لماذا لا يطيح به قائد من قوّاده؟ والشعب، الذي يُضمر للإمبراطور الكراهية، لم لا يثور عليه؟! أنا، المواطن الفقير الذي يربّي دجاجاً ويؤجّر نفسه للمزارعين في المواسم، يمكنه، بيديه هاتين اللتين تحملان الآن سطلي الماء، أن يضع حداً لحياة الإمبراطور يان - تسون؟!! .. ها ها ها.. معناها: أن الدنيا تمشي بالمقلوب!!.. أو: لم لا أقول إنها في ألف خير؟.. طيّب، إن قدّر لي أن أفعل هذا، فمن يعتني بدجاجاتي الحبيبات؟!

كان يتعيّن على بدر الزمان أن يغسل الجرن من آسن الماء، ثم يملؤه من ماء الجدول الصافي، لتستقي منه الدجاجات.. وقبل أن يلوح نور الفجر، صاح ديك: كوكوريكو... فتجاوبت لصيحته الديكة في أنحاء الضيعة.

فتح بدر الزمان باب القنّ، فخرجت الدّيكة مختالة، تتبعها دجاجاتها. نثر حفنات من الحب في أرض الفناء، ثم ترك الدجاج يتدافع لالتقاطه، ودخل هو إلى القنّ يجمع محصوله اليومي.

عاين بنظره الدجاجات الحاضنات. وحدّث نفسه: بعد أسبوع يبدأ التفقيس عندي. وأخذ يصفّ البيض في الصحون الكرتونية، هذه التي يستعملها أول مرة! أجل، سأوسِّع قنّي وأستزيد من الدجاج، وأنتج كثيراً من البيض، قوت الشعب المفضل!"

وعندما انطلقت الدجاجات تسرح في الضيعة بحثاً عن غذائها كان بدر الزمان قد أتمّ تنظيف قنّه. وها هو ذا، الآن، ينقل صحون البيض إلى الفناء، انتظاراً لوصول سيارة الجمعية.

- صباح الخير، يا طيّب!

- أهلاً وسهلاً، يا أطيب الطيبين!

هتف السائق، ذو الأسنان المصفرّة:

"وصحون كرتونية، أيضاً، يا بدر الزمان! هنيئاً! من أين لك هذا كله؟!"

- قد أتيت بها من مدجنة الضيعة.

- أرى أحوالك في تحسّن مطّرد.

- هذا من فضل ربي.

- ولم لا تقول: من فضل الإمبراطور؟

قال السائق ذلك بصوت خفيض، ثم أطلق ضحكة مجلجلة، كشفت عن أسنانه النّخرة كلها... وجاراه بدر الزمان بقهقهة عالية.

- اليوم، الخميس، يخرج من قصره العامر إلى قصر العدالة الإمبراطورية، في الاجتماع الأسبوعي.

- في موكبه الفخم، الذي تصلنا أخباره إلى الضيعة.

- يخرج من قصره في الساعة العاشرة، ولا يبلغ قصر العدالة إلا في الحادية عشرة.

- نسمع أنهم يمنعون الناس، خلال ذلك، من أن يقطعوا الشوارع، ويحشدونهم على جانبي الطريق!

- ذلك حتى يتسنى للمواطنين أن يتمتعوا بمشاهدة عظمته متربعاً فوق محفَّته، التي يحملها أربعة أشدّاء.

- وصلّنا من العاصمة عندكم أن الإمبراطور قد أفلس!

- هراء! وهل يفلس إمبراطور؟! إنه لا يصعب عليه ابتكار موارد جديدة يملأ بها جيوبه.

- ويفرغ جيوبنا!

- يحق للإمبراطور أن يفعل بالرعية ما يشاء.

- نحن الشغّيلة نتعب.

- وهو الحاكم ينهب.

- أما زالت مشكلة اليمام تورِّقه ؟

- بكى في مجلس العدالة الإمبراطورية مرة، وهو يشكو افتقاده لحم اليمام!

- وسمعنا أنه بكى لبكائه جميع المداهنين!

- اعترف أمامهم بأنه يخاف أن يقصر عمره. فهتفوا له: "طويل العمر، الله معك!"

