لم يلد ولم يولد

حكايات عن القرآن الكريم

للفتيان والفتيات

عبد الودود يوسف*

بسم الله الرحمن الرحيم

الليلة المشؤومة

هَبّ حارس باب القسطنطينية مذعوراً حينما سمع صارخاً يصرخ:

- افتحوا الباب.

مدّ رأسه من نافذته فوق الباب، فوجد جندياً ملكياً، أسرع وفتح الباب، وصاح بالفارس: ما الخبر؟..

أجابه: أحمل رسالة إلى القيصر..

دخل الفارس كالسهم مسرعاً، وعاد الحارس إلى فراشه.. ألح عليه سؤال في نفسه: ماذا في الرسالة التي يحملها الفارس إلى القيصر؟!..

ما كادت عيناه تغمضان حتى هَبّ مرةً أخرى على صراخ أعنف من سابقه؟.. رسول آخر؟!.. وإلى القيصر؟!.. رآه مذعوراً وجراحه كثيرةٌ، عجب لذلك، قال الفارس:

- لقد هزمنا المسلمون، وأرسلني القائد أطلب عوناً..

همس الفارس: ما أتعس هذه الليلة. إنها ليلة شؤم ومذلة.

طار النوم من عينيه حين سمع من بعيد ضوضاء شديدة، أطل.. إذا به يرى جيشاً قادماً، ملأه الخوف، وهمس:

- وصل جيش المسلمين إلينا..

هز الجميع الأجراس، فاستيقظ جيش القسطنطينية كله، اقترب الجيش الذي رآه.. همس: ماذا أرى؟! سمع أنيناً وتوجعاً.. إنهم جنود من جيش القيصر عيونهم ذابلةٌ، وثيابهم ممزقة، والجراح تملأ أجسامهم. فتحت القسطنطينية أبوابها ليدخلها المنهزمون.

الملك يتعجب..

هزت أخبار الهزائم قلب قيصر إمبراطور الروم، جمع أعوانه، وجلس على عرشه، لم يتكلم بكلمةٍ لساعةٍ كاملةٍ.. وعَمَّ الصمت المجلس كله.. سأل:

- ويحكم.. كيف ينتصر المسلمون عليكم؟!..

كنا نرسل لهم القليل من الجند فيغلبوهم، هل هم من الجن أم من البشر؟..

همس وزيرٌ ماكر:

- إن هذه الانتصارات لن تستمر يا مولانا.. لا بد أن نقتلهم اليوم أو غداً..

زاد غضب قيصر وصرخ:

- منذ سنين ونحن نخسر وهم ينتصرون.. لا أظنك إلا كاذباً ومخادعاً..

التفت إلى قادته وقال:

- قولوا الحقيقة ولا تخافوا.

وقف أحد القادة وهمس:

- أنا أقول لك يا مولاي..

فأشار له القيصر برأسه: قل ما تريد..

قال وهو يرتجف:

- إن المسلمين قوم يحبون دينهم أكثر من حياتهم، ويحب بعضهم بعضاً. وقائدهم يرعى جنده أكثر من رعايته لأهله.

ضج المجلس بالهمس.. صرخ القيصر: أكمل.. إنك صادق..

تابع القائد: إنهم يؤمنون يا مولاي أنهم إن ماتوا في الحرب معنا حصلوا على أعظم الرضى عند الله.. وأعظم الأماكن في الجنة.. أما نحن.. فأنت أعلم بنا يا مولاي.

صرخ القيصر: نحن على عكسهم.. جيوشنا تنهب قرانا.. وقائدنا يظلم جندينا.. لا يهم قوادنا إلا الركض خلف الشهوات. إنك قد صدقتني..

صمت قليلاً.. ثم تابع: لكن قل لي: ما هو عمود دينهم؟!!

أجابه: عمود دينهم يا مولاي.. قل هو الله أحد.. الله الصمد..

صاح القيصر: وماذا يعني ذلك؟.

أجابه: إن الله كاملٌ وقوي، وشرعه الكامل وحده يجب أن يحكم حياة الناس في كل مكانٍ.. لا شرع الملوك والسلاطين.

احمرت عيون القيصر وامتلأ بالغضب، وصاح:

- والله الصمد.. ماذا تعني؟!

همس القائد وهو يرتجف:

- إن كل شيء يحتاج إلى الله، والله لا يحتاج إلى أحد.. وكل شيءٍ يجري في الحياة بأمره..

أطرق القيصر وهمس: هكذا إذن..؟!!..

