عينان مطفأتان ، وقلب بصير(7)

عبد الله الطنطاوي

عينان مطفأتان، وقلبٌ بصير

    عبد الله الطنطاوي  

[email protected]

  

الفصل السابع

رنّ جرس هاتفه النقال، وكان على الخط معالي الوزير الذي ترك الوزارة، وتفرّغ لأعمال البرّ والخير والإحسان، ولكنّ صالحاً كان يصرّ على وصفه بالوزارة ويقول بصدق:

- أنت يا عمي تشرّف الوزارة، ولا تَشْرُف بالوزارة.. الوزارة هي التي تشرف بك.. ومع ذلك.. يطيب لي أن أسمع صفة الوزير ملازمة لك، ولن أتخلّى عن وصفك بها عندما أتحدّث عنك، أو يتحدّث عنك الناس..

دعاه الوزير إلى الغداء، فاستجاب فوراً ولم يتمنّع ولم يتصنّع:

- سأكون عندكم في الساعة الثانية إن شاء الله تعالى.

- بل تبقى في بيتك، وستأتيك السيارة إن شاء الله قبيل الثانية.

- كما تريد يا عمّي الوزير.

في الواحدة والنصف دُقَّ جرس الباب، فأسرع صالح نحو الباب، ولم يدر كيف سقط على الأرض، وارتطم وجهه بالجدار، فصاح:

- آخ.. آخ يا أمّي آخ..

سمع الوزير صوت سقوطه وتأوهه وأنينه، فقرع الباب بشدّة وهو يصيح:

- صالح.. صالح.. أين أنت يا ولدي.

سمع صالح صوت الوزير، فكتم أنينه، وتمالك أوجاعه، وزحف نحو الباب وهو يصيح بصوت واهن:

- أنا هنا يا عمّي الوزير.. لحظة وأفتح الباب..

اشتدّ القرع على الباب، واشتدت عزيمة صالح، ففتح الباب، ثم سقط مغشياً عليه..

في الطريق إلى المستشفى أفاق صالح من غيبوبته، فسأل:

- أين أنا؟

وجاءه صوت الوزير:

- أنت معي وأنا معك يا ولدي.. الحمد لله على سلامتك.

- هل نحن ذاهبون إلى الغداء؟ آه.. آخ..

- لا يا ولدي.. إلى المستشفى، وسوف تتماثل للشفاء سريعاً إن شاء الله.

قال صالح:

- لا داعي للمستشفى يا عمّي.. أحتاج إلى قليل من الراحة لا أكثر.

- ترتاح في المستشفى إن شاء الله.

رقد صالح في غرفة من الدرجة الأولى، فيما كان سائق الوزير يطير بسيارته إلى القرية، ليحضر أمّه وأباه.

سأل الوزير عمّا جرى، فقال صالح:

- زارني أمس بعض الزملاء، ويبدو أنهم عبثوا بالبيت، ووضعوا بعض الأثاث في غير محلّه، وقد ارتطمت بمنضدة صغيرة وضعوها في غير مكانها، فسقطت على الأرض.

- سامحهم الله وسامحك.. فأين العصا البيضاء؟

قال صالح في حياء:

- وأنتم تصعدون الدرجات السبع، عرفت أنك قادم يا سيّدي، جاءتني رائحة عطرك، فأسرعت لأفتح الباب لأعزّ الأحباب، وما كنت متوقعاً مجيئك يا عمّي.

قال الوزير:

- لم أشأ أن أخبرك بأني آتٍ إليك، ومعي هدية فوزك في المسابقة الشعرية.. أردتها مفاجأة، وكان ما قدّر الله أن يكون.

قال صالح:

- لا أدري يا عمّي لماذا لا أشعر أني صرت عبئاً عليك، ولذلك لا أكاد أجد الكلمات التي اعتاد الناس أن يجاملوا بعضهم بها.

قال الوزير في فرح ظاهر:

- هذا لأنك ولأني لسنا كسائر الناس.. أنا أقدّم لولدي، وهذا واجبي تجاه أولادي جميعاً، وأنت واحد منهم.. وأنت يا ولدي تتقبل هديتي كما يتقبّلها أولادي.