ههنا، أخذت الحماسة بدر الزمان، فهتف بصوت لم يعد همساً: "قصف الله عمر الإمبراطور!!"

فعضَّ السائق على شفتيه!

والسيارة تحركت، بحمولتها من البيض باتجاه العاصمة الإمبراطورية.

4

في وصف الموكب الإمبراطوري، وقد تحرك من القصر العام نحو قصر العدالة الإمبراطورية، وهتافات الجماهير، على طول مسيرة الموكب.

في الساعة العاشرة، انطلق الموكب الإمبراطوري.

طبل وزمر، وعربات تجرها الخيول المطهَّمة، وسيارات فارهة في المقدمة والمؤخرة. والإمبراطور يان - تسون متربّع فوق المحفّة، يحملها أربعة رجال.

استغرقت الرحلة، بين القصر العامر وبين قصر العدالة الإمبراطورية، ساعة رملية، احتجز خلالها الناس على جانبي الطريق، مرغمين على التمتع بمشاهدة الإمبراطور في موكبه المهيب، والتصفيق له والهتاف بحياته.

كان التصفيق يتواصل، والهتافات تشقّ عنان السماء تطلقها حناجر قوية مدربة.

- طويل العمر الله معك! عاش، عاش، طويل العمر!

ولم ينس الهتّافون اليمام الغادر، الذي هاجر إلى الغابات ناجياً بريشه من بنادق الإمبراطور:

- يسقط، يسقط، طير الغاب!

والشغّيلة، الذين يعيشون على البيض، رُسم لهم أن يهتفوا:

- لحم اليمام، للحاكمين.. بيض الدجاج، للكادحين!

وسُمع الشعراء والمغنون يرددون المعنى ذاته ولكن بأسلوب أرقى:

- يمام السماء دواء الملوك.. وبيض الدجاج غذاء الديوك!

(لأن الديكة لا تفترس بيض إناثها، فقد بدا أن المقصود بكلمة الديوك نقيض الملوك: الشعب العامل!)

وجماهير الطلاب هتفت، تجاوباً مع الإمبراطور:

- يمام، يمام، يمام.. نراه في المنام..

وأما الأطفال، فقد كانوا يرددون، طوال مسيرة الموكب:

- يمامتي، يمامتي. أنت المنى في خلوتي..

فتردّ على هتافهم البنات الصغيرات، من الأرصفة المقابلة:

- يمامته، يمامته.. هي المنى في خَلوتُه!

وقد علّق يان - تسون، اللطيف، على هذا الهتاف الأخير:

"فيه لحن لغوي، يسمى في علم الشعر: الإقواء، فالصواب: في خلوتِه، بالكسر.. ولكنه جائز للضرورات الإمبراطورية!"

وفي مدخل قصر العدالة الإمبراطورية، كان في استقباله رجالات الدولة، وزراءَ وقواداً وولاة وقضاة.. وقد صافحوه فرداً فرداً، ومنهم من حقّ له أن يعانقه ويقبّل وجنتيه، ومنهم من أكبّ على أنامله، يلثمها، ومنهم من انحنى، وأفرط في الانحناء حتى مستوى السرّة، دون أن يكون له أن يقبّل الوجنة أو يلثم أُنملة من اليد أو القدم.

استُهلّت الجلسة بهتاف وحيد، أخذ يردده هؤلاء العظام، وهم واقفون، يصفقون بشكل متواصل:

- يان - تسون، يان - تسون.. منك الرضا، منك العون..

والإمبراطور يوزّع ابتساماته يمنة ويسرة، إلى أن تعب وجهه من التبسّم وملّت نفسه سماع الهتاف، فأشار بيده أن اسكتوا!! فكفوا دفعة واحدة، وقد تجرَّحت حناجرهم وزخّ العرق من آباطهم، وتهالكوا على كراسيهم كالقتلى.

وفي الخطاب الذي ألقاه، لم يتشكَّ من افتقاده لحْمَ اليمام المشوي على نار ليّنة، بل أخذ يحدثهم، ويفيض، عن حاجة القصر إلى المال، لمتابعة تحقيق منجزاته الوطنية.

