من فصل : عندما تأخر الورد

من رواية : ( هولير سدرة العشق) للروائي السوري: عبد الباقي يوسف

ملامح شخصية  قائد البلاد القادم

clip_image002_eba9d.jpg

عند ذاك أحس الناس حاجتهم إلى شخص موثوق به يتولى إدارة شؤونهم، فكان الإعلان عبر التلفاز عن حث مَن يرى نفسه أهلا لهذه الإدارة.

بدأت الأيام والشهور تمضي دون أن يتقدم أحد, فما كان على بعض أهل الإعلام سوى أن يطرقوا أبواب الرموز الوطنية الشهيرة وإجراء حوارات تلفزيونية وصحفية معها, وحثها لترشيح نفسها, وتشجيع الآخرين للمنافسة، لأن مصلحة الناس تقضي أن يكون هناك من يقوم بتمثيلهم في المحافل الدولية, ويصدر مراسيم وطنية تيسر ما يستجد في معاشهم.

في حوار له مع أحد الرموز قال المذيع: سيدي ألا ترى حاجة البلاد إلى شخص يدير شؤون الناس, نبدو بدون هذا الشخص كما لو أننا نمضي في سفينة بلا ربان.

قال: يهمني جدا أن أكون صريحا في هذه المسألة, وهي أنني يمكن أن أدير شؤون دائرة مؤلفة من ثلاثة طوابق, أدير مئة موظف، لكن لم أرتق بمؤهلاتي وخبرتي وحنكتي وحكمتي وثقافتي وسعة أفقي إلى درجة أتولى فيها إدارة البلاد كلها, بمدنها وأحيائها وضواحيها, بمشارب الناس ومآربهم، إن مؤهلي لهو أقل من ذلك بكثير يا سيدي.

لم يكن أمام المذيع إلا أن يشكره، وبعد ذلك بعدة أيام أجرى مذيع آخر حواراً مع معارض سابق شهير فقال: إنني ألتمس من الناس تفضلهم وتكرمهم بقبول اعتذاري الشديد لأنني لا أرى في نفسي مقومات ودعائم إدارة جسيمة كهذه.

الأمر الذي بدأ بتكرر مع غالبية الضيوف وحتى بعض الضيفات اللواتي عرفن في السابق بنشاطهن السياسي ومواقفهن الوطنية المشهود لهن بها, فكنّ يقدمن اعتذارهن الشديد لأن المطلوب يفوق إمكاناتهن.

عندما يئست وسائل الإعلام عن إيجاد أو إقناع شخص يقبل تولي هذه الوظيفة، خلص إلى القول للناس: علمنا من ضيوفنا أنهم لو قبلوا بهذه الوظيفة، سوف يرتكبوا أخطاء تلحق الضرر بهم أولا،  ثم بأسرهم، ثم بأقربائهم، ثم بالمقربين لهم، ثم بعامة الشعب، ثم ببقية البلاد.

إن مجرد التفكير في الأمر يبعث الفزع في قلوبهم ونحن وسائل الإعلام لم يعد أمامنا غير أن نسلم لهذه الحقيقة ونكن الاحترام لكل هؤلاء، ولا نحملهم مسؤولية سفينتنا التي تمضي بنا دون ربان  لأن الربان غير المؤهل يقود السفينة إلى التهلكة كونه لا يجيد فن قيادتها، لقد بذلنا كل ما نستطيع وانتهينا إلى هذه النتيجة التي نضعها بين

 أياديكم.

لكن هذا ليس كل شيء, لقد اقترح علينا ضيوفنا قيادة جماعية للبلاد، وبذلك تخف أعباء المسؤولية العظمى على كاهل شخص واحد, حيث تتقاسم هذه المجموعة مسؤولية جماعية لإدارة البلاد.

عند هذا الواقع، بدأ العمل بشكل جاد لاختيار هذه المجموعة حيث بدأت الرموز الوطنية المشهود بكفاءاتها ومواقفها العمل من أجل الوصول إلى صيغة توفيقية حتى تم الاتفاق أن تتألف هذه المجموعة من خمسة من أبناء كل مدينة، يقيمون في العاصمة ويمثلون عامة الشعب.

