الطريق إلى تدمر، كهف في الصحراء، «الداخل مفقود، والخارج ولد مولود» (2)

م. سليمان أبو الخير

الوداع في الطريق إلى تدمر

لا فائدة تُرجى من تذكر صغائر ما مضى في جنب ما هو آت، فظلمة المكان وظلمة الليل الذي سيحل بعد قليل كفيلة بطمسها ولو إلى حين، غير أن اهتزاز الأحداق بدموعها على مقربة من نياط القلب عندما تدنو من الحناجر فرقاً وخوفاً، من يقوى على طمسها أو يقدر على التخفيف من لأوائها؟!

ما إن فتحت البوابة وأطل البغاة كالغربان من ورائها حتى خيل إلي أنها عمّا قليل ستقف على الخراب لتنعق، ومع إطلالتها تدثر المكان بصمت شديد، ومد الحضور أعناقهم بانتظار ما هو قادم.

كانت القائمة طويلة، وما شغلني عن طولها هو ورود اسمي على رأسها، ما عدت أعبأ بما يتلى فيها من الأسماء، فلقد شغلني من نفسي شاغل، وما عاد الزمن ليسعفني كي أنتبه لأحد ممن تصدر معي من الأسماء، وكأنني لا أسمع إلا ترداد اسمي، كما لو أنني أسمعه يُتلى لأول مرة، فاليوم هو يوم حشر، أجارني الله وإياكم من يوم الحشر، الكل منهمك في الاستعداد، ومَن حولي من الوجوه من لا يملك لي حولاً ولا قوة، فأدركت بأنني ذاهب إلى خصم غاشم، إلى مكان يحكمه المكر والخديعة، وكل أسباب الرذيلة، إنهم هناك كما هم هنا قادرون على ارتكاب كل شيء، ومن أجل لا شيء، لا تتعجل فالقصص التي ستأتيك ستنسيك كل الصفحات التي قرأتها من قبل، فما مضى ما كان إلا شيءٌ من المزاح.

ألقى إلي هيثم بكلمة وداع لم أجد فيها أي درجة من درجات حرارة الوداع، لا بل كان فيها نتن الشماتة باجتماعها، وارتفعت درجة شكوكي بأن يكون هو الذي رجح كفة إرسالي إلى تدمر، وإلا أي وحي هذا الذي هبط عليه لينبئه رحيلي إلى تدمر قبل الأوان، وما كانت الخمس وعشرين ليرة سورية التي ألحقني بها قبل الرحيل، لتترك له عندي ما يعذره، وألقيت عليه نظرة الاحتقار والازدراء الأخيرة، وإن كانت ساورتني الشكوك بأنه لم يفهمها، وعدت فانشغلت بنفسي عمن هم حولي، وجاءني محمد بهاء الدين الخطيب ذلك الحدث الذي هو في ثوب الكهول من رجاحة عقل وتفكير، جاءني بالكنزة الوحيدة التي كان يمتلكها، ألقاها إليّ وانأ أهم بالمغادرة القسرية:

- خذها علَّها تقيك شر البرد، وشر السوط.

طفحت نفسي المترعة بكل معاني الدفء والحنان والشكر والامتنان، وجرت دمعة جاهدت نفسي على حجبها، لكنها غصبتني فجرت بلا استئذان.

كان شتاء عام 1982 قارصاً، وكانت الملابس التي نمتلكها بالكاد أن تستر عوراتنا، فالكثيرون جاء بهم زوار الفجر بقمصان نومهم، أو ثيابهم الداخلية، ولا زلت أذكر أحد شباب دمشق من أصل فلسطيني وقد عادوا به ليلة دُخلته، لم يمهلوه حتى يلبس ثيابه، فقد اقتادوه كما لو أنهم وقعوا على صيد ثمين، يخشون أن يفلت منهم، وكانت الزيارات بطبيعة الحال ممنوعة، ولذلك خضعنا لحالة تقشف شديدة، وإني كلما تذكرت محمد بهاء الدين أمعنت له بالدعاء وأجزلت له بالثناء، فقد رافقتني كنزته سنواتي التالية، كما لو أنها العهدة التي كنت أخشى ضياعها، لقد كانت وقائي الذي تدثرت به من برد الصحراء، وترسي الذي طالما وقاني من حر السياط والكابلات.

سرعان ما امتلأ البهو بالمرحلين، ولم يضيعوا وقتاً، فقد شرعوا في شد الأغطية على أعيننا، في الوقت الذي لم يتوقف انهمار آلة عذابهم علينا، فأنت بالكاد أن تحملك قدماك فرقاً من وقع سياطهم وكابلاتهم وعصيهم، لم يتركوا مكاناً إلا وضربونا عليه، مع أننا لم نكن نرى ما حولنا، إلا أن المكان كان يضج بالعشرات من الجلادين، كلهم في تسابق مع الزمن لأخذ الأجر فينا، ولكي لا أنسى للتاريخ، أذكر منهم أبو منهل نائب مدير السجن، ذلك القرمطي الحاقد السفاح، الذي ما فتئ بلسانه البذيء السليط يتحفنا بما طفحت به دورة فمه من المجاري كلما واتته الفرصة، وما أكثرها، والذي جاء يسألني يوماً عن عنوان المستشفى الإسلامي في الزرقاء، فأعتذر له لعدم علمي بالعنوان يقيناً، وكان بينهم أيضاً محمد إبراهيم وعاقل المعتوه، وأحمد سالم وأحمد غانم وكلهم قرامطة من طائفة النظام في منتهى القسوة والتجبر، أما الرقيب مالك فقد كان لحوحاً لجوجاً حاقداً ليس لقسوته ولا لبطشه حدود، بالإضافة إلى آخرين كثيرون من حطب جهنم، ويقول لي أحدهم وهو يلطمني ويشد وثاقي:

- أنت الأردني، مواطن صاحب الجلالة، أيام سوداء بانتظارك، يا عكروت!!

ثم راحوا في شد وثاق كل اثنين منا معاً، وكانت الأغلال في الأيدي ابتداء، ثم في الأرجل تباعاً، وهكذا أُحكم القيد، لا تلح عليّ في السؤال عن مشاعري يا صاحبي، فأنت هنا كمن يسأل غريقاً يصارع الموت عن درجة حرارة المياه التي يهوي فيها! غير أني فوضت في هذه اللحظات أمري إلى الذي إليه يرد الأمر كله من قبلُ ومن بعد، الله الذي يتولى الصابرين.

أمرونا بافتراش الأرض جاثمين، وطأطأنا الرؤوس إلى الأذقان، اتقاء السياط أن تصيب أعيننا، فهم غير عابئين بنا، لا يهم أين ينزلون بسياطهم، ثم عادوا إلى تلاوة قائمة الأسماء للمرة الأخيرة، فإذا بها كما لو أنها أطول مما تخيلت، وحفظت منها اسم الملازم رضوان خالد، والسيد عبد السلام تسقية، عبد الوهاب الخطيب، معلم من أبناء إدلب.. وآخرين زاد عددهم عن الأربعين، وكان الرحيل في يوم ماطر بارد من شهر كانون الثاني "يناير" عام 1982.

ما أن انتهت إجراءات الفرز، حتى أمرنا بالوقوف، ثم ساقونا مثنى مثنى، مكبلين في الأغلال، مصحوبين بكل أدوات التنكيل، تسقط علينا بشكل عشوائي من غير تمييز، وكانت قمة العدل أنها كانت من غير تمييز، إضافة إلى أفواههم التي نضحت بكل الشتائم التي لم تستثنِ حتى الذات الإلهية، ونحن نجأر إلى الله بالصراخ والعويل، ساقونا إلى الطابق الأرضي حيث أمرنا هناك بتسلق السلالم المؤدية إلى سيارات الترحيل، وكانت السيارة التي أقلتني برفقة صاحبي المربوط معي في القيد - والذي لم أتبين مَن هو، ولم يكن في الإمكان أن اسأل عن اسمه - من نوع "زيل" أو ما يسمونها سيارات نقل اللحوم، ومع أنها كانت بلا نوافذ، فهي مغلقة من كل الجوانب، فقد أُمرنا بتخفيض رؤوسنا طوال الرحلة إلى ما دون مساند المقاعد، فيما لو كانت مساند المقاعد موجودة في الأصل، وما هي إلا برهة من زمن حتى تحرك الركب، وكانت العتمة الدامسة الناقعة في الظلام قد أطبقت على المكان، ومن بعض الشقوق في المركبة كانت تتسلل إلينا بين الفينة والفينة بعض خيوط أنوار المدينة اللاهية، فقد كانت المدينة تعج بالحركة التي كانت تنبعث إلينا ونحن نجتاز كالأموات شوارعها وأزقتها.

لم ينسَ رئيس الدورية صاحب لهجة أهل حوران أن يتهددنا ويتوعدنا بالثبور وسوء عاقبة الأمور إن بدت منا أي بادرة تخل بأمن الرحلة في نبرة من بدا أن له عندنا ثأراً عظيماً، وذكرنا بضرورة عدم فتح أفواهنا بأي بنت شفة لأي سبب من الأسباب.

في ذيل السيارة جلس الحرس مدججين بأسلحتهم، ما أن خلفنا المدينة من ورائنا، واختفت الجلبة وسكن كل شيء من حولنا، حتى عادت السياط لتعلن حضورها، ولم يبخلوا علينا بما تجود به قريحتهم من نضح قاموس الشتائم المقذعة، والتي لا تصدر إلا عن السوقة من أولاد الشوارع.

في الرحلة التي استمرت إلى ما قبيل الفجر بقليل، أصاب بعض المرحلين دوار وغثيان، وتقيأ من لم يتمالك نفسه حيث هو جالس، من غير أن ينبس ببنت شفة كما أمر رئيس الدورية، وبال البعض في ثيابه، أيضا من غير أن ينبس ببنت شفة، ومن كان يجرؤ أن ينبس!!

لقد كان الموكب رهيباً، من المؤكد أن حراسة كانت في المقدمة وأخرى كانت في المؤخرة، نعم كان موكباً محفوفاً بكل أشكال الإرهاب.

ما زاد في الرحلة من المآسي التي استحالت إلى ضرب من ضروب المهازل، طلب بعض الجلادين إلينا أن نشرع في الغناء، ولما لم نستجب، شرعوا في ضربنا بقسوة، وهم يسألون عن صاحب صوت جميل، حين اشتد التنكيل تبرع بعض الإخوة - من بيننا ممن آتاهم الله مزماراً من مزامير داوود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - بحداء حزين، كادت قلوبنا من فرط تأثرها مما تسمع أن تنفطر.

لم تنقطع الإشارات اللاسلكية طوال الطريق، فقد كان الموكب يتوقف بنا أحياناً كثيرة، لانتشار الحواجز، حواجز التفتيش على امتداد رحلة هي للكثير منا بلا عودة، وسمعت الأخ المعلق معي في القيد وهو يبتهل إلى الله ويدعو، ثم لا يلبث أن يشرع في تلاوة ما تيسر له من آيات الذكر الحكيم، في صوت مسموع، فأزجره كي يخفض صوته خشية أن يسمعوه، لكنه كان غارقاً في عالم آخر خارج نطاق المادة التي تلف الأرض، ورحت بدوري أتلو ما تيسر لي من كتاب الله، وكنت يومها أحفظ النذر اليسير من القرآن، لقد بدأت للتو في فرع التحقيق العسكري في حفظ سورة يوسف، إضافة إلى ما كنت أحفظ من المعوذات وبعض قصار السور، وشيئاً من الأدعية والابتهالات، هنا كما هي هناك كما هي في كل مكان إذا أزفت المحنة، ليس لها من دون الله كاشف!!

أنا الآن على وشك التوثيق لمرحلة جديدة، أجدني كالعاجز قد أصابه العي والحصر، أمام هول الإجرام الذي مورس ممارسة من صارت له الخبرة وطول الدربة، شيء فوق التصديق ودون الوصف، شيء فظيع، ووالله إني لاحتسب كل ذلك عند الله، إذ أن الاحتساب هو العزاء الذي ألوذ إليه كما إليه لاذ من هو خير مني، ولولا يقيناً سرى منا مسرى الدم في العروق بأن اللقاء والحساب والعدل المطلق لا بد من ملاقاته طال الزمن أم قصر عند أصدق من قال: ﴿ونضع الموازين القسط ليوم القيامة، فلا تظلم نفس شيئا و إن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفى بنا حاسبين [سورة الأنبياء: 47]، لولا هذا اليقين الذي سكن شغاف القلب، لما بقي لكل هذا الصبر من معنىً، غير أنه الانتحار والموت البطيء، والذي هو بمعنى من المعاني، ضياع حقوق المظلومين من الأبرياء، وانفلات الظالمين من المُساءَلة والعقاب، وهيهات لهم هيهات، ﴿ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار، مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد اليهم طرفهم و أفئدتهم هواء  [سورة إبراهيم: 42، 43]  ﴿ وترى المجرمين يومئذٍ مقرنين في الاصفاد، سرابيلهم من قطران و تغشى و جوههم النار [سورة إبراهيم: 49، 50].

غير أني لا أدري بأي المشاعر والأحاسيس سأبحر الآن في الكتابة، فالقلب الموجوع ليس له من عند غير الله من طبابة، والنفس المترعة بأنات الجوى، لا تريد أن تدلف إلى بحر الذكريات المرعب، بالكاد أن تتمالك القوة الكافية على جر شريط الذكريات من جديد، فلقد كنا حقلاً لكل أنواع التجارب، ولعل أدناها كان لعبة الموت، ألفيناه راحة لكل مظلوم، والعزاء الذي ما بعده عزاء لكل مكلوم.

ولعل من نافلة القول، وأنا اليوم أسجل للتاريخ، عن تلك الحقبة المزرية، أن أبحث لهؤلاء عن عذر لما اقترفت أيديهم، وقد أخذتني الحيرة في الإجابة عن السؤال الذي كرره على مسمعي المئات من الشباب:

- هل حدث في التاريخ شيء يشبه هذا؟ هل فعل هولاكو فعل هؤلاء البرابرة؟ ولعلني أنصفهم بالإجابة حين أقارن بينهم وبين أصحاب محاكم التفتيش، إن لم يكن سفاحو دمشق من القرامطة الجدد فاقوهم خبثاً وبطشاً!!

لقد باعوا كل فضيلة امتلكها الناس وهم منها براء، وداسوا على كل فضيلة وجدت سبيلها إلى كل مولود كان يولد على الفطرة، فمن أين أبدأ؟ وكيف أبدأ؟ وبأي شيء أبدأ؟

ولأبدأ بتدمر تلك المدينة التي استلت من بواكير عمري ما زاد عن أربع سنوات، قسراً وقهراً، من غير أن يكون لي يدٌ في كل ذلك أو أي اختيار، أربع سنوات ونيف، لم يُتح لي أن أقف على وجهها الحضاري المشرق إن كان نيرون دمشق وسفاحها أبقى لها منه على شيء، فهي كما ذكر الباحثون تتوسط بادية الشام وتقع على بعد 243 كيلومتر من دمشق و150 كيلومتر من حمص شرقاً، عند معبر جبلي اضطراري على سفح جبل المنطار من سلسلة الجبال التدمرية، في حوضه نبع غزير الماء. وقد خلق هذا النبع واحة خضراء أصبحت مكان استراحة بين العراق والشام، ومحطة للقوافل بين الخليج العربي وبلاد فارس والبحر الأبيض المتوسط. دخل المسلمون تدمر في السنة الثالثة عشرة للهجرة، وكان فتحها بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه، صلحاً من غير إراقة دم.

أما دار الضيافة فيها، أقصد سجن تدمر العسكري، فيقع في أقصى الناحية الشمالية من مدينة تدمر، وعلى مفرق قصير يصلها بالطريق العام القادم من حمص ودمشق إلى دير الزور عبر تدمر نفسها، وهو في الأصل جزء من ثكنة عسكرية يعود تاريخه إلى زمن الاحتلال الفرنسي.

لكنه استخدم فيما بعد سجناً للمجندين والعسكريين المتهمين بارتكاب مخالفات أثناء خدمتهم أو جرائم جنائية عادية. ومنذ مطلع السبعينيات بدأ حافظ الأسد باستخدام سجن تدمر لاحتجاز المعتقلين السياسيين بعيداً عن المدن، وفي معزل عن العالم، لكن الاحتجاز لم يكن يستمر أكثر من شهور معدودة. أما السمعة العالمية الرديئة التي اكتسبها، وانفرد بها هذا السجن الرهيب فترجع بداياتها إلى عام 1979 حين بدأت السلطات بإرسال أعداد كبيرة من السجناء السياسيين إليه، حيث يتم فصلهم عن العسكريين المحتجزين.

ويعتبر سجن تدمر أكبر سجون سورية، وأسوأها سمعة، فقد اشتُهر بما يلقاه المعتقلون من المعاملة الوحشية والتعذيب المنهجي اليومي غير الإنساني الذي أودى بحياة كثير منهم أو ترك بصمات لا تُمحى على نفسيات وشخصيات من بقوا على قيد الحياة. ويخضع السجن لإدارة الشرطة العسكرية، لكن مسؤولية السجناء السياسيين من اختصاص المخابرات العسكرية، وتقوم قوة من الوحدات الخاصة بحراسة السجن. وباعتباره سجناً عسكرياً فإنه لا يخضع لإشراف وزارة العدل التي تجري عمليات تفتيش للسجون المدنية في فترات متباينة.

ويطلق على سجن تدمر في أوساط الشعب السوري سجن الإسلاميين لأن السلطات خصصته غالباً لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين ومن ارتبط بها، أو ربما لمجردة شبهة التدين، لكن هذا لم يمنع من وجود فئات أخرى مغضوب عليهم كالبعثيين العراقيين والشيوعيين.

شهد سجن تدمر كل ما تفتقت عنه عبقرية النظام من الممارسات الوحشية ضد السجناء. ولما كنت كغيري من السجناء الذين نجوا من جحيم تدمر، فإني لأتقدم بهذه الوثيقة مثبتاً فيها بعضاً مما لقيته من تعذيب وإذلال وإخضاع كالآلاف ممن رحلوا إلى ملكوت الله في السماوات، أو أنسأ الله لهم في الأجل كي يكونوا شهود عيان على أنواع التعذيب، كالجلد والضرب على الرأس بقضبان الحديد، والتعليق من الأرجل لانتزاع الاعترافات، بالإضافة إلى وسائل أعقد تقنية، كاستخدام الكرسي الألماني والصعقات الكهربائية، ولقد تعرضنا في هذه الحقبة التي أخالها مقصوصة من التاريخ البشري، إلى عشرات الأساليب والوسائل التي استخدمت في التعذيب والاضطهاد والتحطيم الجسدي والمعنوي إلى حد التصفية، التي ذهب ضحيتها أكثر من سبعين بالمائة من الضحايا الذين أرسلوا إلى تدمر على أقل تقدير في المرحلة التي امتدت بي هناك ما بين شتاء 1982 وحتى صيف عام 1986. ولعل أول مرة تُفتح أبوابه فيها لاعتقال سياسيين كانت حين نُقلت إليه مجموعة من قادة الإخوان المسلمين في أواخر حزيران 1966، منهم الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، الدكتور محمود بابلي، عادل كنعان، أحمد بنقسلي، مروان حديد، جودت سعيد، وغيرهم. ويلاحظ أيضاً، أن نصف السجن أحدث بناءً من النصف الآخر، ولعل النصف الجديد بُني بعد جلاء الاستعمار الفرنسي، وفي الستينات على الأرجح.

وسجن تدمر أشبه ما يكون بكهف كبير، وأقسام السجن وأبعاده بالكاد أن يلم بها الإنسان، إذ أنه في كل يوم إلى زيادة واتساع، ويبلغ طول سجن تدمر 1250 م وعرضه 1000 م محاطٌ بجدران عالية، وسياج حديدي استُحدث في السنوات الأخيرة ليحيط بسماء فضاء الباحات العامة، أما حدوده لمن أراد الاستزادة، فمن الناحية الشمالية الشرقية تتمركز سرية التأديب العسكرية، في الوقت الذي يطل من الجنوب الشرقي على طريق معبد يفصل بين السجن وأرض مشجرة، وأما بقية الجهات فتعسكر فيها سرايا الدفاع والصراع وما إلى ذلك من الميليشيات المدججة بكل أنواع الأسلحة والمصفحات والآليات، ناهيك عن الأسلاك الشائكة، أما المنافذ، فأولها المدخل الرئيسي، وهو عبارة عن فتحة في الجدار الشرقي، لا تتسع إلا للأفراد من المشاة، وأما الجدار الغربي ففيه باب واسع يسمح بدخول السيارات القادمة لنقل جثث الموتى تحت التعذيب، أو أولئك الذين قضوا ظلماً على أعواد المشانق. أما الباحات والمهاجع، فيتألف السجن مما يناهز خمسين مهجعاً تطل على سبع باحات رئيسية، وإن كنت غير متأكد من استحداث باحة ثامنة، استُحدثت في السنة الأخيرة من اعتقالي، وكل باحة منفصلة تماماً عن الأخرى، والباحة غير المنفصلة قاموا بفصلها في العام الأخير، ولعل باحة الذاتية الإدارة هي الباحة الأولى في الترتيب بعد المدخل الرئيسي مباشرة، وفيها قضيت جلَ عامي الأول، وهي تحتوي على كل من المهاجع رقم "1، 2، 3، 4، 5 المفتوح على المهجع رقم 6 ثم المهجع رقم 7" الذي استُخدم في السنوات الأخيرة بعد أن أُبعدت من داخله بعض الأشياء التي كانت تخص أولئك الأشخاص الذين أُزهقت أرواحهم في مجزرة تدمر الشهيرة، والذين جاوز عددهم الألف، تلك المجزرة التي سنفرد لها باباً خاصاً إن شاء الله، سيما وقد كنت شاهد عيان علي آثار وبقايا ومخلفات تلك الجريمة التي شاهدتها، والتي لا تزال حتى ذلك الحين معلقة على الجدران، دون أن يعملوا على إزالتها لسبب لا يعلمه إلا الله.

ومن هذه الباحة يتم الانتقال إلى الباحة الثانية، والتي تقع في الجنوب الغربي، آخذة في الامتداد باتجاه الشرق، وتحتوي على المهاجع رقم "8 والذي قضيت فيه بواكير أيام مجزرة حماة الشهيرة، بالإضافة إلى المهاجع 9، 10 والمهجع رقم 11" ولا يمكن بحال من الأحوال أن تُنسى حمّامات الدّم سيئة الصيت! والتي لا تتجاوز أن تكون صنابير على قوائم إسمنتية.

أما الباحة الثالثة التي تقع في الجهة الشمالية، ففيها تتواجد المهاجع "12، 13، 14، 15، 16 و17". الباحة الرابعة تتوسطها بركة ماء، وتضم كل من المهاجع "18، 19، 20، 21، 22، 23 والمهجع رقم 24"، وفي الباحة الخامسة كل من المهاجع "32، 33، 34 بالإضافة إلى مهجعين جديدين" وفي مهجعها الأخير قضيت قرابة نصف العام، وهي تطل من الناحبة الشرقية على باب من أبواب السجن الكبيرة.

أما الباحة السادسة التي فُصلت في العامين الأخيرين بباب خاص بها عن الباحة الخامسة، ففيها تقع المهاجع رقم "26، 27، 28 والمهجع رقم 31"، وفي المهجع رقم 28 قضيت بقية فترة الضيافة والنقاهة، حتى شاءت إرادة الله بالفرج، بالإضافة إلى ما كان يسمى بالورشة التي كانت في البداية تنصب فيها أعواد المشانق وفيها يتم تنفيذ أحكام الإعدام بعد المحاكمات الميدانية، ومن المؤكد أنه أُعدم في هذه الورشـة ما يزيد على (15000) عضو من جماعة الإخوان المسلمين يرحمهم الله تعالى خلال الثمانينات، ومن طرفها الغربي يمكن الولوج من خلال باب ضيق في الجدار إلى الباحة السابعة، وفيها قامت شواهد أخرى من المهاجع على الظالمين، كل من المهاجع رقم "29، 30، 35، 36، 37 و38". ويوجد فيه قسم للنساء عند مدخل الباحة رقم (7) كان مستوصفاً في الماضي، ولقد بقي يعج بالحرائر حتى عام 1984 حيث نُقلن إلى جهة لا نعلمها، وحل مكانهن الشيوعيون من أعضاء المكتب السياسي، وفي سجن تدمر عشر زنزانات فقط، قيل بأنها تحت سطح الأرض في الباحة الخامسة، والبعض ذكر بأنها بين الثالثة والرابعة، كما خُصص المهجعان (21،22) للأحداث، ثم استبدلا بآخريْن في الباحة السابعة، إضافة إلى أربعة مهاجع لمن سقط فريسة لإمراض السل والكوليرا، وفي الجهة الجنوبية من السجن يقع المطبخ، ومعظم المهاجع لا تزيد عن (18×5) م، مقتطع منها متران لدورة المياه، أما الجدران فذاهبة في الارتفاع، أربعة أمتار أو تزيد، على إحدى الواجهات تتربع أربع نوافذ عالية يستحيل الوصول إليها لا تزيد سعتها عن 80 سم وعرضها عن نصف المتر، عارية إلا من قضبان متعارضة تحكمها، بالكاد أن تتخللها أشعة الشمس، متى أشرقت.

وللمهاجع الجديدة "شراقتان" فتحتان في السقف مساحة الواحدة منهما متر في الطول ومتر في العرض، تحكمهما أيضاً قضبان حديدية متعارضة، وهي أيضاً عارية من الزجاج أو أي مادة واقية، يلازمهما احد افراد الشرطة العسكرية يعد علينا أنفاسنا.

حفلة الاستقبال الرهيبة بتدمر

أطلقت السيارات التي كانت تقلنا صافرات الإنذار معلنة انتهاء الرحلة، وانتهاء عهد واستقبال آخر، واكتشفت أن مجموعة أخرى كانت تصحبنا داخل ميكروباص، كانوا قد أجبروا كما الحال عندنا لطأطأة رؤوسهم إلى ما دون مساند المقاعد طوال الرحلة، في الوقت الذي كانوا يضربونهم بسياط مجدولة من أسلاك الكهرباء (كابلات)، وقد ذكر لي أحد الشباب لاحقاً بأن رحلتنا استغرقت قرابة ستة ساعات، مضت بطيئة ثقيلة، محفوفة بالمخاطر، مشفوعة بكل ألوان التنكيل، غارقة في كل أشكال الرعب والخوف.

عند المدخل توقف الموكب لبعض الوقت، ثم دبت الحركة من جديد، ودوّى استنفار، وانتهى إلينا صرير مزاليج الأبواب تُفتح، وما هي إلا برهة حتى دلفنا البوابة والتهمنا الكهف، وبذلك أمسينا في عهدة السجن الأسطورة.

ما أن توقف هدير المركبات، حتى صاح بنا صوت كأنه الرعد قد انشقت عنه السماء:

- كلكن عالأرض ولا!!

فقمنا مدفوعين بالخوف، يستند بعضنا على البعض الآخر، وعلى سلّم المركبة وقف شرطيان يستقبلان مَن هبط بالسياط، ثم ما لبثوا أن حررونا من أغطية العيون، فأبصرت ضيق المكان على رحابته، كان كل شيء متشح بالسواد، فالأرض معبدة بإسفلت أسود، والجدران داكنة، وأبصرت المأساة ماثلة أمامي للعيان، وكان الدرج بدوره أسوداً، والممر منخفض وضيق، وعلى صدر الجدار أبصرت الآية الكريمة جاءت في موضعها، حين يجمعنا عند الله الملتقى واللقاء: "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب"، وقريباً منها قرأت: "الداخل مفقود والخارج ولد ولد مولود"!!

ولفني شعور غريب بائس، كنت كالغريق تمضى به الأمواج إلى أسفل القاع، حيث الرعب والرهبة والمجهول!

قام عنصر من المخابرات العسكرية بفك قيودنا، ثم أمرنا بأن نهرول إلى داخل إحدى الحجرات، وسط بركان من الزجر والضرب، وجوهنا إلى الحائط، مأمورين بالاصطفاف بعد ذلك في رتل رباعي طويل، ثم عادوا فجعلونا في دفعتين، مضوا بالدفعة الأولى وبقيت الثانية، وكنت ضمن الدفعة الثانية، وأحد أفراد الشرطة من ذوى السطوة والجبروت ممسكاً بالكرباج - المصنوع من الجلد السميك المضغوط، والذي غالباً ما يستخدم في المحركات الثقيلة- يستعرضنا طولاً وعرضاً، تاركاً السوط في اجتماع ما لديه من قوة بطش، يهوي على رؤوسنا واحداً تلو الآخر، ما أن أصابني حتى ظننت أن السقف قد خرّ عليّ من فوقي، وزاد المكان ظلمة، حتى خُيّل إليّ أنني فقدت النظر فلم أعد أبصر، ثم أرعد وأزبد:

- فتحن عيونكن ولا يا أخوات الـ...، ارفعوا روسكن لفوق يا عرصات. فإذا بنا وجهاً لوجه أمام صورة دوِّن أدناها بخط رقعي- طالما كان جميلاً إلا في هذا الموطن- بطل التشرينين ومحرر الجولان، نبصره كالغباش من خلال السياط، ثم عاد فأرعد، ونضح فاهه بما فيه من المجاري:

- هذا سيدكن (سيدكم) وتاج راسكن (رؤوسكم) يا أولاد المـ..

ثم شرع في تسلق أكتافنا، وراح يجرب السير علينا وهو يتوعدنا إن سقط.

لا معنى للزمن هنا، لا ندرى شيئاً عما سيأتي، غير أننا كنا دوماً في انتظار الأسوأ، ونحن على هذا الحال أمرنا بترك أغراضنا جانباً، ثم نادوا علينا فرداً فرداً كي ننتقل إلى الغرفة المقابلة، على بابها ثلة من الجلادين الغلاظ يتلقوننا، يضربوننا بسياطهم المريعة التي جاءت على الوصف الذي ذكرت لك آنفاً وبعصا زاد قطر الواحدة منها عن 6 إنشات، لمحت الجلاد يهوى بها بكلتا يديه على من اجتاز أمامي، فلم أصدق عيني حتى جاء دوري، فهوى بها، وما عدت أذكر كيف عاد نَفَسي الذي تحشرج حتى كاد أن يخبو، غير أنني عدت فتحاملت واقفاً ثم جريت، بهذه الصورة كانوا يوجهوننا إلى الذاتية، مكتب يحتله اثنان بلباس مدني يقومون بتدوين الأسماء والعناوين والمهنة التي كان يزاولها كل منا قبل الاعتقال، ما أن مثلت بين أيديهم أنوء من وقع العصا، حتى بادرني أحدهم بالسؤال عن اسمي؟

ما أن نطقت به، حتى تلقفتني الأيدى بالترحاب، في خضم ذلك، لهجت ألسن (جمع لسان) الحاضرين بأقذع ما يخطر على قلب بشر من الشتائم والسباب، وما عدت أميز من كل هذا الخليط إلا قولهم "قرد أُوْلا أردني، والله لَنَّسيك الحليب اللي رضعتك إياه إمَّك، يا أخو الـ.."

كادت المفاجأة أن تأخذ بتلابيبي، لكنني تماسكت، وظل شيئاً واحداً يرعبني، هو أنني صرت مميزاً! ويكفى أن أكون على هذا النحو من التمييز، كي أكون دوماً تحت طائلة الطلب، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. ثم عاد أحدهم ليسألني عن عنواني؟ فأجبت، ثم سأل عن مهنتي؟

- طالب.

- طالب شو؟

- طالب هندسة مدنية.

- وين عم تدرس؟

- في ألمانيا الغربية.

ورنت في المكان قهقهة، ثم تلاها تصفيق بكلتا اليدين:

- وزاد في الطنبور نغماً! سنحتفل بتخريجك هنا..

وما عدت أبصر دربي وهم يصرفونني بين زاجر ضارب، وبين عاقر ضارب، وراعد بارق، فالسياط في كل ركن، والعصيُ في كل زاوية، الكل متربص، وما انقطع الكل يصيح مع انهمار الضرب.

- غمض عينك يا حقير، راسك في الأرض يا منحط، والله لـ... أمك يا أخو الـ....

على سياج حديدي رأيت من سبقني، قد افترشوا الأرض على ركبهم، قد طأطئوا رؤوسهم حتى غاصت بين جنبيهم، وجوههم إلى السياج، من حولنا مجموعة من جنود غلاظ من الشرطة العسكرية، ما انفكوا يضربوننا بلا هوادة، جو من الرعب فظيع، ثم فجأة نادوا على الملازم أول المهندس رضوان خالد الرضوان، وكانت ليلة مشهودة - لهذا المحتسب الصابر- له ولنا جميعاّ عند الله، كان صوت صراخه واستغاثته تملأ أركان السجن بجهاتها الأربع، وما كنت أعتقد بأنه سينجو بعد كل الذي تجاوزوا به عليه، إلا أن قدر الله سبق في الأزل ألا تموت نفس حتى تستوفي أجلها وأرزاقها، وسبحان مقدر الأرزاق والآجال، سبحانه وتعالى.

ما أن اكتمل العدد تمامَ واحد وأربعين، حتى ساقونا كقطيع من الأغنام ثانية تحت وطأة السوط والعصا مهرولين في صف طويل متعرج من باب صغير التهمتنا بعده الباحة الأولى، بانتظارنا على الباب شرطي آخر بكرباج في يده، لم يخطئ منا أحداً إلا وأصابه، في الوقت الذي كانت مجموعة أخرى من الشرطة الموغلة في الإجرام على يمين الشرطي الأول، بانتظار إطلالتنا كي يتلقوننا مرة أخرى بالعصي والسياط، وهم يصرخون:

- غمض ولا، راسك في الأرض!

وما هي إلا لحظات، وكأن زمن الدنيا اجتمع فيها، حتى احتوانا المهجع رقم 2، في الباحة الأولى على يسار الوالج من البوابة الرئيسة، ثم أحكموا المزلاج، وزادوا الإغلاق بإدارة المفتاح في الأقفال وانصرفوا.

المهجع رقم "2" بتدمر

قضينا ما بقي من ثلث الليل الأخير منشغلين بجراحنا عن البرد الذي غطّى المكان، واختلطت رجفة الخوف برجفة البرد، وصارت الظلمة تضفى على المكان جواً يذكرك بالمقابر، ورحت أطوف على عالم البرزخ أتفقد العدد، فقد كان من الصعب عليّ أن أصدق بأن أحداً ممن معنا تخطته المنية فلم يمت، ولم يكن بمقدور سواد الليل وحلكة ظلامه أن تخفي أنين المعذبين المكتوم، كما أخفت جراحهم وكسورهم ولو إلى حين، وما كان بالإمكان أن تتعرف في دكنة الليل وعتمته إلى أي من البائسين، وكان على رأس أولوياتي أن أطمئن على أبي صهيب، ذلك الملازم العملاق، فأخبرني بعد أن أجهدتني الحيلة في الوصول إليه بأنه بخير، وما زاد على أن قال:

- في سبيل الله، نسأله القبول وحسن الختام!

وردد عبد السلام تسقية، محمد قطِّيع، يوسف زين العابدين، وأبناء آل الصغير الثلاثة، وكل الحاضرين، رددوا جميعاً نفس العبارة، ولم أجد من بينهم نادماً أو شاكياً، ولعل اشتراك الجميع في الابتلاء كان هو العزاء، وما كان يبعث على الأسى في كل تلك المشاهدات، أنك تكاد تجزم أن جمعاً غفيراً من هؤلاء لم يكن لهم من ذنب اقترفوه، أو جرماً ارتكبوه، إلا أن لهم درجة من درجات القربى، أو الصداقة من مطلوب عجزت يد الظالمين من أن تطاله أو تصل إليه.

اعتقدنا أن حفلة الاستقبال قد انقضت، أو لعلنا أردنا أن نتحايل فنقنع أنفسنا بذلك، كصغار مرضى لا يعثرون على الدواء، راحت تعللهم أمهم بالشفاء حين يطل الصباح، فلما أطل الصباح عدا القدر على الأم فاختطفها مبقياً براءتهم نهباً على موائد اللئام، هكذا كنا تماماً، وهكذا رحنا نتعلل الليل بطوله، كي نطرد عنا كل الهواجس الخبيثة، غير أن أنوار فجر حالك أطلت، كما لو أنها أطلت على غير ميعاد، وما أن بدأ الليل بالرحيل حتى بدت تتكشف بشاعة الجريمة التي عشناها في الليلة السابقة، كانت رؤيا الدماء والأعين المقفلة والأيدي المشلولة عن كل حركة، والتي استحقت التمريض ومن يتعطف على أصحابها في جبر الخاطر، في مكان عزت فيه أي نخوة أو الحد الأدنى من جبر أي خاطر، كانت هذه المشاهد تبعث على الحنق والتفجع.

لقد كانت قوانا عند آخر حدودها الدنيا، ومع هذا قال الكثيرون بأنهم ما زالوا يحملون بين جنباتهم عزيمة تضاهي قوة الحديد بل هي أكثر.

