عينان مطفأتان ، وقلب بصير(9)

عبد الله الطنطاوي

عينان مطفأتان، وقلبٌ بصير

    عبد الله الطنطاوي  

[email protected]

  

الفصل التاسع

نجح مشروع مركز الأبرار نجاحاً باهراً، وصار المركز كخلية النحل؛ التلاميذ الصغار يتعلمون في النهار، والأميون الكبار يتعلمون في الليل، ولجنة تحفيظ القرآن تعمل في المسجد والغرف التي ألحقوها به، والورشـــة الصغيرة صارت كبيرة، وكثر العاملون فيها من المكفوفين ومن المبصرين، ومدرسة المكفوفين نجحت هي الأخرى، وكثر المنتسبون إليها من القرى والبلدات القريبة والبعيدة، بل انتقل إليها للتعلم فيها بعض الأكفّاء من أبناء المدينة، وكثرت أوقاف المركز، وارتفع شأن الشيخ صالح الذي أنهى دراسته في كلية الشريعة، وانتسب إلى قسم الدراسات العليا في الجامعة، ولكن دراسته لم تصرفه عن قريته، ولا عن مركز الأبرار، فقد كان يتردد عليهما في الأسبوع مرتين.. لقد قسم وقته قسمين، للجامعة وللمركز.

كان يشرف بنفسه على المركز، على الرغم من وجود الإمام الذي تفرّغ للمركز، وشغل نفسه به، فلا يكاد يُرى إلا فيه.. لقد وزّع وقته بين المركز والمسجد، فإذا سها عن المركز يوماً، أنّب نفسه وعاقبها، واعترف للشيخ صالح بتقصيره، وطلب منه أن يستغفر الله له، إضافة إلى استغفاره هو، مخافة أن يكون تقصيره من باب الإهمال المتعمّد، وهذا خيانة لا يرضى بها..

كان الشيخ صالح يتابع ما يستجدّ في مجال تعليم المكفوفين، فإذا سمع أو قرأ عن ابتكار جديد، سارع إلى الوزير، يستعين به في تأمينه له، بحكم علاقاته مع الجامعات والأوساط الثقافية العربية والغربية، وكان الشيخ صالح ينقل ما يتعلمه إلى تلاميذه المكفوفين في المركز، ولا يستأثر بشيء لنفسه، ولا يضنّ عليهم بمعرفة أو علم.. ولهذا أحبّه سائر المكفوفين، وصار ملاذهم، يلجؤون إليه كلما حزبهم أمر، فيحلّ لهم مشكلاتهم، ويقضي لهم حاجاتهم، ويساعد الفقير والمحروم والمريض والمدين، وكانت اللجنة ورئيسها الوزير، قد فوّضوه بصرف أيّ مبلغ يرى ضرورة صرفه في المجال الذي يراه..

وقد ساعده هذا على تقديم العون لمنتسبي المركز، فيسدّ دين هذا، ويداوي ولد ذاك، ويشتري الهدايا، ويقدّمها إليهم في المناسبات، والكلّ راضون عنه، وعن حسن تصرّفه في إدارة المال والأعمال، حتى صار اسمه على كل لسان، وصارت قرية الطيبة ومركز الأبرار حديث الصحافة والناس، وكلّهم يتحدثون عن ذلك الشاب الأعمى المثقف الذي بدأ من الصفر، ثم هيّأ الله له من يعينه على تحقيق طموحاته وأهدافه السامية، فخدم قريته أعظم خدمة، بنى فيها مركز الأبرار بفروعه وتشعباته، ومهّد دروبها المتربة، ثم سعى إلى تعبيدها، ووصلها بالمدينة، وحفر بئراً ارتوازياً ليشرب منه أهل القرية، بدلاً من المياه الملوّثة التي كانوا يجمعونها من الأمطار الشحيحة، ثم جلب إليها الكهرباء، حتى صارت واحة داخل صحراء..