لكن مرة أخرى تجنبت هذه الشخصيات الوطنية اللامعة العمل ضمن هذه المجموعة وقالت أن هناك من أبناء الشعب الذين يعيشون في الظل مَن هم أكثر كفاءة منهم لتحمّل مسؤولية وطنية تاريخية كهذه, وما على الناس سوى أن ينبشوا عن هؤلاء, ويسعوا إلى إقناعهم كي يتقدموا للانضمام إلى ما أسموه: مجلس جماعة الرئاسة.

أضافت هذه الشخصيات في بيانها قائلة: هناك أبطال من أبناء الشعب قدّموا مواقف كبرى لا نملك نحن جماعة الشهرة غير أن ننحني أمامهم ، لقد أعطوا للناس في ذروة الأزمة أكثر مما أعطينا،  دفعوا أبناءهم، وبيوتهم، وأموالهم، في الوقت الذي كنا نحن ننعم برغد العيش ونتنقل بين فنادق ذوات النجوم الخمس، ويدرس أبناؤنا في مدارس فائقة الجودة.

ضحوا بالغالي والنفيس أكثر مما ضحينا, بردوا أكثر مما بردنا, جاعوا أكثر مما جعنا, تألموا أكثر مما تألمنا, تفاعلوا مع مشاعرهم الوطنية أكثر مما تفاعلنا.

هؤلاء يمكنهم إدارة البلاد, وإدارتنا جميعا، إنهم جنود الوطن المخلصين الذين يؤثرون العمل في الخفاء, وعلينا أن نسلط الأضواء عليهم كي يحمونا ويحموا البلاد حماية حقيقية.

وقال أحد المشاهير: إنني أخجل أمام نفسي أن أكون قائداً لأشخاص نبلاء وعظماء كهؤلاء , كيف أنظر في وجوههم وأنا أدرك بأنني والشعب عامة والبلاد كلها نحتاج إلى أنوار هؤلاء, نحتاج إلى قيادتهم لنا جميعا حتى نطمئن على مستقبل بلادنا, ومستقبل أبناءنا وأحفادنا.

إنهم أبطال المجتمع العظماء،  الدعائم والأعمدة التي تقف عليها عمارة البلاد ثابتة شامخة آمنة، مهما أعطينا لهؤلاء -  ونحن الذين لا نملك شيئاً نعطيهم، وهم الذين يملكون كل شيء كي يعطونا -  فإننا لا نرتقي إلى درجة عطاء اتهم اللا محدودة وقد بقوا في البلاد تحت القصف والدمار رافضين الخروج عن ديارهم، كانوا أكثر شجاعة منا، وكانوا أقل أنانية منا.

بدأت المقترحات الشعبية من المدن تتوالي على العاصمة ولجنة التقييم تستقبل هذه المقترحات, وتجري اختبارات للأشخاص الذين تم ترشيحهم من قبل أكبر أعداد من أبناء مدنهم، وعملت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي حيث بدأت تدعم اللجنة بتقديم أشخاص وشهادات شعبية عن مواقفهم ومآثرهم في المجتمع .

بعد نحو ستة شهور, أعلنت وسائل الإعلام عن أسماء هؤلاء الأشخاص الذين تم الاتفاق العام عليهم، كي يديروا شأن البلاد والعباد إدارة جماعية.

 بعد هذا الإعلان بثلاثة أيام، ظهرت جماعة الرئاسة هذه على شاشة التلفاز المحلية وأعلنت قبولها بهذه المهمة, ثم أدت اليمين الدستورية وفي نهاية حفل القسم أصدرت بياناً قالت فيه بأن مهمتها هي مهمة مؤقتة, وسوف تسعى جاهدة إلى جانب جميع المساعي الوطنية الأخرى: كي نجد الشخص الذي يقبل أن يحمل عنا هذا العبء بمفرده, ويعفينا من هذه المهمة حتى ننصرف إلى أعمالنا وتربية أبنائنا, ونلتمس منكم العذر إذا بدرت منا عيوب ونواقص لأن ما هو ملقاة على عاتقنا، ليفوق ما نتمتع به من إمكانات وقدرات.

