عينان مطفأتان ، وقلب بصير(3)

عبد الله الطنطاوي

عينان مطفأتان، وقلبٌ بصير

    عبد الله الطنطاوي  

[email protected]

    الفصل الثالث

مرت الأيام والسِّنون، والشيخ صالح يحقق نجاحاً تلو نجاح.. كان دائماً الأول على صفّه.. كان جسمه ينمو نمواً عجيباً، حتى صار فارع الطول، مديد القامة، وكان نظيف اللباس، أنيق الهندام، يصفف شعره بيده، ويلمّــع حذاءه، ويكوي ملابسه، ويتعطّر، ولا يخرج من المهجع إلا في كامل أناقته، وكان يخدم نفسه وأساتذته وزملاءه، تدفعه مروءته وذوقه الرفيع إلى تقديم العون إلى من يعرف ومن لا يعرف، حتى غدا علماً في المعهد الشرعي..

وكان لا يغيب عن الحاج فاتح، ولا ينسى له فضله، وكذلك الأمر بالنسبة للحاج فاتح.. كان يغدق عليه.. يعطيه مصروفه الشهري في الأول من كلّ شهر، ويشتري له اللباس الشتويّ، كما يشتري له اللباس الصيفي، ويقول للشيخ صالح ملاطفاً ومخفّفاً:

- سوف أستردّ منك ما أدفعه لك.. أنا أسجّل كل شيء.. فاطمئن.

فيحمرّ وجه صالح حياء، ويقول للحاج فاتح:

- وأنا لن أنسى معروفك هذا، يا عمّي، وأرجو من الله القدير أن يقدرني على الوفاء، يا أبا النخوة والكرم..

*     *     *

ذات يوم، زار المدرسة الشرعية وزير المعارف، وتفقّد الطلاب في صفوفهم، ولاحظ الفتى صالحاً بين الطلاب، فسأل أستاذه:

- هل هذا طالب؟

قال الأستاذ في ارتباك:

- هذا طالب مستمع.

فنهض صالح وقال:

- عفواً يا معالي الوزير. أنا طالب نظامي كسائر الطلاب، وأنا الأول على صفي.. أمضيت ستّ سنين في هذا المعهد الكريم، وأنا الأول عليهم، وفي سائر الموادّ.

اقترب الوزير ومرافقاه من صالح، ووضع كفّه على كتفه، وهزّه، ثم قال:

- ما اسمك يا بنيّ؟

- صالح المزرعاوي. ويدعونني بالشيخ صالح منذ كنت صغيراً في قريتي.

سأل الوزير:

- من أيّ قرية أنت؟

- من قرية (الطيبة). هل سمعت بها يا معالي الوزير؟

قال الوزير:

- بل أعرفها جيّداً وأعرف أهلها.

ابتسم صالح ابتسامة عريضة، وهو يقول:

- وأنا أعرفك يا معالي الوزير.. لقد زرت مزرعتك في قريتنا قبل عشر سنين، وقد ضايقك أولاد القرية وهم يلاحقون سيارتك حتى كدت تعود إلى المدينة لولا..

تابع الوزير:

- لولا أن زوجتي رأتك تحيينا بيدك ولسانك.

تابع صالح:

- وعندما رأتني أعمى، نزلت من السيارة مع ابنها الصغير الرقيق، ودسّت في جيبي بعض المال.

قال الوزير:

- فرفضت أن تقبله منها، وأعدته إليها.

قال صالح:

- ولكني تراجعت وأخذته من طفلك الرائع (حسان).

قال الوزير:

- وما يزال (حسان) يفخر على أمّه، بأنك رفضتَ هديتها، وقبلتَ الهدية منه.

قال صالح:

- ظننتكم نسيتم هذه الحادثة العابرة يا معالي الوزير، فقد مرّ عليها عشر سنين.

قال الوزير:

- بعض الحوادث يا ولدي لا يمكنك أن تنساها، مع أنها تبدو صغيرة.. لأنها تترك في النفوس أثراً لا تمحوه الأيام..

قال صالح:

- أرجو لكم كلّ خير، وأبقاكم الله ذخراً للمروءة والكرم.

فقال أحد المرافقين:

- وللشعب والوطن.

قال صالح:

- وللشعب والوطن.

تقدّم المرافق الثاني للوزير، ودسَّ في جيب صالح بعض النقود، فغضب صالح، وأعادها إليه وهو يقول:

- عفواً، يا أستاذ، أنا لا أقبل صدقة.