- ولكن أولادك، يا عمّي، يقبّلون يدك كلما قدّمت لهم هداياك، فلماذا تمنعني من تقبيل يدك الكريمة الطاهرة كما يفعلون؟

قال الوزير:

- ألا تريد أن تعرف الهديّة أولاً؟

قال صالح:

- أقبّل يدك أولاً يا أبي، ثم أسأل عن الهدية.

ضمّ الوزير صالحاً إلى صدره، قبّل رأسه، فيما كان صالح يقبّل يده، ويمسحها بوجهه، ويغسلها بدموعه.

وكان الطبيب والممرض يقفان على رؤوسهما متعجّبين.. تنبّه الوزير لمجيء الطبيب، فقال له:

- اسمعْ يا حكيم.. الشيخ صالح بمثابة ولدي.. بل هو ابني.. وأرجو أن تُعنى به كما تُعنى بأعزّ الناس عليّ وعليك.

هزّ الطبيب رأسه، ثمّ تقدّم نحو صالح، وأخذ يقلّبه ظهراً لبطن، ومن يمين لشمال، ويجسّ نبضه، ويفحص ما يقدر على فحصه فيه وهو صامت.

سأله الوزير عمّا به، فأجاب:

- الشيخ صالح، كالغزال الشارد، سليم من كلّ مرض أو عيب.

قال صالح في مرح، وهو يشير إلى عينيه المطفأتين:

- وهاتان يا دكتور؟ أليس فيهما عيب؟

قال الوزير:

- لا يا ولدي يا صالح.. ليس العمى عيباً.. أنت لم تجلبه لنفسك.. هذا من عمل الله، وإرادة الله ومشيئته فوق كل إرادة ومشيئة.

قال صالح:

- أعرف هذا يا عمي الوزير، ولكني أريد أن أمازح الدكتور.

قال الدكتور:

- ليت للمبصرين عُشْرَ معشار ما أنت فيه يا أستاذ صالح من الثقافة والعلم والأدب.

سأله الوزير:

- هل تعرفه يا حكيم؟

قال الطبيب:

- عندما رأته الممرضة، أسرعت إليّ وقالت:

"المريض الذي مع معالي الوزير، هو الشاعر الأعمى الذي تحدّثت عنه الصحافة، وفاز في مهرجان الجامعة".

قال صالح مبتسماً:

- إذن.. الأخت الممرضة عرفتْ أني أعمى.

قال الطبيب:

- ولكنها معجبة بشعرك.

سأل الوزير:

- وأنت يا حكيم؟

قال الطبيب:

- وأنا أشدّ إعجاباً منها.

- لماذا يا حكيم؟

- لأنني.. لأنني..

قال صالح:

- لأنك يا سيّدي شاعر.

سأل الوزير:

- هل أنت شاعر يا حكيم؟

- نعمْ يا سيّدي الوزير.. أقول الشعر.. أعني كنت أنظم الشعر وأنا طالب في الثانوي، وأردت أن أدرس في كلية الآداب، ولكنّ أمي رغبت وأصرّت أن أدرس الطبّ، وقالتْ لي:

"يا بنيَّ.. أنت شابُّ طيِّب، تحبُّ الخير للناس، ولا تحبّ المال كما يحبّه غيرك من الأطباء، ولذلك.. يجب أن تدرس الطبّ يا ولدي، لتداوي المرضى الفقراء، ولا تأخذ منهم شيئاً."

- وهل عملت بنصيحة أمّك يا حكيم؟

- أرجو ذلك.. عملت بنصيحتها، ودرست الطبّ، وتركت الشعر، فلا أكاد أنظم الآن إلا في المناسبات.

قال صالح:

- وهذه المناسبة.. ألا تنظم فيها شعراً يا دكتور؟

سأل الدكتور:

- أيّ مناسبة يا صالح؟

قال صالح في مرح وفرح:

- مناسبة تخلّ العقل.. وزير عظيم قدّ الدنيا، ينقل شابّاً فقيراً أعمى إلى المستشفى، ويعطّل أعماله، ويتخلَّى عن غدائه وراحته، من أجل راحة هذا الأعمى الذي يحدّثك يا دكتور.

كان الوزير قد أدار ظهره، وابتعد عن سرير صالح، ولكنّ نشيجه لفت الانتباه إليه، فقال الدكتور:

- والله.. سأنظم في هذا الموقف الإنساني الفريد من نوعه، قصيدة تعجبك يا صالح.