وإذن، فقد كان الشغّيلان، مربي الدجاج وسائق سيارة الجمعية، في تلك الضيعة المتواضعة، ينطقان بالحقيقة وهما يثرثران!

5

فيما يُقال من أن قانون تعميم البيض، الذي صدر حالاً، ليس تعميماً على الحقيقة، وما راود بدر الزمان من أنه سيكون أول المجلودين!

في أخبار المساء، أعلنت الإذاعة المرئية والمسموعة، أنّ قانوناً قد صدر، اليوم، بإجماع الأصوات، عن مجلس العدالة الإمبراطورية، في شأن "تعميم البيض"!

سمع بدر الزمان الخبر من مذياعه الصغير، وهو في باب كوخه يرقب دجاجاته العائدات من تجوالهن... وتساءل عن معنى التعميم؟ وأسرع إلى حيث تجمّع الفلاحون في ساحة الضيعة.

كانت أصواتهم تتعالى، فلا يكاد يفهم شيء مما يقولون. ولكن بدر الزمان التقط عبارة معناها أنّ هذا التعميم خطوة صحيحة على طريق توفير القوت للشعب ! فقال في نفسه: والله إن هذا أمر طيب، يا طيب!

ثم ما لبث أن سمع آخر يعترض:

"ولكن مادة البيض متوافرة، وهي توزّع في محلات البيع، في طول البلاد وعرضها، بصورة منتظمة، فلم التعميم؟"

علّق آخر:

"إننا نتوقع، بعد التعميم، أن ينخفض سعر البيض، قوت الشعب اليومي".

فكّر بدر الزمان: أنا لن يسوءني انخفاض السعر، فإنّ التّزايد في أعداد دجاجاتي، سيعطيني بيضاً أكثر، فأستطيع أن أجدّد الكوخ، وأخطب إحدى..

- في قوانين الاقتصاد أن الأسعار، في مثل هذه الحالة، لا تنخفض إلا إذا بادرت الحكومة إلى إنشاء مداجن عصرية تزاحم مداجن الناس. وما تعتزم الحكومة فعله غداً، أن تجمع البيض من أيدي منتجيه، أصحاب المداجن وصغار الفلاحين، وتقوم هي بتسويقه!

فكّر بدر الزمان: إذن، لن ألتقي بصديقي سائق سيارة الجمعية، فأثرثر وإياه على باب كوخي، وأعرف منه أسرار العاصمة الإمبراطورية! آه، يبدو أني افتقدتُ ضحكته المجلجلة إلى الأبد..

- فهذا ليس تعميماً على الحقيقة، لا ولا تأميماً. إنه احتكار لتجارة البيض تقوم به الحكومة. ولن يفلح موظفون عامّون حيث ينجح أفراد يعملون لحسابهم الشخصي، أو جمعيات تعاونية تتولى نقل البيض بسياراتها طازجاً، لتضعه في متناول أيدي الناس في كل مكان!

فكّر بدر الزمان: حقاً، إنهم يأخذون مني، صباح كل يوم، البيض من مؤخرة دجاجاتي إلى أفواه المستهلكين رأساً!

- وسوف يقع، في نقل البيض، تأخير، وتكسير، وفساد، وسوء توزيع..

فكّر بدر الزمان: قد طارت الزوجة، وذهب الأولاد!!

وتنادى المتجادلون إلى الصمت، فهناك صوت، جهوري، يأتي من بعيد. فسكت الناس، وأصاخوا.. فإذا النسيم العليل يحمل إليهم من الكلام الموصول ما هذا نصّه وفصّه:

- على كل صاحب مدجنة.. على كل قروي وقروية... أن يسلّم محصوله اليومي من البيض، إلى رجال الإمبراطور... وكل من تسوّل له نفسه، الأمّارة، أن يتهرّب، يُضرب، أمام أهله وعشيرته، يجلد، سبع جلدات، مضروبة بسبع مرات، مضافة إليها الجلدة الخمسون!... وفي حال العود يُحبس المخالف سبعة أسابيع، مضافاً إليها يوم.. وتصادر المدجنة والقنّ، بعموم التجهيزات.. الحاضر يعلم الغايب.. أدام الله الإمبراطور العظيم، على رأس شعبه العظيم.. يا عالم، يا هو.. على كل صاحب مدجنة.. على كل فلاح وفلاحة......