تقدّم الأستاذ المدرس وقال:

- لا يا صالح.. النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية.. خذها من السيد معاون معالي الوزير:

هزّ صالح رأسه، وأبدى أسفه لهذه المقارنة بين الصدقة وبين الهدية، التي كان يقبلها الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال:

- إذا أحبّ معالي الوزير أن يخصص لي راتباً شهرياً، مهما كان ضئيلاً، فإنني أتقبله، وأشكره على ذلك، أمّا الصدقات، فلا أقبلها.

قال الوزير:

- سوف ننظر في الأمر، أمّا الآن، فأرجو أن تقبل هدية السيد المعاون. وهي ليست صدقة، إنها هدية.

نهض غسان وقال:

- اسمع يا شيخ صالح، إذا لم تأخذها أنت، أخذتها أنا.

فضحك الطلاب وضجّوا، وحاول الأستاذ تهدئتهم، فقال له الوزير:

- دعهم، يا فضيلة الشيخ، دعهم.

*      *      *

بعد أيام، دخل الموجّه إلى الصفّ، واصطحب معه الشيخ صالحاً إلى الإدارة، حيث سائق الوزير مع مدير المعهد يتحدّثان حول صالح. رحّب السائق بصالح، ثم قال له:

- معالي الوزير يسلّم عليك، ويدعوك إلى الغداء في بيته اليوم.

فوجئ صالح بهذه الدعوة، ولكنّ قلبه كان يرقص من الفرح، فما كان يحلم أن يدعوه أحد أساتذته إلى بيته، فكيف بالوزير نفسه؟ لكن.. لماذا هذه الدعوة؟ ماذا وراءها؟ هل هي للعطف عليّ، أم لإكرام العلم وطلاب العلم؟ أم أنه قصّ على زوجته ما جرى، فطلبت هي أو ابنها أو كلاهما، أن يدعوني إلى الغداء.

لكنْ.. من أنا؟ ومن أكون حتى يفكّر بي هؤلاء؟ لابد أن في الأمر سرّاً.. صحيح أنني طالب متفوق على زملائي، وربما كنت أذكى منهم جميعاً، ولكن هذا ليس مسوّغاً لمعالي الوزير ليدعوني إلى بيته..

وفيما كان الشيخ صالح سارحاً مع خياله، ردّه السائق إلى واقعه، عندما أمسك بذراعه، ليسحبه إلى السيارة الفارهة التي تنتظر أمام باب المعهد.

سحب الشيخ صالح يده، وتحرّر من قبضة السائق، وهو يقول:

- دع ذراعي، فأنا أعرف طريقي.

عجب السائق من هذا التلميذ الأعمى، كيف يسير بلا عكازٍ، ولا قائدٍ يقوده إلى حيث يريد، وسار إلى جانبه، وهو ينظر إليه، فرآه يمشي كأيّ بصير.. يمشي بثقة، ويتحدث بثقة، رافعاً رأسه، ناصباً قامته، معتدّاً بنفسه، حتى لا يستطيع من لا يعرفه أن يميزه من سائر زملائه، خاصة بعد أن يضع نظارته السوداء على عينيه.

في بيت الوزير كان الوزير وابنه حسان في انتظار الضيف، وعندما سمعا صوت السيارة، بادرا إلى الخروج، ليستقبلاه في الحديقة، بلهفة، والوزير يتابع ولدَه بنظراته.

لقد بدا صالح أكبر مما عرفه حسان.. طويلاً، وسيماً، نظيفاً، مرتّباً، تسبقه رائحة عطره، وفرح لوجود النظارة على عينيه، حتى لا يرى عينيه الغائرتين المطبقتين، فيزداد حزنه عليه، لهذا التشوّه الذي لا يد له فيه، فقد وُلد معه.. وُلد هكذا..

جلس صالح على أريكة فخمة، وجلس الوزير على يمينه، وحسان على يساره، يرحّب به، وهو يجيب على ترحيبه بكلمات مقتضبات واثقات.. كانت كقطرات الشهد تخرج من بين شفتيه.

قال الوزير:

- حدّثت حسان عنك، فأصرّ على أن ندعوك إلى الغداء اليوم.

قال صالح:

- أنا سعيد جداً باهتمامكم بشخصي الضعيف يا معالي الوزير.