قال صالح:

- إذا أعجبتني، فسوف أقدّم لك الجائزة التي نلتُها في مهرجان عكاظ.

قال الطبيب:

- لا يا صالح.. لن تكون قصيدتي مثل قصيدتك.. أنت شاعر مبدع يا صالح، وأنا طبيب يهوى الشعر، ويحبّ الشعراء، ويفرح عندما يأتيه شاعر إلى المستشفى، لأقضي لحظات فراغي معه، أستمع إليه، وإذا عرف أني أنظم الشعر، أسمعتُه بعض أشعاري.

قال صالح:

- هل تسمع ما يقوله الدكتور يا عمي الوزير؟

أدار الوزير وجهه إلى صالح وقال:

- يسعدني أن أرى طبيباً شاعراً.. وأرجو أن تدعوه يا ولدي، ليكون من أركان مركز الأبرار.

سأل الدكتور عن هذا المركز، فأفاض صالح في شرح المشروع الذي يتشكل مركز الأبرار منه، فقال الطبيب:

- أرجو أن تعتبروني عضواً مؤازراً في هذا المركز.

قال الوزير:

- بل أنت عضو مؤسس، وأحد أركانه الخمسة.

فتابع صالح:

- وهم: عمّي معالي الوزير، والحاج فاتح، وأبو معن، وإمام مسجد الطيبة، والدكتور الشاعر.

قال الوزير:

- نسيت أن تذكر صالحاً وأبا صالح يا ولدي.

قال صالح:

- نسيت أن أذكر أبي.. فهو على الرغم من كونه فلاحاً بسيطاً، ولكنه مخلص، ونشيط، ويحبّ الخير للناس، ويسعى إلى خدمة الفقراء وأصحاب العاهات من أمثالي، أمّا أنا.. فما زلت طالباً يرعاه أبواه وعمُّه الوزير، ولا يقوى على فعل الكثير الذي يتطلبه المركز.

قال الوزير:

- عهدتُك صادقاً يا ولدي.. وعرفتُك واثقاً من نفسك، ومن إمكاناتك الكبيرة، فلماذا تقول مثل هذا الكلام أمام عضو جديد نريده أن يكون فعّالاً في المركز، متعاوناً مع أركانه؟ أنا لا أرضى أن تستهين بنفسك وإمكاناتك يا ولدي.

ثم التفت إلى الطبيب وقال:

- اسمع يا حكيم.. هذا المريض الذي يجلس أمامك على سرير الشفاء، هو الركن الأساسيّ في مركز الأبرار.. الفكرة فكرته، والمشروع مشروعه، هو المصمم والمخطط، ونحن منفذون. أنا وكلّ من عدّهم لك.. نحن منفذون، وهو العقل المدبّر والمدير لهذا المشروع الحيوي الذي نرجو من الله أن يوفّقنا لإكماله بأسرع وقت..

نقّل الطبيب عينيه بين الوزير والشاب المريض، ثم قال:

- أنا سعيد جداً بما أسمع، ولعلّ هذه (الوقعة) المباركة يا صالح، تجرّ خيراً كثيراً.

قال صالح في حيوية:

- أتمنّى أن أقع كل يوم مثل هذه الوقعة، إذا كان المشروع سيكسب عضواً عاملاً فعالاً مثلك يا دكتور.

قال الدكتور:

- صدق من قال: رُبَّ ضارّةٍ نافعة، وسوف تفرح أمّي وزوجتي بهذا المشروع.. سوف تقدّمان له الكثير.

قال صالح:

- وأنت يا دكتور، أكبر من كل مال.. ستكون ثروة لهذا المشروع.

*      *      *

عندما خلا صالح بنفسه، وهو على سرير المرض، انطلق لسانه يقرأ ورده اليومي الذي اعتاد على قراءته مذ حفظ القرآن الكريم.. كان يقرأ كل يوم جزءاً من القرآن الكريم، ويدعو ببعض الأدعية المأثورة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويصلّي على النبي ما شاء الله له أن يصلّي.. كان يفعل هذا بعد صلاة الفجر، ولكنه اليوم لم يستطع، فأجّل ورده إلى وقت لاحق من اليوم، ولكنه سقط سقطته التي أدخلتْه المستشفى، وشغله الوزير والطبيب وقد فرغ الآن لنفسه.