وتنظيماً للأمور، أُحدثت هيئة رسمية، جديدة، أُنيطت بها مهام جمع البيض، وتوزيعه، وجلد المخالفين، تسمى: وزارة الشؤون البيضية!

فكّر بدر الزمان، وفكّر.. وانتهى من تفكيره: الله أعلم أني سأكون أول المجلودين!

وظلّ، طوال الليل، يهتف بصوت كان يتسرب من شقوق كوخه إلى أسماع دجاجاته التعيسات:

- قصف الله عمر الإمبراطور! قصف الله عمر الإمبراطور!!...

ويلتفت، كالمجنون، باحثاً عن أخيّته بشيرة، ليستفتيها في هذا الذي يقع في البلاد.

ولكن، هيهات! فالجنّية لن تظهر له إلا عند طلوع البدر القادم.

6

فيما قيل من أنّ تطبيق هذا التعميم قد أدّى إلى فساد البيض، وإلى تقديمه للناس بأسعار مرتفعة، وأدّى كذلك إلى الشروع في جلد المخالفين.

أخذ الرجال، الذين عيّنتهم وزارة الشؤون البيضية، يطوفون في المدن والقرى والمزارع الصغيرة المتناثرة في الأرياف يجمعون البيض، وينقلونه إلى مستودعات التخزين، ثم يوزّعونه على مراكز للبيع استحدثوها، ينهض بها باعة عيّنتهم الوزارة، وكتبة ومستخدمون.

أحياناً، كان يقع تقصير يتأخر بسببه وصول البيض إلى مراكز البيع. فينتظم الناس، أمام الأبواب وعلى الأرصفة، في صفوف طويلة، انتظاراً للدور.

وفي أحيان أخرى، يقع تقصير من نوع آخر: تهمل كميات من البيض، أو تنسى، في زوايا المستودعات، فيتسرب إليها العطب والفساد. فكان رجال الشؤون البيضية يخلطون البيض السليم بالفاسد، فلا ينتبه المشترون لذلك إلا وهم أمام مواقد الطبخ. فإذا راجعوا بائعي الإمبراطور في ذلك، تلقّوا مثل هذه الإجابات:

- وهل نأتي به من بيوتنا؟! ما يصلنا منه نبيعه لكم.

- ولكنه.. بيض فاسد!

- راجعوا وزارة الشؤون البيضية!

- أما تنقلون أنتم شكوانا إليها؟

- مهمتنا البيع لا غير.

- بيع البيض الصالح للأكل طبعاً.

- المستاء منكم، فليصم عن البيض، إن كنتم تستطيعون!

- والأسعار؟

لأن الإمبراطور عمم البيض جنياً للأرباح، فقد عمد إلى رفع سعره. و لمّا كان من البيض ما يفسد فتذهب قيمته هدراً، ومنه ما ينقله رجال الشؤون البيضية إلى بيوتهم (وهل يصحّ أن يحصلوا شراء على حاجتهم من السلعة التي بها يتعاملون؟!) فإن ذلك كله حمل على فرض زيادة أخرى، في السّعر، تغطية لهذه التكاليف والأعباء.. زيادات تمادت، حتى ضجّ منها متوسطو الحال قبل الفقراء.

وأما منتجو البيض، فقد بلغهم عطف الإمبراطور، حين أمر بخفض سعر الشراء منهم!

اثنان من القرويين، في ضيعة بدر الزمان، جرّهما رجال الإمبراطور إلى الساحة، خلال الأسبوع الأول من تطبيق التعميم المشؤوم، حيث جلد كل منهما خمسين جلدة بعد أن حجز كل من اتّفق مروره قرب الساحة، في ساعة الجلد، وأُرغموا على مشاهدة ابني الضيعة -وأحدهما عجوز على حافة قبرها- وهما يجلدان بسياط قدّت من نار الجحيم. والذنب الذي ارتكباه، أنهما لم يسلّما إلى رجال الشؤون البيضية العدد المفروض عليهما من البيض، وإذن، فهما متهرّبان!