وتحدثت نساء القرية عن هذا الشاب الأعمى الزاهد الذي لم يتزوج حتى الآن، مع أنه تجاوز العشرين، وهي سنّ الزواج في القرى، بسنوات، وهو ما لم يعتد عليه أهل القرية. قالت إحداهن لأمّه:

- لماذا لا تزوجين ابنك الشيخ صالح.

فأجابتها:

- حتى يأتي النصيب..

قالت امرأة ثانية:

- النصيب لا يأتي.. النصيب يأمرك أن تذهبي إليه.

وقالت ثالثة:

- كلّ بنات القرية يتمنّين الزواج منه.

وقالت رابعة:

- بنتي مثلاً كانت تقول لبنات عمها: لو خطبني الشيخ صالح لوافقت.

فقالت لها بنت عمها: ولكنه أعمى. فردّت عليها بنتي: صحيح أعمى، ولكنه أفضل من مئة (مفتّح).

وكانت أمّ صالح تتمنّى لو يوافق صالح على الزواج، لزوجته من بنت أبي معن، تلك الفتاة الجميلة التي تقول للقمر البدر: غب حتى أجلس مكانك..

حدّثت أباه بما تسمع من نساء القرية، وأبدت تخوّفها من أن تذهب بنت أبي معن من أيديهم، فخطّابها كثر، وهي بنت رائعة، وأبوها من وجهاء القرية ومن أغنيائها، وسوف يجهّز بنته بأحسن جهاز وأغلاه، وقد يشتري لهما بيتاً جميلاً، لأنها بنت مدلّلة، ويحبّها كثيراً.

قال أبو صالح:

- ونحن من بسطاء القرية ومن فقرائها، وابننا أعمى.

مسحت دمعة هربت من عينها وقالت:

- يا حسرة عليك يا ولدي يا صالح.. لو كانت لك عينان مبصرتان، ورأيت بهما فطومة بنت أبي معن، لقبّلتَ يديّ ورأسي، وطلبت مني أن أخطبها لك.. لكن.. يا حسرة.. أنت لا ترغب في الزواج، لأنك لا ترى، ولا تعرف القبح من الجمال.

خنقتها العبرات، فبكت وأنشجت بحرقة، وزوجها يحاول تهدئتها ولكن بلا جدوى..

نهضت إلى الباب ونادت ابنها صالحاً، فخفّ إليها صالح مذعوراً:

- ما بك يا أمي؟ خيراً إن شاء الله.

قالت في بكاء:

- من أين يأتيني الخير، وأنت لا تحسّ بأمّك، ولا تنفّذ لها طلبها.

قال صالح:

- أعوذ بالله يا أمي.. إذن أنا ولد عاقّ ولا أدري.

قال أبو صالح:

- لستَ عاقاً يا ولدي.. ليت كلَّ الأبناء يكونون مثلك.. الله يرضى عليك يا ولدي.

وقالت أم صالح:

- اسمعني يا ولدي.. فطومة بنت أبي معن، أريدها كنّة لي.. والله يا ابني مثل القمر، ولكنّ عيبك أنك لا ترى.

صاح أبو صالح:

- افهمي ما تقولين يا امرأة.. عيب.. حرام..

قالت:

- الذي يقول الحقيقة تقول له: عيب.. حرام.. أليس ابننا أعمى؟

فصاح بها أبو صالح من جديد:

- أمّ صالح!.

قالت:

- ابني أعمى، ولكنه أفضل من كل (المفتحين).. أنا أعرف ابني، وأحبّه، وأريد له الخير، ولكنه لا يفهم.

ضمَّ صالح أمّه إليه وقال:

- هذا رأيك فيّ يا أمي، لأني ولدك، وكما يقول المثل:

صاح أبو صالح:

- دعنا من أمثالك أنت الآخر يا صالح، وقل لأمّك: هل ترغب في الزواج حتى نخطب لك الفتاة المناسبة؟

صاحت الأم:

- رغب أم لم يرغب.. أنا أرغب. أريد أن أزوّجك لترتاح وتريحني يا ولدي.. أريد أن أرى أولادك قبل أن أموت، فالشمس صارت على الحيطان، وقاربت أن تغيب.