كان يتلو آيات الله بصوته الرخيم، وكان يتفاعل مع ما يقرأ، فيتلوّن صوته حسب المعنى، فيرتفع حيناً، وينخفض حيناً، وهو في موضع الاستفهام، غيرُه في موضع التقرير أو التعجّب.. إنه يعي ما يتلو جيداً، ولهذا تراه يقف عند كلمة أو آية لا يتجاوزها، حتى يفهمها ويفهم المراد منها، فإذا فهمها، تابع التلاوة.

وفيما هو غارق في سبحاته الفكرية مع كتاب الله العزيز، اقتحمت أمّه الغرفة وهي تنوح وتصيح:

- أصابوك بالعين يا ولدي.. كيف وقعتَ يا صالح؟ أين العصا البيضاء؟ أين إحساسك بالأشياء؟ إنها العين اللاّمّة يا ولدي.. حماك الله منها، وحمى أولاد المسلمين.

ناداها صالح:

- تعالي يا أمي اجلسي بجانبي.

صاحت:

- أجلس؟ أنا أجلس وأنت ممدّد على هذا السرير؟ لا لا يا صالح.. ادعُ أباك ليجلس، أما أنا، فسوف أبقى واقفة، أرقيك بكلمات الله التامّات من شر ما خلق، ومن غضب الله وعقابه وشرّ عباده، ومن همزات الشياطين.. شياطين الإنس قبل شياطين الجن.. شياطين الإنس ألعن من شياطين الجن يا ولدي، وقد حذّرتك منهم، ولكنك لم تستمع لكلامي.. عندك كلُّ الناس خيرٌ وبركة.. ولو كانوا، كما تقول، لما وقعتَ وقعتك السوداء هذه، ولما دخلت المستشفى، ورقدت على هذا السرير، بينما صاحب العين اللاّمة التي أصابتك، في بيته، مع زوجته وأولاده، ولا يهمّهم ولدي.. لا تهمّهم صحّته، ولا كسرُ رجله أو عظامِ ظهره.

صاح أبو صالح:

- على مهلك يا امرأة. يكفي هذا العويل وهذا النُّواح.. الولد بخير ولله الحمد، ولم تُكسر رجله ولا عظام ظهره.

فصاحت في نُواح:

- أنت لا تهتمّ بصالح. ولا تهمّك صحّته ولا مصلحته.. غيّر كنيتك فلن أناديك بعد الآن بأبي صالح.

- لا حول ولا قوة إلا بالله.. هذه المرأة الجاهلة تشتري الشرّ، وتشتهي البلاء. انظري إلى ولدك.. إنه أمامك.. اسأليه إن كان يشكو من شيء.. اسأليه.. إنه أمامك.

مسحت دموعها بكفّيها، ثم قالت:

- طبعاً سيكون معك. وسيقول: ما فيّ شيء.. ابني وأعرفه.

قال صالح بهدوء:

- تعالي إلى جانبي يا أمّي الحنون..

فصاحت في زوجها:

- هل سمعت؟ أنا أمّه الحنون.. إنه يعرف الذي يحبّه ويعطف عليه ويحنّ إليه، من الذي لا يحبّه ولا يحنّ عليه.

حوقل أبو صالح واسترجع، وهو يضرب كفاً بكف ثم قال:

- أنا راضٍ بهذا.. اجلسي إلى جانب ولدك، وأعيرينا سكوتك ساعة، حتى أفهم ما جرى معه.

صاحت:

- ساعة يا رجل؟ تريدني أن أسكت ساعة لتتحدث أنت؟ ماذا ستقول؟ ماذا عندك حتى تقول أنت وأسكت أنا؟

- لا حول ولا قوة إلا بالله.. جُنَّت هذه المرأة.

صاحت:

- أنا مجنونة؟

قال صالح في رجاء:

- تعالي يا أمّي حتى أحكي لك الذي صار.

أسرعت إليه، وألقت بنفسها عليه، وقالت:

- احكِ لي يا ولدي احكِ، فقلبي مثل النار.

قال صالح لأبيه:

- تفضّل واجلس يا أبي.