وقد أنذر هذان القرويان البائسان، بحضور عمدة الضيعة، بالجلد ثانية، وبالمصادرة، إن هما كرّرا الجرم مستقبلاً.. ولم يقدّر للعجوز الفانية أن تستوعب مضمون الإنذار، لأنها لفظت آخر أنفاسها تحت صفعات السياط.

فساء، بذلك، ظن بدر الزمان، من أنه سيكون أول المجلودين!

7

اعتزام الناس الصوم عن البيض، احتجاجاً على قانون التعميم، مع ما يجلب عليهم ذلك من الضرر!

تململ الناس تحت وطأة الظلم والقهر والجشع، وجاشت في الصدور ثورة على الإمبراطور، وعلى منفذي سياسته الخرقاء في وزارة الشؤون البيضية، وعلى زبانيته الذين يلهبون الظهور بسياطهم الجهنمية.

ورأوا أنهم إن لم يستطيعوا الثورة على هذا النظام وتغييره، أمكنهم مع ذلك القيام بعصيان من نوع ما: أن يصوموا عن البيض، معلنين بذلك احتجاجاً صامتاً، وملحقين ضرراً باحتكارات الإمبراطور.

انبثقت الفكرة، أولاً، في رؤوس المستهلكين. ولم يتخلّف منتجو البيض أنفسهم عن مؤازرتهم، مع ما ينتظر بيضهم من كساد وفساد، ومن خسارة جديدة فاحشة تضاف إلى انخفاض سعر الشراء المفروض عليهم.

امتنع الناس عن أكل البيض. ومن لم يستطع منهم صوماً، قلل مما يجلب منه إلى بيته. وبدؤوا يروّضون النفس على كراهية البيض -أو هكذا خيّل إليهم- حتى تمنوا لو ينقلب البيض إلى قنابل يدوية، يرشقون بها إمبراطورهم الظالم، فيقتلونه ويتخلصون منه إلى الأبد.

وهكذا تضاءل عدد الواقفين على أبواب مراكز البيع الإمبراطورية وظلّ يتضاءل يوماً بعد يوم. ووزير الشؤون البيضية يتردّد، من خوف، في أن يبلّغ إمبراطوره بخبر هذه المقاطعة، التي لم تكن في الحسبان!

فلما عرف الإمبراطور جلية الأمر، كان أول ما اتّضح من صراخه أن قال:

"أقسم بشرف أجدادي العظام أنّ هذا الشعب متواطئ مع أعدائي! لسوف أردّ كيدهم إلى نحورهم: سأتركهم جياعاً في الحسرة على البيضة، مثلما أنا جائع، قرم، إلى لحم اليمام! وأما الخسائر المتحققة، فلسوف أضعها على عاتق المنتجين من أبناء هذا الشعب العاق: فليبق البيض في حوزتهم، يفسد، ينتن، تطلع رائحته! أجل، ما دامت فصائل الشعب، ضدي، من مستهلكين ومنتجين!!"

وانطلق المنادون ينادون:

"كل من تسوّل له نفسه، الأمّارة... أن يخرج بيضة واحدة من قنّه... من مدجنته.. ويقدمها إلى أيٍّ من الناس.. بيعاً أو إهداءً... فجزاؤه الإعدام شنقاً حتى الموت.. أدام الله الإمبراطور العظيم على رأس شعبه.. الجاحد!!"

على أنّ الحالة، التي تردّى فيها الناس بعد إضرابهم عن تناول البيض لم تعد تستوجب إجراءً قمعياً مما أوعز به الإمبراطور. فالمواطنون الذين طالما تناقلوا قولتهم الشهيرة: "مائدة طعام ليس فيها بيض، لا تعد مائدة طعام"، قد بدؤوا يتخاذلون؛ ذلك أن الأمراض أخذت تعمل في أبدانهم وتذهب بأرواحهم! وهل يقدر جسم على الحركة، وعلى الحياة، دونما بيض يقيمه ويقوّيه؟! وقولتهم الشهيرة تلك، حرّفوها فصارت: "مائدة طعام ليس فيها بيض... تجلب المرض، والموت"!!