وما أن أطلت الشمس على يومنا الأول الأسود في دنيا العذاب الذي سنحياه في هذا المكان، حتى راحت تفتح أبواب وتُغلق أخرى على وقع أقدام وتوارد لازمة بالكاد أن نتبينها، أو أن نعلم مصدرها، وكانت تلك هي هتافات رؤساء المهاجع - كما خبرناها مع الأيام- وهم يقومون على تقديم مهاجعهم لحضرة الرقيب! وبالعبارة التى ما انكفأت أستمع الى تردادها على مدار أربع سنوات وزيادة، هي مجموع ما اختطفوا من عمري في تدمر التاريخ والحضارة، تلك العبارة التى مارسوا علينا بها عهرهم الذى تخطى حدود الدجل المفرط في مهزلة اسمها:

- المهجع جاهز للتفتيش حضرة الرقيب!!

وكان رئيس المهجع مجبراً على تردادها حتى لأدنى الرتب، ثم فُتح الباب لتطل من خلفه تباشير جريمة بشعة، ولتطل وجوه طلعها كأنه رؤوس الشياطين، رأسان لجلاديْن وقفا بحبالهم وكرابيجهم وعصيهم على الباب، بينما انتشر البقية في أرجاء الباحة المعبدة بالإسفلت، وفي كلمة مدوية مروعة مرعبة صاحوا بنا:

- الكل بَرَّا يا مجرمين!

لا أدرى كيف حملتنا أقدمنا - لا سيما المصابين منا- فجرينا، وكنا نهرول مرعوبين كغنم تخلى عنها راعيها بين قطيع من الذئاب الجائعة، أجبرونا على الاصطفاف فُرادى متباعدين على الجدار تحت لهيب السياط، ثم أمرنا بالتقدم خطوتين الى الأمام، ما لبثوا أن صاحوا بنا كي نتجرد من ملابسنا وأحذيتنا، فامتثلنا، بدؤوا في تفتيشنا دون أن يعطوا السياط والشتائم البذيئة لحظة استراحة، وراحوا يمارسون نوعاً من السادية حين شرعوا في نتف شعور لحانا وصدورنا ورؤوسنا، وهكذا استمروا دون أن يتركوا لنا لحظة كي نلتقط أنفاسنا، لا ينفكون عن الصياح بنا كي نبقي على إطباق أعيننا، وأنت مغمض عيناك لعلها كانت نقمة في طي نعمة، كي لا تبصر ما يدور حولك، وحتى لا تبصر وقع السياط، فيهوى فؤادك من رؤيتها جزعاً وفرقاً.

ما كنت أدرك يقيناً أين يقف الجلاد مني، لكن الذى رحت أدركه هو أن مجموعات كثيرة من الجلادين القساة الغلاظ، راحت تعيد انتشاراً للرعب عما قليل سينتظمنا جميعاً دون أن يستثني منا أحداً، أدركنا ذلك في استماعنا لحركة الدواليب (إطار المركبات الخارجي) وما يسمونه بساط الريح، والفلقة والعصي والسياط والكابلات، و...

كانت هنالك مجموعات من الطوافين المتجولين، مهمتهم ضرب الذين أمروا أن يفترشوا الأرض والذين هم بانتظار أن يساقوا إلى الدولاب والفلقة، أما من سُحب إلى الفلقة والدولاب، فيا لهف نفسي على من سُحب إلى الفلقة والدولاب، ضجت الحناجر بالهتاف إلى الله، وهتف من وجد لديه بقية من رمق تحت نيران ثلة من العسكر يكوونه بها قائماً وقاعداً وعلى جنبيه:

- أنا وقيعكم، أنا دخيلكم!!

يا لله من هول الموقف، وكلما شطوا في العذاب، زاد جئير الضحية، عندها يلقموننا مقدمة أحذيتهم وهم يشتمون ويلعنون ويضحكون، فإذا ما خمدت الأصوات وتراجع ترديد الرجاء والتوسل، وأخذ الجسد الواهن إغماءة فتهاوى، قاموا إليه فداسوه بنعالهم، فإذا ما استفاق من غيبوبته، أمروه وهم يوجهونه بكرابيجهم صوب زاوية من الحائط، وإلا جروه حتى يستيقظ أو يموت!!

كان الضرب رهيباً، وكانت لفرقعة السياط وقعاً نفسياً مزرياً لأولئك المنتظرين، وكنت واحداً منهم، فمن صار في الدولاب مطوياً ناصية رأسه الى أخمص قدميه المربوطتين في عصا الفلقة، قد انهالوا عليه انهيال الكلاب على الفريسة، هؤلاء عما قليل سينتهي شأنهم، إما أن يفرزوا مع من نال نصيبه من العذاب، أو إلى رب هو أرحم بهم من الأم بولدها، حالهم بين يديه - وهو الأعلم بهم- يغنى عن سؤالهم، أما نحن المنتظرون، فحدِّث عن مأساتنا ولا حرج.

لقد كان الانتظار فظيعاً فيه اجتماع الهلع، زاده إهانة عناصر الشرطة الجوالة بطوافهم علينا، ونحن جاثمون وجوهنا الى حائط المهجع رقم "4"، بسياطهم المصنوعة من الكاوتشوك المضغوط كما أسلفت سابقاً، يوسعوننا تنكيلاً وضرباً، لا أعتقد أن بطلاً جلداً من أبطال الأرض يقوى على احتماله، ضرباً ينصب على الرؤوس والأظهر صباً، عندها يختلط صراخ الجاثمين على الأرض بصراخ القابعين في جوف الدولاب.

لك الله يا سوريا، ولكم الله يا أبناء سوريا، متمثلين في توسلات الملازم المجند أبو صهيب، وقد زاد مكثه في الدولاب عن ساعة، جرَّعوه، كما هو الحال لنا جميعاً من أصناف العذاب - والله الذى لا إله غيره يميناً لا أحنث فيها- من أصناف العذاب ما أجدني أعجز من أن أصفه، مهما تأتَّى لي من أصناف البلاغة، ومهما ألهمني الله من البيان والتبيين!

لم يرحموا المحامي الرقيب يوسف زين العابدين صاحب الأقدام المسلوخة، التى شويت على نار هادئة أثناء الأشواط الأولى من التحقيق في فرع إدلب العسكري، لم يرحموا له هذا الوضع الذى كان يستوجب الشفقة، سيما حين عرفوا بأنه مجند في سلك الشرطة العسكرية. أما محمد قطِّيع، فلا أعتقد أن لغة من لغات الأرض سيكون بمقدورها أن تعبر عن الصورة التى تركوه عليها، كومة من لحم وعظم، يصعب عليك ان أصدق بأنه من البشر، يا لهول الفاجعة، لقد تبدلت كل معالمه، حتى لأخالك في حاجة إلى من يدلك عليه من خلال إشارة أو علامة!!

لقد كنت أستمع لمن سبقني إلى المحرقة، وهم يتشفعون لدى الجلاد بكل زعيم يؤمن الجلاد به صنماً يعبده من دون الله، وقليلون من أسعفتهم بقية من قوة، فما زالوا يئنون، وكانت أنّات من اجتاحهم الإعصار مريرة، يجاهدون أنفسهم على إخفائها، وكلما اقتادوا الذي يلي في الدور، كنت أحس بدنو اقتيادهم لي، وما أصعبه من شعور فيه من الهلع ألواناً ومن الغم والهم تشكيلة لو أعطيت على المقاييس درجة، لحازت أعلاها بلا منافس!! وكم تمنيت لو أنني كنت مع الدفعات الاولى، فلعلني وعساي أرتاح من وطأة هذا الكابوس الفظيع!! وكنت أخشى أن يفطنوا لي، فأنا مميز وافد من الأردن، البلد الذى يناصبونه العداء منذ سنوات، ومثلي من يُثأر منه، ما أصعب أن تعيش لحظات الخوار والعجز بين يدي عدو لئيم لا يرحم، وما أقسى الاستشعار بالذل والخنوع، سيما إن كان الذى يمارسه عليك نذلاً من حثالات البشر، ويا لبؤسك أعزلاً مزروعاً بالفزع، وحولك عتاة متربصون، كنت على هذا الوضع حين امتدت إليَّ أيدٍ غلاظ فانتزعتني من مكاني انتزاعاً، وكنت مسك الختام في الدفعة الأخيرة، كان كل عضو مني يرتجف فرقاً، وأدركت بأنني صرت في قبضة أوباش ماتت قلوب الرحمة عندهم، رضعوا أحقاد الأرض مع حليب أمهاتهم، إن كان لهم أمهات يعرفونهن، وإلا فهم أبناء عهر قرمطي ما له من حدود، ليست كلمة الشرف أو الفضيلة من مفردات معاجمهم، همهم أن ينتقموا من كل الشرفاء لا لذنب ارتكبوه، إلا لأنهم شرفاء!!

حين بسطوني أرضاً، شرعوا في سلخ جلدي دون تعليقي إلى المشجب، ولعل من رحمة الله، أنهم لم يفطنوا لي، مما أدخل إلى نفسي بعض السكينة، وإن كنت في النار أحترق، وحين انهمرت السياط، كنت أصيح كما هو حال غيري، فلا مجال أمامك هنا إلا أن تجأر بالصراخ شئت أم أبيت، فأنت تدور في ساقية الدم، وكم من الأيام والسنون ستمر بك وأنت على هذا الحال، في الساقية حتى الموت، أو يأذن الله لك بفتح من عنده مبين.

لحظات وينعدم عندك الاحساس بالمكان والزمان، لا تلبث أن يأخذ صوتك في الذبول حتى يغدو كحشرجة نفس ثم يطبق عليك الصمت، فتصاب بنوع من البلادة كما لو أن مجسات العصب عندك قد تعطلت أو ماتت، لذا لم أجد شيئاً آسو عليه حين شرعوا بنعالهم الغليظة يأتون مهرولين، وبما اجتمع لهم من ثقل أوزانهم يقفزون على ظهري، وأنا منبطح قدماي مسنودتان في الهواء الطلق، يهوون عليها بسياطهم، مستسلم لا طاقة لي حتى على الصراخ أو الأنين، من كان يصدق أن أقوم بعد هذه المجزرة واقفاً مهرولاً على قدمي، متلمساً دربي بين صفين من الجلادين، يوجهونك ثانية بالسياط، كي تحمل ملابسك التي خلعتها قبلاً باتجاه المهجع رقم "2"، في حين دلفه الكثيرون زحفاً، وصار اللحم المتفسخ والدماء المراقة عنواناً للمكان، وما عادت لشعارات مهترئة دُونت على امتداد الجدران في باحة التعذيب، مثل وحدة حرية اشتراكية أي معنى من المعاني الجميلة، هنا أدلجوا بنا إلى حلبة الفناء الفظيع، تحت وهج الشمس التى أرادونا أن نكتب عليها اسم بلادي، كي لا تطويه الذكريات لينتهي إلى صندوق النسيان العجيب، ومتى أمكن للأسى أن يُنسى؟! لحقوا بنا إلى داخل المهجع كي ينثروا على الموت ملحاً، وكان قول الحادي هنا للعصا، ذات الإنشات الست وزيادة، ظني أنها قُصفت من جذع شجرة غليظ، دخلوا كالبركان لا يفترون عن صب حمم أحقادهم علينا وهم يصرخون بلهجتهم الجبلية الغريبة:

- ولْكو يا أخوات الـ... والله لنشويكن، ونشرب من دمكن، ما بدنا نسمع صوتكن.

مهلاً يا صاحبي، والعذر إليك موصول، فحكاية يومنا هذا لم تنتهِ بعد، والباب ما زال مشرعاً لم يغلقوه بعد، لقد شتموا إلهنا وديننا ونبينا إيغالاً في زيادة الأذى، ولم يكن بمقدور المسن الحاج أحمد أحد أبناء جبل الزاوية في إدلب احتمال المزيد، فمات تحت وطأة العصا والقهر والظلم قبل أن يرتفع الأذان لصلاة العصر، وبذا يكون عددنا لهذا اليوم قد هبط إلى الأربعين. كان المهجع رقم "2" قذراً، فبقع الدماء التى تُركت على الجدران المصمتة المقرورة من بقايا الجريمة ما زالت حتى ذلك الحين شاهدة، لا أدري لماذا لم يعملوا على إزالتها! والحفر التى خلفها الرصاص دون أن يستروها، دليلاً ماثلاً على المجزرة التى أقيمت للأبرياء العزل صبيحة يوم السابع والعشرين من شهر حزيران "يونيو" عام ثمانين وتسعماية وألف، وكان طول المهجع لا يزيد عن خمسة عشر متراً، بما في ذلك المكان المخصص لدورتي المياه، وأما العرض فخمسة أمتار أو ما دونها.

هكذا عشنا تلك الساعات التي ما أحسبها محسوبة من الدنيا، خرجنا منها قد درس فيها ما أبقوه لنا في ليلتنا الماضية من الأطلال، وصرنا كحديقة خويت على عُروشها، بعد أن كانت ثمارها يانعة، وجوه قد ذهبت محاسنها، وأرجل قد فارق جلدها لحمها وعظمها، وأظهر قد ناءت بكلكلها، فما عادت تستقيم فقراتها، وعيون أُطبقت فما عادت تبصر دربها، ورؤوس تورّمت ما عادت تستوعب غير أننا في المحنة نهرس ونطحن، وأيدٍ تكسرت فما عادت تقوى على الصد أو الرد، وأمور كثيرة أخرى ما ندى للجاني الباغي وهو يدير دفة مركب ظلمه في بحر بؤسنا وعذابنا أي جبين. لا تتعجل يا صاحبي، فالحكاية ما زالت في أشواطها الأولى، ستدرك تباعاً بمشيئة الله إن كان في العمر بقية، آه من طول دربي وقلة زادي وانقطاع سندي.. آه!!

غريب الدار ليس له صديق

 

جميع سؤاله أين الطريق

تعلق بالسـؤال كـل شخص

 

كما يتعلق الرجل الغريق

فـلا تجزع فكل فتى ستأتي

-

 

على حالاته سعة وضيق

     

استلام البطانيات

لم تكد تمضي ساعتان على تدشينهم لحفلة الاستتقبال تلك، حتى عاد الباب ليفتح من جديد، وصاح المجرم فينا:

- الكل على الحيط يا أخوات الشـ...

فجرينا إلى الحائط، قد عاد الرعب فانتظمنا ثانية، وأطل رقيب ومجندون، لعله مساعد السجن أحمد كيساني كما عرفناه لاحقاً، انفجر على سجيته في لعن آباءنا وأجدادنا وإلهنا وأخذت أمهاتنا وأخواتنا وأعراضنا وديننا من طفح مجاريه، فلم يُبقي ولم يذر، ثم صاح ثانية:

- وينو رئيس المهجع يا أولاد الـ...يا عرصات يا قوادين؟!

ولما لم يجبه أحد، اشتاط غيظاً:

- ليش ما عم تحكوا يا كلاب، في بينكن عسكريين ولا أنت وإياه، وينه الكر الملازم وينه؟!

يا لها من لحظات عصيبة، عادت القلوب فيها أدراجها إلى الحناجر، وخرج أبو صهيب يتهادى على الجدار إلى أن وصل إلى الباب، وفي ركل ورفس وضرب ألقى إليه الرقيب بالتعليمات:

- أنت يا جحش من الآن فصاعداً بتصير رئيس المهجع، متى استشعرت أي حركة بالقرب من الباب، وجب عليك تقديم الصف لحضرة الرقيب، مفهوم يا كر؟!

- حاضر حضرة الرقيب!

- قدّم الصف يا كر.

كان أبو صهيب جاهلاً حتى ذلك الحين كما نحن جميعاً بالطريقة التي يتم فيها تقديم الصف، أو تقديم المهجع، وهنا يعلو صوت الجاهل الرقيب لاعناً، هم تماماً كخنافس روث الدواب، فاللعنات من أقوات حياتهم اليومية، لا يمكنهم الاستغناء عنها،

- بصوت جهوري تهتز له أركان السجن الأربعة، يجب عليك أن تقول "انتبيييه، استااااارح، استاااااعد، المهجع جاهز للتفتيش حضرة الرقيب!"، فهمت يا ابن الـ...؟

- فهمت يا حضرة الرقيب!

كانت فرحتهم بلا حدود، حين راحوا يتمننون علينا بالأغطية العفنة، من بطانيات لعلها من بقايا حقبة الاستعمار الفرنسي، قد انمحت أوبارها تماماً، بالية، تفوح من ثناياها رائحة الموت، قد سكنتها حشرات الجرب، والقمل والبراغيث، بالكاد أن تقيك برد الشتاء، أو تظلك من حر الصيف، أما العوازل فلا تقل عنها سوءاً، طبقة من قماش يفترض أن تكون من شادر مقوى، بطول مترين وعرض يقل عن نصف المتر، كان علينا افتراشها عند النوم كي تقينا قاع الأرض المقرور في الصحراء الباردة إلى حد التجمد ليلاً، حتى هذه المهمة لم يكن بوسع هذه العوازل أن تؤديها، ثم راحوا يعدونها علينا بالسياط، لم ينقطع الضرب طوال فترة العد:

- هاي عهده يا أولاد المنـ.. إذا ضاعت واحدة أو تم إتلافها، يا ويلكن يا ظلام ليلكن!

وهم يهمون بالمغادرة وبنفس اللهجة:

- قدم الصف يا عكروت!

- انتبيييه، استااااارح، استاااااعد، المهجع جاهز للتفتيش حضرة الرقيب!

صار واجباً على أفراد المهجع مع هذه اللازمة أن يدقوا أرجلهم المهترئة في حالة استعداد دائم عند فتح الباب أو إغلاقه، صاح وهو يدير المفتاح في القفل:

- المهجع انتهى من التفتيش يا حمار!

ثم ولَّوا مدبرين باستلام البطانيات، وبذلك النشيد الخالد صرنا في عهدة سجن تدمر العسكري.

سخرة الطعام

عند ظهيرة ذلك اليوم الأغبر القاتم، عاد القفل لتُحركَه الأيدي الآثمة، وصاح أبو صهيب حين هبينا واقفين مذعورين:

- المهجع جاهز للتفتيش حضرة الرقيب!

وجاء دوي كالرعد:

- وين السخرة يا ابن القـ... أنت وإياه، يطلعوا يدخلوا الغداء!

لم يجرؤ أحد على الخروج، ففرقعة السياط تملأ رحابة الباحات جميعاً، وولولة البؤساء وصراخهم ينتهي إلينا من كل حدب وصوب، غير أن جرأة خفية عجيبة اندفعت لتملأ كل جارحة من جوارحي، فاندفعت أشق الجمع باتجاه الباب، وما هي إلا أن انحنيت على أحد الجاطين (وعاء من البلاستيك)، حتى انهمر سيل من السياط، لكنني تماسكت وعدت بجاط الأرز أغوص في بحر من الدم الذي جرى غزيراً من أنفي، لم أعبأ لكل تلك السياط، فلقد كان الخوف الذي لبسني أقوى من كل ألم يستشعره المرء في مثل هذه الأحوال، والصدق يقال لا أدري كيف خرجت ولا أدري كيف دخلت!

وهكذا استمر إدخال الطعام، وإخراج الفوارغ، عند كل وجبة طعام، كانوا يتوعدوننا بضرورة أكل كل ما يدخل!

كانت القلوب آهلة معمورة، والنفوس آزفة مسدودة، فلا شهية لأحد منا في طعام أو شيء من طعام، مع أنه مضى زمن طويل دون أن نأكل، ورحنا نبحث عن طريقة نستطيع من خلالها التخلص من جاطين أحدهما مُلئ مرقاً بلون الدم، والآخر فيه أرز، نادراً ما استلمناه كامل الطهي، وما زالت تأخذنا الحيرة ذهاباً وإياباً للخروج من هذا المأزق، إلى أن جاءت فكرة تصريفه عن طريق دورة المياه، وهكذا كان.

التفقد

قرابة الثانية ظهراً، كانت تتوارد إلينا أصوات رؤساء المهاجع في الباحات البعيدة وهم يقومون بتقديم مهاجعهم لحضرة الرقيب، فاجتاح الهلع أفئدتنا من جديد، ما عساهم يفعلون؟ وهكذا سرت عدوى هذا السؤال بين الجميع، لم يطل الانتظار، فقد اقتربوا منا، وبدأت أبواب الباحة التي نحن فيها تُفتح، وسمعنا أرجلاً كثيرة تُهروِل، إنهم يأمرونهم بالخروج إلى وسط الباحة، لا ينفكون يضربونهم بقسوة، يا إلهي ماذا يفعلون؟ ولم تطل الدهشة والاستغراب، فلقد سمعنا صاحب الصوت الكريه "أبو جهل" الاسم الذي ألحقه به السجناء، أحمد كيساني مساعد أول انضباط السجن، سمعناه يعوي:

- على التفقد يا عرصات!

حتى إذا ما انتهى أبو جهل من تدوين العدد، بدأت جولة جديدة من العذاب، ولكل مهجع على عود حزين منفرد النغم، تبدأ بالخروج مهرولين اثنين اثنين، رملاً تحت عز الطلب، رؤوسهم مطأطئة، وانصباب السياط والعصي والكابلات منهمر انهمار الغيث في اليوم المطير، يأتي على غير ميعاد من الأمام ومن الخلف ومن على الجنبين أو "الميلين" بلهجة إخوتنا اللبنانيين، في الوقت الذي لا ينفكون فيه بتذكيرك أن تبقي عيناك مغمضتان:

- أسرع يا حقير.. خليك مغمض عينك.. وطي راسك في الأرض.

وهكذا تكون رحلة العودة الي المهجع، قد وقف بمحاذاة باب المهجع مجرمان بقبعاتهم الحمراء، في أيديهم الكرابيج، يتصيدون كل داخل، ومَنْ مِن البؤساء لا يدخل؟

عاد الجناة فحركوا القفل، فانتبهنا قياماً، وقدم أبو صهيب الصف من جديد، ثم فُتح الباب، فهبت مع فتحه لفحات كما لو أنها من السموم، وفي أوج المعاناة صاح أبو جهل:

- وين الرتل الخماسي ياللي حضرتوه للتفقد أُوْلا يا منـ.. يا إمعرَّصين!

ثم نادى على رئيس المهجع، فأمره بالانبطاح، وأن يرفع رجليه في الهواء، وما عدت أذكر كيف هجموا عليه، فداسوه بكرابيجهم، وكابلاتهم وأرجلهم، قد ضاعت في المعمعة توسلاته وقد علا صراخه، ثم أمرونا أن نقف متباعدين وجوهنا إلى الحائط، في الوقت الذي سار فيه العد متوازياً مع الضرب المبرح، كنت أسأل نفسي بحرقة:

- يا إلهي! ألا يتعب هؤلاء!! ألا يملِّون؟!

بعد أن أنهكتنا سياطهم وهم ينصرفون مصحوبين بكل أطياف الشتم والسباب والكفر، هددونا بالويل لنا والثبور إن جاؤنا في الغد على هذا الحال:

- بدنا نشوف رتل خماسي مترادف، مفهوم؟

ورد أبو صهيب وقد أعيته الحيلة فما عاد يتحمل:

- حاضر حضرة الرقيب.

ثم أطبقوا الباب بإحكام وانصرفوا.

توضأ مَن وجد في نفسه طاقة في تحمّل الماء، تيمم الباقون، وصلّى الناس الظهر والعصر جمع تأخير على هيئاتهم، فرادى كيفما تسنّى لهم، كذلك فعلوا في المساء، وانشغل كلٌّ في نفسه، أشغلونا في مداواة جراحنا، شغل الله قلوب الظالمين وقبورهم ناراً وجحيماً.

ولكي يكتمل لنا نهارا دسماً غير منقوص، مختوماً بحفلتي المساء والسهرة، كان لا بد وعلى رأي المثل السائر أن يكتمل النقل بالزعرور، وذلك بالتعريج على وجبة طعام العشاء، فما كانت لتقل سوءاً عن حفلة التفقد، فأردت ثانية أن أصنع من نفسي شيئاً ينفع الناس، فاستجمعت قواي كي أريح نفسي من هواجسها، واستهوتني فكرة أن أكون فداءً لكل من حولي، فاستسلمت لقضاء الله وقدره، حتى إذا ما اهتز القفل في أيدي الجناة، ونادى أبو صهيب بأن المهجع صار جاهزاً لحضرة الرقيب، وبجرأةٍ على الله وخلقه في أقذع ما اقترفت ألسنتهم المسفة من الشتائم، نادى الرقيب على السخرة لإدخال جاط يتيم من شوربة العدس المخلوطة بكل حصى الأرض وترابه، ومع أن إحساساً كبيراً كان يكتنف الجميع بالقنوط والإحباط، وليس من حاجة ماسة إلى المكابرة، غير أن شعوراً من التحدي كان يكتنفني، فحملتني قدماي إلى الباب، فاجتالتني السياط وأنا أجري بالجاط إلى داخل المهجع، وعلى عجل أغلقوا الباب، ولما همّوا بالانصراف تجرأ أبو صهيب فسأل عن وقت النوم؟ فنهق الرقيب من الخارج:

- في السادسة مساءً لا أريد أن أرى كراً منكم في وضع استيقاظ!

في الوقت إياه زحف بعض الإخوة باتجاهي، وهم يتحسسون مواطن السياط مني، وما زادوا أن قالوا:

- نسأل الله أن تكون لك أجراً وعافية. وابتهل البعض إلى الله بأن يشل أيدي الجناة والظالمين وأرجلهم!!

احتسى من وجد في نفسه شهية لطعام، شيئاً من شوربة العدس على عجل، وطلب إلى أبو صهيب، وكان أشدنا إنهاكاً، أن أتولى توزيع العوازل والبطانيات على المنهكين حتى النخاع، وكذلك توزيع أماكن النوم، وندبت عبد السلام تسقية في إعانتي فلم يتردد، في حين غط أبو صهيب في نوم عميق، راح يعلو معه شخيره، منذ ذلك الحين أصبحت المعاون الأول في إدارة شؤون هذه المملكة البائسة المقهورة!

التنفس

كان الحدث الأبرز في اليوم التالي هو التنفس، وما أدراك ما التنفس، إن كنت ذا قلب شجاع فاستجمع قواك وأعرني قليلاً من صبرك، وإن كانت لديك سعة تصوّر فأغمض عينيك قليلاً ثم أوغل في الخيال، فلربما ألممت ببعض التوجع والتفجع والإذلال الذي عانيناه وتجرعناه!

تُفتح الأبواب على السجناء، فيتاح لهم الخروج إلى الهواء الطلق، كي يتعرضوا لأشعة الشمس والنور، وتمارين مختلفة من الرياضة، هكذا هو الحال في السجون العادية، أما في تدمر فلا أنكر بأن هناك فرصة للتنفس.

لا تتعجل يا صاحبي، فكل شيء في طريقه إليك، في الصباح يأتيك صوت المجند وجيه مرافق الرقيب مرهج في الدورية، وهو يزمجر بكرباجه، ضارباً كل ما يصادف في الباحة من جدران، من دلاء بلاستيكية، يأمروننا دوماً بإعدادها لهم يعلوها بشكير، كي يجلسوا عليها متى طاب لهم أن يجلسوا، ثم يطلون علينا من فرجة الباب، وهم يكيلون لنا ما شاؤوا من قاموس الشتائم الغليظة، والتهديدات الفاجرة، إن شاؤوا دلفوا الباب فأوسعونا ضرباً فوق الأعناق، ودون كل بنان، وإلا أخذوا أوضاعهم عند فتحة الباب تماماً، وقد نفذ صبرهم الذي لم يتعدَّ برهة فتحهم للباب، ثم يأتي هريرهم كهرير الكلاب، نُؤمر من خلاله بالخروج عراة الصدر والسيقان، فقط بنصف سروال إلى ما دون الركبة، نُؤمر بالوقوف في عرض الباحة، هريرهم يملأ فضاء الله بضرورة الإبقاء على إغماض العيون، وإبقاء الرؤوس في الأرض، وذلك في كلمات تأتي في شيء يشبه فرامل مَرْكّبَة، مرت على قضبان حديدية:

- برّا يا كلاب.. يا منيـ.. أنت وإياه.. يا.. على التنفس يا أنذال.. بسرعة أنت وإياه يا أولاد الشـ..

ما أن يكتمل العدد حتى نؤمر بالانبطاح على إسفلت الأرض الخشنة، ثم يُنادى فينا بأن نرفع أرجلنا في الهواء الطلق، ولو لم يكن طلقاً لما صلح للتنفس، يلي ذلك هجوماً من العتاة الغلاظ، فقد دانت لهم العباد، وخلت لهم الميادين، وسلاحهم ما آن لهم أن يغمدوه بعد، وما عاد لي إلا أن أستعير قول الله تعالى محدثاً عن سليمان عليه السلام "طفق مسحاً بالسوق والأعناق" غير أن هناك موت وراحة، وهنا جلد فظيع واستباحة، جلد للظهر والأرجل والأيدي والرؤوس، جلد لا هوادة فيه، وحين يضيق الإطباق عليك وترسل ما تبقى لديك من التوسل والصراخ، ثم يوغلون في الجرم، لا تقوى على كتم صوتك الذي تخاله مع سقوط السوط عليك، كما لو أنه ينبعث من أسفل نياط جوفك من الأعماق، ملءَ الحناجر والأفواه المنفغرة، نتقلب على النار، عراة نكتوي على رمضاء الصحراء طوراً، وتحت زمهرير بردها طوراً آخر، وهم ينهرونك ويزجرونك في ضرورة السكوت بقولهم:

- ولا نفس!!

تكون في أشواطك الأخيرة حقاً قد صرت إلى لا نفس!

بعد ذلك يتعطفون علينا حين يصيحون بنا وقوفاً، ثم نُؤمر بجلسة القرفصاء، كل منا يداه تتوسطان خاصرته، كي نشرع بمشية البطة على رؤوس أصابع أرجل ممزقة مهترئة، في شكلٍ دوراني على امتداد محيط الباحة المفروشة بالإسفلت الخشن، وهم من حولنا يستحثوننا السير بسياطهم يضربون لا يفتُرون، كما لو أننا وإياهم في حلبة من حلبات السيرك، ولعل المأساة تزداد تكشفاً حين يقتحمون المهجع على من تأخر من المرضى، أولئك الذين بان عذرهم، واتضحت أسبابهم في عدم إمكانهم حتى الانتقال إلى دورة المياه لقضاء حاجاتهم، دخلوا ليصبوا عليهم براكيناً من الغضب والعذاب، فيتحامل البعض من شدة الكرب فيلحقون بنا.. وهكذا تستمر المعاناة في دقائق التنفس المعدودة.

في باكورة تنفسنا الأول، خرجنا جميعاً على وجه التقريب، وكان الخصم هو الرقيب مرهج، أُمرنا بالزحف على وجوهنا، ثم بالسير على أكواع الأيدي والركب، أي والله على الأكواع والركب في أرض مسفلتة بالحصى يقارب في حدة خشونته الزجاج المتحطم، دماء من الركب، ودماء من الأكواع، وكرباج هنا وكرابيج هناك، لا تدري من أين يأتي العذاب، ثم يتلوا ذلك مشية البطة على الوجه الذي وصفته لك سابقاً، وكنت وعبد السلام في مقدمة الموكب الدامي المحروس بعين الرقيب، حانت منه التفاتة إلينا، فأشار على الشرطي المرافق، ولعله كان يومها وجيه ناصر، وهو معتوه فيه خلل جيني قد غزا منه الدماغ، بأن يدخلني مع عبد السلام إلى المهجع، فصاح الخبيث:

- واقفاً أنت وإياه، رملا على المهجع!

ما أن أطلقنا سيقاننا المتهالكة للريح، حتى جرى بقية الإخوة في إثرنا ظناً منهم بأن الأمر للجميع، وكانت مكيدة وقع فيها المغلوبون على أمرهم، وكان الثمن باهضاً ذاك الذي دفعوه لقاء ذلك الخطأ الفادح، فقد اعتبره الجناة تمرداً، فالإذن كان خاصاً بي وبالأخ عبد السلام، وكانت حفلة استباح فيها الطغاة خلق الله، استباحة المغول لأهل لبغداد، في الوقت الذي كنت وعبد السلام نهتز خوفاً وفرقاً داخل المهجع، وراح عبد السلام يسأل في هلع:

- لماذا أدخلونا من دونهم؟ على ما ينوون؟

لم يكن أمامي إزاء كل ذلك إلا أن ابتلع ريقي قبل أن أجيب:

- سيقومون برشنا. ورحنا نبتهل إلى الله، إن كان الأمر على ما نعتقد، أن يتقبلنا في عليين مع الأبرار والشهداء والصالحين!

ساعة من الانتظار المر عشناها، تمنينا لو أننا بقينا معهم، فالموت مع الجماعة رحمة، ويشاء الله أن يعود البائسون بعد طول عناء، قد غطت الدماء الوجوه والأظهر، قد حملوا معهم من أُغشيَ عليهم أو من أُصيب إصابة بالغة منعته متابعة المسير، وحين ولّى الطغاة مدبرين ارتفعت الأيدي بالضراعة إلى الله بأن يزيل دولة الظلم والظالمين.

كانت ساعات الظلام الدامس فسحة للابتهال والاستغراق في الدعاء، وصارت للليل نكهة كتلك التي ينشط فيها العاشقون، عشقناه عشق المحب ملاقاة الحبيب، عشقنا فيه الأمان والهدوء والسكينة، واعتقدنا أنها فرصة يخلو فيها كل بنفسه. وصاح بنا أحد أفراد نوبة الحراسة من فوق الأسطح المجاورة:

- ليش الكهربا ما مشعولة عندكن يا حقرا؟!

ورد أبو صهيب:

- منذ دخلنا إلى هنا ونحن بلا كهرباء يا حضرة الرقيب!

عصر يوم تالي جاؤونا بالمصابيح، كان الكابل مقطوعاً معلقاً أعلى السقف، وبنى الشباب هرماً، مبدين نية لم تكن صادقة في إشعال النور، وعلا أحد الشباب الهرم لوضع المصباح، ولما لم تنطلق الأنوار وكنا نعلم بأنها لن تنطلق، غاية أمانينا أن يبقى الحال على ما هو عليه، ألم أخبرك بأننا صرنا نهوى الظلام؟ ألفنا فيه ستراً، وبعضاً من أمان كنا ننشده بأي ثمن، غير أن الأمور غالباً ما تجري على العكس مما نشتهي، فلربما كان حتف المرء في ما تمناه، لم تنطلق الأنوار، لكن فرقعة السياط انطلقت، وكانت من أسوأ الرزايا، جاز لي أن أذكرها هنا، فهناك الكثير من الأحداث التي عفت عليها الأيام، قد جرت عليها دثاراً ثقيلاً من النسيان، لكن أياماً من الأسى الناقع يصعب على المرء نسيانها، وكان يوم إشعال النور من بواكير أيامنا المشهودة، ما كنا لنصدق أن تنزل بنا هذه النازلة، والتى لا دخل لنا بمسبباتها، على هذا النحو الأهوج، والذي يشبه مجموعة من الضواري قد أحاطت بضحيتها إحاطة السوار بالمعصم، ونادى مَن حضرته بعض ذاكرته:

- يا الله، إن لم يكن بك غضب علينا فلا نبالي، ولكن رحمتك التي وسعت كل شيء نرجو!

الحمام

أسبوع انقضى وهلَّ آخر جديد، جاء دور الحمام، حريصون مجزيون بما يستحقون على نظافتنا، رحلة تبدأ من طرفهم بالسياط والصراخ، وتنتهي من طرفنا بالموت والدم والنواح، انتظمت الشرطة في صفين على الميلين، ثم دوّى النفير مشفوعاً بأفجر الشتائم والكفر بالله والدين لأول حمام في دار النعيم هنا:

- الكل بالشورت (السروال الداخلي) يا..

في مثل لمح البصر خرجنا من ثيابنا، ثم أعقب ذلك نباح كلاب:

- الكل برا اثنين اثنين يا..

انتظمنا في رتل ثنائي، تماماً كما طلب إلينا سيدنا ومولانا، والذي أراد أن يكون مُطعمنا ورازقنا وعمّا قليل سيدّعى بأنه مميتنا ومميتنا، لأن الحقد الأعمى لم يبقِ في قاموسهم أي معنىً من معاني الحياة، بالقدر الذي يهوى المرء أن يكون نظيفاً، بالقدر مضاعفاً صرنا نكره الحمام، وصرنا نحسب له ألف حساب وحساب.

لم ينجُ أحد من لهيب السوط والعصا على الإطلاق، بدأ ذلك مع أول خطوة ساقتنا فيها أقدامنا إلى خارج المهجع، وبين مغمىً عليه قد أمرنا بحمله معنا ونازف دمه، نصل إلى الحمام في أعين مغمضة ورؤوس مطأطئة، قد أمرنا بالتوقف على امتداد الممر المقابل للمهجع رقم "8"، في الباحة الثالثة رتلاً ثنائياً، يستعرضوننا فرداً فرداً، قد طال انتظارنا، في الوقت الذي يمارس السادة عهرهم علينا، ونحن ما زلنا في الانتظار خارج الحمام، ولما توقف الشرطي صاحب النيافة أمامي، وقد كنت على رأس الرتل، سألني عن عملي، فلما أخبرته بأنني طالب، تابع الاستفسار عن نوع الدراسة، وفي أي سنة، حتى إذا ما أخبرته، بأنني في السنة الثانية، أعاد على مسمعي أسطوانة في شرخ كرروه عليّ كثيراً، بأنهم سيعملون على تخريجي، ويزيد وقد هوى بالسوط على أم رأسي:

- سنعطيك درجة امتياز، مع مرتبة الشرف!!. ثم تتوالى السياط على ظهري وصدري العاري، وعلى رأسي ثانية وثالثة و.. تنبعث مني رائحة تذكرك باللحم المشوي على الجمر من غير جمر.