جرّ أبو صالح كرسيّ الخيزران إلى جانب السرير، وجلس وهو يقول:

- سوف تصنّع ورشتنا كراسي أفضل من هذا الكرسيّ بإذن الله يا صالح..

حدجته زوجته بنظرة كاللهب، وقالت:

- عقلي عند ابني، وعقله عند الكرسي.. أين قلوبكم أيها الرجال؟

قال صالح في ابتسام عريض، وقد وضع ساعده على كتف أمّه:

- كان يا ما كان، في حديث الزمان.. كان هنا شاب أعمى اسمه صالح، يحبّ أمّه كثيراً، ويحبّ أباه أيضاً.. كان في بيته يحضّر لجامعته، يقرأ خلاصة المحاضرة التي سمعها بالأمس، فقرع جرس الباب، والشيخ صالح سارح مع المحاضرة، فهبَّ قائماً، وانطلق نحو الباب ليرى من الطارق، فعثرت رجله، ووقع على الأرض، ثم جاء عمه الوزير، وحمله إلى المستشفى، وجاء أعظم طبيب في المستشفى، وعاينه، فلم يجد فيه شيئاً، فحمد الله وقال له:

"ليس فيك شيء يا شيخ صالح، وبإمكانك أن تعود إلى بيتك الآن".

ولكن معالي الوزير أبى أن يعود صالح إلى بيته، وأمر أن يبقى الشاب الأعمى في هذه الغرفة المريحة، ليستريح فيها يوماً أو يومين.. ألف هاء انتهى.. ما رأيك يا أمي في هذه الحكاية؟

ابتسمت الأمّ ابتسامة عريضة، ثم لفّته بيدها القوية الطويلة وضمّته إليها، فصاح بها زوجها:

- كسرت عظام ابنك.. الآن يحتاج إلى الطبيب فعلاً.

نظرت إلى صالح وقالت له:

- هل صحيح ما يقوله أبوك يا صالح؟

وانخرطت في البكاء، لأنها كسرت عظام ابنها.

ضحك صالح من أعماقه وقال:

- أضحكِتني يا أمي وأنا مرضان.

فصاحت:

- مرضان؟ أنت مرضان ولا تقول ما بك يا ولدي؟. هل أنادي الطبيب؟

نهض أبو صالح عن كرسيّه وهو بين الضحك والرثاء لهذا الموقف المضحك المبكي، وخرج من الغرفة، وعندما صفق الباب خلفه التفتت إلى صالح وقالت هامسة:

- ترى هل أصاب أباك مكروه يا صالح؟ والله إني أعرفه سيّد العاقلين، فما الذي جرى له؟ لابدّ أن عقله قد خالطه الخرف.. وإلا.. فكيف يسمح لنفسه أن يترك ولده المريض، ويخرج؟

قال صالح:

- لا يا أمي.. ليس بأبي شيء مما تقولين.. إن عقله يزن الجبال.

قالت وهي تمثّل بكفّيها:

- كلامك صحيح يا ولدي.. انظر إلى رأسه.. إنه أكبر رأس في الطيبة، وأكبر رأس في المستشفى.. ورؤوس كل الأطباء في هذا المستشفى أصغر من رأس أبيك.

ضحك صالح وضحك وضحك، حتى خشيت عليه أمّه، فصاحت به:

- ما بك يا ولدي؟ هل أصابك مثل ما أصاب أباك؟ هل أدعو لك الطبيب يا ولدي؟

هدّأ صالح نفسه ثم قال:

- يا ليت عقلي يكون مثل عقل أبي.. عقل أبي كبير يا أمي.. كبير كبير.. ولو أن أباه علّمه لكان أفضل من كثير من هؤلاء الأساتذة والأطباء.. ولكنه زوّجه مبكراً وهو ابن ست عشرة سنة.

قالت:

- وأنا كنت بنت اثنتي عشرة سنة.. أنا أصغر منه بأربع سنين.

قال صالح:

- قال: إنّ أمّه تريد أن تفرح به، فزوّجوه، وقطعوا تعليمه، ورموه في تلك القرية القاحلة.. يا حسرة عليه..