قال صالح في رفق:

- توكّلي على الله يا أمي؛ فأنت مازلتِ في عزِّ صباكِ وشبابك.

صاحت:

- إذا أردت أن أذهب إليهم الآن لأخطبها لك، ذهبت.

صَفَقَ أبو صالح كفّاً بكفّ وهو يقول:

- لا حول ولا قوة إلا بالله.. جنّت المرأة.

وقال صالح:

- تذهبين الآن يا أمي في هذه الليلة الباردة؟ الصباح رباح يا أمي.

قالت في فرح:

- قبل أن أعجن عجيني أذهب إليهم.

- لا حول ولا قوة إلا بالله.

قال صالح:

- سأفترض أنهم يرضون بي زوجاً لابنتهم، وأن البنت ترضى الزواج من هذا الضعيف الأعمى.. ولكني سأصلّي صلاة الاستخارة.. سأستخير ربي قبل الخطبة.

قالت أم صالح:

- لا تعذّب روحك يا ولدي.. قلت للشيخ محمد الإمام أن يعمل لك استخارة، وأخذت له من أثرك، وسوف يعطينا النتيجة غداً.

سأل صالح:

- هل قال لك هو ذلك؟

- لا.. أنا لم أره.. كان في المركز.. ما شاء الله.. الإمام عشقان المركز.. لا يراه أحد إلا في المركز.

- إذن؟..

- إذن.. أمّك لا تُغْلَبُ يا ولدي.. ذهبت إلى زوجته، وأعطيتها أثراً منك، وطلبت منها أن يعمل زوجها لك استخارة.

تنهّد صالح:

- الحمد لله.. والله لو كان الإمام أخذ منك الأثر، ووعدك بشيء، لأقمت عليه الدنيا.

- لماذا يا ولدي؟ لأنه يريد مصلحتك؟

- لا.. لأن الذي يفعل هذا.. أعوذ بالله.. أعوذ بالله.

قال أبو صالح:

- استخر الله يا ولدي حسبما جاء في السنّة النبويّة، ثم استشر الإمام في خطبتها.

صاحت أم صالح:

- وما دَخْلُ الإمام بهذا؟ هل هو الذي سيخطب ويتزوج أم صالح؟

قال أبو صالح:

- يا أمّ صالح.. يا أمّ صالح.. ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار.

قالت:

استخرتَ أم لم تستخر.. استشرتَ أم لم تستشر.. سأخطب لك فطومة، وأزوّجك منها، وأكسر عيون كلّ الذين خطبوها..

قال صالح مبتسماً:

- تكسرين عيونهم بهاتين العينين المطفأتين يا أمي؟

- نعمْ.. بعينيك العمياوين هاتين يا ولدي، وسوف ترى.

وأجهشت بالبكاء.

قال أبو صالح:

- قم إلى فراشك يا ولدي، فقد انتصف الليل أو كاد.

قالت أمّ صالح:

- لا تنس صلاة الاستخارة... لا تقل لي: نسيت.. مفهوم؟

- مفهوم يا أمي..

جدّد صالح وضوءه، ثم صلّى صلاة الاستخارة، ودعا دعاءها، ثم استلقى على سريره، يستغفر ربّه، ويدعو دعاء النوم.

عند أذان الفجر كانت أمّه تهزه وتوقظه:

- قم يا شيخ صالح.. قل لي ماذا رأيت في منامك.. هل أذهب لأجسّ نبضها ونبض أهلها؟

قال صالح، وهو يتحسس ساعته ليعرف الوقت:

- هل صليت الفجر يا أمي؟

- لا.. سأصلي معك.. أم أنك ستذهب إلى المسجد؟

- طبعاً سأذهب إلى المسجد.. يا الله.. يا رحمن.. يا رحيم.

قالت في لهفة:

- قل لي.. ماذا رأيت في منامك! حنطة أم شعيرة؟

- لم أر شيئاً يا أمي.