ثم يسيروننا إلى مجموعتين، تدخل الأولى في مدة لا تزيد عن خمس دقائق، يجتمع فيها كل أربعة تحت صنبور الماء البارد، بالكاد أن يتمكنوا من إجراء الماء على السراويل، لتبقى المجموعة الثانية تحت رحمة الجلاد، وحين يصيحون في المجموعة الأولى للخروج من الحمام، كي تدخل المجموعة الثانية، يخرجون وقد علاهم شيء من رذاذ الماء، فيعمل السادة على تجفيفه بالكرباج.

كانوا يعملون على إصلاح النور فترة أخذنا لحمام الهنا، وفي طريق العودة ونحن مأمورين بإبقاء أعيننا مقفلة، بدا أن أحد المتعثرين اصطدم عن غير قصد بأحد أصحاب المعالي من الشرطة، لقد شارف المسكين على الهلاك، من شدة ما تعرض له من الضرب، لم نكن نعلم أن حكاية اصطدام الأخ بالشرطي قاسية إلى هذا الحد، فقد أخذنا بجريرتها جميعاً، عادوا إلينا قبيل العاشرة من صبيحة نفس اليوم فأجروا لنا حملة تأديب، أنستنا حفلة الاستقبال الهينة اللينة في جنب هذا البلاء المبين، جاؤونا على غير انتظار أمرونا بأن نخرج بالشورتات! ويرد أبو صهيب من داخل المهجع، لقد اغتسلنا صباحاً حضرة الرقيب، لم نسمع منهم أي جديد فظننا أن الأمر قد انتهى، لقد كلفت هذه الغلطة الفظيعة، غلطة عدم امتثاله وامتثالنا في خلع ملابسنا، كلّفت أبو صهيب دولاباً داخ فيه كما يقال سبعاً من الدوخات، ثم عاد البلاء فاجتاحنا بموجاته في يومنا هذا من جديد، يوم من أيام تدمر الخالدة، لا تسلني نسيانه يا صاحبي، هيهات لو طالني أذاه منفرداً فكيف به وقد طال العشرات من الأبرياء ولعل مثله قد طال الآلاف من قبل ومن بعد! وما انفك الظلمة العتاة يرددون:

- كي لا يتطاول عرص فيكن، فيمد يده أو لسانه ثانية على شرطي أو عريف أو أي رقيب من الرقباء، هنا تجب عليكن عبادة الشرطة العسكرية، عبادة العابد للمعبود!!

نماذج من جلادي سجن تدمر العسكري

استأنف المهجع "2" استقبال الدفعات الجديدة، من كافة الأفرع النائية، والتى كانت روافدها تصب في كهف تدمر الصحراوي، أقصد سجن تدمر العسكري، وانكمشنا خلف الجدران نتلوى على نار العذاب في فضاء الباحة التي نحن فيها، والذي كان يطال الوافدين والمقيمين على حد سواء، وتردد اسم المجرم الرقيب أول فيصل كحيلة، والذي صار مسؤول انضباط السجن وأمنه خلفاً لـ "أبي جهل"، وكان للأخير بطانة غاية في السوء والإجرام، نذكر منهم العريف فواز والرقيب جهاد وكلاهما لم يبخلا علينا برعاية دون رعاية الحيوان، بقي صوتيهما ونضح خلقيهما يملأ باحات السجن لما يربو عن أربع سنوات عجاف، أما شعبان حسين فلا يقل عنهما لؤماً وحقداً، ومن أين لي أن أنسى الأشوري النصراني نعيم حنا، لقد كان والغاً في الجريمة حتى العظم، عاتياً يشاركه في كل ذلك مجموعة من العرفاء والرقباء والمجندين نذكر منهم العريف شحادة من نفس الطائفة، وكان من أبرزهم كذلك شرطي من الطائفة ذاتها اسمه سمير كوشري، ثم درجت الأيام فنعق في دنيا خراب السجن بعد فيصل كحيلة اسم المجرم الرقيب أول محمد الخازم والذي تولى مسؤولية إدارة الانضباط فترة استمرت حتى عُزل مع المقدم فيصل الغانم عام 84 ضمن عمليات تصفية الحسابات بين مَن لم تلد النساء مثليهما حافظ الأسد وأخيه رفعت كما صار معلوماً للقاصي والداني، بعد أن دبت العافية في أردان الأول من مرض عضال ألمّ به إلى أجل معلوم. انتقلت مسؤولية السجن بعدها إلى النقيب بركات العشة، وصار الرقيب سليمان يدير انضباط السجن بشكل مؤقت ومعه مرهج ووجيه ناصر، ومجموعة أخرى من المجرمين.

لقد تفنن الباغون في نسج الجرائم، بدءاً بأدنى الرتب مروراً بمدير السجن يومها المقدم فيصل غانم أحد أبطال جريمة مجزرة تدمر الكبرى في 26/6/1980، ثم الذي تلاه النقيب بركات العشة كلاهما قرامطة فاطميون من محافظة اللاذقية، لتنتهي بمن تولى كبرهم أبطال كل نياشين المجازر على امتداد ما ضاع وما بقي من الوطن، رفعت وحافظ.

توالي وصول دفعات جديدة من المعتقلين

كان من أوائل الدفعات التي تلت دفعتنا تلك، الدفعة التي وصلت من حمص مستهل شهر تشرين أول فبراير عام 1982، كان من بين أفرادها المهندس وليد الشامي، وحدث لم يتجاوز عمره السابعة عشر ربيعاً يُدعى سامر، جيء بهم من حمص، ولقد سارت بذكر مدير فرعها العسكري السفاح غازي كنعان الركبان، لقد خلع هذا الحاقد ثوب الإنسانية، ولبس كل ما خطرعلى بال البشر من أثواب الرذيلة والإجرام، ومما زاد في مأساة هذه المجموعة، شروع العسكر في حرق شعورهم بالنار، ولقد بقيت رؤوسهم تفيض صديداً وتقيحاً طوال شهور أربع، إضافة إلى الدماء والتقرحات، التى رافقت بعضهم لزمن ربما زاد على ذلك بكثير، والتي بقيت شاهد عيان على عمق الجريمة وبشاعة المجرمين!!

نهاية الشهر وصلت دفعة أخرى، كان من بين أفرادها الشرطي أبو أردان والدكتور محمد خير من دمشق وآخرين، ثم تلتها مجموعة كان من بين أفرادها كل من وكيل وزارة النفط المهندس صالح بمبوق أُعدم لاحقاً رحمه الله، وولده طالب الطب أزاد بمبوق، الأستاذ شهاب اكبازلي أُعدم لاحقاً رحمه الله والمهندس نزار حوَا، ثم مجموعة جامع الغواص بدمشق وكان من بينهم الأخ محمد صنوبر أُعدم فيما بعد رحمه الله، وعبد الهادي القاوي وسامر دقماق، وحدث فلسطيني يدعى أحمد أبو اللبن، تلا ذلك دفعة رابعة أو خامسة كان فيها زاهد دركل، وكانوا كما ذكرت يفدون من مختلف المحافظات والقرى والأرياف، لا سيما فرع التحقيق العسكري بدمشق، فرع التحقيق العسكري بحمص، فرع المخابرات العامة، فرع 185 في كفرسوسة بدمشق والقائمة تطول.

كانت الدفعات تصل في معظم أيام الأسبوع، تنطلق ليلاً من الأفرع لتصل مع تباشير الصباح، وكان من أشهر الأيام التي نستقبل فيها الدفعات: يوم السبت تصلنا فيه الدفعات القادمة من حلب وأريافها، أما إدلب فكانت دفعاتها تُحوّل إلى دمشق كي تستكمل إجراءات الترحيل إلى تدمر، ثم يُرتب لها مع من يراد ترحيله من دمشق، كي تصل إلى تدمر صبيحة يوم الاثنين أو الخميس، أما يوم الثلاثاء فكانت الدفعات تصل من بقية المحافظات والأفرع لا سيما فروع المخابرات العامة.

كان تعداد كل دفعة يتراوح ما بين العشرين والمائة معتقل، وما كان يبعث على الاستغراب هو التساؤل عن إمكانية استيعاب السجن لهذه الأعداد، لكن استغرابنا تبدد حين دهمتنا قارعة قوائم الإعدامات التي تنفذ - يا رعاك الله - كل شهر تقريباً.

أصبحت إمكانية الحصول على مساحة للنوم مع ازدياد العدد شبه مستحيلة، وكانت إمكانية التناوب ممنوعة بالمطلق، لذا لجأت إلى تقسيم الأماكن بين الأنفس المكدسة، ولم يكن في وسعي أن أعطي لكلٍ مساحة تزيد عن وضع جنبه، قدرتها ما بين 15-20 سم، ينام الناس متداخلين، رأس تجاوره قدمان، وهكذا في صفوف ثلاث، تداخلت فيها الأطراف إلى منتصف الصرة تقريباً، وكان عليّ أن أراعي وضع المرضى والمكسورين والعجزة، ممن طالتهم يد البغي والتنكيل، فلم يبقَ لهم من طول ولا حول إلا أن تتغمدهم رحمةٌ من الله تعالى، وما كان يبعث من لوعتي وحزني على هؤلاء، أنني كنت أرى كل هذا المرار فلا أملك لهم من أسباب العلاج دواء ولا شفاء، ولا من أسباب الجِور دفعاً ولا عزاءً، فألوذ كلما خلوت من هذه المشاهد متدثراً مولياً وجهي إلى الجدار كي لا يراني أحد من حولي وقد أخذتني العبرة، فأترك لها العنان وسط ابتهالات حفظتها مع الأيام من صوت المؤذن الذي كان يتسلل إلينا مع غبش الفجر، مترنماً بهذه الأبيات الحزينة:

بأنه:

طرقت باب الرجا والناس قد رقدوا

 

ورحت أشكو إلى مولاي ما أجد

وقلت يا أملي في كل نازلة

 

يا من عليه بكشـف الضر أعتمد

أشكو إليك أموراً أنت تعلمها

 

ما لي على حملها صبر ولا جلد

وقد مددت يدي بالذل واقفة

 

يا خير من مدت إليه يد

فلا تردنها يا رب خائبة

 

فبحر جودك يروي كل من يرد

في منتصف الشهر التالي كان العدد في المهجع قد اكتمل "120" معتقلاً، يضيق بهم المكان واقفين، فكيف بهم نائمين، ولم أعد أرى للرثاء أي معنى إلا أنه نوع من أنواع العجز وتجسيداً صارخاً لشيء أسميته قلة الحيلة، ومع أنني كنت أقوم بمهامي في حدود المتاح المستطاع، عن رضىً وطيب خاطر تامين كاملين، وكنت أعتقد دوماً أن في هذا الجمع من هو أكفأ مني، غير أن أحداً لم يكن مستعداً في هذه الأجواء المكفهرة أن يتقدم كي يتصدى لهذه المهمة الصعبة بل الصعبة جداً، ولطالما رجوت أبا صهيب أن يعفيني من هذا الواجب، سيما حين راح يعترضني الكثير من المشاكل في التسوية بين متخاصميْن على تلك السنتيمترات القليلة، وهذا ما كان يغرقني في المزيد من الأسى، كنت في أحيان كثيرة ألتمس لهؤلاء الأعذار، لقد تجاوز وضعهم كل طاقة، ألتمس ذلك في تصرفات هؤلاء الذين كانت لهم شواهد على أنها كانت لهم أخلاق الأنبياء في حياتهم الاعتيادية، فأغمض عيناي على تراب نتعفر به جميعاً، وأشيح بوجهي مسايراً متجاوزاً، مع أنني كنت لا أسلم من قولٍ هنا أو هناك، أحتسب ذلك من إخوتي عند الله، لأنني كنت أقود مع أبي صهيب مركباً وسط بحر هائج متلاطم، كنت أخشى أن ينكفئ فنغرق جميعاً، كنت حريصاً على أن أصل بهم ما استطعت إلى بر الأمان، وقد أبرمت بيني وبين نفسي عقداً متى انتهيت من هذا الأمر، ألا أتأمر على اثنين من المسلمين أبداً.

كانت أولى مفاجأتي في ترتيب الصف للتفقد، وآلمني أن أحداً لا يريد الانتظام في الصف الأول، ناهيك عن الوقوف على الأطراف، فهي الأماكن الأكثر عرضة لبطش الشرطة، وحين أصابتني الخيبة، رحت أستنهض أهل الأثرة والتضحية، وكنت آخر من كان له الحق في التحدث عن أهل الأثرة والتضحية، أي والله في حضرة مَن هم في مقام أساتذتي لو كنا في ظروف اعتيادية، وكنت بصدد إجراء تجربة، كي لا يأخذنا الجاني على حين غرة، فما أن أنتهي من تنظيم الصف، حتى أطلب إليهم أن يحفظ كلٌ مكانه، فإذا ما كانت استراحة، طلبت إليهم العودة للانتظام في الصف من جديد، أردتهم أن يتعودوا، فأيامنا طويلة، ورحلتنا قاسية، إلا أنني كنت أُفاجأ بقيامهم متثاقلين في غير انتظام، وقد اختفى الصف الأول تماماً، فما عاد له من أثر، وباختفاء الصف الأول اختفت بقية الصفوف، وتراجعت الأطراف في ازدحام وتكدس شديد إلى ما خلف صفوف المرضى والمقعدين، هم والله الذي لا إله غيره معذورون، هذه الأماكن الخطر فيها مؤكد مجزوم به، يصعب معه أي احتراز أو أخذ أي نوع من أنواع الحيطة، ونادراً ما نَجَا أحد في الصف الأمامي أو الأطراف، لكنه أمر كان ما منه بد، ولقد تمنّى الكثيرون منهم الموت على هذا الوضع الذي لا يطاق، لو كانوا يجدون له في شرع الله سبيلاً، فأقول في نفسي وأنا أقف على كل ذلك، هذا في الدنيا فكيف هي أحوالنا يوم القيامة! أجارني الله وإياكم من أهوال يوم القيامة.

لست أدّعي لنفسي من البطولة ما ليس فيها، فقد كنت واحداً ممن هم حولي، غير أن موقعي كان يدفعني كي أتجلد، فأنا في موطن من لا يجوز له بحال من الأحوال أن تخور قواه حتى لو كان من أجبن الجبناء، وكنت أرى الكثيرين ينظرون إلي، وإلى رئيس المهجع في الدرجة الأولى، يرقبون تجلدنا المصطنع كي يستمدوا منه شيئاً من المعنويات، لتلك الأنفس التي انطفأت فيها المعنويات وكل رغبة في حياة الذل تلك!!

من هنا كنت يومياً أقف في الصف الأول، أبو صهيب في أقصى اليمين، وأنا في أقصى اليسار، ولعلنا كنا نتبادل المواضع أحياناً، فأكون أنا على اليمين بينما هو على اليسار، تاركين عناية الله تصحبنا، فهذا موطن المستعيذ بالله من شر ما خلق، ولا أظن هؤلاء إلا من الأشرار، الذين يتوجب أن يستعاذ منهم في كل وقت وحين!

ليس في واردي أن أدّعي الشجاعة لنفسي، لكنني كنت في موقع المسؤولية، واليوم يصعب عليّ أن أتذكر، إن عدت يوماً أنا أو أبو صهيب من وجبة التفقد تلك سالمين، ومع الأيام حين صرنا نستشعر أنها الضريبة ندفعها في رضوان الله، ما عاد لها ذلك المعنى من معاني العقوبة، بقدر ما صارت معنىً من معاني التضحية، وشيء من الجهاد، نلتمسه ضرباً من ضروب اللذة الغريبة الجامحة، تمر بالقلب في طريقها كدبيب النمل إلى بقية الجوارح.

كنت أندبهم إلى التفقد باكراً، وألزمهم البقاء في الصف إلى أن يفرغ الكفرة الفجرة من فتح الأبواب وإغلاقها، وكان تقديمي للصف لأول مرة يبعث على الضحك، في غياب أبو صهيب في دورة المياه، فقد صحت بالانتباه، ثم الاستراحة والاستعداد، وغابت عن ذهني لازمة المهجع جاهز للتفتيش حضرة الرقيب، وشاء الله ألا ينتبه الفجرة الكفرة، لتمر القضية بسلام.

رويداً رويداً بدأنا نتلمس طريقنا إلى شيء من الألفة خلف الجدران هنا، ورحنا نتكيف مع الأوضاع الجديدة، إلا أننا بقينا رهن المُخبأ من المفاجآت لكل يوم جديد، وكان من أشدها وقعاً دورة الحلاقة.

الحلاقة

لم يمضِ وقت طويل حتى فُتح الباب يوماً على غير ميعاد، واعذرني يا صاحبي، لقد أثقلت عليك الوصف، ولك الخيار مشكوراً، إما أن تمسك وحسبك ما قرأت، فلعل في العالم من حولك ما يكفيك من المصائب، وإما أن تستمر فتزيد قلبك المعنّى عناء فوق عناء، أما أنا فما عدت أنشد لنفسي من كل ذلك نصيباً، لقد ذهبت الأيام بمرها، ومرارها أشدُّ يقيناً، إن لم يكن لي عند الله من أجرها نصيباً، لقد جاء يوم الحلاقة متكرراً على مدار كل أسبوع كما الحمام بغيضاً كريهاً، صرنا فيه جميعاً كقول الشاعر:

فصرت إذا أصابتني سهام

 

تكسرت النصال على النصال

فصرت لا أبالي بالرزايا

 

لأني ما انتفعت بأن أبالي

فُتح الباب وصاح الكفرة الفجرة:

- يطلع منكن عشرين، إوْجِيبن معكن بشاكير، يا قوادين يا عرصات!!

قمنا بِعَدِّ عشرين، بيد أمسكت عبد السلام، وباليد الأخرى حملت البشاكير، وانطلقنا إلى الخارج، في الوقت الذي انطلق البقية في إثرنا، أعيننا مغمضة كما أمرنا الكفرة الفجرة، حُفاة بلا نعال، فالنعل ممنوع علينا لبسه، هذا إن وُجد أصلاً، رؤوسنا محنية، هكذا هي التعليمات، وعلى جدار المهجع المزدوج "5-6" وقفنا، وجوهنا إلى الحائط، أيدينا مشبوكة خلف ظهورنا، تلهبنا السياط، تسقط علينا لا ندري من أين، فيها لفح الرمضاء وحر النار، أما العصا ويا لهف نفسي من العصا، لقد بقيت لزمن هي السيف المشرع على أعناقنا وظهورنا، وأنا بانتظار دوري وقد أُمرنا جميعا بالدوران، لوضع معجون الحلاقة والرغوة على ذقوننا، ثم جاءتني ركلة من حذاء عسكري غليظ، أصابت القلب ومقدمة الصدر مني، أحسست بالدوار، وبشيء من الغثيان، سقطت أرضاً، وبسقوطي، أحسست بالعصا تنقض علي انقضاض الجوارح على الضحية، ثم انتقل الجاني إلى الذي يليني، لحظات ويعلو صوت الشيخ الفاضل عبد الكريم العطا، أحد فضلاء قرية قارة التابعة لمنطقة النبك يصعب عليّ في هذا المقام أن أنسى ما حييت حكاية الشيخ إمام المسجد الكبير في النبك، الشيخ عبد الكريم هذا، ذا اللحية السوداء الكثة المترامية الأطراف، لقد أشعلوا فيها النيران، وكلما همّ الرجل برفع يديه وهو يشهق من حرِّها محاولاً إطفاءها، كانوا يتبارون في جلده بقسوة اجتمع فيها الحقد بالانتقام، إلى الحد الذي ما عاد الرجل معه يقوى على رفع يديه ثانية لإطفائها والتي راحت تلتهم اللحية والوجه معاً، حين ضاق به الحال صاح الشيخ صياح من انتظمه الظلم إلى أقصى مداه، صاح مِلأ الضمير العالمي ماتت ينابيعه:

- أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، يا الله بمن سواك نستغيث؟!

سرت في المكان قهقهات، اجتمعت فيها كل صور الكفر والفجور العهر، وهم يجتمعون على الشيخ الصابر المحتسب ضرباً وقهراً وتنكيلاً، اجتمعوا عليه بسياطهم وعصيهم، وما زالوا به حتى كسروا فكه السفلي:

- وينه ربك يا حقير، دعه يأتي ليدافع عنك، سوف نضعه مكانك، وليدافع عن نفسه أن كان يستطيع أن يفعل ذلك!!

ثم هل من إله إلا الله ندعوه؟ بل إليه يا أيها الشيخ الصابر ترتحل، شهادة خذها مني إليك حتى نلقى الله، كان هتاف الشيخ المدوي الذي ملأ صدى الصحراء في سجن الظلاّم بتدمر:

- يا الله.. بمن نستجير سواك، يا الله!!

هؤلاء هم الذين يحكمون الشام، هؤلاء هم الملهمون المعصومون، هؤلاء هم الذين عقرت نساء سوريا فما عادت تنجب أمثالهم، إذا خطبوا فخطاباتهم تاريخية، وإذا قالوا فقولهم شيء يشبه الكتاب المسطور، ما رأينا لهم في الحصافة والذكاء والحكمة والنباهة شبيهاً أو موازياً أو مثيلاً، لا يمكن أن تستمر لنا حياة بدونهم، أو تستقيم لنا معيشة من غير أن نستمع لتفاهاتهم صباح مساء، ودليل ذالك احتفاظنا بهم لسنوات طويلة عديدة عجاف، نضعهم في حبات عيوننا بين الرموش والأجفان، حباً لم نترك لأولادنا وأهلينا وأزواجنا منه أي نصيب، وإلا ما الذي كان سيمنع أحدهم من القول على شاشة سوريا الفضائية الرسمية:

"البعث ديني، والأسد ربي ومعبودي"، ليقاطعه المذيع لا ليقول له: قطع الله لسانك وكسر يديك وأسنانك، لا ليقول له ذلك، لا والله، بل ليبرر للمستمعين والمشاهدين ذلك على أنه نوع من المجاز اللغوي، فأنت حين تقول لحبيبتك - لا لزوجتك- بعبدك، أنت لا تعبدها إنما هو نوع من المبالغة في الحب.. أرأيت يا رعاك الله كيف يبررون القول، يقولونه لياً بألسنتهم وطعناً في الدين!!

كان الحلاقون أشد سوءاً، فهم من ذوي الجنح فما فوق، كما علمنا لاحقاً، يجمعهم بالشرطة الانتساب إلى نفس الطائفة القرمطية الحاكمة، هكذا بالفطرة، أي والله بالفطرة حقد ليس له حدود!! يتجسد ذلك في وضع أصابعهم في عينك محاولين أن يفقئوها، كما كانوا يُفصِحون عن ذلك من خلال أقذع الشتائم والسباب التي يكيلونها لنا، أو دقهم لرؤوسنا بالحائط أثناء رغي الصابون، بهذا الأحقاد التراكمية الدفينة كانوا يُجرون شفراتهم وأمواسهم على ذقوننا، في فترة لا تتجاوز الدقيقة الواحدة، يمسحون لك ذقنك، من الجلد والشعر معاً، فدماءك دوماً تنزف، وقد تعود بجزء محلوق وآخر لم يحلق، بجزء ينزف وآخر متورم، حتى ليخيل بأنهم حلقوا لك بالمبرد لا بالموس أو الشفرة!!

ينتهي منك الجزّار، وقد تناوب عليك ثلاثة منهم، واحد يقوم بتطرية الذقن بالرغوة والصابون، والآخر يجري بالشفرة أو الموس، وسط صراخ الشرطة بأن يذبحك، فلا يتردد الوضيع من ترك تشطيبات غائرة في وجهك تنزف، ثم تنتقل مغمض العينين، لتجثو على ركبتيك، كي يجردك آخر من شعر رأسك، من خلال ماكينة حلاقة يدوية، تدق في رأسك دق المسامير في الحائط، كي تتركك بعد ذلك كالفرجة لمن أراد أن يسخر - جانب مقصوص وآخر متروك- يتندرون بك، لتكون بعد ذلك على موعد مع الكفرة الفجرة، كي تنال منهم التهنئة على تلك الحلاقة الميسرة، أو بمعنى أدق، ليهدوك نعيماً مقيماً، تجبر على الانبطاح، ثم َّيشرعون بنعالهم العسكرية في تسلق ظهورنا في قفزات متتالية، ومن لا رغبة له في التسلق والقفز استعاض عن كل هذا بالركل والجلد على ظهر اليدين أو باطن القدمين، أو بكليهما معاً، كل ذلك مشفوعاً بالشتم الذي لا يقل سوءاً عن الكرباج، وكان من بين هؤلاء المارقين من الذين يتناوبون على تعذيبنا، والذين فاقت غلظتهم الوصف، كل من: الرقباء جهاد، السنيور، محمد نعمة والذي صار فيما بعد مساعد انضباط السجن كما ذكرت سابقاً، وغسان، كاسر، علي، سليمان وكان فظاً غليظاً قاسياً مارداً ذاهب في الطول، لم يثبت له كغيره رجاحة عقل في قول أو فعل، كان متهوراً إلى حد الجنون، شاركه في ذلك كل من الرقباء أحمد الذي لم يكن له من اسمه نصيباً، ومهناً، وسفاح آخر باركته شياطين الإنس والجن اسمه شعبان، وآخرين كثر، يصعب عليَّ الآن الإلمام بأسمائهم، بالإضافة إلى مجموعة من المجندين أكرر التذكير يبعضهم، منهم وجيه ناصر، صلاح، نعيم حنا، شحادة، أبو شحادة، في وجوههم الصفيقة ترى الموت الزؤام. لعلني أُذَكِّرُ هنا بحادثة قبل أن أنفض يدي من هذا الفصل، وذلك في إجباري مرة، ولعلها في الحلاقة الأولى على الانحناء لتلميع حذاء أحدهم بالكنزة اليتيمة التي أهديت إلي، ولعلك تذكر يا صاحبي قصتها، في حين أُجبر غيري على التلميع بألسنتهم!!

ويدخل علينا الرقيب جهاد بعد حفلة الحلاقة، في يده بطاقة شخصية قال بأنها مزورة، يسأل عن صاحب الصورة فيها، إن كان بيننا من يعرفه، لفت انتباهه أحد الشباب مقعداً لا يقوى على الوقوف، قد ضاعت معالم وجهه تحت السوط، على يد العريف أبو صطيف فقال له ساخراً:

- شو.. الظاهر أنهم حالقينلك بالكرباج؟!

أما العجزة والمصابين والمقعدين، فقد كنا نخرجهم في الدفعة الأخيرة محمولين، ينفرد بهم الظُلاّم، فينالهم من العذاب ألواناً، ويخصونهم بالضرب الفظيع على الأماكن الأكثر إصابة، يحدوهم غيظ بأن يُبقوا للمساكين عاهة دائمة ترافقهم أبداً ما كتب الله لهم من عمر، هذا إن بقيت لهم على الدنيا أيام تذكر.

حلاقة الوجه مناسبة سلخ جلد أسبوعية كما هو الحال في الحمام، فيهما من العناء والكرب ما لا طاقة لبشر على تحمل المزيد، يليها مناسبة حلاقة الشعر، والتى تطل علينا كل شهر، في خليط من عذاب نفسي وجسدي، كأن يحلقوا أجزاء ويبقوا على أخرى كما ذكرت، أو أن يؤمر اثنين ممن سلبت منهم أي إرادة للاختيار من المعذبين في الأرض أن يضرب أحدهما الآخر، شريطة أن يكون الضرب على مقاييس الجلاد، مبرحاً دموياً، كصراع الديكة في حلبات الرهان، والكفرة الفجرة يتضاحكون ويتمايلون جذلاً وشماتة، وتلك لعمري هي ما يطلق عليها شماتة الأعداء!!

لقد أفضى الكثير من إخوتنا إلى بارئهم في أيام الحلاقة كما هو الحال في أيام الحمام المشؤومة، حدث ذلك لأبو محمد بربر من أكراد سوريا المنكوبة، على يدي الفاجر الرقيب القرمطي سرور العجوز، في يوم حلاقة مشهود، تركوا فيها النكبة تحيط بالرجل في كومة من لحم ودم وجلد مسلوخ، وهو يصارع الموت، صراخه الخالد بين أيديهم بلهجتهم يطن في أذني لكأن جذوته لم تنطفئ إلى يومنا هذا:

- دخيلكن.. يا الله.. أنا وقيعكن.. أنا وقيع عرضكن.

سوف يبقى هذا الاستجداء البائس، كلحن جنائزي حزين، أذكره ما امتدت بي الأيام، ومن خلاله أتذكر قلة حيلتنا وهواننا على الأراذل من الناس، أستمطر رب السماوات والأرض والخلق، كل الخلق، أن يرسل شآبيب رحمته على أبي محمد بربر، وعلى كل من صار في صحراء تدمر عند الجناة رقماً لا اسم له، وعند الله من الأحياء يرزقون، هم ممن سبق أبو محمد ومن لحق به، وعلى كل شهداء المسلمين الحقيقيين، وعلينا جميعاً إذا صرنا إلى ما صاروا إليه، الله حسيبنا وحسيبهم، لا فاتنين ولا مفتونين ولا مبدلين!!

المهجع رقم " 8"

فيما نحن منشغلون في تفحص أنفسنا، بعد حفلة تفقد صارت مع الأيام جزء من عذاباتنا المتكررة، نعالج بالمتاح من خرق اجتزئناها من ثيابنا، جروحاً قد فغرت أفواهها من أثر السياط، شاهدةً على ما نحن فيه من فجيعة وتفجع، ونحن على هذا الحال، جاءنا الأمر السامي بتجميع العوازل والبطانيات، وأن نقوم بتهيئة أمتعتنا، هكذا جاء الأمر غامضاً مبهماً، وسرى بين الجمع همس بدا خافتاً ثم خرج إلى العلن، سوف يقتلوننا، لن يسفر الفجر علينا أحياءً، لن ينجو منا أحداً، سنُقتل عن بكرة أبينا، لقد لف الناس اليأس الذي تعدى كل درجات الإحباط، في الوقت الذي راح البعض يتلو ما يحفظ من الآيات والذكر الحكيم، راح البعض الآخر يتمتم بما تيسر له من الأدعية، وزاد البعض في معانقة إخوانه ممنياً كلٌ صاحبه بلقاء قريب في جنة عرضها كعرض السماوات والأرض، كان الانتظار صعباً حرجاً، مشى فيه الوقت ثقيلاً متباطئاً، انتظاراً مقروناً بكل آيات الخوف والهلع، جلس بعدها كلٌ ممسك بصرة متاعه بانتظار وصول القطار، غير أن القطار بدا أنه لا ينوى الوصول، مع أن البعض جزم بأنه سيصل حتماً لا محالة!

كان عبد الوهاب الخطيب قد ساء وضعه، وتدهورت صحته، اصفرار شديد في الوجه، تقيؤ مستمر مصحوب بإسهالات حادة وشديدة، رافق ذلك نقصاً فظيعاً في الوزن، أضحى الرجل فارع الطول كالخرقة بالكاد أن تحمله قدماه إلى دورة المياه، وتبرع بعض الشباب مأجورين عند الله بالسهر عليه، وكان من بينهم الحافظ لكتاب الله مضر الدغلي الدمشقي، أحسبه في رحمة الله حياً يُرزق، قد أعدمه الطغاة لاحقاً دون أن يرحموا شبابه وصغر سنه.

ونحن جلوس ما زلنا في انتظار القدر أن ينطق فينا مقولته، ممسكين قلوباً أخذت مسالك الدارجين إلى الحناجر، نادوا على عبد الوهاب، تحامل الرجل حين فتح الباب حاملاً صرته برفقته، وخرج كي يمضوا به بعد ذلك كما علمنا لاحقاً إلى فرع التحقيق العسكري بإدلب، في الوقت نفسه أدخلوا علينا زاكي أحد المعادين من إدلب، فجاء إلينا بخبر اندلاع أحداث حماة المأساوية، وكان ذلك في شباط فبراير عام 1982، لذا سارع الكل فأدرك فريضة المغرب حاضراً، وألحقها بركعتي الشهادة آملين من الله القبول، ولما راح الظلام يرخي سدائل أستاره، كان الجهد قد بلغ بنا آخر أشواطه، وصار الناس محنطين كأنهم ماتوا قبل أن يموتوا، بانتظار من سيأتي ليهيل عليهم التراب!!

بقينا على هذا الحال حتى العشاء الأخيرة، وفجأة دبّت في الخارج أرجل، وسرت في ظلمة الليل جلبة، ثم أرجل وهرولة، تجرأ البعض وزحف في حذر إلى الباب، مسترقاً السمع، أدركنا أنهم يقومون بتفريغ المهجع رقم "8" من ساكنيه. لعل شيئاً من الارتياح راح يدب إلى نفوسنا التالفة، وقال أكثرنا تفاؤلاً:

- حركة تنقلات، موعدنا غداً في المهجع رقم "8"، وحين اقتربت أقدام، دققنا الباب، لنسأل عما إذا كان بمقدورنا أن ننام؟ غرد في زوبعة من الشتائم:

- نام إنت وإياه، ناموا يا عرصات!

ما أن أخذنا أمكنتنا، حتى عادوا إلينا بعد ساعة من زمن، وفي صوت مخيف مقيت:

- الكل جاهز يا شر.. يا منا..

وكانت ليلة عصيبة بائسة كريهة، فاقت الوصف، وأي ليلة هنا يمكن أن يحيط بها وصف أو تصوير!! أَكِلُ كل من سعى في استحداث هذا المكان، أو سعى في إعماره بهذه المفسدة الكبرى، إلى الله العزيز الجبار المنتقم، كي يرينا فيهم عجائب نقمته، كما أرانا فيهم عجائب حلمه!

ها نحن الآن صرنا جيراناً للحمام، حيث حج كل المهاجع إليه كل يوم بالتناوب على مدار الأسبوع، كان جوارنا القسري هذا للحمام نوعاً آخر من أنواع القرف والنكد المغموس بنوازع النفس الدموية، التي تؤمن بأن الخير مقطوع لن يكون قط، وأن الشر قائم بالمطلق لن يزول، فكلما تذكرت الحمام، انتكأت عليّ جراحي، فأشيح بوجهي، كي أطوي الصفحة عاجلاً فلا أتذكر، ولا أدري كيف أنسى، لقد استباحت إدارة السجن كل شيء، وحين أقول كل شيء، أعني كل شيء بالمطلق، لقد كان الحمام من المشاهدات العظيمة، أو بمعنى آخر كان الحمام مجزرة فظيعة تسير في صمت بعيد عن كل الأعين، كل الأعين التي أرادت أن تكون بعيدة، أو أريد لها أن تكون مغيبة بعيدة، رحلة من العذاب باتت تنتهي بمصرع شاب من الشباب، واحد على الأقل من كل مهجع، لقد صار من أقواتنا اليومية، استراق النظر من خلال شق الباب في المهجع الجديد، ومن لم تطاوعه عينيه للمشاهدة، ما كان بإمكانه أن يحجب أذنيه عن الاستماع إلى التعذيب، لا ننسى كيف كانوا يخطفون شاباً من الصف الطويل المطأطئ الرؤوس، والمغمض العيون، كي يجبروه على الانبطاح بجوار الساقية، تحت وطأة الكرباج الساقط على كل مكان من الجسم، ثم لا يزالون به يدفعونه، حتى يتحرك برأسه إلى حيث الساقية، ليرتطم شيء ثقيل يهبط من مكان ما بالرأس، تصحبه صرخة مدوية من الضحية، ثم يهمد الصوت فلا يعد بإمكانه أن يعلو ثانية، يا إلهي! إنها طوبة! أي والله طوبة من طوب الأرض يسقطونها على الرأس، لتذهب بصاحبها إلى من لا تغفل عينه أو تنام، وحين يعجز الممدد على الأرض عن القيام، ويتأكدون من إزهاق روحه، يطلب الجبابرة المجرمون الفجرة من بقية أفراد المهجع حمل الضحية كي يعودوا به إلى المهجع، وهناك كما أُخبرنا لاحقاً يُجري له بعض الأطباء المسجونين محاولة تقديم بعض الإسعافات المتاحة من نفخ في الفم وتدليك للقلب لعل وعسى.. وحين تعييهم الحيلة، وقد حمَّ القضاء، تراهم بين باكٍ وشاكٍ، يقومون بغسله والصلاة عليه وقوفاً داخل الحمام حيث هناك لا رقيب ولا حسيب سوى الله، إيذاناً بدق الباب، ليأتي بعد ذلك من يحمله، ضحية جديدة في موكب النور التدمري الذي لا أخاله سينتهي قريباً ما دام للطغاة موطئ قدم في بلاد يسيرها العسكر الوافدون من خلف الحدود.

عشية احتفالاتهم بما يدعونه ظلماً وعدواناً بالحركة التصحيحية التي اغتصب فيها مُغتصبٌ الحكم من مُغتصبٍ آخر، وهذا الآخر من آخر، هم كأهل النار، كلما جاءت أُمَّةٌ لعنت أُختها، عشية ذلك اليوم، طافت في السجن مظاهرات من عصابات الشرطة العسكرية، يهتفون بأناشيد مبتذلة كاذبة متهتكة، وعلى مدار طوفانهم في الباحات كانوا يضربون منتشين كالسكارى أو لعلهم كانوا كذلك، كانوا يضربون كل شيء يصادفهم، الجدران، الأبواب، يزدادون خبرة، لعلهم لا يريدون نسيان ما امتهنوه من حرفة الضرب، في الوقت الذي رحنا فيه نهيئ أنفسنا لمشوار من العذابات طويل، لا تبدو له أي نهاية في المنظور القريب على الأرجح، والذي أضحى يتكرر علينا على مدار اليوم والساعة، ولقد صبوا علينا ما توقعنا من العذاب والغضب والوحشية، وصنعوا لنا من القصص شغلاً شاغلاً، تشيب لذكره الولدان، وكان ذلك قد جاء مجتمعاً عند وجبات الطعام والتنفس والتفقد في ذلك اليوم المشهود.