رمته بشرر تطاير من عينيها ولسانها، ثم قالت:

- تأدّب يا ولد.. تأدّبْ يا صالح... فالزواج ليس عيباً، وأمُّك هذه كانت وما زالت أحسن بنت في الطيبة.. اسأل أصحاب العيون ليقولوا لك: أبوك فاز بجوهرة.. بأجمل بنات القرية والقرى المجاورة.. هل فهمتَ يا ولد؟

ربت على كتفها وقال:

- كلامك صحيح يا أمي.. أنا غلطان..

قالت:

- إذن قم وناد أباك.

قال:

- كما تحبين يا أمّي.

وعندما تحرّك شعر بألم شديد، فتغضَّّنَ وجهه، وعضَّ على شفتيه، ولاحظت أمُّه ذلك، فقالت في حزن:

- أنا ولا أنت يا ولدي.. أنت تتألم يا صالح. ابق في فراشك يا ولدي، وسوف أنادي أباك، ليأتيك بالطبيب.

- لا يا أمي لا.. لست بحاجة إلى الطبيب.

- ولكنك تتألم.

- سوف يزول الألم بسرعة إن شاء الله تعالى.

- ونِعْمَ بالله يا ولدي.

قال صالح في رجاء:

- أنا أحبّك يا أمي، وأحبّ أن تدخلي أنت وأنا وأبي وأخي وأخواتي وعماتي وخالاتي الجنة.. أرجو أن نكون هناك في الجنة، كما نحن الآن هنا في هذه الدنيا.

قالت في استغراب:

- وأنا أحبّ ذلك... ولكن.. لماذا تقول هذا يا ولدي؟ هل مرضك لا سمح الله.

وانخرطت في بكاء مرير.

هدّأ صالح من روعها، ثم قال:

- ليس بي ما يدعو إلى الخوف يا أمي.. لست مريضاً والحمد لله، ولكن الأعمار بيد الله، وأنا أرجوك يا أمي أن تعاملي أبي معاملة تليق به، لتدخلي الجنة.

صاحت في استنكار:

- استغفر الله يا ولد.. يا متعلم.. يا دارس الشريعة.. أبوك سيدخلني الجنة أم الله؟

قال صالح في رجاء:

- أمر الله بطاعة الزوجة لزوجها، ونهاها عن مخالفته وعصيانه، وطاعة الله تدخل الجنة، ومعصية الله تدخل النار.

تساءلت:

- إذن.. ما دخل أبيك بالجنة والنار؟

قال صالح:

- عندما تطيعين زوجك يا أمي، تطيعين الله تعالى.

- اسكت يا ولد.. هل صار الزوج إلهاً؟ استغفر ربك.

- أستغفر الله العظيم وأتوب إليه.. طاعة الزوج يا أمي من أمر الله.. أمر الله تعالى، وأمر رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أن تطيع المرأة زوجها، والمرأة التي تنفّذ أمر الله وأمر رسوله تدخل الجنة، والمرأة التي تعصي زوجها ولا تطيعه، هي تعصي أمر الله وأمر رسوله يا أمي، ولذلك أرجوك أن تطيعي أبي فيما يرضي الله تعالى، حتى نكون كلّنا في الجنة يا أمي.

وضعت رأسها بين كفّيها وبكت، ثم رفعت رأسها وقالت:

- ادع أباك، وقل له: إنّ أمي تحبّك. وتطيعك، تنفيذاً لأمر الله ورسوله، ولكن.. على ألاّ يشتطّ عليّ، ويقول لي في الصباح والمساء: الرجال قوّامون على النساء..

قال صالح:

- استغفري الله يا أمي، فهذا كلام الله وليس كلام أبي.

قالت:

- أعرف أنه كلام الله.. أنا لست بقرة.. أنا إنسانة تصلّي وتصوم وتعبد الله تعالى، ولكنّ أباك يكرّر هذه الآية على مسامعي كل لحظة، كأنه لم يحفظ من كلام الله سواها.

ضحك صالح وضحك حتى استلقى على قفاه، ثم نادى:

- أبي.. أبي.. يا أبي..

دخل أبو صالح مسرعاً نحو ابنه في لهفة، وقال:

- مالك يا ولدي؟ هل تشكو شيئاً؟

قال صالح:

- أشكو إليك أمّي التي لم تضحكني كما أضحكتني اليوم.

قال أبو صالح:

- الحمد لله.. يعني.. فرَدَتْ وجهها أخيراً.