- ألم تصلّ صلاة الاستخارة؟

- بلى.. صلّيت، ودعوت، وسوف ييسر الله لي ما يراه خيراً لي، في الزواج منها أو عدمه.

قالت:

- على أي حال.. اذهب إلى المسجد، واسأل الإمام عمّا رأى في منامه.

بعد صلاة الفجر، جلس الصديقان الحميمان: صالح والإمام، وتحدّثا في أحوال المركز، وما سيفعلانه في هذا اليوم، ولم يتطرقا إلى الاستخارة أو الزواج أو أيّ شيء آخر لا صلة له بمركز الأبرار.

افترق الرجلان، كلّ إلى بيته، وإذا أمّ صالح بالباب ترتجف، وتستقبل ولدها صالحاً بقولها:

- قال حيّة قال.. والله صاحبك هو الحيّة.. وحنش أيضاً.. ولكنك، يا حسرة، لا تستطيع أن ترى وجهه الأسود كالحنش.

سحبها من يدها إلى الغرفة وهو يسألها عمّا دعاها إلى الوقوف في الباب في هذا الصباح البارد، حتى صار جسمها يختلج ويرتجف من البرد، فقالت:

- صاحبك الشيخ محمد.. هذا الحنش هو الذي جعلني أقف هاهنا أنتظرك، لأرى ما فعلت استخارته بك..

- عن أيّ استخارة تتحدثين يا أمي؟

- ألم يقل لك ما رآه في منامه؟ ليته كان أعمى حتى لا يرى.. لا في يقظته ولا في منامه.

استغفر صالح ربّه على هذا الذي يسمع في هذا الصباح، وتذكر ما قالته أمّه في الليلة الفائتة، فعاد الابتسام والاطمئنان إلى نفسه، وقال لأمه في حبّ:

- هل رأيت الإمام يا أمي؟

- لا.. لم أره، ولا أريد أن أرى هذا الحنش.

- حرام يا أمّي... ولا تنابزوا بالألقاب.. هكذا يأمرنا الله تعالى في كتابه العزيز.. ثم.. أرجوك أن تحدّثيني من البداية، إلى النهاية، حتى أفهم، فأنا الآن طَلْطَمِيْس من الجمعة إلى الخميس.

- حاشاك يا ابني.. الطَلْطَمِيْس هو، أمّا أنت، فسيّد العارفين.

استغفر صالح وحوقل ثم عاد إلى رجائها أن تحدّثه عما جرى ليفهم..

استجمعت الأمّ شجاعتها وقالت:

- رأى الشيخ محمد في منامه أن حيّة جميلة الألوان، لم ير في حياته مثلها، تريد أن تلفَّك بجسدها البارد، وأنت تحاول الابتعاد عنها، لأنك خائف منها، وأنا أمّك أقول لك: تحمّلها يا صالح.. لا تبتعد عنها يا ولدي.

هذا هو المنام الذي رآه صاحبك الإمام في الاستخارة.. عمى الله عينيه حتى لا يرى مثل هذا المنام المخيف.

سألها صالح:

- متى رأيته يا أمي حتى يحكي لك هذا المنام؟

- بعد أن ذهبت أنت إلى المسجد، صلّيت الفجر وحدي، ثم ذهبت إلى بيته، وكان هو في المسجد، فقصّت زوجته هذا المنام عليّ.

قال صالح:

- ولكنه لم يذكره لي.

قالت في انفعال:

- لأن وجهه أسود.. وقلبه أسود، فكيف يحكيه لك؟

استغفر صالح  من جديد وحوقل، ثم قال:

- أين أبي؟

- ذهب إلى الحقل.. كأن الحقل سيطير. قلت له: اجلس حتى يعود صالح ونفطر معاً، ولكنه ركب رأسه، وأصرّ على الذهاب.. هكذا هو، رأس يابس مثل هذا الحطب الذي نتدفأ على ناره.

ابتسم صالح وقال:

- إذن ننتظره حتى يعود لنفطر معاً.