باشرت هذه الجماعة عملها كخلية النحل، وبدأت تستعين بأكبر قدر من الآراء والمقترحات ووجهات النظر، وفي إحدى اجتماعاتها  دعت جماعة الرئاسة بعض أهل الأدب, والفكر, والدين, والفن, وقالت بأنها تحتاج إلى مساندتهم لها لأنهم الأكثر تغلغلاً وتحليلاً وتفكيكاً لبنية المجتمع, إنهم المشكاة التي تنظر الجماعة من خلالها إلى المجتمع كي تراه بشكل جيد.

عندما تم اللقاء، اقترح هؤلاء على الجماعة الاستئناس بالكفاءات المحلية, ولا تكتفي بذلك، بل تمتد وتتسع لتستعين بخبرات أهل العقل والمشورة والكفاءة في سائر أنحاء العالم، واقترح البعض أن يوجّه مجلس الجماعة باسم البلاد دعوة رسمية إلى جميع الأحياء الحاصلين والحاصلات على جائزة نوبل في مختلف فروعها كي يمضوا أسبوعا في البلاد ويقدموا ما لديهم من تصورات وأفكار ورؤى.

إضافة إلى ذلك تُوجّه دعوات إلى كبار الشخصيات الناضجة التي شغلت مناصب كبرى وهامة في مراحل سابقة وتتمتع بخبرات هائلة وتعد مراجع سياسية في العالم, إلى جانب أهل الأدب والفن والفكر والإعلام وقمم النوابغ للاستنارة بمشوراتهم، كما يتم العمل بشكل ممنهج على تقديم ميزات ومغريات هامة من أجل استقطاب النوابغ، وأهل الميزة من مختلف الحقول والمجالات الإنسانية للإقامة في ربوع البلاد ومنحها الجنسية.

اتفقت جماعة الرئاسة على هذه المقترحات, فتكاثفت الدعوات والزيارات المتبادلة بينها وبين أهل الحكمة والعقل والإدارة في العالم بشكل متواصل دام ستة شهور.

بعد ذلك اجتمعت الجماعة في لقاء مباشر عبر القناة المحلية بحضور بعض المواطنين وقالت بأنها انتهت إلى وضع اللمسات الأخيرة حول شخصية الرئيس المقبل للبلاد آخذة بالاعتبار ما استنارت به من مقترحات وآراء وتحليلات كل الذين اجتمعت بهم لهذا الغرض.

قال أحد الأعضاء: أيها المواطنون الأعزاء, رأينا أن يتمتع رئيس بلادنا في المرحلة المقبلة بصحة جيدة، ثم ركن  إلى صمت

قال عضو آخر: أن يتمتع بعقل سليم, قال عضو آخر: أن يتمتع بعينين سليمتين, قال عضو آخر: أن يتمتع بنزعة إنسانية،

قال عضو آخر: أن تكون له مواقف مستقيمة مشهود لها في مجتمعه,

أضاف عضو آخر: أن يكون ناجحا في علاقته الزوجية،

أضاف عضو آخر: أن يكون مربياً جيداً لأولاده،

أضاف عضو آخر: أن يكون على علاقة سوية مع أقربائه، أضاف عضو آخر: أن يكون بسيرة حسنة بين جواره،

أضاف عضو آخر: ألا تكون له خصومات في مجتمعه.

عندئذ نهض أحد الحضور من صفوف الجمهور وقال: لو أذنتم لي يا سادتي أن أعبر عن رأيي المتواضع, أنا الذي ثكلت بأسرتي جراء قصف على  بيتي.

قال مدير اللقاء: تفضل يا أخي, بل نحن نحتاج إلى وجهة نظرك.

قال الرجل: أريد أن يحظّر على رئيسنا المقبل التوقيع على شراء طائرات, وراجمات, ودبابات، وقنابل, وبنادق قنص, لأننا نخاف أن يشتد عوده ويستقوى بها علينا, ثم يقصفنا ويهدم بيوتنا على رؤوسنا .. صارت الطائرة وهي تحلق فوقنا تسبب الرعب لنا, لا, لا أيها السادة, لا نريد أن نرى طائرات تحلق فوق رؤوسنا مرة أخرى, نريد أن تحلّق أسراب الحمام, بات منظر الدبابة يبث الرعب في نفوسنا, لقد أذاقتنا الويل, هدير الطائرة بات يلسع أسماعنا كلهب النار .. نريد بلادا بلا أسلحة, لا تلزمنا أسلحة فتاكة أيها السادة، لا أحد سيشن علينا حربا ضروسا أقسى مما ذقنا وبالها بأسلحتنا التي اشتريناها بدمائنا،  ففتك بها بعضنا بعضاً.