قال صالح:

- وسوف تبقى دائماً باسمة لك، ضاحكة معك، لا تردّ لك طلباً، ولا تعصي لك أمراً، ولكن بشرط.

- ما هو هذا الشرط؟

فصاحت:

-ألا تكرر على مسامعي.

قاطعها صالح وقال:

- نحن نقرأ كلام الله، وننفذ أوامره، وننتهي عما ينهانا عنه في كل لحظة.. أليس كذلك يا أمي؟

قالت:

- بلى.. ولكن.. ما هو الشرط الذي تريد أن تشترطه على أبيك؟ ظننته..

قاطعها صالح:

- معاذ الله يا أمي.. الرجال قوامون على النساء.. هذا كلام الله، نردّده كل حين.

قال أبو صالح وهو يهز رأسه:

- فهمتُ.. فهمتُ الشرط..

قال صالح:

- لا يا أبي.. ليس هذا شرطاً، وليس من حقّي ولا من حقّ أمي، ولا من حقّك أن نقبل هذا الشرط.

صاحت:

- إذن ما هو الشرط يا ولد؟

قال صالح:

- الشرط يا أبا صالح.. أن تسترضيها إذا أزعجتَها أو أغضبتَها، وأن تسترضيَك إذا أغضبتْك، وتعودَ إلى طاعتك.

قال أبو صالح:

- شرطٌ جميل، أنا أرضى به.

وقالت أمُّ صالح:

- معنى ذلك، أنه سوف يسترضيني كلَّ لحظة، لأنه في كل لحظة يغضبني.

قال صالح:

- لا يا أمي.. أبي أكرم من ذلك.. وقد سمعتُه ويقول:

"ما أكرمهن إلا كريم، وما غلبهن إلا لئيم" وأبي ليس لئيماً يا أمي.

قالت أم صالح، وقد انفرجت أساريرها:

- وأنا أشهد أن أباك كريم، ولم يكن لئيماً معي ولا مع غيري يا ولدي.

وقال أبو صالح:

- وأنا أشهد أنها صابرة على الحلوة والمرّة، ويكفيني أنها أنجبت ولداً نجيباً مثلك يا صالح.

قال صالح في حياء:

- أستغفر الله يا أبي.. وإن كنت نجيباً فمنكما نجابتي يا أمّي ويا أبي التقيين الورعين.

سمعوا صوت المؤذّن ينادي لصلاة المغرب، فقال صالح:

- ما رأيك يا أبي أن تذهبا إلى بيتي لتستريحا، وغداً ألقاكما إن شاء الله.

قالت أمُّ صالح:

- ليذهب هو، أمّا أنا، فسوف أبقى معك.

- أين؟

- هنا.. على هذا الكرسي أنام، ولن أنام وأترك ولدي مريضاً يتألم.

- ولكنني لست مريضاً يا أمي، فليس بي ألم. وإن شئتم خرجتُ الآن معكم إلى البيت.

قال أبو صالح:

- مشكلة أمّك يا صالح، هذه العاطفة العمياء.. هيّا يا امرأة فالمغرب غريب.

قالت أم صالح:

- إذن.. ليذهب معنا صالح، مادام ليس مريضاً ولا متألماً من شيء.

- ولكن الطبيب طلب منه أن يبقى هنا ليستريح.

- لا.. ليس الطبيب الذي طلب، وإنما هي أوامر الوزير. أليس كذلك يا صالح؟

قال صالح، وهو ينزل عن سريره:

- كلام أمّي صحيح.. سأذهب معكم.

قال أبو صالح بغضب:

- لا يا ولدي.. مادامت هذه رغبة معالي الوزير.

- الوزير ليس طبيباً يأمر ويطاع.

- إنه فعل ذلك من أجل راحة ولدنا يا أمّ صالح.

- أنا أعرَفُ بمصلحة ابني، وأعرف أين يستريح، ومع من.. معي أنا وليس في هذه الغرفة.

قال أبو صالح في أسف:

- حسبي الله ونعم الوكيل.. سوف يزعل معالي الوزير، والطبيب معاً.

قالت أمّ صالح:

- ليزعلوا.. مصلحة ابني فوق زعلهم.

قال أبو صالح:

- أنت أبو الذوق يا صالح.. أرى أن تستأذن الوزير والطبيب.