كان لانقطاع الزيارات بالمطلق مزية عجيبة، فقد ساوت بين الرؤوس في الفاقة والعوز، اللهم إلا تلك التي كانت تمر عبر كَمٍّ هائل من الرشاوى الباهظة، وكانت تأخذ طريقها إلى الجزار فيصل غانم مدير السجن، صاحب كل رذيلة وجريمة، ولقد ترددت يومها أخبار أفادت بأن الكافرة الفاجرة أم فيصل هي التي تشرف على مؤسسة من السماسرة المنتشرين في أرجاء المدن السورية المتعددة، يسوقون إليها بدورهم أمهات وآباء وأبناء وبنات وأخوات وإخوة وزوجات المخطوفين من الأبرياء البؤساء، فلا تأذن لأحد بزيارة السجن في مدة لا تزيد عن دقائق خمس، لملاقاة أحبابهم، إلا بعد أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وقد تُلغى الزيارة في آخر لحظة دون الاستفادة من المبالغ التي أُهدرت، سيما إذا كان المقصود بالزيارة قد أعدم أو أفضى إلى ربه يشكو إلى الله جفوة البلاد وظلم العباد.

من خلال فتحة في الباب الأسود يطلقون عليها اسم الشراقة، رموا إلينا يوماً من أيام منتصف شهر فبراير بورقة بيضاء لا سطر فيها، وقلم رصاص، طلبوا إلينا أن نقوم بتسجيل فاتورة مشتريات، وكان نصف المهجع أو يزيد من المدخنين، لذا لم يكن مستغرباً أن يكون جُل المبلغ الذي دفع، دُفع لقاء الحصول على السجائر، إضافة الى بعض الأواني التي ما كان لنا عنها من بد، وبعض الغيارات الداخلية، وملابس للنوم، وملاعق خشبية وسفرة بلاستيكية، نفردها للطعام، فقد بقينا لأيام نفترش الأرض العارية للطعام حين كان يطلب إلينا إخراج الفوارغ البلاستيكية.

قمنا باستحداث مجموعة للإشراف على شؤون الطعام، وقد كانت تضم كل من أبو عبد الله يوزباشي، يساعده كل من زاهد دركل ورياض صالحة رحمه الله، وبذا أكون قد حططت عن كاهلي وكاهل أبو صهيب شيئاً من المسؤولية، والتى مضى على تحملنا لها قرابة شهرين من الزمن، ولا زلت أذكر كيف كنت أقوم بالمرور على الناس بملعقة بلاستيكية، عثرت عليها في دورة الحمام، قمت بتنظيفها جيداً، كنت أمر عليهم فرداً فرداً، كي أوزع الطعام المكون من آثار حلاوة وشيء من المربى، بقينا على هذا الحال حتى جاءت الفاتورة، واستلم يوزباشي مع مجموعته مهمة التوزيع.

وتتالت الحلول لكثير من المسائل العالقة الشائكة، فقد اهتدينا إلى طريقة منصفة لإعداد صف التفقد، قمنا بتنظيم الشباب في رتل خماسي مترادف، يتغير هذا الترادف يومياً، بانتقال الرتل الأول إلى ذيل الصف ليحل محله الرتل الذي يليه، وهكذا مع إبقائنا على أرتال المرضى والمصابين والعجزة الأربعة الأخيرة ثابتة، وهكذا استرحنا أيضاً من عناء هذه المشكلة اليومية القديمة المتجددة.

ثم خطرت مع الأيام لأحد الشباب بادرة طيبة، جعلت لهذا المكان الظالم أهله معنى آخر من المعاني المشرقة، وذلك حين قام بتقسيم الإخوة إلى مجموعات تعمل على استظهار كتاب الله، وكانت منة علينا لله صابغة في وجود الحفظة بيننا، وكان الفضل له بعد الله في إلحاقي بإحدى هذه المجموعات، فاستوفيت في أيام معدودات حفظ بقية سورة يوسف، وقد كنت بدأتها في فرع التحقيق العسكري بدمشق، ثم تلا ذلك شروعي بسورة البقرة، فصار للأيام مع كتاب الله طعماً من الراحة والسكينة التي أثرت الروح والقلب معاً ما لا تعدله كنوز الأرض وثرواتها، وصرنا مع هذه الآيات الخالدات نسمو فوق زخارف الأرض وزينتها، حتى أخذتنا في بعض اللحظات، أنواعاً من نشوة القلوب والأرواح، كدنا معها أن نطأ بأقدامنا الثريا. لم تتراجع موجات التعذيب، بل صارت إلى زيادة، وتكونت لدينا مع الأيام خبرة العارفين، فما أن يطل علينا نهار جديد، أو يرخي علينا ليل عتمته، إلا كان مكتنفاً بحدث جديد، وهذا ما صرنا نميزه مع الأيام، هذه دفعة جديدة، فرقعة السياط، وحركة الدولاب، وصريخ الناس الذي يصم الأذان، ثم هل هو حمام؟ هل هي حلاقة؟ وكان كل ذلك يتسنى لنا من خلال وقع الأصوات، وتدافع الصفوف، وازدحام الأقدام.

في أواخر أيامنا في المهجع رقم "8"، وقبل أن يقوموا بتوزيعنا ثانية، أدخلوا علينا دفعتين، الأولى تم جلبُها من فرع أمن الدولة بكفرسوسة، وكان فيها مروان حسين من نازحي الجولان، طالب لغة عربية من سكان دمشق، وأبو الوليد مولوي أيضاً من سكان دمشق، جاؤوا به في ثياب النوم ليلة زفافه، وكان برفقة والد زوجته، من أصل فلسطيني، والأخير من عائلة عمورة، إضافة إلى ابن أخت والد العروس أبو حسن والذي يعمل موظفاً في جامعة دمشق، وكانوا حين أُدخلوا علينا في حالة يرثي لها، قد أُنهكوا تماماً، في ثياب رثة، ولحىً قد طالت من غير انتظام، وشعور ملبدة، وأجساد متهالكة تشك بأنها مست الماء لأسابيع أو لأشهر!!

أما الدفعة الثانية، فقد جاؤوا بها من المهجع رقم "19"، وكان من بين أفرادها الدكتور عز الدين سيد عيسى، صاحب أحد مستشفيات إدلب التخصصية، وهو متخصص في الأمراض النسائية، وأحد أطباء الأسنان من دمشق، إضافة إلى طالب لغة عربية من أبناء درعا، يدعى بدري فواز.. وآخرين.

الجرب

كان من أول الأمراض المقيمة التي نزلت بنا، مرض الجرب، وهو من أكثر الأمراض المعدية ومن أكثرها انتشاراً هنا في تدمر، وكان أول المصابين، شاب من إدلب يدعى فواز الصغير، قمنا بعزله اعتقاداً منا بإمكانية حصر المرض ومنع انتشاره، وتركنا الأطباء يجتهدون في إجراء الكشوفات على جميع أفراد المهجع، ولقد أشرف على عملية الكشف والتحري كل من الدكتور محمد خير والدكتور سليم الأسد من أبناء داريا التابعة لدمشق، بالإضافة إلى الدكتور عز الدين، فتمكنوا من تشخيص عدة حالات، عندها اقترحنا تخصيص إحدى دورتي المياه، لعمل حمامات إضافية للمصابين زيادة في النظافة وأخذ ما أمكن من الاحتياطات.

لقد كانت إصابة فواز ملفتة للانتباه، للدرجة التي تكونت فيها طبقة دهنية فوق الجلد، يسيل منها الصديد طوال الوقت، لكثرة الحك والهرش الذي كان لا ينقطع في هوس جنوني، وما كان يبعث على الخوف والهلع في النفوس هو انعدام الأدوية بالمطلق، ومن هنا صرنا كلأً مباحاً للأمراض وجميع عسكر السجن العسكري بتدمر على اختلاف رتبهم!!

السل وأمراض أخرى

لم تنقطع الأمراض في أن يسوق بعضها إلينا بعضاً، ولقد وفد علينا بعد أيام قلائل مرض السل الخبيث، ولا أظنه كان أخبث من القابضين علينا، كذلك حشرة القمل بنوعيها، القمل العادي، وقمل العانة، وما كان لنا من وسيلة للتخلص منها إلا تفتيش الملابس، فنقوم بقتل الحشرة وسحق بيوضها، واجتاحتنا الفطريات بأنواعها، وأمراض الأسنان واللثة، وأما أمراض الكلية، فلا أراك الله مكروهاً، لقد رافقتني سنوات طويلة عانيت فيها إلى درجة البكاء، لم أكن أملك لنفسي فيها إلا الصبر والدعاء، وفي مراحل لاحقة مر بنا مرض الكوليرا، كل هذا وزيادة، وأمراض أخرى كان يصعب تشخيصها لانعدام الوسيلة، كل هذا البؤس المتلاحق ما كان ليحرك أي نوع من أنواع الإنسانية في إدارة الزمرة الفاجرة، ناهيك عن المصائب التي كانوا هم سببها المباشر، كإصابات الكسور بأشكالها والرضوض والجروح، وثقب طبلة الأذن، والديسك "آلام العمود الفقري" وتورم الوجه والقدمين، والجروح الملتهبة في الرأس واليدين وبقية أعطاء الجسم.

هزيع آخر ليلة لنا في المهجع "8" استيقظنا على جلبة وفتح أبواب، كانت قائمة طويلة من الأسماء تُتلى، وكانت الأسماء كما قال لي أحد العارفين مقصورة على أبناء محافظتيْ حمص وحماة، وهي أي الأسماء لأفراد من بيوتات معروفة ومشهورة، لقد أعادني سامحه الله إلى دوامة ما كنت أتمنى سماعها، وذلك حين أدخل إلى روعي أنها قائمة إعادة تحقيق، وكل ما يقال هنا قابل للتصديق، وعاد الخوف ليكتنفني من جديد، حين أضاف آخر بأن القائمة طويلة، وأنها تحتوي على عدد كبير من ذوي الرتب العالية من ضباط السلك العسكري، وزاد قائلاً:

- أظنها قائمة لأولئك الذين حُكم عليهم بالإعدام!

لم يزرني النوم في ليلتي تلك، وفشلت كل محاولاتي التي بذلتها في استجلاب عامل النعاس، وكنت واهماً في كل ما بذلت من حيل شتى، لطرد صورة الإعدامات من مخيلتي، ووجدتني بعدها أهمس في أعماقي:

- إذا كان الموت هو سبيل كل الأحياء، فلمَ الجزع؟ لمَ كل هذا الجزع؟ لقد آن الأوان أن توطن نفسك يا صاحِ ليوم الرحيل، لن يمضيَ وقت طويل، عليك أن تستعد ليوم ينادون فيه اسمك!

جاءت الحلاقة في يوم الرحيل هادئة على غير اعتياد، وجاء التفقد مريراً على العكس تماماً، كسرت فيه يد محمد صنوبر رحمه الله، وضُرب عبد الهادي القاوي على كل جزء حساس من جسمه حتى أغمي عليه، في حين فقد وليد عبد الباقي وهو من أبناء إدلب إحدى عينيه، في هذا الجو القاتم الكاتم طُلب إلينا أن نتهيأ في الدقائق الخمس التالية للرحيل.

في الرتل الثنائي الطويل الذي سرنا فيه حفاة، قد حنينا فيه رؤوسنا حتى لامست منا الذقون الصدور، تلهبنا السياط والعصي، بدؤوا بفرزنا إلى مجموعات، وعلى امتداد المسير رحنا نتناقص، حتى التهمت البقية الباقية منا الباحة الخامسة، هناك شتتوا شملنا بين المهاجع "32، 33 والمهجع رقم 34" وكان نصيب خمسة عشر منا المهجع "34"، كنت واحداً من هؤلاء، بالإضافة إلى مروان حسين، مُضر الدغلي، مراد الناطور من درعا، وليد أبو بكر، صالح بمبوق، محمد أحمد قطيع، وثمانية أسماء أخرى ما عاد في إمكان ذاكرتي التالفة تذكرهم.

المهجع رقم "34"

كان اليوم الأول حافلاً بالمفاجآت، كما لو أننا تواعدنا، ولو تواعدنا لاختلفنا ربما في الميعاد، كما لو أن قدر الله كان يسوقني إلى ذلك المكان سوقاً، فقد جاء الاستقبال راقياً في حدود طاقة المستقبلين، وعلى بوابة دورة المياه أوعز لي من عرفت روحي روحه، قبل أن تبصر عيني رسمه، حسن عبد الحي ابن إدلب البار رحمه الله، أوعز لي منذ الوهلة الأولى التي التقينا فيها ضرورة أخذ الحيطة والحذر، فهناك بينهم مخبر من أبناء حلب العاقين لم يبقَ عندي من اسمه إلا الكنية التي كان يتكنى بها وهي أبو محمد.

غريب الدار كما أنا في كل مرة بلا صديق، يذهب بي الخيال إلى تلك الأيام البعيدة، أجهد نفسي لو استطعت، أبحث عن صورة ذلك الشاب الأسمر، حليق الذقن والرأس عن غير رغبة منه، واقفاً بالباب يأخذني بنظراته من رأسي حتى أخمص قدمي، ورحت بدوري أستعرض شريطاً لكل الماضي، علني أعثر فيه على صورة لهذا الشاب، وكان السؤال الذي طفى من كلينا إلى السطح من غير أن ننطق به:

- ترى أين التقينا؟! ومتى كان أول لقاء؟!

أسئلة بقيت مفتوحة على امتداد الزمان والمكان، وكلما جمعنا لقاء قبل أن يفضي كل منا إلى ما قدم، كنا نجلس كي نتذاكر كل الأمكنة التي مر أحدنا بها، علنا وعسانا نعثر في زوايا الماضي على مكان جمعنا، وحين تعيينا مساحة الذكريات، نولي وفينا وفاء ما له حدود ولسان كلينا يقول:

- وما يضر إن عز علينا اللقاء في الدنيا، إذا كان اللقاء في الله أجمل وأرحب. ويرحل حسن معلقاً على أعواد المشانق إلى جوار ربه على يد الطغاة شهيداً أحسبه عند الله، والله حسيبه، يرحل حسن ويبقيني معلقاً ناصباً عند السؤال القديم المتجدد:

- ترى أين التقينا؟! ومتى كان لقاؤنا الأول؟!

قدم لي يومها نفسه على أنه حسن عبد الحي من إدلب، والتى ما دخلتها، إلا عود على بدء، في أول رحلة الشقاء تلك، فيه بقية من اندفاعة الشباب وعنفوانها، والتى كاد الطغاة أن يطفؤها، كما أطفئوها عند غيره، ومضت أسابيع قليلة، جمعتنا بعض لقيمات كتب القدر أن نأكلها معاً، ثم أقبل فجر يوم من أيام عام 1982 نادوا على اسمه في قائمة، كما نادوا على أسماء أخرى كثيرة، ودَّع في هدوء، وسأل الناس المسامحة، ثم مضوا به إلى حبل المشنقة المدلّى في الباحة السادسة، شهيداً إلى ربه، وبقيت أنا وصورته في القلب والذاكرة والخيال والسؤال:

- أين ومتى وكف التقينا؟؟

وكانت المفاجأة الثانية، وقد أخذت مكاني، جالساً وصرة اشلاء من ثياب رثة بين يدي، ساهباً عند مدخل المهجع، إذ اقترب مني القائم على ترتيب الخَلْق في دخول دورة المياه، وحين علم بأنني غريب الأهل والدار، من قطر هو على البعد شقيق، أقبل مدفوعاً كغيره بالفضول، لينظر هذا المخلوق العجيب، الذي حط من كوكب آخر، أهو مثلنا ممن يأكل ويشرب، غير أن المشي في الأسواق ممنوع عليه هنا، وراح يسألني عن بلدي وعملي؟

كان ينظر إليّ ذاهلاً مندهشاً وأنا أجيب، لم يكن الوحيد هنا، فقد كان الجميع غارقون في المأساة والأسى، وحين سألته عن اسمه وعن مدينته؟ راح يعرف على نفسه، بأنه تاجر من تجار مدينة حلب، ينتهي نسبه إلى عائلة خير الله، وأخذنا الحديث، كما لو أننا كنا على صداقة فرقت بيننا الأحداث، ثم عدنا فالتأمنا على غير ميعاد، وكانت مفاجأتي له، حين سألته عن اسم صديق من أبناء حلب جمعتني به مدينة "فرانكفورت" بألمانيا يوماً من الايام، فغر فاهه، وراح يقلب كفيه في الهواء، وقد أخذته الدهشة التي عقدت لسانه لبرهة من جديد، ثم جرى بيمينه على فمه قبل أن يسأل:

- لعلك أن تكون زميله الذي يبقى في ضيافته كلما سافر إلى ألمانيا؟!

وأنا جالس لم أغيّر سمتي بعد، أجبته:

- نعم، أنا هو!

- وهل أخبرك بنيته القدوم في "يوليو" المنصرم إلى ألمانيا برفقة أحد أصدقائه؟

- لعله كان قد ذكر لي مثل ذلك!

- كان من المفترض أن أكون ذلك الصديق!

ذهبت الأيام بيننا مذاهب شتى، وتأصلت وشائج علاقة طيبة، وكنا كتربين جمعتنا ملاهي الطفولة وبراءتها ردحاً من بواكير الصبا، حتى إذا ما جرت بنا الأيام أشواطاً فرقتنا، ثم حلت بنا المحنة كي تجمعنا ثانية على غير ميعاد!

اجتمعنا ظهر اليوم التالي برئيس المهجع الذي انتقلنا إليه، وطلب إلينا تخفيف لقاءاتنا بالناس المتولهين لكل جديد، وسألنا عما نحتاج إليه من ألْبِسَة وأواني، كانوا كرماء، فلم يبخلوا علينا بشيء، وكنا بؤساء يعوزنا كل شيء، ألحقنا بعد ذلك بمجموعات الطعام، وكانت كل مجموعة تتكون من ستة أشخاص، من مشارب مختلفة، وكنت في المجموعة التي حوت كل من الدكتور عمر تاجا طبيب أسنان من دمشق، والمهندس عمر حمزة من بانياس، سامر صنوفه من حمص، والدكتور سليم بدري من دمشق، منذر خير الله من حلب وجمال خراط أيضاً من حلب رحمه الله، وآخرين تنقلت بين مجموعاتهم، أو انتقلوا إلى مجموعتنا، ثبت الله من بقي منهم على الإيمان ورحم من ساقوه ظلماً وعدواناً إلى أعواد المشانق في غفلة أو صحوة من ضمير العالم سيان، ولقد كان لانتشار الأمراض بين صفوف الناس معضلة عند توزيع وجبات الطعام، فالذي يقوم على هذه المهمة عليه توخى الحذر في معرفة عدد المرضى، هؤلاء الذين هم في تزايد مضطرد، وكان معاون رئيس المهجع المكنى بأبي سليمان أحد أبناء الزبداني، يشرف على عملية ترتيب أوضاع الناس، وكانت له تجربة طيبة على صغر سنه يومئذ، إضافة إلى كونه خريج كلية الشريعة في جامعة دمشق، وما لبثت الأيام أن أخذت دورتها الاعتيادية، لينفلق من ثناياها عقد جديد من المعارف والأصدقاء، وإذا بي بين عشية وضحاها أضيف إلى ألبوم معارفي، قائمة طويلة من الإخوة والأحباب، ولعلني والمقام هنا مقام ذكر بعض تلك الوشائج التي ذهبت في التاريخ، أذكر أول لقاء جمعني بالدكتور عمر تاجا، ما أن التفت إليه بجواري حتى سألته إن كان عندهم إصابات بمرض الجرب؟!

تبسم ولم يزد على كلمتين في الإجابة:

- يعني..، ثم بعد برهة صمت أضاف:

- شوَي!!

وكما هي عادة الأيام في إذابة ثلوج الكلفة والحذر بين العباد، ذاب الكثير من أسباب الكلفة بيني وبين الدكتور عمر، ورأيته يوماً قد أتاني مبتسماً، ليذكرني بسؤالي له عند أول قدومي إليهم عن الجرب قائلاً:

- جلبتم لنا كل أصناف القمل، وجئتم تسألون عن الجرب!! يا مقمّلون!!

التعليم

لم يعد العدد الذي ناف عن المائة وثمانين بائساً يسمح لنا بحرية التحرك داخل جدران المهجع الأربعة، وما زاد في تقييد حركتنا تلك الفتحتان اللتان تطلان علينا من السطح، حيث الشرطي بقبعته الحمراء جالس طوال الوقت، يعد علينا أنفاسنا، ويا لسوء طالع من "يُعَلِمَهُ"، أي من يضع عليه إشارة تميزه، كأن يشك في جلوسه على هيئة من يؤدي الصلاة، وكانت الصلاة ممنوعة على أي هيئة كانت، لذا كان الناس يصلون فرادى في جلسات لا تبعث هيئتها على الريبة، وكان ذلك يتم بالإيماء، لا أعني بذلك سوى حركة العيون إن أمكن، وإلا كانت الصلاة لا تتجاوز حركات تتم في الخيال، وفي الخيال فقط!! وإذا ما صاورت الظنون لصاحب القبعة الحمراء بأن أحداً أفضى لأَحدٍ بأي نوع من أنواع الحديث، حتى لو كان همساً، فالحديث على كل الموجات والترددات ممنوع هنا أيضاً، وكانت أول واقعة حلت بنا هنا في اليوم الأول لمقدمنا، إصابة أحد أبناء حماة المهندس فايز غزال أو غزلان بحالة نفسية حرجة، فقد بقي واقفاً متسمراً وسط المهجع طوال بقية الساعات التي كانت تفصلنا عن وقت حلول الليل، ومجيء النوم، دون أن يتناول أي شئ من طعام أو شراب، ولم يكن بالإمكان أن يتحدث إلى أحد، أو يحدثه أحد، وحين حل الليل باكراً - وليلنا دائماً يحل بالأمر العسكري باكراً- وأُمرنا بالنوم، نام الجميع، وبقي فايز متسمراً لا يبرح مكانه، وكان لا بد من التصرف، فحمله مجموعة من الشباب، وكان كل شيء فيه قد تصلب، كما لو أنه جذع شجرة خاوية، دون أن ينبس ببنت شفة، ليدسوه بينهم، خشية أن يلحظنا من هو واقف من فوقنا لا يرقب فينا إلاً ولا ذمة، مضى ثلث الليل الأول بسلام، غير أن الذي لم يكن بالحسبان، هلَّ مع قدوم الثلث الثاني من نفس تلك الليلة، وذلك حين راح فايز يصرخ في صوت عالي في شيء يشبه الهستيريا دون انقطاع قائلاً:

- يا حرس.. يا حرس.. يا حرس..!!

وأطل علينا ثلث الليل الحالك، وقد جاء صوت السجان غاضباً مزمجراً:

- شو بك أُوْلا.. والله.. والله لأنـ.. أختك.. يا أخو الشـ.. سَكِّتُوه يا أولاد المنـ..

لم يسكت فايز، بل أضاف قائلاً في نوع من الهستيريا التي خرجت عن طائلة السيطرة:

- يا حرس.. هذول [هؤلاء] الإخوان سرقوا المصحف والرسول.. بقي يردد هذه الكلمات حتى أجهده التعب!

نادى الحارس الليلي من أعالي الأسطح:

- وينه رئيس المهجع أُوْلاه؟

- حاضر حضرة الرقيب!

هكذا أجاب رئيس المهجع، عندها جاءت كلمة الحارس، تلك التي رافقت كل ليلة من ليالينا، لتضاف الى أنواع المغناة المختلفة، طوال سنواتنا التي امتدت في هذا السجن، كانت الكلمة هي:

- علمه، لحد ما يطلع الصبح أُوْلاه رئيس المهجع!

وأقبل صباح لا يُنسى، فتح الباب، بعد تقديم اللازمة لحضرة الرقيب، ونادوا على "الْمُعَلَّمْ"، فايز!

خرج على قدميه، ما عدت أذكر كيف، غير أن الذي أذكره ولا أنساه، صراخه وتوسلاته التي كانت تقطع نياط القلوب، حتى لو كانت من الحجارة! غير أن الذي أذكره ولا أنساه ثانية، مناداتهم علينا وقد انتهوا من تعذيبه، كي نخرج لإدخاله، وقد كان، غير أن الذي أذكره ولا أنساه ثالثة إدخاله العجيب في وضعه على بطانية، لتعذر الامساك به من أي طرف سليم كان!!

كان في الرمق الأخير، فيه بقية من نفس، تتحشرج، تجمّع حوله عند العصر عدد من الشباب مع اشتداد الهاجرة وانكفاء الحارس بعيداً عن النافذة في السطح طلباً للظل، اجتمع بعض الإخوة من حوله وكنت واحداً من بينهم كي نرقب هذا المشهد المروع الذي تركوا فايز عليه، مشهد والله عصيٌّ على الوصف، قال أبو معتز وهو يرقب آخر خيوط الحياة تنسل من عيني فايز، اللتان راحتا تذبلان مع غروب شمس ذلك اليوم:

- أنت يا فايز سفيرنا إلى الله، أخبره وهو العليم بنا، أخبره عما حل بنا، سلام عليك يا فايز في الأولين، وسلام عليك يا فايز في الآخرين، وسلام عليك إلى يوم الدين.

ثم مال فايز برأسه بعد أن أسلم الروح إلى بارئها، مات فايز رحمه الله دون أن يتم يومه الثاني في المهجع "34"، ودون أن يتناول فيه حتى ولو جرعة من ماء!

هذا غيض من فيض التعليم، لعل رسالتي من وراء هذه الكلمة الغارقة في الدماء تكون قد وصلت إليك يا صاحبي، أكان ذلك يكفى كي يصلك بعضاً من معاني الظلم والجور؟! هل سمعت بمثل هذا؟ لقد رحل فايز ولم يتم ربيعه الثالث والعشرون، كما رحل الآلاف من قبله ومن بعده وهم في عمر الورود، صبياناً وشباباً لم تخالط جوارحهم أدران الحياة، ولم تترك لهم طغمة دمشق العلوية النصيرية المتصهينة حتى النخاع، لم تترك لهؤلاء الفتية فرصة كي يَمَسُّوا ولو شيئاً من متع الحياة، ساقت الكثير منهم إلى الموت الزؤام، أمام اعترافات انتزعتها نفس الطغمة الحاقدة منهم تحت غلظة العصا وانهمار السوط والكابل والكرباج، ولعل في الأيام بقية من متسع، كي يعاد فيه فتح جميع الملفات، كي تدرك الدنيا، كل الدنيا بأن جل الذين أفضوا على أعواد المشانق، ما كان لهم أي علاقة أو شاكلة مما نسب إليهم من تهم، غير أن للإنسان تحت لهيب العذاب المصبوب على الجسد المتهتك صباً، طاقة متى تجاوزها وانهار، أدلى بأي شيء، ولو كان كذب الدنيا مجتمعاً فيه، على أن يأتي على المقاس الذي يرضي المحقق والسجان.

كان صيف عام 1982 حاراً لاهباً فوق المعتاد عن كل عام، عامراً بالأحداث، فقد جاءت ردود الفعل على أحداث مدينة حماة قاسية وغاية في المرارة والإجرام، ولعلها المرة الأولى التي أشهد فيها يقيناً لا لبس فيه، قائمة طويلة تليت قبيل الفجر لإحدى وجبات الإعدام المروعة، وكان من أوائل ضحاياها علي دباليس من أبناء اللاذقية، وقف يودعنا ونحن ذاهلين لا نملك سوى المأساة التي ارتسمت على وجوهنا، اجتمعنا من حوله نودعه ونوصيه بالثبات، وندعو له، في الوقت الذي خلع فيه ثيابه التي كان يرتديها، التفت إلينا وابتسامة تعلو محياه قائلاً:

- لعل أحداً من الإخوة يستفيد من هذه الثياب، فإن الحي أبقى من الميت، أوصيكم بتقوى الله، وأوصيكم ببعضكم خيراً، سامحوني إن أسأت لكم، واسألوا الله لي القبول!! ثم فتح الباب ومضى إلى غير رجعة دون أن يلتفت.

لف المهجع صمت المقابر، وبقيت ثيابه التي تركها حيث رمى بها، لا يجرؤ أحد على مسها، كما لو أنه سيعود عما قليل ليرتديها، ودبت في جمال خراط أحد أبناء حلب المنعمين رحمه الله همة، فقام يطوف على الحاضرين طالباً منهم قراءة سورة الرعد على نية تثبيت المودعين لنا الوافدين على ربهم، ولم يكن بوسعي تحمّل المزيد، فسقطت مغشياً علي.

حمل الوافدون الجدد إلينا بعض الأخبار عما حل بحماة، تلك المدينة القديمة العريقة، والتى أُلِّفَتْ في مجزرتها الكتب، لكن الذي يعنينا في هذا الفصل، خبر الكم الهائل ممن سقط من الشهداء، ولعلني ما زلت أذكر، كيف كنا نجلس متخلقين يتلو علينا أحد الإخوة بعضاً من ملامح المأساة، حتى إذا ما راح يعد بعض أسماء الذين سقطوا على يد الباغي، كان ممن يستمع للقائمة زهير يوسف، وحين مر الراوي على ذكر والد زهير وأهل بيته، وكيف قضوا نحبهم تحت القصف العشوائي الذي لا يرحم، ولا يميز بين من حمل السلاح، ومن هو أعزل، وكيف قامت سلطة دمشق الفاشية، بقتل هؤلاء من غير ذنب اقترفوه، لم يحتمل المسكين زهير الخبر، فخر صريعاً، حتى إذا ما أفاق، اكتشفنا أنه ما عاد يجدي معه أي دواء أو علاج، فقد ذهب عقله، وتخلت عنه كل ملكة من ملكات الوعي والإدراك، ومنذ ذلك الحين تم تعيين أحد الإخوة المتبرعين لملازمته على مدار الساعة، ومما أذكره له شفاه الله، وقوفه الدائم وسط المهجع يحصد ما يتوهم من الشياطين الذين لولا يقظته الدائمة كما كان يزعم لقاموا بغزونا من فوقنا ومن أسفل منا.

ولم تمضِ إلا أيام حتى نادوا على الدفعة التالية، ووقفت بنفس كسيرة بين المودعين أرقب الراحلين، وكان العدد هذه المرة أكبر، كان من بين الأسماء التي ما زلت أذكرها، كل من الأخ الحبيب حسن عبد الحي من إدلب، أظنك يا صاحبي ما زلت تذكره، محمد عناداني من حلب، محمد عصفيرة من حلب أب لثلاثة أطفال، محمد نعنع من إدلب، عادل من إدلب، محمد الأقرع من إدلب، نزار من إدلب وكان مصاباً بخرَّاج داخلي حاول كل من الدكتور صالح خوجة من أكراد دمشق، والدكتور أبو عثمان من بانياس إجراء عملية تنظيف له، ولقلة الإمكانيات أدخلوا مسماراً بعد أن أحموه على النار - كي يقتلوا ما عليه من بكتيريا- دون إمكانية أي نوع من أنواع التخدير، لكن المسمار ضل طريقه في المرة الأولى إلى الخراج، مما اضطر الإخوة الأطباء الى إعادة العملية للمرة الثانية أيضاً دون تخدير، وكان نزار صابراً محتسباً عند الله ما يعاني من ألم، ولم يدم به المقام بعد العملية، نادوا على اسمه في هذه القائمة، ولما أعياه المسير، أخذوه سحلاً إلى حبل المشنقة في الباحة السادسة.

وقف محمد نعنع وقد كنت قد أتممت سورة يوسف على يديه، وقف خطيباً في الباكين من حوله، ومما قال:

- أيها الأحباب، الثأر الثأر، الإسلام الإسلام، قولوا لأهلي إذا ما سألوا عني، بأنني سلكت درب الصالحين من المجاهدين، سلكته بمحض إرادتي، لست نادماً على شيء، إذ لا شيء في هذه الحياة يستحق أن نندم عليه.

أما عصفيرة فقد كان مرحاً حتى وهو يودع، التفت إلينا وقد امتلأ وجهه إشراقاً لم تفارقه ابتسامته المتلألئة:

- كنت دوماً جباناً أخشى الخروج للحلاقة، وأختبئ أحياناً بين البطانيات كي لا أذهب إلى الحمام، كل ذلك فراراً من العذاب، اليوم أمضي إلى رب كريم رحيم، لا تجزعوا، أسأل الله أن يكف أيديهم عنكم. وحين فتح الباب مضوا كغيرهم ممن مضى، ذهبوا بهم من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور طواغيت دمشق إلى عدل الرحمن، وهكذا كانوا بيننا فأصبحوا مع الأيام عبرة لنا.

جاءت الحلاقة التالية هادئة، وقلما جاءت على هذه الشاكلة، وسمعنا من بعيد خطاباً لرئيس العصابة، كان يتحدث فيه عن حماة، كان خطاباً متشنجاً، اجتمعت فيه نبرة الأحقاد والغضب، ومما جاء فيه:

- إنهم يقتلون الشيوخ والأطفال، إنهم قتلة، إنهم مجرمون، هدموا المنازل على أهلها من الأبرياء والعزل.

كان كاذباً والكذب طبعه، وكان مجرماً جباناً والإجرام والجبن ديدنه، ومن أراد الوقوف على الحقيقة، فعليه بكتاب "حماة.. المجزرة المستمرة"، ففيه ما يشفي الغليل، ويداوي كل قلب عليل!!

لم تنقطع حلق تحفيظ القرآن، ولم تتوقف، وصارت ملاذنا نرتحل من خلال الإقبال عليها إلى الله، كلما ألمت بنا ملمة من الملمات، وما أكثرها، وشمرنا عن ساعد الجد واجتهدنا وسعنا، وكان أكثرنا اجتهاداً من أدرك بحسه دنو أجله ممن طالتهم أحكام الإعدام، ولعلني إن لم تخني الذاكرة، قد صرت إلى الجزء العاشر استظهاراً حتى ذلك الحين، لا سيما وقد تخففت في هذا المهجع من أي مسؤولية تُذكر، وصار المهجع كخلية نحل نشطة، نشطت فيه علوم القرآن المختلفة، ودروس الأحاديث والسيرة النبوية، إضافة إلى دروس التاريخ والفتوحات ودروس اللغة العربية، وكل ما هبَّ على الخاطر من الدروس على أيدي أهل المعرفة والاختصاص.

أياماً ونودع الأخ حبيب فلاحة من أبناء حلب، شاب أبيض البشرة، أزرق العينين، يافعاً في مقتبل العمر، نخره مرض السل، وبراه شح الطعام وسوء التغذية، وعزَّ عليه الظالمون بالدواء، فأسلم لله روحه الطاهرة، ونحن من حوله نرقبه بأعين دامعة وقلوب محزونة آهلة مكلومة، وبعدما قمنا بتغسيله والصلاة عليه، دققنا الباب كما كان الحال مع فايز، فأخذوه مشفوعاً بكل أدعية البائسين الأخيار، بأن يرحم الله غربته ويقبل أوبته، وأن يرفع درجته، وأن يجعله وجميع شهداء المسلمين في عليين، مع النبيين والصديقين وحسن أولئك رفيقاً.

* * *

كنا لا زلنا في هزيع ليل أخير من ليالي النصف الثاني لشهر رمضان المبارك، أيقظني أحد الشباب ممن ينامون بالقرب من رأسي، أخبرني بأنه سمع اسمي يتردد في الباحات البعيدة، أخذت إذناً من الحرس الليلي الذي كان يقف بباب دورة المياه، وهو من أحد الشباب الذين يقومون ليلاً على تنظيم حركة الدخول إلى بيت الخلاء، وكنت أنوي الخروج متوضئاً، ففي هذا الوقت عادة ما يتلون قوائم الإعدامات، غير أن الوقت لم يسعفني فاكتفيت بضربتي تيمم على الحائط، وما هي إلا أن نادوا على اسمي، وسرعان ما فُتح الباب، ليقتادوني مع خمسة آخرين من مهاجع مختلفة صرت أنا سادسهم، إلى الباحة الأولى، حيث الإدارة أو الذاتية كما يسمونها، كان معنا في هذه الدفعة، المهندس خالد رضوان الرضوان، أظنك ما زلت تذكره يا صاحبي، أعلمني بأنه موجود في المهجع المجاور لمهجعنا تماماً، المهجع "33"، ومما أذكره أن أحد الجلادين حين علم أنني من الأردن، رفسني بحذائه الغليظ، ليقول بعدها لصاحبه ساخراً:

- هذا من عند صاحب الجلالة، هذا من عند مضر بدران، (كان يومها يشغل منصب رئيس وزراء الأردن، الذي جرت محاولة اغتياله على أيدي عميلين من عملاء المخابرات السورية، وقد تم إلقاء القبض عليهما، ليعترفا بعد ذلك بأنهما كانا ضمن المجموعات التي نفذت مجزرة سجن تدمر الشهيرة، والتى راح ضحيتها قرابة الـ 1200 من المعتقلين الأبرياء!!)