هجمت عليه، وقبّلته بين عينيه، وقالت:

- كم أنت طيب يا ولدي... آه لو أن هاتين العينين مفتَّحتان.. ولكن.. لا يهمّك، فقلبك مفتّح، وعقلك مفتّح والحمد لله.

- الحمد لله، وألف شكر لله، فقد غمرني بفضله، يا أمي، وبكرمه.

قالت في حزن:

- لكنه لا يكمّلها مع أحد..

- أستغفر الله يا أمي.. هذا الكلام لا يجوز.. استغفري الله يا أمي، فأنت امرأة مؤمنة والحمد لله، وسوف نذهب هذا العام إلى الحج معاً.. أنت، وأبي، وأنا إن شاء الله تعالى.

فرحت أمّ صالح، وكادت تزغرد، لولا أنها تذكّرت تعليمات صالح في هذا الشأن، ثم غاضت الفرحة من وجهها، وحلّت الكآبة محلّها كهالة صفراء، وأحسّ صالح بما اعتراها، بفطنته ومعرفته بأمّه، فسألها:

- ما بك يا أمي؟ ظننتك ستطيرين من الفرح لهذا الخبر.

قالت في تردّد وحزن:

- يا ليت يا ابني يا ليت، فالعين بصيرة، واليد قصيرة. والذهاب إلى الحج مُكْلِفٌ جداً يا ولدي، وليس مع أبيك إلا ما يصرفه علينا يوماً بيوم.

قال صالح:

- ادّخرت بعض المال الذي كنت أكسبه من هنا وهناك، وهو يكفينا للحج.

فتحت عينيها جيداً وقالت:

- احذر من الحرام يا ولدي.. مال المركز حرام، ولا يجوز أن تأخذ قرشاً منه. احذر أن تمدّ يدك إليه.

ظهر السرور في وجه صالح، وهو يسمع تحذير أمّه من المال الحرام، وقال:

- بارك الله فيك يا أمي.. أنت تعلمين أنّ يدي لم تمتدّ إلى الحرام وأنا صغير جاهل، فكيف تمتدّ الآن، وقد كبرت، وتعلمت، وصرت أميّز الحلال من الحرام؟.

قالت:

- القطة تعرف الحلال والحرام، وتميّز بينهما، فإذا ألقيت إليها قطعة لحم أو جبن، أكلتها أمامك، وإذا سرقتها، هربت بهما، وأكلتها بعيداً، ومع معرفتها هذه، فإنها تسرق، وقد تحلّل لنفسها السرقة، وهي حرام، بأنها جائعة، أو أن أولادها الصغار العميان جائعون، أو أنها سوف تتوب بعد هذه السرقة.. وهكذا يفعل بعض الناس، يعرفون وينحرفون. ويبررون لأنفسهم أكل المال الحرام، ويطعمون أولادهم وزوجاتهم من المال الحرام، دون أن يرفّ لأحدهم جفن، ودون أن ترتجف يده أو تتجمّد وهي تمتدّ إلى المال الحرام.

انسربت دمعتان من عيني صالح، وربت على كتف أمّه، وحمد الله على فهمها هذا، وعلى تقواها وورعها، ثم قال:

- اطمئني يا أمي، فسوف تحجّين بمال حلال.

قالت في سعادة:

- الحمد لله يا ولدي.. فأنت تعرف الحلال والحرام أكثر مني. أنت عالم، وأنا جاهلة، ولكني أتعلم من أبيك، ومن الإمام، ومن هنا وهناك.. ثم... أنا مازلت أذكر حديثك مع ابن الجيران الذي سرق بيضتين من أمه، وأعطاك واحدة منهما، فأبيت أن تأخذها، ونصحته أن يعيد البيضتين إلى القنّ، وأقنعته بذلك، فأعادهما.. هل تتذكر هذه الحادثة يا صالح؟

- وهل أستطيع أن أنساها يا أمي؟ لقد برّر سرقته تلك بأنها من قنّهم، ومن دجاجهم.