قال صالح:

- كلامك صحيح يا أبي.. سوف أكلّمهما بالهاتف.

قالت أمّ صالح:

- قل لهم: تعبت من القَعْدَةِ في المستشفى، وسوف أذهب إلى البيت مع أمّي وأبي.. وبس.

مدّ صالح يده إلى الهاتف، وإذا الهاتف يرن.. رفع السماعة، وإذا الوزير على الخطّ.. قال له صالح:

- سبقتني يا عمي.. مددت يدي لأتصل بك، فسبق فضلُك يدي.

اطمأنّ الوزير على صحة صالح، وسأله عن أبويه، ثم قال صالح:

- أمّي تصرّ على خروجي من المستشفى إلى البيت، وقد وافقتُها على طلبها، لأني ما عدت أشكو من شيء والحمد لله.

وتحدّث أبو صالح مع الوزير، وفهم منه أنّ ولده صالح وضعُه سليم والحمد لله، ويستطيع أن يذهب معهم إلى البيت إذا أحبّوا.

قال أبو صالح:

- إذا كان الأمر كذلك، فسوف نذهب جميعاً إلى البيت الآن، لنلحق صلاة المغرب.

طلب منه الوزير أن ينتظروا لحظات، فالسيارة الآن في المستشفى لتأخذهم إلى البيت، ودعاهم إلى الغداء في بيته، في اليوم التالي.. حاول أبو صالح أن يعتذر، ولكن الوزير أصرّ على ذلك.

قال أبو صالح كالمحدّث نفسه، وهو يضع سماعة الهاتف:

- ما أروع هذا الوزير! سبحانك يا ربي.. من يكون صالح، ومن يكون أبو صالح، حتى يدعوهم هذا الرجل الفاضل إلى الغداء في بيته؟

ابتهل صالح في تأثر وانفعال:

ربِّ أوزعْني أن أشكر نعمتك التي أنعمتَ عليَّ وعلى والديّ، وأن أعمل صالحاً ترضاه، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين.

ثم التفت إلى أبيه وقال:

- أنت لست قليلاً يا أبي، وكذلك أمي الغالية.. أنتما تستأهلان كلَّ خير، وكلَّ تكريم، وعمّي الوزير رجل طيّب، فاضل، نبيل، بكل ما تعنيه هذه الكلمات من المعاني.

قالت أمُّ صالح:

- أنا معكما.. هذا الوزير رجل شهم.. أنت وأبوك يا صالح لا يرضى الشرطي، ولا الحارس القضائي، ولا أيّ موظف مهما كان صغيراً، أن يكلمكما إلا وهو رافع أنفه، ومن طرف لسانه،وبينما هذا الرجل الفاضل وزير ولا كل الوزراء.. ومع ذلك يهتمّ بك كلّ هذا الاهتمام يا ولدي، ويدعونا إلى مزرعته، ويرسل سيارته لجلبنا من القرية، ويدعونا إلى منزله، ويغرقنا بهداياه. ما هذا؟ هل هذا بشر؟

قال صالح في ابتسام:

- ما رأيك يا أمي.. هل يعمل هذا من قبيل العطف على ولدك الأعمى؟

فصاحت:

- استغفر الله يا ولدي، هذا الرجل أكبر من هذا.. إنه يحبّك من أعماق قلبه، وسوف يزوّجك ابنته أروى.. اسألني أنا.. أنا قلبي لا يكذبني وهو يتحدث معي.

قال أبو صالح في امتعاض:

- عادت حليمة إلى عادتها القديمة.. أرجوك يا أمّ صالح أن تكفّي عن هذا الكلام.. وقد قال لك صالح: حتى لو رضيت هي وأمها وأبوها، فإنه لا يرضى أن يتزوّجها.. فكفّي عن هذا أرجوك.. أرجوك..

نظرت إليه في عتاب وقالت:

- سوف أكفّ عن الكلام في هذا، ولكني أرجو ألاّ تنسوا كلامي هذا.. تذكّروه جيداً، وسوف ترون.. وسوف تقولون: قالت أمّ صالح، ولم نصدّقها.

ثم همست في أذن صالح:

- قلب الحرّ دليله يا ولدي، وأمُّك حرّةٌ بنت حُرّةٍ يا صالح..

يتبــــع