امتلأ بالغضب وصرخ كالثور:

- بالرب المسيح وأمه.. لا بد أن ينصرنا أبونا الذي في السماء.

ارتجف القائد ومسح عنقه بذراعه، كأنه يخشى من القيصر أن يقتله..

وقف القيصر، فوقف الجميع لوقوفه، سار يميناً وشمالاً، ثم قال:

- ائتوني بأحد أصحاب محمدٍ حتى أراه بنفسي.

الأسير عبد الله بن حذافة..

عجب عبد الله بن حذافة لما حصل له.. أحاط به مجموعة من جنود العدو.. قتل كثيرين منهم حتى انكسر سلاحه.. كانوا يحاولون أن لا يؤذوه وأخيراً أخذوه أسيراً. أوقفوه أمام قائدهم. فسأله:

- هل تعرف محمداً؟!

أجابه عبد الله ورأسه في السماء.

- أنا من أصحابه.. عشت معه سنين طويلةً..

امتلأ وجه القائد بالفرح وهمس ببعض كلماتٍ إلى الذين حوله.. زاد عجب عبد الله حينما حمله الجند إلى عربةٍ رائعةٍ كأنها عربة ملكٍ.. أحاط بالعربة عدد كبير من الفرسان.. وانطلقوا به في سفرٍ طويلٍ كان يسأل نفسه: إلى أين هم ذاهبون بي؟!!

اقتربوا من القسطنطينية ففتح بابها فوراً.. ولم تتوقف عربته لحظةً واحدةً. أنزلوه في قصرٍ لم ير في الدنيا مثله إلا قصر كسرى يوم دخل إليه عبد الله يحمل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحبه كسرى عظيم الفرس. عرف أنهم يقودونه لمقابلة قيصر.

لم يلد ولم يولد

ما كان عبد الله بن حذافة يتخيل أن يرى أجمل من قصر القيصر.. أشجارٌ من كل نوع، وأزهارٌ من كل لون، أخذ ينظر في أنحاء هذه الحدائق المدهشة، كان يردد في نفسه: متى سنفتح القسطنطينية كما وعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قطع عليه شروده قدوم موكبٍ كبيرٍ.. سمع رجلاً ينادي:

- قربوا الأسير إلى مجلس الإمبراطور.

رفع عبد الله رأسه، وامتلأت نفسه بالعزة.. فلما أصبح أمام الإمبراطور أخذ القيصر يتأمله، والصمت مخيم على المجلس كله..

نظر عبد الله إلى القيصر فرأى ثياب الحرير وعقود الياقوت والذهب وتاج اللآلئ والجواهر.. أشار إليه القيصر أن يقترب منه، فاقترب متمهلاً، قال قيصر في نفسه:

"يقولون: إن دين هؤلاء أغلى عندهم من كل شيءٍ، لنجرب"..

فاجأه القيصر بقوله:

- ما رأيك لو أصبحت شريكي في الملك؟..

فوجئ عبد الله بهذا القول وسأله: كيف..؟!..

أجابه الإمبراطور: إن تركت دينك وأصبحت من عبيد الرب يسوع وأمه العذراء أعطيتك نصف ملكي..

هتف عبد الله: لو أعطيتني ملكك كله، وملك الدنيا كلها ما تركت ديني.. لا يمكن أن أعبد بشراً.. إن الله يقول: قل هو الله أحد.. الله الصمد.. لم يلد ولم يولد.

ردد الملك: لم يلد ولم يولد.

همس له أحد وزرائه:

- يعني أن الله ليس له ولد ولا أب ولا أم.

صرخ القيصر: عفوك يا رب السماوات..

التفت إلى عبد الله وقال:

- إن لم تصبح على ديني فإني سأقتلك..

ابتسم عبد الله وهمس:

- تستطيع قتلي، لكنك لا تستطيع إجباري على ترك ديني، لا يمكن أن يكون لله ولد.. إنه ليس بشراً.. ولا يشبه البشر..

صرخ القيصر: اخرس.. اصلبوه..

أسرع الجند إليه وربطوه إلى شجرةٍ عاليةٍ.

أشار القيصر إلى مجموعةٍ من رماة السهام وكلمهم بالرومية كلاماً.. صاح بعبد الله:

- آمن بديني قبل أن أقتلك.

ابتسم عبد الله وهمس:

- ويح هذا المجنون، يظن أنني أخاف من الموت في سبيل الله..

صرخ الإمبراطور: اقتلوه..