فقلت له: لماذا لا تأخذ البيضتين بمعرفة أمك؟ فقال: لا ترضى، وسوف تضربني، ولذلك سرقتهما. قلت له: أرأيت؟ أنت تقول: سرقتهما.. ولا يهم.. أن تكون السرقة من أمّك أم من غريب.. كلها سرقة.

مسحت الأمّ دموعها وهي تقول:

- وأنا لم أرك تسرق، ولم أسمع أحداً يتهمك بأمانتك، ولكن الشيطان لم يمت يا ولدي، الشيطان شاطر، ويعرف كيف يحتال على الناس، ولذلك سألتك، حتى لا نحجّ بمال حرام، فيذهب تعبنا هباء منثوراً، لأنّ الله لا يتقبّل الحجَّ بالمال الحرام.

- لا يتقبل الحج وغير الحج بمال حرام.. لا يتقبّل الصدقة، ولا الزكاة، ولا التبرع، ولا أيّ شيء إذا كان من حرام.. فاطمئنّي يا أمّي.

قالت:

- قال: أو لم تؤمن؟ قال: بلى. ولكن ليطمئنّ قلبي.

قال صالح:

- بارك الله فيك يا أميّ.. تقولين: جاهلة؟ وأنت تحفظين الكثير من كتاب الله تعالى، وتفهمين ما تحفظين وتقرئين،  وتستشهدين ببعض ما تحفظين.. هنيئاً لنا بك يا أمي، فقد ربيتمانا أنت وأبي على الصدق، والدين والأمانة، والأخلاق الفاضلة، وأطعمتمانا حلالاً طيّباً، فما نبتت لحومنا من حرام، ولله الحمد..

سكت صالح لحظة ثم قال:

- ولكن.. هل تسمعين نصيحتي يا أمي؟

قالت وهي تضحك:

- أعرفها..

ومدّت لسانها الطويل، وأمسكته بأصبعيها، وتابعت تقول:

- هذا.. أنا أعرف أن لساني طويل، ويحبّ الكلام وكثرة الكلام، وكم دعوت الله أن يلجمه كما نلجم الحيوانات، ولكن الله لم يستجب لي.. ليس بيدي.

وعندما همّ صالح بالكلام، وضعت كفّها على فمه، وقالت:

- تريد أن تقول لي: بل بيدك.. وهذا صحيح.. يا عبدي اسع حتى أسعى معك.. وسوف أعمل بنصيحتك يا ولدي، فادع الله لي، لعلّ الله يستجيب دعوتك.

رفع صالح كفّيه ليدعو، فصاحت به:

- ليس أمامي يا ولد.. ادع الله بظهر الغيب.. أم أنك فقدت الحياء؟

قال صالح في سرور:

- افتقدت الحياء وخانني الذكاء يا أمي.

قالت في مرح:

- ليست هذه هي المرة الأولى التي يخونك التوفيق فيها.

- هذا صحيح يا أمي. فأنا كثير الأخطاء.. غفر الله لي ولك ولأبي ولسائر المسلمين.

قالت:

- أما خانك التوفيق في رغبتك الذهاب إلى الحج قبل زواجك؟ ألم يقولوا: "الجاز قبل الحجاز"؟

قال صالح:

- أرجوك يا أمي، دعينا من الزواج، فأمامي عدة سنوات لإكمال دراستي.

قالت:

- لعلك خفت من منام ذلك الحنش؟ لا.. لا تخف يا ولدي.. فمن غير المعقول أن تكون فطومة هي تلك الحيّة.. مستحيل.. اسألني أنا عنها.. فأنا أعرفها منذ ولدتها أمّها.. اطمئن يا ولدي، وما رآه الإمام في المنام، أضغاث أحلام.

- إذن.. لماذا كلّفت الرجل بعمل استخارة؟

- لو كنت أعرف أنه سيرى ذلك المنام السخيف، ما كلّفته.. ثم أنا كنت أظنه من أصحاب الأنفاس الطاهرة، وأنه سيرى مناماً جميلاً نرتاح إليه، وإذا هو يرى حيّة.. حيّة في عمامته إن شاء الله.