قالت أمُّ حسان:

- بل نحن السعداء بك يا ولدي.. والله منذ رأيتك قبل عشر سنين، وأنا أحنّ إلى لقائك.. ما زالت كلماتك الحلوة الطفولية ترنّ في أذني.. وما زلت مندهشة من قوّة إحساسك، ومن ثقتك بنفسك، ومن حسن أدبك، وروعة تصرّفك معنا، ومحاولتك تقديم المساعدة لنا، وأنت لا تعرفنا، ونحن لا نعرفك.

قال الوزير:

- على مهلك على الشيخ صالح يا أمّ حسان، يكاد حياؤه يقضي عليه.

قال صالح في حياء:

- نحن في القرية هكذا يا سيّدتي، نخدم من نعرف ومن لا نعرف، فكيف إذا كان من نخدمهم مثلكم، في الذوق، والكرم، وحبّ المساكين من أمثالي.

قال الوزير:

- لن تكون فقيراً ولا مسكيناً، يا شيخ صالح، بعد اليوم، بإذن الله وفضله.

- كيف؟

- سوف نخصص لك راتباً شهرياً يعينك على حياتك في المعهد الشرعي.

- وبعد المعهد الشرعي؟

- تدخل الجامعة إن شاء الله، وسوف يزداد راتبك.

قال صالح في حياء جمّ:

- بارك الله فيك يا معالي الوزير.

قال الوزير:

- ولديّ مفاجأة سارّة لك.. تعال معي..

أخذ الوزير بيد صالح، وتقدّم به بضع خطوات، ثم وضع يده على صندوق كرتوني، وقال له:

- هذه أحدث آلة كاتبة على طريقة برايل.. إنها هدية لك.

قال صالح:

- كم أنا سعيد بكم يا معالي الوزير، فقد قرأت في مجلتنا عن ظهور آلة كاتبة بمواصفات عالية اسمها (بيركنز) دعوت في سرّي أن يرزقني الله مثلها.

قالت أمّ حسان:

- واستجاب الله دعاءك يا ولدي.

وقال حسان:

- ليتك دعوت بما هو أكبر منها.

فابتسم صالح ابتسامة عريضة، وقال:

- طموحاتي كثيرة، وكبيرة، والناس يقولون: العين بصيرة، واليد قصيرة، أما أنا..

فقاطعه الوزير:

- لا تكمل يا ولدي. نحن عيناك، ونحن يداك، فلا تبتئس.

قال صالح، وقد فرّت دمعات من عينيه المطفأتين:

- قالت لي أمّي مرّة: إذا رأيتُ ليلة القدر، فسوف أدعو الله أن يرزقك عينين جميلتين.. ويبدو لي أنها رأت ليلة القدر، ودعتْ لي.

قالت أم حسان:

- ما رأيكم في زيارة أمّ صالح؟

قال صالح:

- ولكنها في القرية.

قالت أمّ حسان:

- نزورها، ثم نذهب جميعاً إلى المزرعة. اتفقنا؟

قال الوزير وابنه:

- اتفقنا..

وقال صالح في تردّد:

- أهلاً بكم، وإن كان المقام لا يسمح.

قال الوزير:

- أيّ مقام يا شيخ صالح.. نحن نعتزّ بك.. وسوف يكون لك مستقبل رائع إن شاء الله.

قالت أمّ حسان:

- ما رأيكم في استكمال الحديث على المائدة؟ فالطعام جاهز.

وعلى المائدة كان صالح يأكل بذوق رفيع، وحسب الأصول المتَّبعة في الأسر الراقية.. كان يستخدم الشوكة والسكين بمهارة، مما لفت أنظارهم إليه.. كانت تُقدَّم له ألوان الطعام، فيتناول منها القليل، ولم يكن مضطرباً أو خجلاً أو خائفاً من أن يرتكب ما يسيء إليه أثناء الطعام.

وكان تناوله للفواكه في منتهى الذوق.

قالت أمّ حسان في سرّها:

"ما هذا الصبيّ؟ يبدو أكبر من سنّه، وأنه ينحدر من أسرة عريقة، من سكان القصور، وليس من أسرة فقيرة.. ما أفهمَه.. ما أرفعَ ذوقه.. يا حسرة عليه.. ليته كان بصيراً."

وجاء الشاي، تناول كأسه، ووضعه أمامه دون أن يخرج أيّ صوت، ثم حرّك السُّكَّر بالملعقة بهدوء، ثم رشف رشفات منه دون أن يصدر عن شربه أيُّ صوت.. فازداد إعجاب الأسرة الراقية بحسن تصرّفه على المائدة، وفي تناول الفاكهة، وشرب الشاي.