ويسأله الآخر:

- ومن يكون مضر بدران؟! يخيل إلي بأنني سمعت بهذا الاسم قبل الآن!

ويرد الفهيم الجهبذ:

- إنه وزير خارجية الأردن!

كان مجرد ذكر الأردن في هذا المكان يبعث على الرعب، كما لو أنني كنت أحمل محذوراً من المحاذير، التي توجب الإدانة به عقوبة قد تصل إلى الإعدام!!

عند الإدارة، وفي الباحة الأولى افترشنا الأرض أمام الشبك الحديدي المقابل لغرف التحقيق، في الوقت الذي شرع فيه أحد المحققين في استجواب أحد المعتقلين، ورحت أغرق في التخمينات، ما تراهم سيفعلون بي؟ هل جد طارئ على التحقيق؟ هل ألقي القبض على أحد معارفي؟ هل ورد اسمي في تحقيق جديد؟ ليس في وسعك هنا إلا أن تنتظر الأسوأ! لم يتركوا - قاتلهم الله - للأمل أي فسحة كانت، لذلك كنت غارقاً في التشاؤم إلى حد السوداوية المفرطة! ولم أصحُ من هذه الهواجس إلا على صوت الدولاب والكرباج، ورجل يحشر فيه، لتعلو بعد ذلك فرقعة السياط مختلطةً بصراخٍ يطاول عنان السماء، وأخذت الدماء سبيلها إلى جواري، ثم راح صاحبها يغط في غيبوبة، لم يكفّوا الضرب عنه حتى خرج المحقق فأشار عليهم بالتوقف.

لم يعد بوسعي أن أخفي الخوف الذي راح يكتنفني، وقد بدا ذلك في الرعدة التي أخذتني، فكنت أهتز من رأسي حتى آخر أطرافي، وعادت الهواجس لتلتهمني من جديد، ما عساهم سيفعلون بي؟ ونهرني الشرطي الواقف فوق رأسي قائلاً:

- أُوْلا هِنْتْ، خوذ قطعة القماش اللي هون وامسح فيها الدم!!"

امتثلت للأمر ولم يكن بوسعي تجفيف كل الدماء، فقد كانت أكبر من قابلية قطعة القماش على الامتصاص، مع أن قطعة القماش كانت كبيرة، إلا أنها عجزت عن استيعاب ما نزف من الضحية عاثر الحظ، وعاد الشرطي فنهرني قائلاً:

- أُوْلا قرد، خلاص بيكفي، ارجع لمحلك!!

ما أن أخذت مكاني حتى عادوا فنادوا عليّ، ثم اقتادوني إلى غرفة من غرف التحقيق، لأجدني وجهاً لوجه دون غطاء العين الذي عودونا عليه في مثل هذه المناسبات أمام المحقق، كان طويلاً في بنية بدت متماسكة، وشارب تخاله مصبوغاً بالسواد لشدة دكانته، إن لم يكن كذلك، عيناه تقدحان شرراً وشراً، بدأ سؤاله بالقول:

- يا سيد سليمان، لدينا مجموعة من الأسماء التي وردت في التحقيق، سوف أتلوها عليك واحداً واحداً، وأنت بدورك ستعطينا أوصافهم!!

ألفيتها فرصة، والحق يقال، لم أصدقه هنا في أي وصف، اسم واحد انتظرت منه سؤالي عنه، لكنه لم يفعل، مع أنني أكدت عليه كثيراً في حيثيات التحقيق، لاعتقادي أنه صاحب الوشاية الكيدية التي انتهت بي إلى هذا المكان، صاحب هذا الاسم هو جميل حمصي، دمشقي كان يعمل في ألمانيا، وكان قد توعدني يوماً لخصومة دبت بيني وبينه، لم يكن لي دخل فيها من قريب أو بعيد، وكانت الشكوك تحوم حوله منذ زمن بعيد في كونه يعمل مخبراً لصالح الأجهزة السورية، ومن يدري فلعله كان كذلك!

تنفست الصعداء حين أذن لي بالانصراف، وأحسست بعودة الروح في كياني، إحساس الغريق قد نجا من موت كاد أن يكون محققاً، وقبيل الصبح بقليل ساقنا العريف عقلة، صاحب جولات التعذيب الإجرامية المشهورة إلى المهاجع، وحين فتحت، بعد تقديم اللازمة، صاح بي عقلة:

- أُدخول أُوْلا!!

ما أن دلفت البوابة، وأنهى رئيس المهجع تقديم الصف، حتى التفت إليّ الإخوة التفاتة الأهل أضاعوا حبيباً ثم عاد بعد طول انتظار، امتلأت عيناي بالدموع وأنا أرى هذه الحفاوة العفوية من هذه القلوب التي فطرها البؤس والإعياء!!

كما كانت ترتحل عنا وجوه، كانت تتوارد علينا وجوه، فقد أدخلوا علينا ذات يوم المهندس أبو الوليد الحيدري، كان في يوم من أيام خلت يشغل منصب مدير المقاسم الآلية في سوريا، أدخلوه علينا بعد سنوات خمس قضاها داخل المنفردة، داخل الزنزانة في تدمر، حيث الزبانية كانوا يجتمعون عليه يومياً، جاؤونا به بعد أن أصيب بانفصام في الشخصية، قد ذهب عقله، وصار يخلط في المسائل الغيبية، تتنزل عليه الملائكة، تحدثه عن الجنة والنار، وأسرار الروح، والقطار الواقف بباب المهجع لنقل الراحلين إلى المريخ، ثم أخيراً تقلباته في العبادة ليلاً، في أوضاع لافتة للانتباه، وادعائه الخلافة، كان شفاه الله مديراً للمقاسم الآلية، فحوله الظالمون المتغامزون إلى مديراً للمسائل الغيبية، وكتلة من ضحية إنسية، لقد كان الأخ المهندس أبو بكر من أبناء حماة، وهو مهندس اتصالات يقف مشدوهاً، وهو يتأمل أبو الوليد الحيدري، لا يكاد يصدق بأنه هو ذاته الذي دخل عليه يوماً ليقدم له طلب الالتحاق بشركة الاتصالات والمواصلات، والتى كان المهندس أبو الوليد يتربع على أعلى الهرم فيها، لقد تحول أبو الوليد إلى طفل صغير يحتاج إلى من يداريه ويرعاه، بعد أن كان كثير من الخلق عيال على علمه ومعارفه.

وفي نفس النصف الثاني من عام 1982 توقفت الإعدامات لفترة نافت عن أشهر ست، هكذا فجأة، ولم يكن بمقدور أي كان منا أن يزعم يومها معرفته للسبب، وتراجعت حدة التعذيب التي كانت قد تضاعفت في الكم والكيف أثناء وبعد أحداث حماة، وسرت بين البؤساء بعض علامات الارتياح، فقاموا بعد فترات التفقد، وانكفاء الشرطة عند الهاجرة إلى الظل، بإخراج عدة مسرحيات، أذكر منها مسرحية إسلام بلال الحبشي رضي الله عنه، وكان لي فيها دور الضحية، وجاءت ناجحة حسب المتاح الممكن، وكذلك بعض المسرحيات التي جاءت تحكي واقع الحياة الاجتماعية والسياسية في سوريا.

وما فتأت الأمراض تتربص بنا، حتى اشتدت وطأتها، فاجتاحت الجميع، وما عاد بيننا أحد، إلا وفيه انشغال بنفسه عن غيره، وتم استحداث مهاجع للمصابين بالسل كما ذكرت، وكذلك مهجعان للأحداث من صغار السن، تم فرزهم إلى الباحة السادسة.

المهجع المزدوج "5- 6"

منتصف شهر رمضان من عام 1982 نُقِلْنا إلى الباحة الثانية، إلى المهجع المزدوج 5-6، وكان أشبه ما يكون بالكهف، مدخله الضيق ينتهي إلى مهجع صغير، في أقصى شماله فتحة تؤدى إلى دورة المياه، ثم تعود للاتساع كي تطل على مهجع أكبر لا تعرف أشعة الشمس إليه سبيلاً، كان مغلقاً تماماً، وهو تابع للبناء الفرنسي القديم، ذا سقف منخفض إلى حد ما، إذا ما قيس بالمهجع 34، بالإضافة إلى خلوه من الفتحتان العلويتان، وهذه ميزة تركت الحركة بداخله أكثر يسراً، بعيداً عن عين الرقيب، إلا أن سوء التهوية، وسوء التغذية، ناهيك عن وجوده - أعني المهجع - في باحة استقبال الوافدين الجدد، كان لكل هذه الأسباب مجتمعة بالغ الأثر السيئ في نفوسنا الواهية المتهالكة.

ما أثار انتباهنا في هذا المهجع، آثار رصاص وبقايا شعر وجلد كانت لا تخطئها العين لا تزال حتى ذلك الحين معلقة أين اتجهت، على جدران وسقف المهجع، يقيني أنها بقيت شاهد عيان على المجزرة الُمّرة التي ارتكبت قبل أشهر هنا، وكان بطلها آنذاك المجرم رفعت الأسد، وقبل أن أسترسل في الحكاية، أترك اثنين من المجرمين- حاولا قتل رئيس وزراء الأردن فيما بعد، لكن إرادة الله شاءت أن يقعا في قبضة السلطات الأردنية- كي يرويا بعض الحقيقة مما جرى في تلك الليلة، وهنا أترك المجال كي نستمع في ذهول للقصة الكاملة للجريمة التي ارتكبها النظام الطائفي في سورية بحق الأبرياء العُزّل، كما جاءت على لسانهما:

مجزرة تدمر

التحضير للعملية

"في تمام الساعة الثالثة والنصف من صباح يوم 27/6/1980 دُعيت مجموعتان من سرايا الدفاع للاجتماع بلباس الميدان الكامل، المجموعة الأولى من اللواء (40)، الذي يقوده الرائد معين ناصيف (زوج بنت رفعت أسد)، والمجموعة الثانية من اللواء (138)، الذي يقوده المقدم علي ديب، وكل من المجموعتين يزيد تعداد عناصرهما على مائة عنصر.

أما مجموعة اللواء (40) فقد اجتمعوا في سينما اللواء، حيث ألقى فيهم معين ناصيف كلمة، قال فيها: "راح تقوموا بهجوم على أكبر وكر للإخوان المسلمين، وهو سجن تدمر.. مين ما بدو يقاتل؟"، وبالطبع، فلم يرفع أحد منهم يده، ثم انتقلت المجموعة الموجودة إلى مطار المزة القديم، حيث التقت المجموعتان، وكانت في انتظارهم عشر طائرات هليوكوبتر، وكل طيارة تتسع لـ 24 راكب.

كان قائد العملية المقدم سليمان مصطفى، وهو قائد أركان اللواء (138)، وكان من جملة الضباط المشاركين: الملازم أول ياسر باكير، والملازم أول منير درويش، والملازم أول رئيف عبد الله.

أقلعت طائرات الهيلوكبتر حوالي الساعة الخامسة صباحاً، ووصلت إلى مطار تدمر حوالي الساعة السادسة، وعُقِدَ اجتماع لضباط العملية، تمّ فيه توزيع المهمات وتقسيم المجموعات، ثم أعطي العناصر استراحة لمدة ثلاث أرباع الساعة.

في هذه الأثناء كان سجن (تدمر) هادئاً، وقد اتخذت ترتيبات مُعينة، مثل: إجراء تفقد للمعتقلين وتسهيل مهمة مجموعات سرايا الدفاع، فلم تكن هناك عراقيل أو اعتراض، بل كانت الشرطة العسكرية المكلفة بالحراسة مستعدة على الباب الخارجي، كما كان رئيس الحرس وشرطته العسكرية مجتمعيْن في ساحة السجن.

ثمّ دُعي عناصر سرايا الدفاع إلى الاجتماع؛ حيث تمّ تقسيمهم ثلاث مجموعات:

ـ المجموعة الأولى: وهي مكوّنة من (80) عنصراً، وكلفت بدخول السجن، وسُميت "مجموعة الاقتحام".

ـ المجموعة الثانية: وهي مكونة من (20) عنصراً، وكُلّفت بحماية طائرات الهيلوكبتر.

ـ المجموعة الثالثة: وهي مكونة من بقية العناصر، وقد بقيت في المطار للاحتياط.

ركبت مجموعة الاقتحام سيارات (دوج تراك)، وحين وصلت إلى السجن؛ انقسمت المجموعات الموجودة إلى مجموعات صغيرة، كل منها بإمرة أحد الضباط، وقد سلّم مدير السجن مفاتيح المهاجع إلى ضباط سرايا الدفاع، كما زوّدوا بمرشدين لغرف السجن وباحاته.

كان في سجن تدمر العسكري (34) مهجعاً، في كل منها (20-70) معتقلاً؛ تبعاً لحجم المهجع، وقد تم تنظيم العملية بقتل المعتقلين على دفعتين: الدفعة الأولى تشمل الغرف المطلّة على الباحات (1 و2 و3)، والدفعة الثانية تشمل الغرف المُطلّة على الباحات (4 و5 و6)، وبسبب انخفاض المهاجع وعتمتها في غرف الباحات (1 و2 و3)، تقرر إخراج المعتقلين إلى الباحات لتنفيذ الإعدام فيهم. 

وتوزّعت مجموعات سرايا الدفاع على المهاجع والباحات، وفُتحت الأبواب، وبموجب نظام السجن، وقف المعتقلون عند فتح أبواب المهاجع مغمضي العيون ووجوههم إلى السقف، وقدم رئيس كل مهجع الصف (ويكون أحد السجناء، ويُطلب منه ترتيب السجناء وتنظيمهم، ويكون له نصيب أكبر من العذاب. انظر كتاب شاهد ومشهود).

ـ في الباحة رقم (1) تم إخراج نزلاء المهجعين (5 و6)، ونزلاء المهجع (4)، وجُمعوا في زاوية الباحة الشمالية الشرقية.

ـ في الباحة رقم (2) تمّ إخراج نزلاء المهاجع الثلاثة (8 و9 و10)، وجُمعوا في آخر الباحة الجنوبية الغربية، مقابل المهجع (8) ذي الشرفة الواسعة من الأمام.

ـ في الباحة رقم (3) تمّ جمع المعتقلين من المهاجع (12 و13 و16 و17)، في الزاوية الشرقية الجنوبية من الباحة أمام المهجع (12).

وهكذا تمّ تجميع المعتقلين مع أغراضهم بشكل يجعل عملية القتل والإبادة تبدأ في الباحات الثلاثة في وقت واحد.

والجدير بالذكر أن المعتقلين جميعاً خضعوا في اليوم السابق لأنواع من التعذيب الشديد الذي لم يسبق له مثيل، فقد اندفعت عناصر الشرطة العسكرية تطوف بالمهاجع، وتضرب المعتقلين بالسياط والعصي، كما أخرجوا نزلاء بعض المهاجع إلى الباحات بالتسلسل، وانهالوا عليهم ضرباً بالعصي والسياط، فأصيب الكثيرون من المعتقلين بكسور وجروح مختلفة.

بدء المجزرة الوحشية

بعد ذلك أُعطيت إشارة البدء لعناصر سرايا الدفاع، فانطلقت الآلات النارية تصبّ وابل الحمم على المعتقلين العزل الأبرياء، وألقيت عدة قنابل - لا سيما في الباحة رقـم (2) - واستخدمت بعض قاذفات اللهب مع إطلاق النار الكثيف في كل من الباحات الثلاث، في حين الذي تعالت أصوات المعتقلين بهتافات: الله أكبر.

وخلال دقائق قليلة انتهى الأمر، لكن بعض المعتقلين في الباحة رقم (1)؛ تمكنوا من الهروب، وتمكنوا من دخول المهجع الكبير المزدوج (5 و6)، فتواروا فيه، فلحق بهم بعض عناصر سرايا الدفاع، فقتلوهم ومثّلوا بهم.

حين انتهت العملية في الساحات الثلاث، تجمع القتلة وانطلقوا إلى الباحات الثلاث الأخرى، ولكيلا تتكرر عملية هرب بعض الضحايا إلى المهاجع، قرر الضباط دخول المهاجع على المعتقلين، وقتلهم فيها.

اندفعت ست مجموعات من القتلة إلى الباحة رقم (4)، وفيها ثلاثة مهاجع مليئة بالمعتقلين، فتوجهت كل مجموعتين إلى مهجع، وفتح الباب، وقدم رئيس كل مهجع الصف، فدخلوا عليهم، وأمروهم بالابتعاد عن الباب، ثم ألقوا على المهجع قنبلتين دفاعيتين، ثم دخلوا عليهم، وأخذوا يُطلقون رصاصهم رشاً على الضحايا الذين ارتمى معظمهم على الأرض بين قتيل وجريح، واستمروا في ذلك إلى أن أتمّوا قتل من في المهجع.

ثم انطلقت المجموعات إلى الباحات رقم (5 و6)، حيث توزّعت على المهاجع الخمسة الباقية، وتم فتح الأبواب عليهم، وبُدئ بإطلاق النار على المعتقلين العُزّل.

وفي أحد مهاجع الباحة رقم (5) اختبأ أحد المعتقلين في دورة المياه بالقرب من الباب، وحين دخلت العناصر المسلحة، وبدأت بإطلاق النار على المعتقلين العُزّل، انقضّ هذا المعتقل من دورة المياه، وتمكّن من انتزاع السلاح من أحد عناصر سرايا الدفاع، وهو الرقيب اسكندر أحمد، وأطلق عدة طلقات أدت إلى مقتل هذا الرقيب وجرح اثنين آخرين، لكن بقية العناصر المسلحة بادرت إلى إطلاق النار على المعتقل البطل حتى استشهد.

قام بعض الضباط والعناصر بتقليب جُثث الضحايا، والتأكد من مقتلها أو الإجهاز على من فيه بقية رمق، حتى تلطّخت أيديهم وثيابهم وصدورهم بالدماء، مثل الملازم: رئيف عبد الله، والملازم منير درويش، والرقيب علي محمد موسى.

بقي دم الضحايا البريئة يغمر أرض السجن؛ وتجمد في كثير من الأماكن من الباحات والمهاجع، فتم تنظيف الساحات، وتم طلاء جدران السجن بسرعة لإخفاء معالم الجريمة، أما المجرمون منفذو العملية فقد عادوا إلى مطار المزة في الساعة 12.30 ظهراً، وانصرفت مجموعة اللواء 138 إلى لوائها، كما انصرفت مجموعة اللواء 40 إلى لوائها، وكان بانتظارهم الرائد معين ناصيف، حيث اجتمع بهم في السينما، وشكرهم على جهودهم، وعزاهم بوفاة الرقيب اسكندر، وقال لهم: أنتم قمتم بعمل بطولي، بعمل رجولي، ثم أمرهم بكتمان العملية، وقال لهم: ما لازم تطلع هالعملية خارج منا، يعني لازم تظل مكتومة وسرية.

وفي اليوم التالي وزعت السلطة مبلغ 200 ليرة سورية على كل عنصر من العناصر الذين اشتركوا في هذه الجريمة.

ملاحظة:

هذه التفاصيل جاءت ضمن اعترافات الرقيب المجرم عيسى إبراهيم فياض، والعريف المجرم أكرم علي جميل بيشاني، وكلاهما علويان من سرايا الدفاع، اشتركا في محاولة فاشلة لاغتيال رئيس الوزراء الأردني السابق مضر بدران، وأدليا باعترافاتهما كاملة على شاشة التلفزيون الأردني، ونشرت في كتاب الوثائق الأردنية -1981، والذي طبعته وزارة الإعلام الأردنية بتاريخ 25/2/1981.

هذا وقد اطلعت لجنة حقوق الإنسان التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، التي انعقدت في جنيف في دورتها السابعة والثلاثين على وقائع مجزرة تدمر، خلال مناقشتها للبند 13 من جدول الأعمال الخاص بانتهاكات حقوق الإنسان في العالم، ووزعت على اللجنة الوثيقة رقم (E/CN/4/1469)  تاريخ 4/3/1981، والتي تضمّنت إفادات المشاركين في مجزرة تدمر، (عيسى إبراهيم الفياض وأكرم بيشاني). وناقشت اللجنة بجلستها رقم 1632 تاريخ 9/3/1981 مضمون المذكرة وشارك في النقاش مندوبو الأردن والعراق وسورية."

http://www.tadmor.8k.com/images/fiad.jpg http://www.tadmor.8k.com/images/akram.jpg المجرم عيسى إبراهيم فياض        المجرم أكرم بيشاني 

الإفراج عن بعض المعتقلين

لم تمضِ إلا أياماً قليلة على وصولنا إلى المهجع الجديد، حتى تليت عصر يوم من الأيام قائمة أسماء، أُخلي بموجبها سبيل مجموعة من الشباب كان من بينهم أبو الطاهر منذر من حلب، كنت قد حدثتك عنه آنفاً، ذاك الذي كان ينوى زيارتي في ألمانيا، فلما تعذر عليه ملاقاتي هناك، ساقتني الأقدار لملاقاته وراء القضبان، ودَّعَنا على عجل تاركاً خلفه عمه أبو نبال الذي كان يومها قد زحف إلى السبعين، وتاركاً قلبي المشعوب، تتنازعه فرحة الإفراج من جهة، ومن جهة أخرى ألم الفراق الذي ربما لن يجمعنا بعده لقاء.

قام رئيس المهجع بتقسيم البرامج الثقافية بين ذوى الاختصاص، وأوكلت هذه المهمة للمهندس طريف حتاحت أحد أبناء دمشق، وكان يقدم بعض البرامج الخاصة بتاريخ وجغرافية العالم الإسلامي، كذلك فعل السيد خالد ب. أبو الصديق، كان يقوم بإعداد برنامج خاص في الثقافة الإسلامية وبعض البرامج الفقهية، إضافة إلى مواضيع في علوم القرآن وتحفيظه الذي استمر قائماً وبكثافة على قدم وساق.

قاسم ططري

ليس بمقدوري هنا تدوين الكثير من حكايات من التقيت وراء القضبان، لا سيما الخاصة منها، لكنني أريدها هنا أن تكون كاستراحة المحارب، لأكشف عن بعض الجوانب الإنسانية، التي كان يحياها الناس خارج جدران هذا السجن وقضبانه، ولعلّني أقصر جهدي على حكاية قاسم ططري أبو طارق، من أبناء الزبداني الذين طلّقوا الدنيا كما طلقتهم ثلاثاً لا رجعة فيها وفرغت من ذكرهم الأقدار!

لا بالطويل فينسب إليهم ولا بالقصير فيلحق بهم، لامسته سُمْرة خفيفة، توازي ظله، ولعل ظله أخف، نحيلاً قد دقّ عظمه، ثقافته واسعة، علمه ومداركه تبعث على الاستغراب إذا ما شاهدت صغر رأسه المستدير، إذ من أين لهذا الرأس الصغير أن يتسع لكل هذه الثقافة؟!

جلستي الأولى معه ألزمتني صحبته إلى أن فاضت روحه إلى بارئها، قد اجتمعت عليه ظلمتان، ظلمة السجن والسجان، وظلمة الليل والأوطان، لقد كان رحمه الله مع خفة دمه، ولطف شمائله، موغلاً في التشاؤم، حتى خِلْتني مع كل يأسي وقنوطي متتلمذاً على يديه في هذا الباب، ومع هذا أحببته في الله  لصفاء روحه التي لم يخالطها الخبث يوماً، ولتقواه وخشيته من الله التي ما ساقته إلى حرام قط - وقد كان في متناوله يومـاً لو أراد - وإيمانه الذي غمر بيته ومناحي أركانه، أحسبه كذلك، ولا أزكيه على الله.

أما اسمه فلعل له منه نصيب، فهو قاسم هكذا جاء بكراً لوالديه كما أخبرني، أما اسم العائلة فلا دخل له فيه، حمله أجداده من قبل، وما كان ليضيره أن يحمله كما حملوه، وشعاره دوماً قول الله تعالى: ﴿إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أتْقاكُمْ﴾، اسم جاء لعلّة من العلل هو لا يعلمها، غير أنه يعلم يقيناً لا لبس فيه بأنه ينتسب إلى عائلة الططري، عائلة صغيرة من عوائل الزبداني، لم تكن لتتجاوز عم له شقيق لأبيه، سقط صريعاً برصاص الثأر الذي أطلقه عليه أحد أبناء من غدور العم به لسنوات خلت، ولم تكن سنوات السجن التي قضاها العم المغدور به ايضا وراء القضبان لتشفع له أمام تلك التقاليد التي لن ولا أعتقد بأنها ستنتهي في شرقنا البائس، ولعلها الحادثة الأولى في حياته، جاءت في زمن كثرت فيه الشعارات، واجتاحت فيها صور زعيم مصر الملهم كما كانوا يزعمون كل الواجهات والجدران، وكان يومها قاسم شاباً يافعاً كبقية من هو في رجاحة فكره طموحاً، لم يثنه فقره، ولم يكن ليقف حاجزاً عن مواصلته طلب العلم وتحصيله، وكانت حكاية تغيير نظام الحكم في مصر، قد تجاوزت حدود مصر إلى ما حولها من الدول، وظهرت شخصية عبد الناصر البراغماتية، والشعارات التي رفعها، لتصبح بعد ذلك مثاراً لنقاشِ وجدالِ جيل تلك الفترة بأكمله.

عبثاً اجتهدت في تذكر تلك الحكاية التي رواها لي يوماً من الأيام، عن تلك الفتاة التي تغشت قلب الفتى في بواكير شبابه، وكانت صاحبة الحظوة آنذاك فتاة فلسطينية، جارة لبيت العم المغدور به، وكانت النقاشات السياسية التي تدير دفتها، تنبئ عن عناد سياسي تتشبث به، وكادت القصة لولا لطف الله بالفتى أن تنتهي إلى الزواج المبكر، بدأ ذلك في الزيارة التي بادرت فيها الفتاة برفقة والدتها إلى بيت العم الذي لم يكن يحوي سوى الإناث في الزبداني قادمين يومها من دمشق.

حدثان حالا دون أن يمضي هذا المشروع الى أشواطه الأخيرة، أما الأول فهو مقتل العم على حين غرة، وانشغال صاحبنا في رسم خطط الأخذ بالثأر، فهو الرجل الوحيد المتبقي في العائلة، القادر على حمل السلاح، والمعول عليه القيام بهذه المهمة.

أما السبب الثاني، فهو الاتجاه السياسي المخالف، والذي رعاه مجموعة من أساتذة الفتى ومربيه، وفوق هذا وذاك جاءت التقاليد لتئد الفكرة في مهدها، فالفتاة منطلقة متفتحة، قد أخذت بأسباب التمدن والمدنية، بينما صاحبنا، وإن كان في عنفوان المراهقة وتبعاتها، فقد بقي أسير عائلته المحافظة، وجاء بعد ذلك انعطاف ديني سياسي متوازن كبل ما بقي عند الفتى من اندفاعه، وكبح جماح كل الشهوات والنزوات التي تختلج في صدر كل شاب في مثل هذا السن المبكر!

لذا وكما ذكرت آنفاً، لم يكن بمقدور هذه القصة أن تمضي إلى أشواطها الأخيرة، فماتت أصيل يوم من الأيام على أطراف بساتين الزبداني الشهيرة، تماماً كما ماتت قصة الثأر في نفس الفتى، لعدم جدواها، ولعدم اقتناعه بأي فائدة يمكن جنيها من ورائها، ناهيك عما ستجر على الطرفين من مصائب فيما إذا استمر الرد والرد المعاكس.

تابع دراسته، وسعى في التحصيل، فإذا هو طالب في معهد المعلمين، سنتان ويصبح مدرساً في إحدى مدارس الزبداني، ثم عاد فاحتواه روتين المكاتب في مديرية التربية والتعليم، ولعل ما كان يثير من حوله زوبعة من الشكوك، وهو في مكتب يشاطره المقاعد فيه مجموعة من الموظفات، إفراطه بالانغماس في الوحدة وعدم الانفتاح، والذي لم يكن ليلاقي أي نوع من أنواع الارتياح والرضى لدى الأوانس من المتطلعات شريكات المكتب، وكان التحرش المقصود يأخذ بمجامع الضيق عنده، ولما نما إلى واحدة منهن ميوله الدينية، شرعت مع الأيام في ارتداء الحجاب يحدوها أمل بين عسى ولعل، وما كان له من منجى إلا طلب الانتقال، وكان له ما أراد، لكن ما لم يكن بالحسبان، ظهور فتاة أحلام جديدة، من بنات الحي، تلميذة في المرحلة المتوسطة، والدها صديق قديم لوالده، حَبَتِ القصة أياماً في صمت وخفاء بعد الولادة، وحين اكتملت بدراً وافياً أعلم أمه بذلك، وجاءته الموافقة على عجل، وكان يريده زواجاً بعيداً عن كل البهارج الخادعة، أراده من البداية زواجاً إسلامياً، وجلس عند المساء، بعد أن جلب معه قطعة من قماش، ومصحف صغير الحجم، يتلو على والدته العبارة التي عليها أن تقولها عندما تذهب في خطبة الفتاة:

- في حضور خالاتها وأمها، قولي: "قطعة القماش أثر من الدنيا نكمل بها الطريق ثم إلى زوال، وأما كتاب الله فأثره باق بلا زوال!!"

أعيت الحيلة الأم في حفظ العبارة، مع أنه كررها كثيراً، فهي جاهلة بقواعد اللغة، فرضي منها إيصال المضمون بالطريقة التي تراها مناسبة.

كادت الهدية أن ترد، وكادت الأم أن ترجع بخفي حنين، لولا تدخل الفتاة في اللحظة المناسبة، لتنتزع الهدية شاكرة للأم حسن الاختيار، وما هي إلا أيام ويبارك الله للفتاة انتقالها إلى بيت زوجها، وبانتقالها صار البيت إلى حالة أشبه بحالات الطوارئ، وعاشت العائلة جواً حرجاً، أمام إصرار قاسم على عدم جواز انكشاف زوجته على إخوته، ولم يكن لهذا القانون الأمريكاني كما علّق الأب ليقبل، وصاح في صحن الدار معلقاً:

"أي إسلام هذا الذي يحرم على الإخوة رؤية زوجة أخيهم؟! ما هذا الإسلام الأمريكي؟!"

تجاوزت الحكاية أهل الدار إلى الجيران، ومن هناك أخذت طريقها إلى جميع أفراد البلدة بأسرها، وخاض من خاض حتى قال قائلهم:

- إن قاسم قد أصيب بلوثة في دماغه، فهو يغار على زوجته حتى من إخوته، ويكاد الشك أن يفترس قلبه افتراساً!

مع بزوغ أول طفل يرزقانه، أطلقا عليه اسم طارق، جاءت حكايتان، الأولى بناءه لجدار (حائط) جعله عازلاً بينه وبين بقية أهل الدار، فكان الشعرة التي قصمت ظهر البعير، وذلك حين عاد الأب من العمل فألفى الجدار قائماً، ليسند ظهره إليه ويشرع في البكاء، وحين لم يشفه البكاء، راح يدق على الجدار وهو يعدد:

- لا تحرمونا من سماع صوتكم، وقد حرمنا من مشاهدة رسمكم، السلام عليكم يا آل أبو طارق. ثم يعود الشيخ لينخرط في البكاء من جديد!

حار أبو طارق فيما آلت إليه أوضاع البيت، هل يرضي والده بمخالفة شرع الله، أم يبقى على ما يعتقده صواباً ولو كان الثمن سخط والده الجاهل بالنصوص، وامتناعه عن فتح أي باب للنقاش والأخذ والرد؟! ولم يطل به التفكير، إذ جاءت الدولة فساقته لأداء الخدمة الإلزامية، وهو على أبواب إنهاء دراسته الجامعية، حيث كان قد انتسب لسنوات خلت إلى جامعة دمشق، كلية الآداب، قسم اللغة العربية وعلومها، وفي الأشهر الأخيرة من الخدمة التي كان فيها كاتباً برتبة رقيب، أنهى فيها دراسته الجامعية، وكانت هذه هي الحكاية الثانية.

في هذه الفترة جرت اعتقالات في صفوف الإسلاميين، وطالت هذه الاعتقالات بعض أفراد الزبداني، وكان من بين المعتقلين شاب بسيط يدعى حسن الشمالي، كانت تربطه بقاسم علاقة، استدعته إلى أن يتوارى عن الأنظار طيلة فترة اعتقال حسن، واتخذ من سطحٍ على سفح تلة لبيت عمه والد زوجته، مأوى يلوذ إليه ليلاً بعيداً عن أعين الوشاة والمخبرين، ويراقب من أعاليه، حركة الوافدين والراحلين نهاراً، وما زال يرقب الأيام حتى أطل عليه حسن صبيحة يوم باكر على غير ميعاد، ما أن رآه، حتى ظن أن المخابرات في أثره، ومن غير أن يسأل أو يلتفت، أطلق قاسم ساقيه للريح، وراح يجرى بين البساتين، أثناء جريه التقاه بعض إخوانه فصاح به دون أن يتوقف:

- النجاة النجاة، المخابرات في إثري!!

راح الآخر فارع الطول يجري، قد تدلت على صدره ربطة عنق، ورأى الأطفال الرجليْن يحثان الخطو بين حقول البلدة وبيادرها، فركضوا في أعقابهم، وحين كادوا أن يجتازوا بيت أحد إخوانهم من المعلمين، أبصروه يهبط من سيارته محملاً ببعض المشتريات وبصندوق من البيض، نهروه بالتعجل:

- لا وقت للشرح، انجُ بنفسك، المخابرات تتعقبنا!!

لم يكذب الرجل خبراً، حط ما في يده على الأرض، وراح يجرى دون أن يلتفت، وما هي إلا خطوات خطوها حتى دوّى على حين غفلة بوق لسيارة إسعاف، فكان كالحبل أبصره الملدوغ فظنه الأفعى، فقال أحدهم وقد أخذ الجهد والخوف منهم كل مأخذ:

- نتوارى وراء سلاسل البيادر الحجرية حتى تجتازنا سيارة المخابرات. وقال آخر:

- بل نسير سيراً طبيعياً كيلا ينتبه إلينا أحد.

بين البيادر قضوا سحابة نهارهم على الطوى، لا يدرون ما يفعلون، ولا يعلمون إلى أين يتوجهون، وحين راح الظلام ينشر جنوده، أجمعوا أن يبعثوا أحدهم إلى بيت شقيقته التي تبعد أمتاراً عن المكان الذي واراهم سحابة نهارهم، ليأتيهم بالخبر، وما هي إلا برهة من زمن حتى جاءهم ما يهدئ روعهم، ويبعث الطمأنينة في أركانهم المتهالكة، فعادوا الهوينى إلى بيوتهم.

بعد أيام يلتقي أبو طارق بحسن، وحين سأله عن سر زيارته المبكرة، أجاب حسن:

- فور إطلاق سراحي التقاني سائق تكسي من الزبداني، وأصر الرجل جزاه الله خيراً أن يقوم بتوصيلي، وفي الطريق سألني عما جرى لي أثناء اعتقالي، فأوجزت له ما حلَّ بي، وأعلمته بأنهم أجبروني على ذكر أسماء كل من كنت التقيهم في المسجد!

وحين سأل السائق في دهشة:

- أملي ألا تكون قد ذكرت اسم ولدي من بين الأسماء التي ذكرتها!

أجبته بصدق:

- والله ما أنساني اسم ابنك إلا الشيطان أن أذكره!، الغريب أن الرجل ضحك، وأصر أن يوصلني إلى المكان الذي أرغب، فكان أن هبطت بالقرب من بيت عمك، فجئت لأخبرهم بأنني لم أذكر اسمك في التحقيق! لكنك تركتني ورحت على عجل دون أن تهنئي بحسن السلامة!

جمّد أبو طارق كل علاقاته منذ ذلك الحين بالإخوان، وما عاد يلتقي بأحد إلا لصدفة أو ضرورة، وعكف على إصلاح بيته وتربية أولاده، كانت هذه قصة من قصص كثيرة رواها لي، ثم أنه حدثني عن علاقة كانت تربطه بأحد الأثرياء من أقربائه من ذوى الميول الناصرية، لعله يدخر هذه العلاقة للأيام، غير أن الأيام حبلى لا تلد إلا كل غريب، تداهم سيارة مجهولة والده في يوم من تلك الأيام فتضع حداً لحياته وتلوذ بالفرار، ويسجل الحادث ضد مجهول، في الوقت الذي ازدادت فيه حدة الخلافات بين الدولة وخصومها، لا سيما الإسلاميين منهم، إلى درجة لم يعد فيها أي مجال لأي مصالحة، وأصبح القول الفصل في البلاد للسلاح، وأسرعت الأحداث وتلاحقت، وفي اليوم الذي كان يرتحل فيه إلى البيت الجديد الذي بناه على سفح من سفوح جبال الزبداني، تطل جهاته الأربعة على سهول مترامية وغابات عامرة، وحيوانات برية من أرانب وغزلان تملأ مد البصر راحة وبهجة، وصلته برقية تطلب منه المثول على عجل أمام فرع المخابرات العامة في دمشق العاصمة.

ترك زوجته تكمل نقل بقية الأثاث، وذهب مصطحباً قريبه، إلى صديق علوي برتبة مساعد في المخابرات، كي يكون واسطة خير، في كف الطلب عن قاسم، ومن هناك انطلقوا ثلاثتهم إلى فرع المخابرات العامة، وفي فرع المخابرات أعطيت بطاقة توقيف لقاسم وعاد المساعد والقريب خاليي الوفاض.