رموه بالسهام قريباً من يديه ورجليه محاولين تخويفه لكنه لم يخف.جن الإمبراطور وصرخ:

- قفوا.. لن أقتلك بهذه الطريقة.. سأسلقك حتى تموت..

صرخ: هاتوا قدراً كبيراً وأشعلوا النار تحته..

وبعد لحظاتٍ كانت النار تتوهج تحت قدرٍ كبيرٍ مملوءةٍ بالماء.. وما زالوا يغلونها حتى كادت القدر تحترق.. صرخ القيصر:

- هاتوا أسيراً من المسلمين. فلما أحضروا أسيراً قال لهم:

- ألقوه في القدر..

صاح عبد الله: في سبيل الله يا أخي..

ثم صرخ بالقيصر:

- هل يسمح لك دينك أن تقتل الناس بغير ذنبٍ.. إن المسيح نبيٌ كمحمدٍ.. لا يمكن أن يسمح بهذا..

صرخ الأسير وهو يتقلب في القدر:

- لا إله إلا الله..

ومات فوراً.

صرخ القيصر: إن لم تدخل في ديني فعلت بك كما فعلت بهذا الكلب..

صرخ به عبد الله:

- إن هذا المسلم أشرف منك أيها الظالم. افعل ما تريد.. لقد سبقني أخي إلى الجنة..

صرخ الإمبراطور: ألقوه في القدر وخلصوني منه..

أسرع الجند إليه وقادوه إلى القدر. فكر عبد الله: "يا ليت لي ألف روح فلا أموت سريعاً حتى أغضب هذا الكافر القاسي".. ثم تذكر جزاء الشهداء عند الله فدمعت عيناه.. شوقاً إلى الجنة..

ابتسم الجند وأسرع أحدهم إلى الإمبراطور وقال له:

- إنه يبكي يا مولاي.. كأنه قد ندم..

صاح بهم: هاتوه.

فلما وقف أمامه قال له:

- هيا اترك دينك وادخل في ديني وسأحتفل بك في مملكتي كلها..

نظر إليه عبد الله نظرة استهزاء وقال له:

- تظن أني قد خفت من عذابك؟ إن لحظةًُ من عذاب جهنم أكبر من عذابات الدنيا كلها.. افعل ما شئت..

صرخ به: لماذا بكيت إذن؟

أجابه: تمنيت أن يكون لي من الأرواح ما يزيد على عدد شعر جسمي حتى إذا قتلتَ أيها الظالم منها روحاً نبتت لي روحٌ جديدة غيرها كي أبذلها كلها في سبيل الله.

دهش القيصر لقوله والتفت إلى قادته ينظر إليهم واحداً واحداً.. كان يسأل نفسه:

"هل في أتباعي رجل مثل هذا المسلم"..

ثم عاد يتطلع إلى عبد الله. فشعر أنه مثل الجبل، شامخٌ عزيز، لا يصل إليه أقوى البشر، قال في نفسه:

" والله إن ديناً يؤمن به هؤلاء لهو دينٌ عظيم، وإن رجالاً يحملون هذا الدين من أمثال هذا لهم أعظم الرجال وأقدس من كل القديسين".

اقترب منه، وفك قيوده، وقال له:

- سأطلقك إلى أهلك بشرط أن تقبّل لي رأسي..

نظر إليه عبد الله وقال له:

- أقبّل رأسك إن أطلقت معي جميع الذين في مملكتك من أسرى المسلمين.

ابتسم القيصر وقال له:

- أنا موافق.

اقترب عبد الله من الإمبراطور وأخذ رأسه بين يديه وقبل جبينه.

في المدينة المنورة

كان يوماً عظيماً في المدينة المنورة وهم يرددون: لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله..

قل هو الله أحد.. الله الصمد.. لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد..

اتجهوا إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وجلسوا يصلون. جلس معهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.. عانقهم واحداً واحداً، ثم قَرَّبَ إليه عبد الله بن حذافة، وقال له:

- لو حكيت لنا قصتك..؟!..

فلما أخبره بما جرى معه.. أخذ رأسه وقبله وقال:

- حق على كل مسلم أن يقبِّل رأس عبد الله وأنا أول من يقبّله.

لم يبق بيتٌ من المسلمين إلا وتحدث بقصة حذافة لقد فتح القسطنطينية بإيمانه السامي قبل أن يفتحها المسلمون بجيوشهم المنصورة القاهرة.

              

* أديب ومفكر وكاتب أطفال سوري، معتقل منذ 31/3/1980.