سأل الوزير:

- ما هي طموحاتك يا شيخ صالح؟

ابتسم صالح وقال:

- دعك منها يا سيّدي الوزير، فهي كثيرة، ومتعبة.

- مثل ماذا؟

- يعني.. أنا أطمح أن أكمل دراستي العالية.

فقالت أم حسان:

- وتصبح دكتوراً قدّ الدنيا.

فقال صالح:

- أو أكثر!

فضحك الجميع بصوت عال، إلا صالحاً، فقد تبسّم ضاحكاً، دون أن يُسْمَع له صوت.

سأل الوزير:

- ثم ماذا؟

أجاب صالح:

- قريتي فقيرة، وأكثر أهلها بائسون، أمّيون.. أتمنى أن تكون فيها مدرسة حتى يتعلم أطفالها فيها، ومدرسة ليلية يتعلم فيها الكبار، لنقضي على الأميّة.

قال الوزير:

- سوف نبني فيها مدرسة ابتدائية للصغار، ولكنّ المدرسة الليلية مشكلة، تحتاج إلى من يرعاها.

قال صالح بفرح:

- معلم المدرسة يدرّس الكبار في المساء، لقاء راتب أو تعويض مناسب نجمعه من أهل القرية، وسوف يساعده إمام المسجد.. ما رأيك يا معالي الوزير؟

قال الوزير بفرح:

- لك هذا أيها الفتى النبيل.. ثم ماذا؟

قال:

- قرب معهدنا دكان صغير، لرجل أعمى، يصنع كراسي قش صغيرة.. ليتني أستطيع أن أفتح دكاناً مثله في قريتي.

سأل الوزير:

- هل في قريتك..؟

فأكمل صالح:

- في قريتي أربعة عميان كبار، لا عمل لهم، ولهم أسر وعائلات، ولو تعلّموا صناعة كراسي القشّ، لكان لهم دخلٌ ينفقون منه على عائلاتهم.

قال الوزير:

- الأمر بسيط.. عندما نزور القرية، نشتري أرضاً، ونعمر عليها دكاناً، ونطلب من الرجل الكفيف الذي يصنع الكراسي هنا، أن يقيم في القرية أياماً، يعلّم فيها أولئك الأكفّاء صناعة الكراسي.. وسوف نشتري لهم ما يلزمهم من عدّة، ومن قش وخشب وسواها إن شاء الله تعالى.

قال صالح في فرح:

- وسوف أسافر إلى القرية كل خميس، لأعلّم المكفوفين القراءة والكتابة.

قال الوزير:

- وسوف نشتري لهم كلّ ما يلزم لتعليمهم إن شاء الله تعالى.

بلغ التأثر مداه في نفس الشيخ صالح، وظهر الانفعال على وجهه، ثم رفع يديه إلى السماء، وابتهل إلى الله بهذا الدعاء الذي خرج من صميم قلبه. قال:

- يا ربِّ.. أنت العليم بحالي أنا العبد الفقير القليل الضعيف..

يا ربِّ.. أنت تعلم أني ما طلبت شيئاً لنفسي، وكلّ ما طلبتُه لأهل قريتي المساكين، ولأقراني من المكفوفين البائسين..

يا ربِّ.. أنت الذي هيأت لعبدك الأعمى صالح، هذا الرجل الصالح، هذا الوزير الرائع الذي أغدق عليّ وعلى أهل قريتي ما أنت به عليم.. اللهمّ فاجزه عنّا كلَّ خير.. متّعه وأهله وكلَّ من يحبّ، بالصحة والعافية، وأغدق عليه أضعاف أضعاف ما أغدق علينا..

اللهمّ أكرمه كما أكرمني بل أكثر.

اللهمّ زده من المال الحلال، فقد قال نبيّك وحبيبنا صلى الله عليه وسلم: »نعم المال الصالح، للرجل الصالح« وأشهد أنه من الصالحين.

اللهمّ ارفع شأنه عندك وعند الناس.. يا أرحم الراحمين.. يا أكرم الأكرمين.. يا خير مسؤول..

وتهدّج صوت صالح، فاختنقت الكلمات، وأفصحت الدموع عما يجول في نفس هذا الفتى الذي يحبّ الخير لإخوانه وأهل قريته وللناس، كما يحبّه لنفسه..

يتبــــع