ومع اشتداد الأحداث يتم في أواخر عام 1981 ترحيل قاسم إلى سجن تدمر العسكري الرهيب، لنلتقي هناك على غير ميعاد، وليعدني إن جاء الفرج الميؤوس منه، وأنسأ الله في أعمارنا أن يستضيفني ليريني جمال الدنيا على طبيعتها في الزبداني، غير أن القنوط مما في يد البشر، كان من أبرز سماته، وألفيته يوماً يهمس لي:

- علينا أن نأكل خبزاً، ونعد أياماً، سنموت هنا جميعاً دون أن يعبأ بنا أحد، كل الأسباب المادية في تقديري تقول بذلك، لا أمل في النجاة، والملتقى عند الله..!

كنت أدرك بأن الظرف صعب، وكنت أعلم بأن زمن المعجزات قد انطوى بانقطاع وحي السماء، ومع هذا كنت أردد على مسمعه قول الشاعر:

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها                            فرجت وكنت اظنها لا تفرج

فيعلمني بأنه قول لا يمكن أن يُبنى عليه حكم شرعي!!

وحين انتظمنا التنفس الدموي ذات يوم، وقد جلسنا القرفصاء، وفرقة من عتاة الشرطة العسكرية يمرون بسياطهم على رؤوسنا، صاح أحد المجرمين الجلادين بنا:

- واحد حليوه لهون أُوْلا!

لم يقم أحد في البداية، ولما كررها، قام الأخ محمد الحاووط، ولم يكن له من حلاوة الدنيا موفور حظ، ولعله عند الله من المرضيين، فانهالوا عليه ضرباً حتى أُغمي عليه، وعدنا به إلى المهجع محمولاً، منذ ذلك الحين كلما جمعني بأبي طارق لقاء ألفيته يردد مبتسماً:

- الحمد لله على نعمة البشاعة! وما زال يرددها حتى خلته اتخذها ورداً لا ينفك يرددها كلما تذكرنا الحادثة!

كان أول ضحايا هذا المهجع شاب من شباب حماة، يدعى أحمد أبو راشد، أصيب بداء السل، وما زال يصارع المرض في الفترة التي عز فيها كل دواء، حتى رأيناه يهوي يوماً أمام أعيننا دون حراك، كان صامتاً قليل الكلام قبل أن يصاب، وازداد صمته، وقلَّ كلامه لما مرض، وما زال كذلك يتمرغ في جور السلطان إلى أن صمت وإلى الأبد، عليه رحمة الله.

ثم عرَّج المرض فحل ضيفاً ثقيلاً بكل من رضوان آغا، مأمون مغمومة، فراواتي، عصام..، وعلي خريطة من الزبداني بدمشق، وآخرين.

أياماً أخرى قليلة، ويتم فيها إخلاء سبيل السيد خالد أبو الصديق من ريف حلب، وكان رجلاً فاضلاً، حافظاً ثبتاً ثقة، وكان له الفضل الوافر على الكثير من الشباب، سيما أولئك الذين أحبوا اللغة العربية، وتذوقوا معانيها اللطيفة البليغة، برحيله طويت صفحة من الصفحات النادرة الجميلة التي كانت تزيّن بعضاً من أيامنا الباكية الحزينة، وكان هذا آخر عهدي بمن فُتحت له الأبواب إلى رحابة الدنيا طوال فترة بقائي في ذلك الكهف، كهف تدمر المظلمة جنباته، الموحشة أدواته، أيام غاية في القسوة، لا تتمناها أحيانا لجلاديك، ناهيك عن صنفان من الناس، أنت دوماً بين ظهرانيهم، إما بادلوك سلماً بلا عدوان، فهم إخوانك في الخلق، وإما تذللوا لك في المودة فهم إخوانك في الدين.

أما قاسم ططري أبو طارق ويا لهف نفسي على قاسم، فقد أصيب على حين غرة بالتهاب حاد في الأمعاء، وراح المرض يفترسه افتراساً، وما زال يذوي ويلاحق الذبول عوده، حتى آض إلى جلد على عظم، وبدت صفرة الموت تجلل جبهته، وتوقف مجبراً عن متابعة إعطاء دروس اللغة العربية، والتي كان خلف فيها أبو الصديق، درسٌ يتيم واحد، لم يزد عليه، حتى داهمه المرض.

المجرم "فيصل غانم" يجتمع بنا

ويطل سفاح تدمر الذي أطبقت جرائمه الآفاق مدير السجن فيصل غانم يوماً من الأيام علينا، وفي الباحة الثانية حيث مهجعنا أخرجونا مع بقية المهاجع المطلة على الباحة، وكان ذلك عند فترة التفقد، وكادت المفاجأة أن تأخذنا، سيما حين شرع في التحدث، وكانت المرة الأولى التي أراه فيها، مربوع القامة حليق الذقن والشارب، فيه حمرة الأوروبيين المشرئبة، صفة يتميز بها القرامطة الجدد عموماً، ولعل هذا ما يدفع إلى الشك بأنهم وافدون غرباء عن المنطقة، فهم هجين تلمح ذلك في سحنتهم البارزة المميزة، كان بديناً كبرميل نفايات امتلأ عن بكرة أبيه، وجاء حديثه خليطاً مسفاً، حاول أن يسوق فيه علينا العبط، وعلمنا منه لأول مرة بأن إسرائيل اجتاحت لبنان، وكيف أن سوريا هي الدولة العربية الوحيدة التي وقفت في وجهها، حين وقفت بقية الدول العربية وقفة المتفرجين، وراح يتساءل في لغة سوقية عن المستفيد من عمليات التخريب التي جرت في سوريا؟! وراح يسأل عن أماكن تواجد المسؤولين عن كل هذا الإجرام؟! ثم راح يجيب من تلقاء نفسه:

- إنهم عملاء يعيشون في أفخم الشقق والفنادق، على موائد أسيادهم في أوروبا، إنهم يعيشون على حساب دمكن، "عمّالهن يتنعمن في الوقت اللي انتن عم تتعزبن!!!" (يعنى أنهم يتنعمون في الوقت الذي نحن فيه نتعذب!!)، وأضاف اسم الله يحرسه!!:

- أنا خيَّك وهِنْتْ خيَّي، غصبن عنكن وعني، إشو زنبي إزا أنا انخلقت علوي وهنت سني؟ (بمعنى أنني أنا أخ لك، وأنت أخ لي، شئنا أم أبينا، ما ذنبه هو إذا كان قد وُلد علوياً، بينما نحن سنة؟!!

ثم ترك المجال لبعض الأسئلة، فجاءت خائفة مرتجفة، من سائل لتحسين نوعية الطعام وزيادة كميته، إلى سائل يرجو فتح باب الزيارات، إلى آخر يرجو تزويدنا ببعض الصحف وشيء من وسائل الإعلام، ووجهت جميعها بردود سلبية، وعدم نضوج الوقت لتحقيقها، سوى سؤال جاء من أخ لعله لم يكن بكامل قواه العقلية حين جاء رجاؤه، في زيادة فترة التنفس!! فأمر صاحب النيافة بإضافة فترة مسائية، زاد فيها شقاءنا وهمنا، وبذا لم يعد التعذيب يقتصر على فترة الصباح، بل صرنا ننتظر المساء إذا ما رحلت فترة الظهيرة بقلق مرفق بهلع زائد شديد.

قاسم في ذمة الله

لم يعد بمقدور أبو طارق قاسم ططري تناول أي شيء من الطعام، ولم يعد لديه القوة الكافية للوقوف على قدميه، وبدأ يزور دورة المياه محمولاً، ونضى عنه ثوب اللحم والعضل، فلم يعد له منهما أي نصيب، وصار إلى نحولة شديدة، تنتزع من نحولته التي جُبل عليها، حتى وكأنني خلته واقفاً على ساقين من القصب الفارغ في آخر مرة رأيته فيها مسنوداً بين اثنين من الشباب!! وكانت منامتي إلى جواره طوال وجودي معه في ذلك المهجع، لا أفارقه، إلى أن ألمّ به المرض فافترقنا لأيام، ثم عدت فجاورته.

وكان مساءً، جاء كالعشاء الرباني الأخير، قام فيه كلاً من الدكتور مصطفى عثمان والدكتور أبو خالد بزيارة قاسم ططري، كانا يرجوانه في تناول شيء من الطعام، ولم يكن فيه سوى عينيه الذابلتان تتحركان، فأشار إلى الماء، محاولاً تحريك شفتيه، اللتان ما عادتا تقويان على الكلام، ففهم من كان قريباً أنه يسأل عن ترطيب شفتيه كي يقول شيئاً، ففعلوا، كان الليل قد رحلت بواكيره، وسرت برودة جو الصحراء في المكان، هكذا هي الصحراء دائماً، قيظ لاهب في النهار، وقرٌّ قارص في الليل، وزادت رطوبة المهجع المغلق المكتظ بالبشر عفونة فوق البرودة، تحلقنا حول الرجل وكلنا له محب، لو أمكن لنا افتداءه بالمهج لفعلنا، بدا هرماً قد تضاعفت سنين عمره، كومة من عظام اجتمعت في هيكل عظمي، لو طُلب لأحد عدَّ عظام قفصه الصدري لعدها دون أن يخطئ منها واحدة، وأخذت بعض الحاضرين عبرة، في الوقت الذي راح أبو طارق يرسل آخر سهام القول عنده، حديثاً كما لو أنه يملي عليه من عالم آخر، حديثاً لم يعد من أحاديث أهل الأرض، كما لو أنه الفارس على وشك أن يترجل:

 - جزى الله من أحسن إليَّ خيراً، فقد زدتكم بوضعي المتأزم الميئوس منه شقاء إلى شقائكم، ما فات فات، وما هو آت لا بد أنه آت، غداً تستريحون مني، رحلتكم معي صبر ساعة، ثم هي راحة إلى قيام الساعة، اليوم أقضيه بلا طعام، بعدها أنشط على قدميّ، أصنع طعامي بيدي، ما أظن أن أحداً منكم سرت فيه لذته، لحظات أراها رأي العين أتناول بعدها ما لذ وطاب من كل طعام، من أدرك أن يسامح فليفعل، فأنا اليوم بينكم وغداً عبرة لكم، الله وكيلي ووكيلكم إلى يوم الدين.

ثم راح في غيبوبة، استيقظ بعدها استيقاظة مرتحل تذكر شيئاً نسيه، عاد ليأخذه على عجل وقد أزف الرحيل.

كان ابن بلدته محمود مويل ما زال جالساً عند رأسه، راح أبو طارق يوصي بأولاده طارق وظلال ووائل خيراً، وكنت ما زلت أسمع همسه الذي راح يرسل آخر خيوطه، ولا أدري كيف خطفني النوم فنمت، وما أدري كم مضى عليّ من الوقت نائماً إلى أن أيقظني محمود وهو ينتحب في صوت مكتوم، ليلقي عليّ بالخبر، وكأنه الصاعقة تشعب قلبي، مع أنني كنت أنتظره:

- مات قاسم!!

أحسست بموته كما لو أن أحزان الأرض اجتمعت عليّ لتثأر مني، وصرت كمن راح بعضه يودع بعضه الآخر، وحرت فيما أفعل، غير أنني كشفت الغطاء عن وجهه لأطبع على جبينه الوضاء قبلةً سبقتها دمعةٌ حرى، لعلها ترافقه إلى مثواه الأخير إلى أن يجمعنا عند الله لقاء.. رحم الله قاسم، كلما لاح من تلك الديار بارق تذكرت قاسم، وإخوة آخرين، عزائي فيهم قول الشاعر: "وعند الله تجتمع الخصوم".

بوادر فتنة

كان لأجواء الهدوء النسبي الذي خيم علينا لأشهر خلناها مقصوصة من زمن المعاناة إلى زمن المحاباة والمداجاة، كان لهذه الأيام وقع السهام تتناوشني، وكلما تناوشتني تكسرت النصال على النصال، لقد اجتاحت الفتنة التي استيقظت بعد نوم طويل اجتياحَ الأوبئة، وكانت حين أطلت برأسها لا تبشر بخير، فقد انقسم الناس إلى فريقين متباينين، كلٌ يدّعي الحق لنفسه، وكانت البدايات عاصفة، نقاشات حادة، بين فريق لا يؤمن بالعنف سبيلاً إلى التغيير، ينتمي أهله إلى أصحاب الحلول السياسية، وطاولة الحوار المستديرة، التي تجنّب البلاد والعباد هذه الدماء الزكية التي سالت في غير وجه حق، وكانوا يصوبون أصابع اتهامهم إلى الفريق الآخر، حيث أعماله التي يمارسها، إن دلت على شيء فإنما تدل على رعونة صبيانية، لم يحالفها أي نضوج سياسي، ولم تكن قائمة على دراسة فقه الواقع وإرهاصاته التي تدل على استحالة التغيير بهذه الطريقة، وفي هذا الزمن الصعب بالذات، وكانوا يسوقون أدلة ارتباط القائمين على العمل العسكري بعلاقات مشبوهة مع أنظمة لا تدين بالولاء إلى رب الأرض والسماء، دليلها معسكرات التدريب التي فتحتها هذه الأنظمة لأجنحة العمل العسكري، وزاد البعض قائلاً:

- إن دماء الذين يخرجون إلى حبال المشانق، سوف تبقى معلقة برقاب أولئك الذين خططوا ودعموا مع سبق الإصرار والترصد هذا العمل، وعلى رأسهم الشيخ سعيد حوَا، وعدنان سعد الدين..!! وكان على رأس هذه المجموعة أبناء العاصمة دمشق.

أما الطرف الآخر، فقد اتهم هذا الجناح بالجبن والتخاذل والخنوع لواقع لم يكن من الممكن تغييره بغير السلاح، وما الويلات التي اجتاحت البلاد والعباد إلا بسبب صمتهم، واعتقادهم الدائم والمستمر بأن المنضدة المستديرة، منضدة المفاوضات كفيلة بإعادة الحق إلى نصابه، والمغتصب إلى أصحابه، وساقوا أدلتهم الدامغة كما كانوا يعتقدون، في تلك المشاهدات المخزية المحزنة للدولة وهي تسوق أصحاب هذا الجناح سوق النعاج إلى المعتقلات دون ذنب ارتكبوه، أو جرم اجترحوه، إضافةً إلى خروجهم عن خط الجماعة المرسوم، مع التأكيد على أن الدولة تسيطر سيطرة تامة على الجيش وقياداته وقطاعاته، وأن الادعاء بإمكانية الاعتماد على الجيش في التغيير ما زالت قائمة، هو ادعاء باطل، كل القرائن تدلل على أن لا أساس له من الصحة، وليس هنالك من سبيل سوى حمل السلاح إلى إنهاء الباطل وإقامة دولة الحق، وأن دماء من ذهبوا إلى أعواد المشانق معلقة في عنق قيادة دمشق لخذلانها لهم، وعلى رأسها عصام العطار..!!

رحت أرثي لما إلنا إليه من هذا الانحدار المسف إلى هاوية من التردي، وراح يطاردني سؤال في إلحاح المحق، هل هؤلاء على المستوى الكافي لاستلام أي مسؤولية كانت؟! ولعلني في لحظة ضيق جاثم، كنت أجيب، لا والذي شق من واحدة خمساً، ليس بالمقدور لهم استلام أي مسؤولية، حتى لو كانت من باب الإمارة ولو على الحجارة، فكيف بإمارة البلاد طولاً وعرضاً مع العباد!! وقصارى القول نحن لا نصلح لشيء، والأجدى أن نبقى بعيدين حتى ينصلح منا أي شيء، أي والله أي شيء، إذا ما عزَّ علينا إصلاح كل شيء!!

فتحت الزيارات لبعض أبناء الذوات من القادرين على بذل الغالي والنفيس، وشرع مدير السجن وبعض أعوانه في عقد الصفقات، وسارت السرقات في وضح النهار دون رقيب أو عتيد، وظهرت شخصية أبو عوض، أحد سجناء المهجع رقم "26"، ببنيته المتينة، وجثته الضخمة، وطوله الفارع، وشنبه الأسود الذي افترش ظهر شفته العليا، ظهر أبو عوض، رجلاً للمهمات، وصار اليد الطولى - لمساعد انضباط السجن المدعو أبو أمجد- الممتدة لسلب الناس كل ما يملكون، صار أبو عوض يمر على المهاجع مروجاً لبيع الشاي الذي كان يُباع في علبة تتسع لنصف لتر، مقابل 4 ليرات سورية، وكان هذا المشروع الذي بدأ أواخر عام 1982 قد راح يتطور في استلام أبو عوض للفاتورة، التي شرعنا من خلالها في استلام مخلفات الأسواق في تدمر من الخضراوات، وسمح لنا بعد قرابة العامين من رؤية البندورة والخيار والخس والثوم والبصل الأخضر لأول مرة، وكانت تردنا رديئة، وبأسعار باهظة من غير أن يُسمح لنا مناقشة الحساب، ثم سُمح لنا بأن نتبادل الشاي عبر المهاجع، فصارت وسيلة للتواصل، وصار من الممكن للناس أن يتلمسوا من هذا الطريق أخبار بعضهم البعض، ودفع من ملك لاحقاً خمسمئة ليرة لاستجلاب أخ أو ابن من المهاجع الأخرى، أو الانتقال إليها، ثم راح أبو عوض يمر علينا مع الأيام ليبيعنا بعض الأشياء من هدايا وملابس مسروقة مما تستبقيه إدارة السجن عندها بحجة التفتيش بعد كل زيارة، وهذا ما لاحظه بعض الشباب، كأن يستلم هذا شخص بعد الزيارة مباشرة بنطال بيجاما، ثم بعد أيام يأتي أبو عوض محملاً ببقية الأشياء، كي نجبر على شرائها، على أنها فاتورة من المشتريات التي كنا بزعمه قد حجزناها، ومن المضحك المبكى أن يكتشف الشخص نفسه قميص البيجاما بين ما تم شراؤه في الفاتورة الجديدة!!

زادت حدة الجنون عند المهندس صاحب شهادة الماجستير خريج جامعة دريسدن بألمانيا أبو الوليد، وصار بعض الشباب يجدون في أحاديثه التي تبعث على الأسى شيئاً من التسلية، لا سيما حين يشرع في التحدث عن الروح واتصاله بالملائكة، كذلك ساءت أحوال زهير يوسف، وتحوّل الوضع عنده إلى نوع من أنواع الهستيريا الحادة، وصار إلى استعمال يده في البطش بإخوانه من غير سبب، لا يلبث أن يشرع في الجري المتواصل مدعياً أن بإمكانه اختراق الحدود والسدود، وهذا ما كان يؤدي إلى اصطدامه المتواصل بالجدران أثناء الجري، فهو دوماً مشجوج الرأس متورم الأطراف، وبعد قرابة الشهرين من سقوطه، لحق به طالب طب من أبناء تل أمنين من ضواحي دمشق، يُدعى غالب غويش، كانت الهستيريا عنده تتحول إلى صراخ متواصل لا ينقطع، وإذا ما جرّب الوقوف على قدميه، لا يلبث أن يختل توازنه فيسقط!!

عادت الفتنة فأطلت من جديد، أشد عوداً وأقسى قداً وقديداً، وكان الجناحان المتصارعان في هذه المرة قد أخذا شكلا دينياً فقهياً سَمِّه ما شئت، الطرف الأول زعم لنفسه اسم أهل السنة والجماعة، وما عداهم خارجين عن الملة، وزعم الطرف الآخر وكانوا الأقل عدداً، بأنهم سلفيون على خطى السلف الصالح من هذه الأمة، وكان مروان حسين يومها قد آلت إليه رئاسة المهجع، وما كان لينجو من مر الاتهام بالانحياز إلى طرف من الأطراف، وبدت تعلو موجة من الاحتجاجات تطالبه بالتخلي عن رئاسة "الجمهورية"!! وأقذع الخصم في توجيه الاتهام بأنه لا يستشيرهم في تسيير أمور المهجع، وبدأ حب التزعم يطغى من جديد، مما اضطر الرجل إلى منع جميع النشاطات الثقافية في المهجع، وعمل على منع التجمعات، وهذا ما جعلنا نعيش جواً من الطوارئ، وظهرت بعض المشكلات الفردية التي غالباً ما كانت تنتهي إلى الضرب، واستقال معاون رئيس المهجع المحكوم عليه بالإعدام، مؤتمن ترمينيني أحد شباب حلب، وكان رئيساً للمهجع رقم "34" قبل أن ننتقل منه إلى المهجع المزدوج، وإني لأشهد هنا والمقام مقام المترجي من الله أن يجزل لمؤتمن الأجر والثواب، لما قدم لنا من تضحيات على صغر سنه أمام عتاة الشرطة المجرمين، يوم كان رئيساً للمهجع ثم نائباً لرئيس المهجع، ولعل ما لم يكن ليقبل بالمطلق، مطالبة بعض المقربين من رئيس المهجع بإعطائه البيعة على أنه الأمير، وكنت من أشد المعارضين لهذه الفكرة الخطيرة وراء القضبان، ثم عاد مروان ذات يوم ليعلن عن اجتماع قبل التفقد لأفراد المهجع، وليؤكد على الحضور تمسكه بأمانة قيادة المهجع، وأنه لن يسمح لأحد بأن يتلاعب في أعصاب الناس، ومع أنني كنت أخالفه في أشياء كثيرة إلا أنني أقول وللإنصاف هنا بأنه كان أهلاً لكل ما قال، ولا أعتقد اليوم جازماً بأنه كان بين الحضور من هو في مثل جرأته وشجاعته، ووقوفه كالطود الشامخ أمام الشرطة لا تحركه الأعاصير، وفي هذا الاجتماع تم اختيار معاون جديد له من أبناء ريف حماة أستاذ أدب إنجليزي يدعى محمد المصري رحمه الله.

من أشهر الذين تركوا بصماتهم على حياة الناس، في ذلك المهجع، وكنت قد نوهت لهما عرضاً، الدكتور صالح خوجا، أبو خالد، وهو من أكراد سوريا، وكانت قد أُسندت إليه المسؤولية الصحية للمهجع، كان مصاباً في عموده الفقري لشدة ما تعرض للتعذيب، وكان قد صدر بحقه حكماً بالإعدام ظل ينتظر تنفيذه طويلاً وهو صابر محتسب، محتفظاً لذلك اليوم بجلابية ناصعة البياض، كان يسارع إلى ارتدائها كلما دوّت في الباحات البعيدة قوائم الإعدامات، ولقد تُلي اسمه أكثر من مرة، لكنهم عادوا وعدلوا عن التنفيذ لأسباب لم يكن هو شخصياً ليعرفها، ولقد افترقنا وما زالت في أذني طرفة رواها لي عن صدر شبابه، يوم كان طالباً في الثانوية العامة، وقد طلب إليهم المعلم أن يكتبوا في موضوع التعبير بعض الخواطر حول بيت من الشعر يقول فيه صاحبه:

قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل

 

بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ

ولما كان الدكتور صالح كردياً، وما كان ذلك ليعيبه، فقد كان يومها لا يجيد اللغة العربية، ظن أن الشاعر يتغزل بمدينة سورية اسمها النبك، فراح يوجه جل اهتمامه في الكتابة عن المدينة بتاريخها وأهم معالمها، يومها ضحكت ملءَ القلب الذي ما عاد للضحك فيه موطن سكن، ولقد افترقنا وما زلت أذكره متوسداً الصبر، عينه على غدٍ لا يدري أيكون فيه من الأحياء أم ممن هم عند الله يرزقون، حال الجمع الغفير من المعذبين المنتظرين!!

وأما الشخصية، فكانت لعبقري بانياس كما كان يسميه محبوه، الدكتور مصطفى عثمان، صاحب الاختراعات المذهلة من المواد البسيطة المتاحة على شحتها، والظروف الصعبة شبه المستحيلة، والتى أحالها إلى ظروف ممكنة لمعالجة كثير من الحالات، ولعل أحداً ممن عايشنا تلك الظروف الصعبة لا ينسى المحامي أبو معتز، عزت طيارة أحد أبناء حمص، لقد شارف الرجل على الموت، وذلك حين أصيب بالتهاب حاد في المثانة، أفضى إلى تورم ما أدى إلى انسداد المسالك البولية، ولم يكن يومها من سبيل إلى أي علاج، فقد اشتعلت أحداث حماة، وطال الإجرام كل مناحي أيامنا الصعبة، وكان الدواء بطبيعة الحال ممنوعاً، عاش عزت طيارة أياما شديدة، آلام لا تطيقها الجبال، كما كان يقول، إلى أن تفتقت عبقرية الدكتور مصطفى لصنع قسطرة من أغلفة علب معجون الأسنان، وبذا كان الواسطة التي أجرى الله بها على يديه العلاج، بعد أن كان اليأس قد أوشك أن يسد كل منافذ الحياة، وجلس الرجل يسأل الناس المسامحة، مستقبلاً القبلة، وراح يرجو من حضره أن يغسلوه بعد موته، ولعل من الطرائف التي لا تنسى لأبي معتز، تلك التي عايشناها حين جاء أحد الرقباء العسكريين يسأل عن حاله، ويطلب إلينا إعلامه متى ما مات!! كي يأتوا ليأخذوه، وحين أحس أبو معتز بوجود الرقيب صاح من وسط الرماد والألم:

- أنا لا أخاف الموت، أسألك يا حضرة الرقيب باسم العروبة أن تطلقوا عليّ الرصاص كي أستريح من هذه الآلام التي لا تحتمل!

ويرد الرقيب ساخراً:

-ولم تسألني بشيء أنت منه براء؟!

ويرد أبو معتز وقد فهم ما عني الرقيب، كما لو أن له من كنيته نصيب:

- بل أنا عربي من صلب عربي!

 ويرد الجلاد لم تفارقه السخرية بعد:

- لو كنت كما تدعي، لما كنت في هذا المكان!

ورغم الألم في حضرة مَن لا يعطف أو يرحم يرد أبو معتز:

- لم آت بمحض إرادتي، لقد كان أبنائي سبباً في استقدامي، فأنا ناصري حتى النخاع..!!

قاطعه الجلاد:

- أنت تتحمل سوء تربيتهم!!

- لقد قمت بتربيتهم حتى السادسة من أعمارهم، ثم بعثتهم إلى مدارس الدولة، وهناك تولت الدولة إكمال التعليم والتربية، هي التي نظمتهم في صفوف الإخوان المسلمين دون علمي أو استشارتي!!

عندها استشاط الرقيب فيصل غيظاً، وأقسم على تعذيبه حتى الموت على هذه الإجابة، إن لم يتولَّ المرض هذه المهمة!!

ويشاء الله أن يتعافى الرجل، فتدب فيه الحياة، بعد أن نضى عن نفسه ثوب الألم، وتشاء الأقدار أن يتصل بمساعد انضباط السجن الجديد، وكان محامياً بارعاً يجيد الحديث، لبقاً في كل ما يقول، من خلال ذلك صار بمقدوره مع الأيام أن يدرأ عنا بعض العذاب!!

مطلع عام 1983 تم توزيع المهجع رقم "25"، ويدخلوا إلينا قرابة عشرين نفراً، كان من بينهم أب وابنه، علمنا بأن له ابن آخر قد مضوا به إلى أحد المهاجع البعيدة، وبعد بحث وتحري، ودفع المبلغ المعلوم تم استجلاب الابن، لنُفاجأ بأنه قد أصيب أيضاً بالجنون، كان الابن يُدعى سعيد غانم، علمت بأنه تعرض لتعذيب فاق طاقة البشر، لم يبقَ له من مساحة عقله السوي الذي حباه الله إياه، إلا ما ورَّثه إياه الطغاة من الجنون، وبذا اكتملت عندنا ثالثة الأثافي، إضافة إلى ساعات من الصرع التي كانت تجتاح اثنين من الشباب الآخرين!!

لم تكد الأشهر المعدودة على الأصابع من وقف المحاكم والإعدامات أن تمضي، حتى عادت لتستأنف من جديد، ولا زلت أذكر ذلك الليل الموغل في الكآبة، والذي خرج فيه عند غبش الفجر اثنان من خيرة الشباب، والجميع والله أخيار، خرج فيه ماهر العطار من حلب، قد شاهدته يكرر غسل الجنابة بالماء البارد في اليوم البارد، لأنه كما أخبرني رحمه الله نسي في المرة الأولى أن يتمضمض، وقد بَقِيتُ لأيام وليالي أرقب شبابه الغض الندي، سانداً ظهره إلى الحائط، يصلي وهو يتلو كتاب الله، يطوح النعاس رأسه فيسنده، لا يفتر عن القيام ليلاً، ولا يتردد عن الأضماء والجوع نهاراً إلى أن ساقوه قبيل الفجر بقليل، وهو يهم إلى تناول سحوره، الذي كان يدخره من طعام العشاء، أبقاه على حاله، لصاحب النصيب من بعده. أما الآخر فكان صاحب الظل الخفيف، والقلب الطيب، أستاذ اللغة الإنجليزية، عبد الرحمن خوجا من حلب، لقد كانت الصدمة أفدح من أن نحتملها، ولو رأيتنا قد افترشنا الأرض في صمت القبور بين باكٍ وشاكٍ، حالنا يصعب على الكافر، قول إخوتنا المصريين، لا تدري له من وصف، أنحن من الثكالى فننسب إليهن، أم من اليتامى فنلحق بهم، أم من المفجوعين فيُرثى لنا؟ لقد كنا كل ذلك الواقع المر الكئيب، دون أن نجد من يلتفت إلينا بيد حانية تربت على أكتافنا، أو تداوي شيئاً من هذه الجراح المفتوحة النازفة أبداً!

في الدفعة التي سيقت إلى المحكمة بعد تلك الهدنة، كان قرابة العشرين قد خرجوا من مهجعنا، وكان جلهم من أبناء حماة، وقد حُكموا جميعاً بالإعدام شنقاً حتى الموت.

* * *

لما صرت أسيراً لأحزان قلبي، ولما لم يعد للأيام من طعم غير طعم الابتلاء مراً علقماً، والآه التي هي في كل اللغات مدلولها واحد، كان لا بد من الوقوف على ذكر بعض الأعزاء، والبعض فقط، وكل الذين التقيت هناك عزيز، غير أن مساحة الذاكرة التالفة لم يعد في وسعها تذكر المزيد، وعلى علاتها تبقى هنالك أحداثاً وأشخاصاً محفورة ذكراهم على شغاف القلب لا تبلى، تماماً كالحفر على الحجر، من هؤلاء جمال خراط، ذلك الفتى الناعم المترف، صاحب الشعر الكث الملبد، عَرَفَتُه حواري وأزقة حلب الشهباء ابناً باراً، مربوع القامة، حلو الشمائل، يرش القول على دفعات، هكذا كان، زدنا اقتراباً بعد رحيل قاسم ططري، والإفراج عن منذر طاهر، والشيخ خالد أبو الصديق، وجمعتنا سفرة طعام واحدة، ومجموعة غسل الملابس، وجلسات وانفتاح، وقصص كثيرة، كنا نتجاذب أطرافها، حدثني عن غرامه الحيي الخجول، عن دراسته، وعن عائلته، عن الخطيبة التي كانت ما تزال في انتظاره، وجاءته الزيارة الأولى والأخيرة، وكان من بين زواره: أمه وأبوه، وكلاهما به رؤوف مشفق، إضافة إلى شقيقه عبد المنعم، وأخته القادمة من فرنسا مع زوجها، وصاحبة الحظ العاثر خطيبته، وكان يومها قد صدر بحقه حكم بالإعدام، فاستغل فرصة مواتية كي يهمس لأخيه بالخبر دون أن يثير انتباه أحد.

عاد محملاً بالهدايا والدراهم، لينثرها جميعاً بين يدي، وما حاجتي بالدراهم؟ قبضت يدي دونها معتذراً، وأنا أرقب شبابه الذي عما قليل سيدفن تحت ثرى وادٍ من أودية تدمر، أو سفح يسف عليه من تراب الصحراء أكواماً وكثباناً إلى أن يلقى الله، فأفر من أمامه كي لا يرى دموعاً في العين حرى، وفي القلب غصة من الجمرات والحسرات.

ما هي إلا برهة من زمن هادر ماضٍ لا يحابي ولا يداري، تتلاحق فيه جرعات من سموم ناقعات، نتجرعها لا طاقة لنا بها، وتلحقنا قائمة إعدامات جديدة، لتخطف منا أعز ما نملك من الإخوة، مروان باشات، وكان رحمه الله يشرف بنفسه على مداواة المرضى وإطعامهم، لا تراه إلا مبتسماً، تخال روح الطيبة والدعابة التي اشتهر بها أهل حمص قد اجتمعت فيه ولديه، وأما الثاني فكان أمير ناصيف، أيضاً من حمص، كان يشرف على غسل ملابس العجزة والمرضى، بالإضافة إلى عمله في سخرة توزيع الطعام، وغسل الأواني، وكان أشد الناس حزناً إلى حد الجزع، الدكتور عمر تاجا طبيب الأسنان، لوشائج محبة ومودة عارمة كانت تربطه بمروان، كنا كمن يقف على رمال متحركة، كلما سرنا إلى الأمام بحثاً عن طوق نجاة ازددنا في الأعماق غوصاً، ولم أرَ طوال مكثي هنا من أهل المهجع مجتمعين حزناً يوازي الحزن الذي حزنوه على مروان وأمير، لقد بكى الجميع، بكاؤهم على شيء ملكوه بشغف، ثم في ذروة حاجتهم إليه افتقدوه، دون أي أمل في أن يستعيدوه.

ثم جاء رحيل جديد، وقفنا في صف طويل، في رتل ثنائي ممسكاً بيد جمال خراط، غير أن خبث المساعد حال دون بقائنا مجتمعين، حين راح ينتقي الأفراد انتقاءً، فيمضى بجمال إلى المهجع رقم "29" في الباحة السابعة، وأما أنا فيكون نصيبي أن يذهبوا بي إلى المهجع رقم "28" في الباحة السادسة، وهكذا هو الحال هنا، أحبب من شئت فإنك مفارقه، وعش ما شئت فإنك من غير شك ميت!!

المهجع رقم "28"

ما أن دلفنا بوابة المهجع "28" حتى هب الجميع كالعادة للاستقبال والتعرف، حياني رئيس المهجع يومذاك الدكتور قاسم موسى طبيب أنف وأذن وحنجرة، وهو من مواليد وأهالي تدمر المدينة، غير أنه يسكن بدمشق بحكم ممارسة المهنة هناك، وأحسن وفادتي ووفادة كل من دخل برفقتي.

يا لمحاسن الأقدار حين تَحْبِكُ خيوطها، وتنسج وشائجها بإحكام، ومع أنني كنت أحيا حياة المرتحل من مأتم إلى آخر، لطم ونوح وبكاء، ولولا التُقى لطال دق الصدور وشق الجيوب، فكل خبر قد يكون اعتيادياً في ظروف سوية، قد يتفتق لك هنا على أنه نوع من أنواع المستحيلات، وضرباً من ضروب المعجزات، في هذه الظروف يتقدم مني شاب وسيم، كادت تضيع مني صورته في ازدحام صور كثيرة التقيتها على مدارٍ نافت سنواته عن الثلاث، ومع أنه أخذني في حضنه معانقاً، إلا أنني عجزت عن تذكره للوهلة الأولى، ثم عاد ليذكرني بأنه موفق الشيخ إبراهيم، آه يا صاحبي، كم تغيّر، وكم فعلت به ظروف الاعتقال، يا للأقدار وفعلها بنا!!

ثم جاء ممدوح درويش أحد أبناء إدلب وعانقني، كثيرون هنا تعرفوا إلي، لكنني للأسف لم أستطع التعرف على أحد، لقد تغيرت ملامحهم جميعاً وتبدلت، باستثناء يوسف زين العابدين المحامي، ورياض صالحة، وياسين ياسين، وأبو عبد الله يوزباشي، وجميعهم من أبناء الساحل، ويا "للأريحية" التي قابلوني بها، كلهم يتسابق كي أكون فرداً في مجموعة الطعام الخاصة بهم.

كان في دفعتي تلك كل من المهندس محمد أديب قطب، وشيخ القراء حسين سخنيه، كليهما من دمشق، عبد الكريم محمد الصمل، عبد الرؤوف أبو حمرة، كليهما من تل منين بدمشق، محمود عاشور، وربيع دبا، كليهما من حلب، وكان محمود قد تعرض لعذاب عنيف مكثف، من بين الأساليب التي مورست معه، إجباره الجلوس على عنق زجاج مكسور، مما تسبب في تهتك الشرج الذي ظل يعاني منه إلى أن انقطعت أخباره عني، كذلك كان معنا أبو السعيد كمال سعيد حورية، أحمد سرجاوي، كلاهما من محافظة إدلب، والحدث وائل بريدي، ومحمد أبو نبوت، وكليهما من درعا، ومحمود عثمان، وهيثم الخطيب، بالإضافة إلى سامر روحي صنوفه، آخر الذين أسعفتني الذاكرة في تذكر أسمائهم.