وشيئاً فشيئاً، انحلّ إجماع الناس على الإضراب، وتراجعوا عن صيامهم وأصبحوا يدخلون المراكز الإمبراطورية لشراء البيض.

والإمبراطور يضحك ويقهقه، حتى لينسى افتقاده لحم اليمام، ويعلن على مسمع من الحاشية:

"قد ربّيتهم، الكلاب! ها هم أولاء يعاودون زحفهم، غير المقدّس، نحو البيض، وهم أشد جوعاً! لسوف أسلخ جلودهم: سأرفع سعره عما كان! الحمقى، لا يستطيعون أن يتصوروا أني لو تنحيت عن الكرسي الإمبراطوري -وذلك ما لن يحدث على الإطلاق- لجاءهم بعدي من يطعمهم غائطهم بالملعقة، المارقين الجاحدين!!

8

الجنّية بشيرة تؤكّد لأخيها بدر الزمان، أنّ نهاية الإمبراطور ستكون على يديه، وتضيف: "كن، من قولي هذا، في ألف يقين!"

كاد بدر الزمان يقضي عجباً مما يرى ويسمع. لم يعد يهتف: "قصف الله عمر الإمبراطور"، ولكن اشتدّت لهفته إلى رؤية أخيّته في ليلة النصف القادمة، ليسألها في ما تشهده عيناه، في هذا الزمن العجيب!

قرب شجيرات عباد الشمس، كان جالساً على العشب، ذلك الأصيل. والهواء العليل يداعب الشجيرات، فيسمع لذلك حفيف.

لم يكن بدر الزمان يفكر في تزايد عدد دجاجاته، بل هو يتمنى لها النقصان، لولا خشيته من أن يجلد في ساحة الضيعة إن هو سلّم زبانية الإمبراطور، عدداً أقل من البيض! لا ولم يعد يفكّر في بناء قنّ كبير، ولا في تجديد كوخه المتداعي، ولا في شراء سرير أو خزانة أو متاع، ولا في أن يخطب لنفسه إحدى صبايا الضيعة الجميلات، أو أن يصبح أباً حنوناً لأولاد صالحين..

- مياو! مياو!

انتفض بدر الزمان:

"أهلاً، أخيّتي. عمت مساء!

- عمت مساءً، يا بدر الزمان!

- المساعدة، التي أراني أحتاجها الآن، هي أن تفسّري لي هذا الذي يفعله بنا إمبراطورنا يان - تسون! إنه يحتكر لنفسه بيع البيض. يشتريه منّا بأرخص الأسعار، ويبيعه لنا بأغلاها. صام الناس عن البيض، فاعتلّت أجسامهم، وخربت بيوتنا نحن أصحاب الدواجن والمداجن . هيا، بيّني لي، يا أخيّتي: كيف السبيل إلى الخلاص؟

كان بدر الزمان يتحدث طليقاً، متدفقاً.

وأما بشيرة، الجنّية، فقد عادت تلوك قولتها تلك، المكرورة:

"ألا تريد أن تتحول إلى يمامة، يا بدر الزمان؟!"

لم يضحك بدر الزمان، هذه المرة، أو يبتسم، من هذه الدعابة، التي يراها الآن ممجوجة جداً! لا ولا وجد في نفسه باعثاً ليتفوّه بكلمة واحدة.

والجنّية تابعت هُراءها:

"لتكن على يقين، يا بدر الزمان، من أن نهاية الإمبراطور الظالم ستكون، في يوم ما، على يديك! كن، من قولي هذا، في ألف يقين!!!"

وارتفع القمر البدر، وراء الأكمة، هناك.

والقطة، الجنية، اختفت.

9

بدر الزمان يعبّر عن تمنيه، في ليلة أمام السامرين في ساحة الضيعة:

"ألا ليت إمبراطورنا يكفّ عن قهرنا ومص دمائنا!"