ثم استأنف الرجل يقول بحرقة: ليعلم حاكمنا الجديد أننا لا نحتاج شيئا قدر حاجتنا ألاّ تسمع أسماعنا دوي إطلاق الرصاص، ألاّ تسمع هدير الطائرات, ألاّ ترى أنظارنا جثثاً متفسخة على منعرجات الطرق تنهشها الكلاب, ألاّ تستبد بنا روائح البارود.

ليعلم حاكمنا الجديد أنه سيكون حاكماً على مصح كبير فيه مرضى يحتاجون إلى سنوات من العلاج  والهدوء .. يحتاجون إلى سنوات من سماع الموسيقى, والقراءة, وزراعة الورود, وتربية الحمام الزاجل.

إننا لا نريد منه أمورا تفوق طاقته ، ليدعنا حاكمنا الجديد أن نربي الحمام كي يزيّن السماء , ليتركنا نزرع الورود, نسمع الموسيقى, نقرأ, ننام في بيوتنا بسكينة, نريده أن يعاهدنا بأنه سيوفر لنا الكتب, وأجهزة الترفيه والتواصل الاجتماعي الحديثة.

ألاّ يقطع عنا الماء, والكهرباء, الهاتف, والوقود, والطعام.

أن يتركنا نتحدث بما نرى، أن يستقر بنا إحساس في ولايته لنا بأننا أحرار،  نريده أن يعاهدنا قائلاً: أقسم بأنني لن أقصف بيتاً في بلادي .. أقسم بأنني لن أطلق الرصاص على مواطن أعزل.

جلس الرجل في مقعده، فأستأنف عضو آخر الحديث قائلاً: أن يكون قد قرأ ما لا يقل عن مائتي كتاب من عيون الآداب العالمية في الرواية, والقصة, والشعر, والمسرح، يقدم أسماء هذه الكتب ووجهة نظره عن مضامينها، ثم ركن إلى صمت

آضاف عضو آخر: أن يكون قد قرأ الكتب السماوية بشكل جيد، أضاف عضو آخر: أن يكون قد استمع إلى مائة سيمفونية موسيقية ، 

أضاف عضو آخر: أن يكون حافظاً لمائة أغنية،

أضاف عضو آخر: أن يكون حافظا لأسماء مائة شخصية تراثية تركت أثرا في 

                         نهوض المجتمع الإنساني،

أضاف عضو آخر: أن يكون حافظا لأسماء مائة شخصية حية في بلاده مشهود لها

                        بالنبوغ الأدبي , والفكري, والفني، أضاف عضو آخر: ألا يجيد استخدام المسدس، أو أي سلاح حربي،

أضاف عضو آخر: أن يكون على إلمام برقصات فلكلور بلاده ،

قال عضو آخر: يكون ذلك بموجب اختبار يدوم ثلاثة أيام متتالية، تجريه جماعة

الرئاسة بكامل أعضائها، ثم تستأنس بآراء وتقييمات وتحليلات اللجنة التي قمنا بتشكيلها وهي مؤلفة من عباقرة ونوابغ العالم التي وافقت على تقديم المشورة لنا،عندما نضع بين أياديها نتائج ما توصلنا إليه بالنسبة للشخص الذي أجرينا الاختبار له, ثم بعد ذلك ننتهي إلى تقديم تقييمنا وتوصيتنا ووجهة نظرنا المجتمعة النهائية عن هذا الشخص، فيكون لكم القرار النهائي في ما ترونه مناسبا عن هذا الشخص الذي تم الإجماع عليه ليكون رئيسا رسميا لبلادنا, وحارسا أمينا على ديارنا, نسلّمه مفاتيح أبواب بلادنا, يُدخل إليها مَن يشاء, ويَمنع عنها مَن يشاء، نسلمه كنوز الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث.

(الصفحات 431-  441)

وسوم: العدد 683