في زيارة لم تكن متوقعة تلقاها كمال حورية، ظهيرة يوم من الأيام، استأذن الرقيب المرافق لإخبار أهله أثناء الزيارة بالحكم الذي صدر بحقه، لم يسمح له بذلك، قاموا بإنهاء الزيارة على عجل، ليقتاده الكفرة الفجرة بعد ذلك الى الدولاب، لقد استمروا في تجريعه ألواناً من العذاب إلى أن فقد سمعه حين جيء به محمولاً إلينا، أنكره الناس للوهلة الأولى، فلم يعرفه أحد لشدة تورمه، وكثرة ما اجتمع عليه من القروح والجروح، وما هي إلا أيام وتبدأ الجروح والقروح في الالتئام، غير أن حاسة السمع بقيت غائبة، وما زاد من مأساته هو ضياع عقله، وانضمامه إلى فريق من سقط عنهم التكليف، ورُفع عنهم القلم، كانت مصيبتي فيه كبيرة، وصدمتي فيه عظيمة، سيما وأنا أعلم ما كان له من همة ورجاحة عقل، تبخرت إرضاءً لعهر سياسي مارسته طغمة فئوية عنصرية، استمرأت ظلم العباد بعد استيلائها على كل مقدرات البلاد!!

تم سن قانون جديد، يبيح لإدارة السجن اقتطاع ما مقداره 20% من المبلغ الذي يتسلمه أي سجين من ذويه وأقربائه، بالإضافة إلى مصادرة قسم كبير من الأطعمة والألبسة، كانت المبالغ تُسلم بواسطة رؤساء المهاجع لأبي عوض سمسار الحروب آنذاك، وبدوره يقوم بتسليمها إلى مساعد انضباط السجن كما كان يزعم!!

ويحل بنا شتاء قارص، ونُبتلى بأحد الرقباء الأشداء الخبثاء سرور العجوز، كان يأتي مع الليل خلسة متلصلصاً، ومن أعالي النافذة في مهجعنا الجديد، كان يمارس علينا شيفونية ساداتية ظالمة موغلة في القهر، صاح بنا مرة في نزوة من نزواته:

- الكل منبطحاً أُوْلا.. هنت وإياه!

امتثلنا مذعنين، ثم صاح المخنث بأحد الشباب:

- واقفاً أُوْلا.. روح لعند أبو البيجاما الحمرا!

ثم تابع اللئيم:

 - نزل بيجامته أُوْلا، ابدأ في لحس مؤخرته، يا أخو الـ..!!

ثم لم تزل للأقدار جولات من البلاء والابتلاء، وذلك حين اندفعت إلى الدنيا حكاية مرض رئيس العصابة الذي شارف فيها على الهلاك، واختفائه عن مسرح الأحداث، وراح الناس يلتقطون الأخبار بشغف ولهفة، لعل ما لم يتمكن المعارضون من تحقيقه بالقوة، أن يتم تحقيقه بفعل القدر، وصادف هذه الفترة من الترقب، توزيع نزلاء المهجع رقم "30"، ليدخلوا علينا دفعة من المدعومين كما كان يطلق عليهم، وكان بعضهم مزوداً بجهاز راديو ترانزستور صغير، يَسْمَع وممنوع عليه أن يُسمع أياً كان، ومن أجل الإبقاء على هذه السرية، كانوا يزودونهم بسماعة صغيرة تزرع في الأذن، غير أن للقلوب خطاً آخر غير كل الخطوط التي يخطها البشر، ومن هنا قامت بيني وبين بعضهم علاقات طيبة، تجاوزتها إلى الثقة التي راحوا من خلالها يطلعونني على بعض الأخبار، التي صارت مدعاة لجلب المزيد من المشاكل التي كنت في غنىً عنها، لا سيما حين يأتيني سؤالاً من هؤلاء البائسين:

- نورنا الله ينور عليك!!

حين كنت أنفي علمي بأي جديد، كانت تلوكني الألسن، حتى أن أحدهم فاض به الحال يوماً، فألفيته من القهر الذي أخذ بمجامع صدره يصرخ بي من دون مقدمات:

- أنت جبان، أنت لا تقول الصدق، أنت تعرف الكثير، احكم القيد على كل الأخبار، تكتم عليها جيداً، سوف تنفجر بك يوماً، وستكون أنت أول وقودها!!

كنت أدرك تماماً ما تعني أنات الجوى تلك داخل مراجل هؤلاء البائسين المحرومين وأنا منهم، لذا لم أعلق ولم أرد، واكتفيت بالتبسم، لقد كنت أفهم يقيناً ماذا كان يعنى انتظار الناس على الأمل، الانتظار الذي بدا قاسياً مريراً، وسرت في المهجع إشاعة قوية تفيد بأن رئيس العصابة قد نفق كما تنفق الدواب، وأنه رهن التحفظ عليه في البراد، أي في ثلاجة الموتى، بانتظار إتمام مراسم التشييع والدفن، وراح الجميع يبتهل ويستغرق في الدعاء، وراح الأمل يكبر، لكن الانتظار طال، والخبر المنشود لم يَسُقْهُ أيٌ كان، وما بعث على الذهول، وزاد في المأساة، هو تكثيف المحاكم ووجبات الإعدام معاً، كما لو أنهم كانوا على سباق مع الزمن!!

عودة الإعدامات

لقد جاءت وجبة الإعدام في تلك الفترة كبيرة، وكاد مردودها علينا أن يكون ماحقاً. من الذين سيقوا فيها إلى الموت الشاب المهذب الذي أصابهم يوم كان طليقاً بالهذيان، لشدة بأسه وجرأته، محمد الذهبي وكان طالباً من أبناء دمشق، غادرنا كندى الصباح مبتسماً، كتلك الابتسامة التي رأيته عليها في أول يوم التقيته، كما لو أنها ولدت معه، فكانت سجيته التي رحلت معه.

أما الحدث وائل بريدي من أبناء درعا، فيا لهف أم وائل على وائل، يوم قدموا لاعتقاله لم يكن عذار شعره قد خط في خده المياس، وبحث زوار الفجر بين الأطفال عن بالغ راشد يسوقونه للاعتقال، فلما لم يجدوا إلا أطفالاً قد روعوا براءة طفولتهم، طلبوا من الأب أن يرافقهم كرهينة، عندها التفت الأب الفجوع في عفوية منادياً على وائل:

- يا وائل شد حيلك، أنت رجل، انتبه لإخوتك جيداً حتى أعود!!

ما أن سمعوا اسم وائل، حتى تركوا الأب وأقبلوا يسألونه عن وائل:

- أين هو؟!

أسقط في يد الوالد من حيث لا يدري، وحين أشار الأب إلى الطفل البطل وائل، زعموا أنه هو المطلوب، فاقتادوه معهم.

حين نادوا عليه إلى الإعدام خلع ثيابه، وبقي في السروال الداخلي إلى ما دون الركبة، وكان الجو بارداً ممطراً، فنحن في فصل الشتاء، وصاح به الجلاد:

- البس ملابسك أُوْلا، ألا تخاف البرد، الجو بارد!

فأجاب رحمه الله:

- أنا متعود على البرد!!

فتذكرت قول الله تعالى:

﴿و جزاهم بما صبروا جنة و حريرا، متكئين فيها علىالارائك لا يرون فيها شمسا و لا زمهريرا ﴾ [الإنسان: 12، 13].

اللهم أوفي وائل وإخوانه ما وعدت المؤمنين، وألحقني بهم في الصالحين.

وممن خرج يومها الحدثان الأخوان عبد العزيز وأسامة العطار، كليهما من حلب، وكان أبوهما حاضراً قد جاوز الستين، يقبل هذا ويشم هذا، ونحن واقفون كالبُلَهَاء، قد عقدت الفاجعة ألسنتنا، لا ندري ما نفعل أو نقول، غير أن عبد العزيز التفت إلى جمال عبيد أحد أبناء حلب، ليوصيه بوالده خيراً، ما كنت أدري سراً لهذه الابتسامات التي كانت تعلو محياهم، مع أنهم كانوا يبصرون الدموع تترقق في عيني أبيهم الذي يودعونه إلى أن لا تلاقيا، غير أن الأمل معقود على لقاء في جنة عرضها كعرض السماوات والأرض.

كذلك خرج الطالب الدمشقي رضوان آغا، ومحمد فرحات، ووفاء أزرق، كلاهما طلبة من أبناء حلب، وكانت تربطني بوفاء علاقة متينة، وحين حُكم عليه بالإعدام، بدأت أخفف عن قلبي لوعة الفراق باجتناب إطالة الجلوس إليه، وصبيحة يوم خروجه إلى الموت، سألته المسامحة! فرد معاتباً:

- جميل أن تذكرتني أخيراً، سامحك الله!!

لعل في خروج فدائي المهجع الأول حسان مرعي - كان يعمل حرفياً، وهو من أبناء حلب- عذراً لكل الذين بكوه بحرقة من المقعدين والعاجزين والخائفين ممن كانوا يعلمونهم ليلاً، حتى إذا ما أطل النهار، وجاء البغاة يسألون عن أحدهم، سارع حسان إلى ارتداء ملابس المطلوب وخرج يتلقى عنه العذاب بالنيابة، رحم الله حساناً لقد ناله من العذاب الكثير في سبيل نجاة الكثير من الشباب، وحين كانت له فرصة ليقول شيئاً، ما زاد على قوله:

- البركة فيكم، كلكم أساتذتي، فأنا لا أجيد فن الكلام، أوصيكم بتقوى الله والدعاء لنا. ثم خرج.

وكان من بين الأسماء التي نادوا عليها في المهاجع المجاورة، جمال خراط، لعلك نسيته يا صاحبي، وهل مثله من يُنسى! يا راحلين إلى الجنان معذرة، يا واقفين على الأطلال معذرة، يا أحزان الأرض معذرة، لقد خيّم على قلبي ظُلمة من الأسى لو وُزعت على بطون أودية تدمر، لأحالت نهارها إلى ليل دامس، لقد فاضت قيثارة أحزاني، فما وجدت لها من لاجم إلا الدموع، وألفيتني كابن الصغير آخر سلاطين الأندلس:

أبكِ مثل النساء ملكاً مضاعاً

 

لم نحافظ عليه مثل الرجال

ورحت أتعثر تارة أميل إلى الدموع وتارة اجتهد في نظم الشعر أرثيه:

قفوا صحبي وجودوا بالدموع

 

فدمع العين لا يشفي غليلي

غداة البين حل بنا غراب

 

نعيب الشؤم في صوت الدليلِ

وعبر الباب أسماءً ينادى

 

بها الخراط أمسى كالقتيل

شهيداً سيق للحبل المدلى

 

كليث غاب في شرك مهيل

جمال هذه الدنيا سراب

 

خراب فزت عنها بالرحيل

ليعذرني من رافقهم في ذلك اليوم من أسود الإيمان، عن قلة التفصيل، ليعذروني حين يجمعنا عند الله لقاء، فهو أعلم بهم مني، أذكر منهم الطالب ملهم أتاسي، وشقيقه الطبيب الأديب من أبناء حمص، والملازم المجند زياد عجاج، رفيق رحلة عودتي من العدوي إلى فرع التحقيق العسكري بدمشق، والذي كان يعمل مسؤولاً عن أحد مستودعات الجيش لمواد البناء، وحين حاول قائد كتيبته الاستيلاء على بعض المواد من المستودع، رفض زياد التوقيع على أنها صُرفت في وجه حق، عندها دُبرت له هذه التهمة، والتى قال حال زياد فيها:

- وشى بي واشٍ إلى المخابرات العسكرية، أكِلُه إلى الله.

لعل من المضحك المبكي، والمقام مقام انفراط كل عقود الأخلاق والإنسانية، أن نذكر هنا مدى الإسفاف الذي وصل إليه لصوص الليل والنهار من سُرَّاق الدار، قد غاب عنها أهلها الحقيقيون، فقد ذُكر لي أن ابنة المجرم علي أصلان، أو المجرم على دوبا، أو أحداً غيرهما من نفس الطينة النجسة، احتاجت إلى دروس خصوصية في مادة من مواد التدريس، وذكرت اسم أحد المدرسين لعالي المقام والدها، ليعدها خيراً، وحين عاد إلى فرع التحقيق طلب من أحد عناصره الاستفسار عن المدرس عاثر الحظ، دون أن يذكر للعنصر سبب الاستفسار، وأخذت الحكاية أياماً، لتراجع الابنة أبيها عن المدرس، والذي انشغل عنه والدها في تثبيت أركان مؤسسة الزعران، التي كان هو عضواً فاعلاً فيها، مما تطلّب منه استدعاء العنصر ليسأله عن المدرس، لم يفاجأ سيادته حين أعلمه العنصر بكل فخر، بأنهم ألقوا القبض عليه منذ أسبوع، وقد اعترف بكل شيء!

أما محمد أبو نبوت من أبناء درعا، فقد كان رحمه الله كالمستجير من الرمضاء بالنار، وذلك أنه حين صار في عداد المطلوبين، توارى عن الأنظار، متخذاً من بيت عمته ملاذاً وملجئاً، ولكي لا يُعطى أي فرصة للنجاة، قام زوج العمة - مجزياً بما يستحق - بتسليمه للمخابرات مع غبش فجر اليوم الأول من وصوله.

كذلك كان من الذين تمت زفتهم إلى الله في تلك الدفعة أيضاً: غالب أبا زيد من درعا، وكان قد فقد عينه تحت التعذيب! عارف عارف الحمود من إدلب، المهندس فرحان أزهري أحد أبناء حمص، كانت برفقته أخته في مهجع النساء بتدمر! الطالب دريد الطش من أبناء حمص، كنت قد سمعت عنه في فرع العدوي، وكان يومها نزيل المنفردة رقم "5" المجاورة لي تماماً قبل رحيله، ولقد شاء الله أن ألتقيه قبل إعدامه بأسبوعين لأتعرف إليه عن كثب رحمه الله، أبو نادر برتبة مساعد في الجيش أحد أبناء درعا، محمد سهل موظف من أبناء اللاذقية، الأخوين محمد بلال، ومحمد بركات الخطيب، وهما أبناء بنت الشيخ علي الطنطاوي، وقد أوصاني الأخير بمكتبته لأخيه الأصغر محمد بهاء الدين الخطيب، صاحب الكنزة الذي لا يُنسى، والذي لم يتأخر عن اللحاق بنا إلى كهف تدمر، الدكتور ماجد الخطيب من أبناء حماة، الزعيم موظف من أبناء حماة، محمود الحجي كان مدير المخابرات السورية زمن الرئيس أمين الحافظ، وهو الذي أعاد لحافظ الأسد اعتبارات الرتب العسكرية، التي افتقدها أيام الوحدة مع مصر، حيث كان الأسد قد أُحيل الى التقاعد، فاستدعاه محمود ليقوم بتسليمه قيادة مطار الضمير، ثم دارت الأيام ليقع في القيد بتهمة التنسيق بين الإخوان وبعث العراق، ولينتهي به المطاف إلى حبل المشنقة رحمه الله، شيخ القراء الطالب حسين سخنيه من أبناء دمشق، الطالب عبد الله الحمصي من أبناء درعا، الطالب رياض صالحة من أبناء اللاذقية، تلا علينا قبل خروجه قول الله تعالى: " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون.."، الطالبين الأخوين ياسر وسعيد غانم من أبناء حلب، وكان الثاني كما أسلفنا قد خرج عن مناط التكليف بالجنون، قد رفع الله عنه القلم، إلا أن سلطات البغي في دمشق لم ترفع عنه حكم الإعدام، الطالب محمد صنوبر من أبناء دمشق، وقد شاهده أبو عوض - كما قيل- مدلى على أعواد المشانق، بسام بريك، تأخذني غصة كلما تذكرته رحمه الله، كما لو أنه الآن أمامي يرتحل، قد اجتمعت له شهامة أهل حماة، وطيبة شمائلهم، الطالب مضر الدغلي، خادم القوم سيدهم، وقد كان كذلك رحمه الله، ناهيك بأنه كان من أوائل القراء الذين وصلوا معنا إلى تدمر، وله الفضل بعد الله في إعانتنا على حفظ كتاب الله، مضر السم، تاجر من أبناء إدلب، الطالب المنعم أنس قبلان من أبناء حماة، المجند عبد الرزاق الشيخ من أبناء حماة، ممدوح درويش من أبناء إدلب لم يشفع له رحمه الله عند الفجار كونه عضواً فاعلاً في حزب البعث الحاكم على مدار سنوات عمره الذي ارتحل، صاحب الظل الخفيف والابتسامة الوضاءة الخياط محمد محمود من أبناء حلب، يوسف عبيد وهو دمشقي اقتادوه أكثر من مرة إلى حبل المشنقة وساوموه كثيراً كي يعمل لصالحهم، لكنه رفض بإباء المسلم المؤمن، إلى أن ذهب إلى ربه طاهر الأذيال، نظيف الثوب والبدن، الأستاذ شهاب أكبازلي، كردي من أبناء دمشق، يعرفه مشاهدي الشاشة الصغيرة، مربياً ومدرساً، كان آخر إخوته إعداماً، لم يشفع له بقاء والده العاجز، ونساء إخوته وزوجته وأولادهم الذين تركوا من غير معيل لهم سوى الله، أما الطالب هيثم يبرودي، ذا العينان الزرقاوان والملامح البيضاء الناعمة الجميلة، والشعر الكستنائي المرسل على قصر لم يكن ليشينه، من أبناء دمشق، فقد كان وتر أهله من الذكور، على مجموعة من الأخوات الإناث، أخبرني أن واحدة منهن متزوجة في الأردن مع عائلة لطبيب أردني، لعلها عائلة خريسات إن لم تخنّي الذاكرة، عاش رحمه الله منعماً، حتى في سجنه اجتهد أهله في درء غوائل الدهر عنه، وذلك بالزيارات الدورية التي ما انقطعت إلى قبيل رحيله بقليل، كان قد انتهى لتوه من تقشير حبة برتقال، وقد انتهى من تناول نصفها، حين فُتح الباب ونادوا عليه للخروج، وحين رأى الشرطي شعره المرسل ظن أنه أخطأ في صاحب الاسم، فأعاده إلى المهجع كي يفي بما كُتب له من تناول نصف الحبة الثاني، وما أن ينتهي حتى يُفتح الباب ثانية، كي يمضوا به إلى رب وسعت رحمته السماوات والأرض، وليصدق فيه قول المصطفى: «أن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها و تستوعب رزقها » ووالله ما رأيت أعجب من هذه الواقعة، التي أعيد فيها رحمه الله كما لو أنهم أرادوه استقدام شيء نسيه، أعادوه كي يستوفي حبة البرتقال التي كتب الله أن تكون آخر رزقه من الدنيا!

رحم الله جمال، ووائل وماهر ومروان وهيثم، وكثيرون سبقوا وآخرون لحقوا، ما رأيتهم والله إلا أصحاب عبادة، قد أظمئوا نهارهم، وحنوا أصلابهم أناء الليل على كتاب الله يتلونه، هجروا النوم، بعد أن تنارشتهم سياط البغاة جل النهار، قد استقلوا كل ذلك في جنب الله، قد برتهم الأمراض، وزلزلتهم الأهوال، فاستخفوها إزاء يوم تشخص فيه الأبصار، ومضوا قدماً إلى المشانق، مُضِيَّ الأطفال فرحين إلى الأرجوحة ليلة العيد. ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع اجر المؤمنين، الذين استجابوا لله و الرسول من بعد ما اصابهم القرح للذين احسنوا منهم و اتقوا اجر عظيم، الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ﴾ [آل عمران: 169-173]

دوّى صوت الرصاص في الفضاء الخارجي، ووصلت أصداءه إلينا، وعمت بزعم من لم تلد النساء مثلهم أرجاء البلاد فرحة عامرة غامرة، وأُعلن عن نجاة الطاغية، لينسأ الله له في أجله المجبول بالإجرام والضلال إلى حين، وخيمت داخل المهجع كل ما يخطر على بالك من مشاعر يصعب وصفها، غير أنها على أقل تقدير جاءت فوق كل ما يحتمل من الطاقات، فقد كانت خيبة الأمل للجموع الغفيرة من نزلاء سجن تدمر، ولغالبية الشعب السوري ماحقة، لقد غمرت الناس أنواع من الكآبة، كاد البعض معها أن يخرج من جلده، بعد أن همّ بشق أثوابه أسفاً وكمداً، وكادت كلمة الصبر تتحول عند البعض إلى ضرب من ضروب الكفر، وكانت المأساة ماثلة على وجوه المئات من الكتل البشرية التي افترشت الأرض، قد أخذتهم الصدمة في اجتماع المتعوس على خائب الرجاء، فهم من حولك كالسكارى، يهذون كالمحموم لا يدرون ما يقولون!

وكما نحن في الحمى، كان الأستاذ مصطفى التميمي، قد تحول إلى ذروة الحمى، وصار وضعه مع الأيام يذكرني بوضع أبي طارق رحمه الله، وما عاد الرجل - وهو أستاذ لمادة الفيزياء والرياضيات- بقادر على متابعة دروس القرائن الدالة على وجود الخالق، وما عاد يقوى على الحديث، وراح يدخل في غيبوبة تلو أخرى، تطول أحياناً حتى تخاله قد أفضى إلى ما قدم، ولم يعد بوسعه أن يضبط إرادة المخْرَجين، وتبرع أحد الإخوة الأكراد من أكراد القامشلي على ما أذكر، لم يبقَ من اسمه في الذاكرة إلا مصطفى، تبرّع مصطفى في المتابعة والسهر، ووالله الذي لا يُعبد بحق سواه، لقد رأيت أمهات يقمن على خدمة أبنائهن فلذات أكبادهن صغاراً، حتى إذا ما شبوا عن الطوق كان لهن معهم شأن آخر، أما مصطفى الكردي فقد كان لمصطفى الفلسطيني الأم والأب والأخ والصديق، يقوم على غسله لا يتحرج، ويقوم بغسل الثياب التي لحقتها نجاسة البول والغائط لا يتأفف لأشهر طالت، لا ليوم أو يومين، ولا لأسبوع أو اثنين، ما كانت تجمعهما قرابة، ولا صداقة قبل أن يجمعهما السجن على غير ميعاد، لكن رابطة هي أقوى من كل روابط الأرض جمعتهم، تلك هي رابطة السماء، أما سمعت بالذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، قيل واثنين تحابا في الله وافترقا فيه، ولا أحسبهما إلا كذلك ولا نزكي على الله أحداً، ويشاء الله أن ينجو مصطفى الفلسطيني، فتورق أيامه من جديد، وتجري في عروقه ينابيع الحياة وتثمر، وما أن يقف على قدميه، ويعود إلى نشاطه، حتى ينادى على الأخ الكردي بالإفراج، وكان ثبته الله قد حدثني في أيام خلوت به، وهو من حملة الشهادات الجامعية، عن الوضع المأساوي البئيس الذي يحياه الأكراد في سوريا، وكيف أنه على الرغم من أدائه للخدمة الإلزامية، فهو كغيره من الأكراد ممنوع عليه حمل التبعية السورية، وبالتالي فهو ممنوع من السفر إلى أي جهة كانت، ناهيك عن منعهم من استخدام لغتهم أو التعلم بها، يضاف إلى ذلك حرمانهم من الالتحاق بالكثير من وظائف الدولة، والحديث عن وضع الأكراد قد يطول، ولعل مكاناً آخر يتسع فيه المجال، فنعكف فيه على البحث والتحليل، فنعطي هؤلاء الإخوة بعضاً من رد الجميل، ولا أعتقد بأنه سيكون في وسعنا أن نجازيهم، غير أن ما عند الله يقيناً هو لهم ولنا أدوم وأجزل وأبقى.

زارنا مساعد انضباط السجن للمرة الأخيرة، وسأل على غير عادة إن كان بيننا من له قريب من الدرجة الأولى ينوي استقدامه أو الانتقال إليه! فرفع مجموعة من الإخوة أيديهم، فأمر بانتقالهم، ثم اختفي بعدها بأيام، وباختفائه غابت شمس أبو عوض أيضاً فما عدنا نراه.

تواردت الأخبار على عجل، علمنا بتغيير إدارة السجن، فقد حل العقيد سيئ الصيت بركات العشه مكان المقدم سيئ الصيت والسمعة المجرم فيصل غانم، وذلك في تصفيات حساب بين الأخوين في زعامة عصابة المافيا، طالت الكثيرين لحساب أحدهما، وذلك باختفاء المجرم الأصغر عن مسرح الأحداث!

وأقبل مدير السجن الجديد بركات ظهر يوم من الأيام يسألنا إن كنا في حاجة للإجابة عن أي سؤال، وكان السؤال المطروح يومها من أبجديات الحقوق المتعارف عليها بين خلق الله في فتح باب زيارة الأهالي لذويهم من السجناء، كان صادقاً وهو الكذوب فيما زعم من الإجابة عن أي سؤال، ذلك في رده الذي جاء مقتضباً سوداوياً، حين أبلغنا بأن باب الزيارات مسدود لكل من له علاقة بتنظيم الإخوان المسلمين أو البعث اليميني، في الوقت الذي كانوا يسدون علينا كل أسباب النجاة، كانوا يتركون كل أسباب الحياة مفتوحة لكل أفراد المكتب السياسي من الشيوعيين!!

المحكمة الميدانية

نادوا على اسمي هزيع ليلة من ربيع عام 1984، وكنت واحداً في طابور نافَ تعداد أفراده عن المئة، هل سمعتم بمثل هذا؟! مئة من البشر اقتادونا إلى المحكمة المهزلة، بلا دفاع، بلا حضور، بلا إعلام بلا ضجيج يطغى على ضجيج السوط، اقتادونا في طابور طويل إلى الباحة الأولى، وأمام الشبك الحديدي، أُمرنا بافتراش الأرض، كان الجو رهيباً، وكدنا من خوفنا أن نسمع دقات قلوبنا، وكان الليل قد أرسل نسائم برد صحراوي، راحت أسناناً تصطك، لا تدري أمن البرد أم من الخوف، وهمس أحدهم بجواري:

- أبو الخير!

قلت من خلال فرقي وخوفي:

- نعم أنا هو، من تكون أنت؟!

- أنا عبد الرحمن العطار!

كنت أريد أن ألتفت إليه فأضمه لو أمكن لي ذلك، فمثل هؤلاء القوم لا يشقى جليسهم، غير أن ما نحن فيه، كان كافياً لإشغال كلٍ بنفسه، وسألته عن رقم المهجع الذي ينزل فيه، وسألته عن شكري الشيخ موسى؟ ليعلمني بدوره أنه وشكري نزلاء المهجع رقم "4"، دعوت الله أن يلطف بي وبهم، وأن يعجل الفرج، وسألته أن يحمل تحياتي إلى شكري وإلى الجميع، ثم نادوا على اسمي، وكان ترتيبي الرابع في المحاكمة، كنت أعلم بأنني أساق بتهمة باطلة إلى محكمة باطلة، القاضي فيها هو الخصم والحكم.

من باب في الشبك الحديدي ضيق، اقتادوني إلى قاعة المحكمة!! حجرة لم تكن لتتجاوز 15 متراً مربعاً، ما أن دلفتها، وقد طأطأت رأسي كالعادة، كما لو أنني كنت في انتظار مرور العاصفة، حتى صاح بي من كان يجلس يتربع على مقعد خلف المنضدة:

- ارفع رأسك، واقعد على الكرسي!

ما أن رفعت رأسي حتى أبصرت ما يدور حولي، رأيت ما يدعى بالقاضي، النقيب المجرم حبيب سليمان، هزيل الجسم، ذا شارب ينساب على شفته العليا، وشعر كثيف، عجوزاً هرماً، قد كست وجهه التجاعيد، وإن كان حاول إخفاء عهر شيبه بطلاء أسود داكن فاضح لم يكن ليناسب فساد شيخوخته، وهو ضابط من القرداحة،  بالكاد أن يظهر من خلف المنضدة لوضاعته ولقصر قامته، وعلى يساره جلس كاتبه الأوروبي التقاطيع البدين، وعن يميني وقف المجرم الرقيب سليمان، والذي كان يقوم في إدارة انضباط السجن بعد رحيل المساعد.

انشغل القاضي برهة من الوقت في تصفح ملفي، ثم رفع رأسه ليسألني في لهجة جبلية صرفة من خلف زجاج منظرة علت أرنبة أنفه لتزيده قبحاً على قبح:

- قرد أُوْلا.. أردني؟!

وعلى وجل بعد أن ابتلعت ريقي أجبت:

- نعم.. أردني!

لم يمهلني حتى عاد وسأل:

- مين نظمك؟

علت إلى السطح صورة الدكتور غلاب الدمشقي في أيام مضت، حين نثرت أوراق حكايتي بين يديه، فأكد على ضرورة أن أنفيها في المحكمة، ولو كان الثمن إعادة ملف التحقيق من جديد، وإن لم أفعل فلعل ذلك يندرج تحت باب إلقاء يدي إلى نوع من أنواع التهلكة والانتحار، من هنا استجمعت إرادتي، وارتديت ثوباً من الجرأة ما عهدته في نفسي من قبل، ولعلها كانت ضربة مودع، أو قل آخر سهم في كنانتي قبل رفع الراية البيضاء، ثم قلت:

- أستميح محكمتكم الموقرة، كي أدلي بكلمتين!

و في لهجة المتهكم:

- قول!

في الوقت الذي كان فيه يجرى ببصره بين السطور، شرعت في التحدث، فنفيت بالمطلق أن أكون منظماً، أو أن يكون أحد قام بتنظيمي.

عندها رفع رأسه ليسألني عن حمدان أبو شقيف، ذاك الذي بزعمهم قام بتنظيمي:

- مين بيكون إذاً حمدان أبو شقيف؟

فأجبته:

- حمدان كان تاجر مخدرات، لا أعتقد بأنه كان ينتمي إلى أي تيار، وكان في نفس الوقت يعمل في شركة أدوية، ما أدري لِم أثبت له المحقق عمله في شركة الأدوية، ولم يثبت له تجارة المخدرات!

وإني لأرجو أن يسامحني الأخ حمدان على ما نسبت إليه، وإن كنت أعتقد جازماً بأنه سيفعل ذلك، فلقد كان لسان الحال يقتضي قول هذا، كما أن للضرورة أحكامها ودوافعها.

بدت الإجابة مقنعة إلى حد ما، ثم تابعت قائلاً:

- لقد سجل المحقق مع سبق الإصرار والترصد، فرية مفادها أنه تم تنظيمي عام 1976 في ألمانيا، ووثائقي الشخصية تدل بما لا يدع مجالاً للشك أنني لم أذهب إلى ألمانيا إلا عام 1978، فكيف أكون منظماً في بلد لم أكن قد انتقلت إليه بعد؟! وكيف يكون حمدان تاجر المخدرات، قد نظمني وأنا لم ألتقيه أو أتعرف إليه بعد؟!

وعاد ليسأل في خبث:

- من يثبت لنا بأنك لم تبدل جواز سفرك في هذه المدة؟

وحين بدأت أشعر بأن دفة الحديث راحت ترجح إلى جانبي، ازددت جرأة، فأجبت:

- لن تعدموا وسيلة للتأكد مما أقول، فلكم سفارة في بون، وأجهزة دولة.

عاد ليقاطعني دون أن يغير من لهجة التخابث:

- ما علاقتك بالمدعو عصام العطار؟

رحت أشعر بنوع من الارتياح وأنا أجيب:

- إذا كان القدر قد جمعني بسيادتك قبل اليوم، أو أن زماناً أو مكاناً على غير ميعاد جمعنا، فهذا يعني أنني اجتمعت به أو قابلته يوماً، لم أعرف صاحب هذا الاسم أو أسمع عنه قبل أن يذكره لي المحقق.

وسأل ثانية:

- نديم إلياس.. هل هو نصراني؟!

وكانت الفرصة المواتية التي جاءت على طبق من ذهب، فرصة جاد بها الله، لم تكن في الانتظار، فأجبت على الفور:

- طبعاً، هو نصراني!

وفي استغراب سأل:

- ولمَ أوردت اسمه هنا؟

- سألوا المسمار مرة عن سبب نفاذه إلى الحائط، فأجاب: أسألوا المطرقة تجبكم!! أنا لم أسجل اسم نديم النصراني فقط، لقد ذكرت قائمة طويلة، كان فيها اسم هلمُت وبور ونكلاس وكل الدارسين معي من زملائي الألمان وغيرهم، إلا أن سيادته استثنى كل هؤلاء واكتفى بنديم مع أنه يومها كان قد سألني نفس السؤال!! لقد كنت في وضع لا أُحسد عليه، لم يكن أمامي إلا أن أسوق أسماءً، أي أسماء، المهم أن أنجو مما كنت فيه، ثم إن ما ورد في لائحة الاتهام، بأن في دارمشتات جمعية للطلبة المسلمين، ما هو إلا هراء وضرباً من ضروب الكذب.. لم يكن في دارمشتات سوى اتحاد خاص بالطلبة العرب!!

انفرجت أساريره عن صفين من الأسنان، كما لو أن زفت الأرض اجتمع عليهما، لا تدرى أهو بسبب التدخين، إن كان من المدخنين، أم أنه ورثهما صاغراً عن صاغر، وما لبث أن سألني:

- إذا كان نديم يدين بالنصرانية، فبماذا تدين أنت؟!

كنت قد انتهيت لتوي من حفظ كتاب الله، ولو تركت الإجابة للسان حالي لقال: لقد جاء السؤال متأخراً يا من سرت إلى خريف العمر وأرذله، غير أن الرقيب سليمان، والذي ما زال واقفاً بإزائي تولى الإجابة بالنيابة عني، في لهجة جبلية "خزاة العين عنها":

- شو بدو إيكون سيدي، إزا ما بدو إيدين بالنصرانية، ما بقى قدامو غير إنه إيكون مِسْلِم فلتان!!

ودوت في المكان فرقعة ضحكات فاجرة!! بعدها التفت القاضي الجلاد إلى كاتبه، ليملي عليه هذه العبارة:

- اكتب، بدّل أقواله، وأنكر أي علاقة له بالعطار، وكذلك أنكر أي علاقة له بعصابة الإخوان المسلمين، وتُسْألُ السفارة!!

ثم نادى عليَّ لأقترب، وحين صرنا أمامه وجهاً لوجه، تفصل بيننا المنضدة، طلب إلي أن أضع بصمة إبهامي اليمنى إقراراً بما ورد من نفي، طبعاً دون أن يُؤذن لي بقراءة ما كُتب، وضعت بصمتي راضياً من الغنيمة بالإياب سالماً!!

لم ينسَ سيادته العودة إلى معدنه الفاسد، حين انتهرني بكلمة من قاموسه المتهتك قائلاً:

- انْقِلِعْ!!

بعد انتهاء المحكمة، والانقلاع الميسر الذي صاحبني بفضل من الله ومنَّة!! اقتادوني إلى الباحة الثانية قبالة المهجع رقم "4"، وهناك التقيت بالدكتور يوسف حميدي ابن دير الزور، تجاذبت معه أطراف الحديث همساً، وأعلمته انتهائي من استظهار كتاب الله، وأعلمني بدوره بأنه على وشك أن يختم، وقبل أن يمضوا بنا كل إلى مهجعه بعد انتهاء المحكمة، حملني تحياته إلى بعض معارفه معنا، فوعدت على إيصالها، وهذا ما فعلت.

عادوا بنا إلى مهاجعنا، مع أن بعضنا أعلمه الجاني والذي اعتلى منصة القضاء ببراءته، إلا إننا بقينا جميعاً، من حُكِم بالبراءة ومن حُكم بالإعدام، بقينا جميعاً نرسف في السجن والأغلال، وظل البغي والسوط مشرعان فوق رؤوسنا، لا يبغيان عنا حولاً، حتى آخر يوم بالنسبة لي على أقل تقدير، في هذا المنتجع الذي يصعب على المرء نسيانه!!

لعل من نافلة القول أن أذكر هنا، تعمد إدارة السجن والقائمين على هذا المشروع "الاستثماري" الدائم على استبدال طاقم التعذيب من المجندين، كي لا يصابون بالملل، فبين الفينة والفينة كانت تطل علينا وجوه جديدة، تحمل من الأحقاد والضغائن، والحماس المستشري للضرب والتعذيب، ما أن لو أسقطوه على جبل لدكوه دكاً، حتى لتأخذك الدهشة أحياناً، فتسأل:

- إلى هذا الحد يصل التعطش والهوس الإجرامي بالناس؟! ويبقى السؤال المحير، ماذا بعد كل هذا الإفراط، هل يملكون إيقاف الزمن عن التغيير؟ ولو صح هذا، فكيف آلت إليهم الأمور؟!