أجل : كاد بدر الزمان، الطيّب، يقضي عجباً مما يرى ويسمع من تصرفات الإمبراطور الغريبة. ولكنه -بعد هذا التأكيد الذي ألقته بشيرة في قلبه: "كن، من قولي هذا، في ألف يقين!" - يكاد يجن من الفرح!

لقد أيقن بتنبؤ أخيّته ووثق بقولها. فكّر في ذلك كله، سويعات المساء، وهو مستلق على الحشائش الرطبة، مستغرقاً في النظر إلى البدر وهو يصعد نحو قبة السماء. وظل يفكّر، طوال الهزيع الأخير من الليل، وهو متمدد على فراشه الخرقي داخل كوخه.

فكّر طويلاً.. حتى خُيّل إليه أنه قد تملّك، حقاً، قدرة خارقة، تمكّنه من أن يشق، في ضحى يوم من أيام الخميس، الصفوف المحشودة على طرفي الطريق، مقتحماً الموكب الإمبراطوري مثل سكين حادة، مندفعاً -دون أن تقدر قوة على كبحه- نحو تلك الكتلة الشحمية، المستوية فوق المحفّة، ليوسعها ضرباً وركلاً حتى الموت! أو.. لم لا يكون في يديه خنجر، خنجر مسموم، أو مسدس برصاص دُمْدُم، أو رُشيش؟! ولكن قنبلة يدوية، عنقودية، أفضل!!

مع صياح الديكة تبددت هذه الأحلام، ولم يبق منها إلا أضغاثها.

وفي عودة بدر الزمان، المسكين، من الجدول، حاملاً سطليه الاثنين، كان يتساءل في حيرة منغّصة: لنفترض أني، الآن، "في ألف يقين" من أن نهاية الإمبراطور ستكون على يدي... طيب، كيف، كيف؟! وذلك الـ "يوم ما"، متى يهلّ؟!

وفي قرف ظاهر أخذ في غسل الجرن. كانت الديكة قد أتمّت صياحها الصباحي، ثم لاذت بالصمت. والدجاجات تقوقئ داخل أقنانها كالمحتجّة على التلكؤ في إطلاق سراحها.

وفي سأم، أخذ يجمع البيض. بالأمس، كان يعمل بهمة عالية أملاً في بناء مدجنة! واليوم، يعمل كي يزداد الإمبراطور سمناً، وتفيض خزائنه بالأموال!

وفي حقد، كظيم، قدّم الصحون الكرتونية لموظفي الشؤون البيضية.

- بيضك، المرة الماضية، كان ناقصاً؟

- ولكن سلّمتكم إياه بالعدد!

- وجدنا بعضه مكسوراً، فأتلفناه!

- وهل تسلّمتموه مكسوراً؟

- لا تتفلسف!

-  اسمحوا لي أن أقول إن الجمعية لم تكن تعاملنا هكذا؟

صرخوا به:

"أنت تنتقد نظام الإمبراطور، أنت؟!"

في انصرافهم، عاودته تلك الأحلام: أن ينهي، بيديه هاتين، أسطورة الإمبراطور الظالم! شطّ به الخيال: لو أرميه، من بعيد، بصاروخ محكم التسديد، وهو فوق محفّته، فلا يبقى من أشلائه ما يميزه من أشلاء سواه!

مساءً، في ساحة الضيعة، أخذ بدر الزمان يحدّق، طويلاً، في البدر، الذي تخلى الليلة عن جزء من نفسه.

السامرون سألوه:

"بدر الزمان!! ما بك، يا بدر الزمان؟! نصف الألف خمسمئة!"

زفر. تأوّه. ثم أعلن تمنّيه:

"ألا ليت إمبراطورنا يكفّ عن قهرنا ومصّ دمائنا!!"

تعجبوا من هذه الجراءة المفاجئة:

"ألا تخشى الإمبراطور، يا بدر الزمان، وأنت تقول هذا؟!"