ضحك صالح حتى استلقى على قفاه، ونهضت أمّه وهي تقول:

- سأحضّر الفطور، قبل أن يأتي من يأخذك وأنت على الرِّيق.

وخرجت من الغرفة وهي تقول:

- قال حيّة قال.. الحيّّة تأكل رأسه..

قرع باب الدار، وخرج صالح مسرعاً ليفتح الباب، فهو يعرف أن الإمام هو الذي يقرع الباب، فقد اعتاد على قرعه.

وقف معه خارج الدار، وسأله عن الاستخارة والمنام، فضحك وقال:

- ما جئت إلا من أجلهما.

- لماذا لم تحدّثني عن المنام في المسجد؟

- لأني ما كنت أعرف عنه وعن الاستخارة شيئاً.

- وهل عرفت بعد أن ذهبتَ إلى بيتك؟

- نعم.. حكت لي زوجتي عنهما..

- كيف تحكي لك عن منام أنت رأيته؟

فضحك الشيخ محمد، وقال:

- دعنا ندخل فالبرد شديد.

- ولكنّ الوالدة مستنفرة، وقد تسمعك كلاماً يؤذيك.

- لا بأس.. دعنا ندخل أولاً.

بعد أن استقرّ المقام بالشيخ محمد، حدّث صديقه صالحاً عما جرى:

- زوجتي المصون، يا صاحبي، حاطّة عينيها على فطومة، تريد أن تخطبها لأخيها، ولذلك تورّطت مع والدتك بهذا المنام الكاذب.

- كيف؟

- بصريح العبارة؛ زوجتي لم تقل لي شيئاً عن الاستخارة، ولا عن الأثر الذي جاءت به أمُّك من آثارك.. خذه.

مدّ صالح يده، وأخذ قطعة قماش كانت أمّه اقتطعتها من قميص له، وضحك الرجلان على السذاجة والخرافات لدى الريفيات الأميات المسكينات، ثم قال الشيخ محمد:

- قصّت عليّ زوجتي ما جرى، فقد وعدت والدتك بأن أعمل لك استخارة، ولكنها لم تقل لي، لأني عندما عدت إلى البيت كانت نائمة، وفجر هذا اليوم جاءت أمّك تسأل عمّا رأيت في منامي، فاخترعت لها قصة الحيّة التي تريد أن تلف على عنقك أو على بدنك، لا أدري.

ضحك الشيخ صالح، ثم قال:

- لابدّ أنها اخترعت هذا المنام، حتى تبعدها عن بنت الأخ أبي معن، لتخطبها لأخيها.

- صحيح.. هذا ما جرى.. ولكن.. احذر أن تقول للوالدة شيئاً من ذلك.

- أعوذ بالله.. لو عرفت هذا، لكانت فضيحة وقطيعة أبدية.. سأتدبر الأمر معها، وبارك الله لحميك بتلك البنت التي لم أفكّر بها ولا بغيرها، ولكنْ.. ماذا أصنع مع أمّي..

- أعانك الله، وأعان أباك، وأعانني على زوجتي الطيبة القلب، التي تورّطني كلّ مدّة بورطة.. إنها تريد مفاخرة رفيقاتها، فلا ترى ما تفاخر به سواي..

وانطلق لسان الإمام يقلّد صوت زوجته التي تحبّ الفخر فيما لا فخر فيه، على حدّ قول زوجها:

- زوجي شيخ ولا كل المشايخ.. استخارته لا تخيب.. دعاؤه مستجاب.. عالم يستطيع أن يكسر رؤوس كل العلماء في المدينة.. وهكذا..

قال الشيخ صالح وهو يمسح دموعه من شدّة الضحك:

- هنيئاً لك بهذه الزوجة.. تقول العرب: كلّ فتاة بأبيها معجبة، ولكن نساء قرية الطيبة معجبات بأزواجهن وأولادهنّ..

يتبــــع