فأخذ يفيض:

"أقدم إلى موظفيه من البيض ما يفرضونه عليّ من عدد! وأرضى بالثمن الذي تجود به نفوسهم!! وبعد ذلك يدّعون أن بيضي مكسّر.. كسر الله أيديهم! حرامية! أناقشهم بالحسنى، فيتهمونني بأني أنتقد نظام الإمبراطور! هل أصبح كل شيء محرّماً؟.. ألا ليت الإمبراطور يكفّ عن قهرنا ومصّ دمائنا!!"

10

ويجلد بدر الزمان، في الضيعة وفي العاصمة الإمبراطورية، على مرأى من الناس، عارياً!

قهر ومصُّ دماء! ظلم وجشع!

ذلك هو الثنائيّ الذي يقوم عليه عهد الإمبراطور يان - تسون.

وفي كتاب هذا العهد، المفتوح، تخطّ الأيدي صفحات سوداً من الفساد، والرشوة، والتحيّز، والتقاعس، والتضليل، والتنكيل!

"ليت الإمبراطور يكفّ عن قهرنا ومصّ دمائنا!": شكاة جريحة، زفرتها لهاة معدم مسحوق، في ساعة سمر، تحت ضوء قمر، سُرَّ لها السامعون، ثم... راح كل منهم يلقيها في أذن ابنه، وأبيه وزوجته، وأخيه.

من فم إلى أذن.. ومن ضيعة إلى ضيعة.. ومن الريف إلى المدن، فإلى العاصمة الإمبراطورية: "ألا ليت الإمبراطور يكفّ عن قهرنا ومصّ دمائنا"، وجد الناس في هذه الشكاة تعبيراً عما يعانون.

وحطَّت الكلمة في سمع الإمبراطور.

صرخ:

"من هذا الصعلوك الذي تجرأ فانتقدني؟! أنا أقهر شعبي وأظلمه؟ أية فرية!! منجزاتي، الباهرة النّاطقة، كلها للشعب، ترفهه، وتمنحه العزة والكرامة. أنا أمتصّ دماءً؟! تعميم البيض!! إني، في ذلك، نظمت توزيع الغذاء الأساسي على شعبي الحبيب! أليس لهذا المخلوق، عين، أذن، عقل؟! اجلدوه، في ساحة ضيعته، عارياً، سبع جلدات، مضروبة بسبع مرات، مضافة إليها جلدة! ثم اجلدوه في ساحة العاصمة، ضعف هذا العدد. أقسم بشرف أجدادي العظام، أنّ هذا التعيس، متواطئ مع أعدائي! صادروا ممتلكاته! اقبضوا عليه، قبل أن يفرّ باتجاه الأعداء! ألقوه، إن بقيت فيه بعد الجلد نأمة، في غيابة سجن، يظل فيه مدى حياته، أو مدى حياتي أنا!!

قبضوا عليه. وداسوا، بمدحلة، كوخه، والقنّ، بدجاجاته عاثرات الحظ، وسوَّوا هذه كلها بالأرض.

حزن مربو الدجاج الفقراء.

ثم بكى الجميع، ساعة رأوا بدر الزمان، الطيب، صاحب الشكاة المعبّرة، يجرّد من ثيابه، في ساحة الضيعة، ويجلد، عارياً كما ولدته أمه.

ومما زاد في تأثرهم أنهم رأوا هذا الفتى -بعد جراءته المعجبة- صابراً صامداً. كان ينقل بينهم نظراً ثابتاً، وكأن سياطاً لا تخفق فوق ظهره العاري. لا تطرف له عين. لا تنفرج شفتاه عن أنّة. ولكنه كان، طوال الجلد، يردد في إيقاع رتيب:

- يا أخيّة! يا أخيّة! يا أخيّة!

وبكى، أيضاً، كل من تحلّق حوله، في ساحة العاصمة، وهو يجلد. نظر ثابت. لا عين تطرف لا أنين.

- يا أخيّة! يا أخيّة! يا أخيّة!

على أن ما خفّف من حزنهم أن بدر الزمان قد نجا من حبل المشنقة. وأما سجنه، مدى حياته أو مدى حياة الإمبراطور.. فهل تطول حياة هذا الطاعن في السن، الذي يفتقد لحم اليمام مشوياً على نار هادئة!!

يتبـــع