بتغيير إدارة السجن، تغيّرت معاملة السجناء، واختفى من واقع حياتنا أولئك الذين كانت لهم حظوة، وشيء من نعيم نسبي، وإن كان يقيني أن البقاء في السجن مجرداً من أي نوع من أنواع التعذيب، كان فيه ما يكفي من الإذلال والامتهان، فكيف بهؤلاء النفر وقد حلقت شعورهم، وصودرت منهم الأجهزة الكهربائية، لقد كان اليوم الذي حلقت فيه شعورهم يوماً غارقاً في الكحل لشدة سواده وظلمته، مع أننا صرنا في الهوان سواءً، إلا أن ما زاد في الوضاعة أن إخوتنا هؤلاء أمسوا مثار السخرية من البغاة الطارئين، ولم يتوقفوا عن تعذيبهم، كلما فطنوا لهم، أو تذكروهم، لقد فقد الدكتور قاسم موسى طبلة أذنه في إحدى وجبات التعذيب، وزاد العذاب المسلط على من فقدوا عقولهم، كذلك على كبار السن، ظناً من الشرطة العسكرية الباغية بأنهم من قياديي الإخوان، ولا أنسى أبو كُريِّم ذلك الرجل العجوز الذي كان يتكسب من خلال تهريب السلاح، قاده حظه العاثر لبيع بعضها إلى أفراد من الإخوان مما اقتضى جلبه إلى تدمر، لقد رأيته يزحف إلى الثمانين من عمره قد أصابه خرف شديد لشدة ما ضُرب على رأسه، ذلك كان في دورة يومية، لم تستثنِ كل الذين في سنه، ولله در الأستاذ عادل لبابيدي أبو أنس صاحب إحدى مكتبات دمشق الشهيرة، لقد كان شديد الحمرة، مع شيء من البرص، وتقدّم في السن، ضعيفاً قد سار إلى السبعين من عمره، لقد أروه فنون العذاب على أصولها بكل ما للكلمة من معاني سلبية، أقلها التفجع المرير، ولا أدري كيف أنسى الطالب الجامعي معن شاهين من أبناء حمص، وكان أشد ما يميزه قامته المفرطة في القصر، كانوا يتقاذفونه بينهم - قاتلهم الله أنى يؤفكون- كما يتقاذفون الكرة، وحين كانوا يجرون في إثرنا بعد عملية تنفس أو حلاقة، يتغولون بسياطهم وكوابلهم، نصبح كالقطيع أحاطت بهم الذئاب، إحاطة السوار بالمعصم، أو صرنا بين فكي كماشة، صف من الشرطة عن اليمين وآخر عن الشمال، بينما فريق آخر بالانتظار عند باب المهجع، فإذا دلف البعض إلى الداخل، راحوا ينتظرون معنا، قلما مرت مناسبة دون قذفه من فوق الرؤوس، فيتلقفه من سبق من الإخوة المنتظرين في الداخل كي لا يسقط على الأرض.

قصاصة من صحيفة تشرين

وتحمل زوابع تدمر الرملية لنا يوماً من الأيام قصاصة من صحيفة تشرين أو صحيفة الثورة - لا أذكر الاسم تماماً- ويتحلق الإخوة حول القصاصة، كما لو أنها البريد حلَّ بنا، جالباً معه خبراً عن غائب قد صار ميؤوساً من أوبته، لكن المضحك المبكي أنها كانت تحمل خبراً مفاده أن العدو الصهيوني يعامل المعتقلين الفلسطينيين بعنصرية بالغة، ويذكر الخبر أن عشرين من المعتقلين يجمعهم مهجع واحد!! والأطرف أن أربعة عشر يملكون أسرّة للنوم!! بينما الستة الباقون ينامون على الأرض!! عندها.. وعندها فقط، أدركنا ذلك النعيم المقيم والهناء بلا عناء الذي ما زلنا نتمرغ فيه، وما عاد لنا من وجه مقارنة، فنحن ولله الحمد على كل حال، نتجاوز المئة والثمانين في مهجع لعله يوازي مهجع الفلسطينيين العشرين اتساعاً، نفترش الأرض، لا يعزلنا عنها سوى طبقة من قماش مهترئ، بالكاد أن يصاحبك شعور بأن بينك وبين الأرض أي دثار، وهذا الوضع لم يتغير لما يزيد عن عشرة آلاف ممن مروا من هنا على مدار سنوات اعتقالي، منهم من قضى ومنهم من ينتظر، تساووا في الرؤوس فوق الأرض، كما سيتساوون تحتها، أجزم بالمطلق أن أحداً منا لم يعتلِ فراشاً، ناهيك عن السرير، ولله در فلسطين وأهلها ومرابطيها، لو اعتلوا أسرَّة الأرض جميعاً، ما كان ذلك ليفيهم صبرهم، أو بعضاً من صبرهم.

هذا شيء قليل من كثير كثير، وهكذا هو جو إنصاف الرجال ولا رجال ممن سلح الزمان عليهم، فأقامهم علينا، وهذا وضع استثنائي جعل منه العنصريون ظرفاً مقيماً ما قام في الدنيا ظلم قابله هوان، أما تفجعنا ممن هم معنا في الرهن والقيد فحكاية أخرى لم تكتمل فصولها بعد، ولكي تكتمل الحكاية كان لا بد من أن يعتلى المنصة أبطال جدد لوجوه جديدة من إخوتنا قد ضاق الحال بهم، فما عادوا يحتملون ما نحن فيه، اجهدهم طول التفكير فتنادوا بأفكار جديدة، ما المانع ما دام في الدنيا أمهات تحمل، وأرحام تدفع، فلعل جيلا آخر تواتيه الفرصة التي عجزنا عن الامساك بها، فيكون لهم اللحاق بقطار النصر الذي فاتنا، تنادى هؤلاء الإخوة من علية القوم، بضرورة طرق الباب يوماً، كي نعلن للجلاد توبة نصوحاً، نُقَبِّل الأيادي ظهراً وبطناً، ونبكي على ما بدر منا حسرة وندماً، ونعترف جهاراً بأن ما نحن فيه من هوان، هو من كسب أيدينا، وما جنيناه على أنفسنا، ولم لا، ونحن على أبواب مناسبة، قد يؤذن لنا فندلي فيها بدلائنا، فنكون أمام الله والناس كشُهَّاد الزور، والجملة الأخيرة لي، ولبعض الإخوة المعارضين.

كانت المناسبة، هي تجديد البيعة للرفيق القائد، بطل التشرينين، المجدد المصلح، الذي عجزت نساء سوريا أن يلدن مثله، سبق الأولين بطولة وشرفا ونسبا، وسيعجز الآخرون عن اللحاق به، الفريق أول أركان حرب، حافظ الأسد، والبيعة ستكون في استفتاء شعبي محسومة نتيجته سلفاً، والتى قلما جاءت نتائجها دون نسبة الـ99،9%، نتيجة تبعث على الاشمئزاز والتقزز، ما كانت لتكون لنبي مرسل ولا لملك مقرب، ولكن ماذا عساك تقول لمن صدق فيهم من قال:

- "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"!!

لقد اقترح بعض العقلاء وقد فاض بهم الحال أن يدقوا الباب، معلنين استعدادهم للمشاركة في هذا العرس، واقترح بعض البلهاء منا، أن نقوم بالإبراق برسالة تأييد، ولقد أخذ النقاش أشواطا، وأحسست في الحديث طعم المرار، وكنا كشجرة صمدت لعوادي الدهر زمناً، ثم أصابها شئ من العطب، فراحت تطرح ثمارها التي لا يخلو بعضها من التلف، وكان لا بد من عملية ترميم، تصلح المستطاع مما فسد.

تغيرت رئاسة المهجع في هذه الظروف العصيبة، استقال الدكتور قاسم موسى بسبب المرض كما قال، وخلفه في المهمة احد أبناء تدمر، الشاب عبد الناصر حويفظ، كان باسلا، اثبت جدارة فائقة في إدارة دفة المهجع، في فترة راحت تتلاطمنا الأمواج، وكان أول امتحان صعب يواجههه، هو دخول الرقيب "سرور العجوز" علينا ظهر يوم من الايام بحجة التفتيش أثناء ما كان يسمى بفترة التنفس، ليقوم بتفتيش صرة ملابس لأحد الشباب، وفي غفلة من رئيس المهجع، يقدم على سرقة 500 ليرة سورية، وليزعم اللص الكافر الفاجر بأنه عثر على قطعة خشب صغيرة في ثياب صاحب الصرة، وتلك جريمة لا تغتفر، فلقد شارف صاحب الصرة -عافاه الله، وأجزل له الأجر- على الهلاك، ولعل كلمة العذاب هنا باتت مملة لا تفي بالغرض، ومع هذا لا أجد لها بديلا، فلقد ضربوه على قدميه وظهره حتى سقط مغشياً عليه!

في اليوم التالي يأخذ عبد الناصر قراراً، في تقديم شكوى بهذه الحادثة لرقيب انضباط امن السجن الجديد، كان عبد الناصر هنا كمن يطفئ النار بالنار، كان الثمن الذي دفعه باهظا في أول لقاء جمعه بالرقيب "سرور" والذي اسأل الله يجازيه بما يستحق، وأصبحت المأساة تتكرر لكل يوم جديد، وصار مهجعنا صاحب حظوة مميزة، يدفع الضريبة عن كل المهاجع مجتمعة، دون أن ينقص ذلك شيئاً من العذاب المصبوب على الجمع صباً، وحنا مع الايام نتذرع بالصبر سائلين الله أن يعجل بفرج من عنده قريب..

لم يطل بنا المقام، فقد أقيل عبد الناصر من رئاسة المهجع، وتسلم من بعده الدكتور مسلم القصير احد الأطباء من أبناء حمص دفة القيادة، واختير محمد فراواتي معاوناً له، في الوقت الذي أفل فيه وجه المجرم القذر "سرور العجوز" الى غير رجعة... وهكذا بدأت الأوضاع بالانفراج النسبي قليلا، لتعاود الفتنة إطلالتها من جديد، وليصبح الصدام على أشده هذه المرة ثانية بين الصوفية والسلفية، وما راح يبعث على الأسى الحقيقي، هو أن عِلْيَة القوم ممن وجب فيهم حمل لواء الاتزان والعقلانية هم الذين رفعوا لواء الخصومة، واشتبك الناس بالأيدي، مما شغل الناس عن برامجهم، ولم تنتهي المسألة عند هذا الحد، بل تعدته الى محكمة علنية داخل المهجع، حاكم فيها التيار الأكثر عدداً خصومه من السلفيين، وصدر الحكم بعزل السلفيين في مجموعات خاصة صغيرة، يشار إليها بالبنان على أنها الفرقة الضالة!! غير أن إمكانية تطبيق الحكم ما كانت لتنجح، فاكتفوا بمنعهم من أي مشاركة اجتماعية أو ثقافية في أي برنامج من البرامج المتاحة، وألفيتها خطوة خطيرة غاية في الظلم والغبن، وأعلنت عدم التزامي بها، مع إصراري في إبقاء العلاقة الطيبة مع كل الفرقاء، وهذا لم يعفني من إلحاقهم لي بفريق السلفيين، مع اننى كنت حتى ذلك الحين لا ادري يقيناً ما تعنى كلمة سلفي أو صوفي، مما حدا بي لاحقاً الى تتبع المعاني وصبر كنهها، وما زاد في المأساة أن الفريق الأول شرع في استصدار الفتاوى بتكفير خصومهم، مما دفعني يوماً في حضرة من كان يعتقد انه صاحب صولة وجولة، دفعني الى شتم دولة تخاف من أمثال هؤلاء، وتعمل على سجنهم ومنعهم من متابعة متع الحياة!!

تقلبت بين مجموعات عدة من مجموعات الطعام والثقافة، الى أن حطيت رحلي بين مجموعة من الإخوة، قلت في نفسي لعلهم يكونون مسك الختام، ورحت آلَفَهم ويألفونني، وكان من بينهم الدكتور سليم بدري دمشقي كان في سنة التخصص الأخيرة حين القوا القبض عليه، قد صار مسؤلا صحياً للمهجع، والمهندس عمر حمزة من بانياس بالساحل السوري، والطالب الجامعي سامر صنوفه من أبناء حمص، وكان صاحب صوت عذب شجي، كذلك فوزي أحمد رشيد فلسطيني من سكان دمشق، وعبد الكريم الصمل طالب من أبناء تل امنين من مناطق دمشق، وعامر عكام، وكان حدثاً جاؤا به كرهينة عن أخيه، والذي قتل فيما بعد على يد العصابة الحاكمة في دمشق، دون أن يكون ذلك سبباً لإطلاق صراح الرهينة...و الحدث خالد المصري من أبناء بانياس، وآخرين..

شرعت إدارة السجن ثانية في الأشهر الأخيرة على فرز السجناء، وحوت القائمة الأولى ذوى الإحكام الخفيفة حسب اعتقادنا، وكان بينهم سامر صنوفه، ومحمد خير من تل امنين، بالإضافة الى أبي الحسن من دير الزور... ووزعت بعض المهاجع الأخرى، كي تفرغها للمفروزين، وتلي ذلك دفعات أخرى رحل فيها ذوى الإحكام المؤبدة، كما زعم، وكان فيها الدكتور قاسم موسى رئيس المهجع السابق، نديم طابوشي ضابط طيار متقاعد من أبناء اللاذقية، وكان من المدعومين الذين طالتهم يد البطش بعدما تغيرت إدارة السجن، ولعلني اليوم لا أبيح سراً بقينا نكتمه لأشهر كثيرة مفاده اعتقال الطواغيت لواحد من أولاده، لعله من كان قائما على أمور البيت من بعده، مما تسبب الى صدمة حادة لسيدة البيت، فارقت بالأمس الزوج ثم جاء دور الولد، فلم تستطع أن تتحمل الدار وقد أقفرت من ساكنيها، فأسلمت الروح على إثرها، فارقت وحيدة بلا أنيس أو شريك كي يتولى فاعلوا خير من الجيران إبلاغ الأقرباء لدفنها وأجرهم على الله، لقد بقيت طوال الزمن الذي أقبل فيه عليَّ يحدثني كشاهد العصر عن تاريخ سوريا، منذ ما قبل الاستقلال الى أن جاءت الوحدة، التي ما لبثت أن تبخرت، ليأتي عصر ما بعد الانفصال، مدللا على كل ما صرح به بأمور عايشنا جانباً من أحداثها، واعدا إن فرج الله عنا، وجمعنا خارج هذا المكان لقاء، أن يبرز من أرشيفه الوثائق. بقيت طوال الزمن أرنو إليه مشفقاً حزينا يراوح سر ابنه وزوجته المكتوم أعماقي، واسأل نفسي ما عساه يجري لو بحت له بالسر؟! غير أنني أعود مشفقا، اردد بيني وبين نفسي:

- يكفيه ما هو فيه، لعل النبأ يأتيه من عند غيري!!

بقينا على هذا الحال الى أن فتح الباب واقتادوه دون أن يحظى احد من صاحبه بكلمة وداع..ورحل في هذه الدفعة أيضا سالم علايا احد أبناء دمشق، إضافة الى المهندس زياد غضبان فلسطيني من سكان حلب و...ثم ما لبثت المأساة أن أكملت دورتها كما لو أنها تشتط في الكيد لي، وأنا واقف كالمذهول ارقب ارتحال البقية الباقية من الأحباب، لو كان الأمر لي لأمسكت بيد موفق الشيخ إبراهيم احد رفقاء صدر معاناتي، وكحال كل الخلق كان لا بد من يوم الرحيل، فيمضى موفق كما مضى الكثيرون من قبله، وانتظرتهم أن ينادوا اسمي معه، لكنهم لم يفعلوا، ويا ليتهم فعلوا، لقد أضرموا نيران أحزاني من جديد، وصرت كجندي يقف في ميدان المعركة قد نفذت ذخيرته، وراح رفاقه يتساقطون الواحد تلو الأخر أمام سمعه وبصره، يتمنى لو يعطفون عليه فيلحقونه بهم، وهم لا يفعلون، علم الله أنني كنت على هذا الحال، وألفيتني مع الايام ازداد انعزالا، حتى أوشكت أن أعلن إضرابا صامتا عن الكلام والطعام من غير أن يدري بي احد، وهل ابقوا لي على احد، غفرانك ربي انت الأحد وليُ كل أحد.

كان الجميع ينتظرون بفارغ الصبر، والحزن بادٍ على الوجوه، ورحت اسأل الله ألا يفجعني فيما تبقى لي من الأصحاب والأحباب، وعلى راس من بقي كان الدكتور سليم بدري، ذاك الطبيب الذي حنَّ على بؤسي أياما كثيرة، لألام كانت تصاحب التهاب الكلية عندي، كثيراً ما كانت تعاودني، فاسقط صريعا أتقلب على جمر العذاب المنبعث من خاصرتي، مضافا إليه ما كان ينصب من لهيب السياط التي ما كانت تميز بين طريح وصحيح، كان عليه بركات الله يتفقدني بما كان يدخره لي من بعض المسكنات التي كان يجود بها الطبيب السجان، والتى ما كانت تأتينا إلا نادرا،، فهل يرحل سليم ومعه عمر حمزة، وعبد الكريم الصمل؟! وما هي إلا بقية من أيام، ويرتحل رئيس المهجع الدكتور مسلم القصير، برفقة أبو عمر قلعو احد قدامى الإخوان من مكتب دمشق، كما أعلموني سابقا، إضافة الى أبو محمود عقيلة أحد الإخوان القدامى من أبناء حلب، وكان من كبار التجار، لعلني سمعت يومها همسا أن تجارته كانت مع الله اكبر، وكنت المس ذلك من خلال حضوره الصارم في كل ميادين أعمال المهجع، وتفانيه في سبيل الدين والإسلام.

قام محمد فرواتى احد أبناء حلب مقام الدكتور مسلم في إدارة دفة المهجع، وكثيرا ما تخطئ العين حسن التقدير، فقد ظننته لا يحسن أكثر من تقديم الصف، لكنه اثبت أن الناس لا يؤخذون بالمظاهر، إن كانت لهم مهج رجال كالحديد صلابة تسكن مخابرهم، تأتى له ذلك حين واجه الفتنة الصوفية السلفية بصرامة وحزم، وكان مثالا للحياد التام في هذه المعمعة دون أن ينقص ذلك من دينه شئ، واتخذ من فوزي محمد رشيد معاونا له، ولم يألو الأخير جهداً في تقديم كل ما أمكن من نصح أو عون، من غير أن يمنعه انتمائه لحزب التحرير أن يتفاني في كل ذلك ويذوب فيه.

وتجمعني لقاءات كثيرة بالأستاذ عادل لبابيدى أبو انس صاحب إحدى اشهر مكتبات دمشق العريقة، كان الرجل العجوز يحمل بين حنايا صدره قلب الشباب، فروحه الطيبة، وخلقه الدمث اطمع فيه كل الخلائق حتى أهل حمص!! كنا نضحك في هذا الجو المكفهر المكهرب، وكنت حين انزاح ما بيننا من تكلفة اقترب منه لأسأله، عن آية من كتاب الله، فيقبل عليَّ باهتمام، وحين أتلو عليه قول الله تعالى "و يبرئ الأكمه والأبرص" ما أن أبوح بها حتى يستشيط ضاحكا، ويمد يده ليضعها في صدري، فأولى دون أن اسمع منه الإجابة، لأنها لن تأتي، فقد كان عافنا الله وإياه فيه شيء من البرص!!

كان عضوا في مكتب القيادة الإخوانية بسوريا حتى أوائل الخمسينيات، ولقد حدثني عن تلك الحقبة بإسهاب، إلا انه كان يمتنع عن الخوض في سيرة اثنين من الجماعة، دون أن يعطى ما يبرر استنكافه، أما الأول فكان مروان حديد، من أبناء حماة، وهو أول من أصر على التغيير باليد، الى أن اعتقلته السلطة في أواخر السبعينات، وما هي إلا أيام ويقتلوه رحمه الله، ولعل هذا ما أشعل نيران المعارضة ضد الطغاة، ما كان أبو انس عادل لبابيدى ليتحدث عن هذا الرجل بالمطلق، وأما الثاني فكان العطار، وكما ذكرت لا ادري أي سر كان يمنعه من الحديث، مع انه كان يعترف بان العطار هو الذي قام بتجميده عن العمل منذ أوائل الخمسينيات، وإن كان لا يخفي عدم اقتناعه بالعطار قائداً للعمل الإسلامي في سوريا، في الوقت الذي كان يثني فيه على أخلاقيات العطار وحياءه، إلا انه كان يردد، بأن رجل السياسة يجب ألا يعرف الخجل، رجل السياسة والقيادة، عليه أن يكون جسوراً، إذ لا يفوز بالزعامة إلا الجسور، وهذا ما لم يتأتى للعطار بأي حال من الأحوال!!

في هذه الفترة عاد داء السل فحل بنا ضيفاً ثقيل الظل، بطيء التزحزح، وكان ضحيته في هذه المرة أكثر شباب المهجع نشاطاً وحيوية، وقياماً على خدمة الناس، لا سيما شؤون المرضى والمعوزين، لقد كان لسقوط أبو الحسن عدنان مؤيد، اكبر الأسى علينا عامة، وعلى محبيه خاصة، لا سيما أؤلئك الذين عاشوا محنة الفتنة، تلك التي سعى جاهداً لوأدها في مهدها، ولو رأيته ساعيا للإصلاح بين المتخاصمين لما كان لك إلا أن تدعو له، ومن منا لم يحبه ويدعو الله أن يؤجره ويشافيه، رحل أبو الحسن الى مهجع من مهاجع السل ألخمسه، وما كان الرحيل ليفاجئنا، فقد صار من الأمور البديهية تجميع المصابين في مهاجع الباحة السابعة، لكن ما كان يسربلنا بالأحزان ويفت في عضدنا، ولم يعد من البديهيات، سؤالا كان لا ينفك يراودنا دوما، من يقوم على شؤون هؤلاء البائسين في مهاجع السل الخمسة، كيف ينامون؟ هل من سبيل الى الشفاء والكل يسعل؟ من يغسل لهم ما يقذفون من دماء؟ من يطعمهم..من ومن ومن...؟؟!! أسئلة كثيرة بقيت مفتوحة بانتظار من يجيبني عنها يوماً من الايام!!

إخلاء السبيل:

نهاية ربيع عام 1986، لعلني اكون اكثر دقة، فأقول نهاية شهر نيسان ابريل، راحت تلاحقني مجموعة من المشاعر والأحاسيس الغريبة، وألفيتني استل رؤيا منام قديم أظنك ما زلت تذكره يا صاحبي، كان قد زارني بداية اعتقالي في فرع التحقيق العسكري بدمشق، ألفيتني استل هذه الرؤيا من جراب الذكريات، وكان الأمل جامحاً في أن يأتي حصاد الرؤيا قريباً، كدين مستحق، قد وجب أداءه، وفي لحظة تأمل ألفيتني أبوح لفوزي معاون رئيس المهجع بهذه الرؤيا التي آن تأويلها:

- لديك متسع من الوقت كي توصي...فأنا على وشك المغادرة!

ابتسم ثم سأل:

- والى أين العزم إن شاء الله؟! لا أرى لك إلا الباحة السادسة بصدرها الرحب، وأعوادها المنصوبة..!!

و أقاطعه بصدر تفوق رحابته رحابة الباحة السادسة بأضعاف مضاعفة من الطمأنينة:

- سيان عندي، فكله خير، كله فرج...المهم إن نغادر هذا المكان!!

راحت إدارة السجن في اليوم التالى مصرة على جمع اسورة الساعات المعدنية، ثم عادوا فطلبوا الساعات باسورتها، عند التنفس الصباحي وأثناء خروجنا قاموا باستلامها، شرعوا في تفحصها، ليعثروا بعد ذلك على احد هذه الاسورة محفوف الجوانب في حدة موس الحلاقة، سألوا عن صاحب الساعة، كان شابا نحيلا فيه اندفاعة وذكاء، قوقازي الأصل من الشركس، هو المهندس رضوان بلتو، أقدم المجرم الرقيب "نعمان" على محاولة ذبحه بالسوار المحفوف المشحوذ، سالت دماء رضوان، ثم طلبوا إليه أن ينبطح أرضا...حين اجبروه على رفع قدميه في الهواء.. سقطت عليه السياط كزخات المطر... دخل بعدها الى المهجع يتلوى من الألم المبرح الذي لا يطاق... في الوقت الذي ذهب اللصوص مع رقيبهم بقسم كبير من الساعات الثمينة!!

لا أريد وأنا أوشك على وضع اللمسات الأخيرة على هذه المأساة، أن ابدي موقفاً فيه انحياز لأي جهة كانت، بقدر ما أريد أن اسرد الوقائع على حقيقتها، مجردة من أي ميول كانت، وإن كان لا بد من إنحياز فهو ولا شك لله ولرسوله وللمسلمين، ولن يكون لغير هؤلاء بأي حال من الأحوال، ولو كتب لنا لا قدر الله تكرار المأساة، فلن يكون منا غير هذا الانحياز، ومع هذا سنصبر حتى يفتح الله بيننا وبين إخواننا بالحق وهو خير الفاتحين.

أسوق هذه المقدمة بين يدي نقاش جرى بيني وبين احد الإخوان، حول أسباب اعتقالي، والاعترافات التي أجبرت على الإدلاء بها تحت وقع السوط والدولاب، كان يعزي كل ذلك الى الأعمال التي جانبها النضوج، تلك التي قام بها الجناح الذي حمل السلاح من التنظيم العام!!

قلت قول المستسلم الذي ما عاد يبدل في وضعه أي قول:

- وما دخلي أنا في كل هذا وذاك!!

لعله الفاها مدخلا للتنفيس عما بداخله:

- انت ضحية كغيرك من الالاف المؤلفة من الابرياء الذين لا ذنب لهم، لقد سبق وأن استمعت الى حكايتك، كيف استدرجوك للاعتراف، وكنت أمام خياران لا ثالث لهما، إما الى الطليعة التي جرت البلاد والعباد الى الخراب، وأما الى أهل السياسة، وإنقاض ما يمكن إنقاضه، لقد جاء اعترافك بناء على بيان قرأته في مجلة النذير، التي كانت تعلق على لوحة إعلانات جدار الجامعة بألمانيا، كان يومها البيان يهاجم الأستاذ عصام العطار، وكيف ذكر أن أفراد التنظيم التابع للعطار غير مقتنعين بالعمل المسلح، وبالتالي فهم في مأمن من سطوة الدكتاتور!! وزادوا أن من يثبت عليه انتماءه للعطار وجماعته هم في أمان، ومن القي القبض عليه منهم يتم إخلاء سبيله، ولما كنت تحت طائلة العذاب مالت نفسك للعطار، ظنا منك بأنه طوق النجاة، الذي سيمضي بك الى بر الأمان، أليس الأمر كذلك؟ ولا أراه غير ذلك..!!

كنت كمن راح يلعب في الوقت الضائع أقول:

- صحيح كل ما ذكرت، لكن، الم يكن من حقي وما زال أن اسأل، لو لم يكن الأستاذ العطار كما تقول فمن أين للنذير يومها أن تهاجمه؟ ومن أين لهذا المقال أن يرى النور؟ وعليه من أين لي أن اقرأ مثل هذا الكلام أصلا؟؟!! كي أميل الى الاعتراف تباعاً!!!

لم يطرأ أي جديد طوال الايام القليلة الأولى من شهر أيار مايو من نفس العام الذي ذكرت آنفا، لكنني نمت تلك الليلة على الأمل الذي بدأ يكبر حتى ملأ علي كل جوانحي، بانتظار شئ سره مطوي في علم الغيب عند الله، وقال لي احد الشباب حين سمع مقولتي:

- لعله شعور للقيا بعض الأقرباء في زيارة...!!

فأجبته إجابة القانط قد غسل يديه من كل الامنيات:

- زيارتي وقيام دابة الأرض سواء!

ضحك صاحبي، وما لبث النوم أن اختطفنا..

قبيل الفجر بقليل استأذنت الحارس الليلي كي اتوضأ، استعداداً للصلاة، وكنا نقوم فرادى على فترات متباعدة، كيلا نثير انتباه العسكري الجالس عند النافذة المطلة علينا من اعالى السطوح، اقول استأذنت المناوب في الحراسة الليلة للوضوء، فأذن لي. ما هي الاأن عدت الى مكاني، آخذا وضعي في المنامة على جنبي كحد السيف، بانتظار أذان الصبح، حتى دبت حركة في الخارج، وجاءت أصوات من مكان بعيد، تنادى على قائمة من الأسماء يصعب تمييزها، وكان الوقت هو وقت ينادون فيه عادة على أسماء من أزف وداعهم الى أعواد المشانق، قد انقطعت أسباب اتصالهم بالدنيا، وصاروا الى أسباب الاتصال بالله ادنى واقرب. ما أن دنت الأصوات، ووضحت نبراتها، حتى سمعت احدهم يهتف:

- سليم ابراهيم ابو الخير!!

فصحت من قاع الكهف، قد أذهلتني المفاجأة عمن حولي:

- حاضر، سليمان ابراهيم ابو الخير!

عاد فصحح الاسم:

- سليمان ابراهيم ابو الخير موجود؟!

حين حرك القفل المثبت في المزلاج، هب الجميع وقوفاعلى عجل، في الوقت الذي طلبوا الي أن أنهي علاقتي بأفراد المهجع جميعاً دون استثنا، وأن أضب أغراضي، اعتلاني الإخوة من كل حدب وصوب، منهم من ضمني، ومنهم من قبلني... ورحت ابحث عن سليم وعمر وعبد الكريم الذي جاء من وسط الزحام، فعانقته على عجل، ثم التفت الى الدكتور سليم بدري والمهندس عمر حمزة، اسألهم المسامحة، ويسألاني بدورهما وسط الدموع ألا أنساهما، اختطفني الدكتور عز الدين سيد عيسى، فعانقني طالباً مني أن أسامحه على سوء فهم قام بيننا في يوم من الايام، فأسأل نفسي في أسي بالكاد أن يصل حد البكاء والدموع، ومتى كنت احمل لأي من هؤلاء شيئاً من حقد أو ضغينة؟؟ فسقيا لأيام ليتها جمعتني بهم خارج ذاك المكان!!

لم اصطحب معي سوى حذائي الذي وهبه لي هيثم يبرودى رحمه الله قبل رحيله بأيام، قلت اجعله شيئاً من الذكرى، يصحبني في قبري عند موتي، مصير كل حي من الإحياء، أثرا وشاهداً يذكرني باحبابي من المظلومين، أوصي به عند موتي أن يلبسوه لي افد به على الله، عله سبحانه يجمعني بصاحبه، بعدما عز اللقاء...

فتح الباب، فسحبت نفسي من بين الأيدي الممتدة نحوي، انسحاب من أيقن ألا تلاقيا، وما هي ألا لحظات حتى كنت أضع قدمي على طريق ممتد طويل مجهول، لا أدري حتى تلك اللحظة الى أين يقودني؟!!

كان يتنازعني خليط من شعورين متناقضين، احدهما فيه الحرص على الدنيا، والأمل في النجاة الذي بدا يراوح في داخلي خجولا ضئيلا، والأخر فيه الخوف الذي كاد أن يسد علي مجري النفس، ولم لا؟ وأنا ما زلت بين يدي عدو غاشم قادر لئيم، لا تؤتمن بوائقه!!

مع أن نبرة الرقيب "نعمان" ذلك الذي نادى على اسمي كانت لينة الى حد ما، لا سيما حين طلب مني أن ارتدي منطالا إن كنت أملكه، فالجو فيه نسمة برد ليلية لاذعة، كما قال، وأعطاني مهلة من الوقت كي أفعل ذلك، وأقوم بتبديل البيجاما، وهذا ما لم يأذنوا بفعله لأحد ممن سبق وخرج... ومع هذا بقيت خائفاً، غير آمن، وكان أكثر ما يخيفني هو أن الوقت هو وقت نصب أعواد المشانق، وتزاحمت مجموعة من الأفكار السود في راسي، حتى استقرت على فكرة واحدة، استعدت من خلالها حديث معاون المهجع فوزي قبل أيام قليلة:

- والى أين العزم أن شاء الله؟! لا أرى لك إلا الباحة السادسة بصدرها الرحب، وأعوادها المنصوبة..!!

و يهدئ من روعي، الذي راح ينساب كالماء حتى لكأنني بالكاد المسه بيدي، وأنا اردد بيني وبين نفسي:

- سيان عندي، فكله خير، كله فرج...المهم أن نغادر هذا المكان!!

تركوني أحاذيهم في المسير بكل حريتي، لم يأمروني كعادتهم في إغماض عيني وطأطأة رأسي، مما أعطاني بعض الأمل والاطمئنان، وفي حجرة من حجرات الإدارة في الباحة الأولى سؤلت كما سؤل البقية ممن جاؤا بهم قبلي وبعدي، إن كان لنا بعض الأمانات عندهم، فأجبت بالنفي، أحضروا لي استمارة كان مدوناً عليها اسمي، وعبارة تقول، بأنني أقر وأعترف بأنه لا أمانات لي لدى إدارة سجن تدمر العسكري، ثم طلب الي أن أذيل هذه الاستمارة بتوقيعي...

عند البوابة الخارجية استوقفونا للتفتيش، كما لو اننا نعبر الحدود، وكان التفتيش دقيقاً، أشبه ما يكون بذلك الذي استقبلنا به، طلب إلينا خلع الملابس، باستثناء السروال الداخلي، بعد التدقيق أذن لنا ارتداءها، شئ واحد غاب عن المشهد، هو أن أحداً لم يقم بضربنا، في الوقت الذي اقترب فيه احد أفراد الشرطة العسكرية من احد الشباب الواقفين بالقرب مني، وكانوا جميعاً أردنيين:

- بحظي هنت محظوظ أُوْلا، هنت هلّق انولدت من جديد!!

سرت في النفوس التالفة بعض الراحة، غير انها عادت وتراجعت، حين قدموا لنا غطاء العين، الطماشات، كي يحجبوا عنا الرؤية، وذلك قبل أن نستقل الميكروباص، الذي سيقلنا الى جهة لم يعلنوا لنا عنها، لم يحدثنا احد عما ينوون فعله معنا، ولم يفتهم إعادتنا الى القيد الحديدي مثنى مثنى.

مع خيوط فجر اليوم الرابع من شهر أيار مايو، كانت المركبة تشق بنا الطريق على عجل مخلفة وراءها كهف الفجائع العسكري بتدمر... تلمس أحد أفراد الدورية المرافقة لنا يدي، قدم لي قطعة من الخيار، وكانت المرة الأولى التي أرى فيها الخيار ثانية بعد انقطاع "ابو عوض" عن إحضار الفاتورة واستيفاء الثمن الباهظ، منذ ما يزيد عن عامين ونصف العام!

ما أن تجاوزنا تدمر بصحرائها وأتربتها، حتى راحت الشمس ترسل بعض خيوطها، عندها طلب إلينا رفع الأغطية عن عيوننا، فكان أول من وقع عليه بصري "أبو منهل" معاون مدير السجن بفرع التحقيق العسكري في دمشق، وهل يمكن نسيانه؟! عرفته منذ ما يزيد على أربع سنوات، برؤيته استحضرت شريط المأساة بكمالها وتمامها!!

في الطريق راحت بعض اللافتات تنبئ بان الغاية هي دمشق، وعاد احد أفراد الدورية يسأل إن كان بيننا من يحسن الغناء، فهذا يوم عيد لنا، مع إنني ازددت انفراجاً بعد شئ من الضيق، إلا أن مسألة طلب الغناء، أعادت الى ذهني تلك الليلة المشؤمة، التي ساقونا فيها كالقطيع الى المجزرة، ليلة لا تنتسى، ليلة أن جاءوا بنا الى تدمر... ومع هذا غنى البعض، غناءاً كان فيه بعض الفرح، وقام اثنين من أفراد السجن القضائي بتدمر كما كانوا يسمونه، قاموا بتقديم بعض الهدايا من صنع أيديهم، أشكال مختلفة من التطريز والخرز، وانحلت عقدة الألسن، فقال أحدهم، بأنه قضى أحد عشر عاماً، ولعل أخراً ذكر بأنه قضى تسع سنوات...بدا أن أحدا منهم لم يذق طعم الإهانة يوما، دل على ذلك ملابسهم النظيفة المكوية التي كانوا يرتدونها، وشعورهم الطويلة المرسلة المرجلة، وذقونهم الحليقة، إضافة الى شواربهم المأخوذة على الدوزان والمقص!!

في الطريق استمعت لأول مرة منذ خمس سنوات، لنشرة أخبار وافية، ومباشرة من المذياع، من دون أن يمتد إليها مقص الرقيب، فتحذف منا ما يليق بنا سماعه وما لا يليق، وعلمت بأن طائرات الولايات المتحدة الأميركية قامت بمهاجمة الجماهيرية الليبية العظمى!! وعجبت للأقزام "الاميركان" كيف يقومون بتحدي العظماء!! كذلك علمت بأن الحرب العراقية الإيرانية لم تضع أوزارها بعد...

على مشارف دمشق علمنا بأن وجهتنا هي فرع التحقيق العسكري، فسألت الله أن يلطف بنا. ثانية ها أنا ذا في دمشق، انتابني شعور من يدخل طريق المتاهة في مدينة الألعاب، فالكل منشغل عن الكل، مع انك تعتقد بأن الكل هنا لا يمكنه الاستغناء عن الكل، وكدت اهتف بالسلام على صبا بردى، لكنني اكتفيت بدمع أوشك أن يترقرق فأمسكته على هون!!

أفقت من خواطري، حين راحت المركبة تدلف بنا حدود المبنى الكبير الكئيب، تنبعث منه روائح الرعب والموت، ونهرنا احد أفراد الدورية، في غلظة:

- نزلوا الطماشات "عصبات العيون" على عيونكم!

غير أن تدخل أبو منهل نائب مدير السجن حال دون ذلك. هبطنا سلالم الدرج بحذر نحو القبو، ما إن انتهينا، حتى التهمنا الدهليز الممتد، ثم التفت رئيس الدورية بعد ذلك طالباً من بعض عناصره توزيعنا على حجرتين من حجر التحقيق!

وضع في كل حجرة اربعة، فقد كان العدد ثمانية بالتمام. فخليت بمن معي، مع أنني استفسرت عن أسمائهم، إلا أن مسافة الزمن المتقاربة التي جمعتني بهم لم تكن كافية لتخليد هذه الأسماء في الذاكرة، تجرأ أحدهم ليسأل في حذر شديد:

- ما عساها تكون الخطوة التالية؟

فأجبت في شيء من الطمأنينة:

- طبعاً سيفرجون عنا، هل عندكم في ذلكم ادني شك؟!

سكتوا جميعا، في الوقت الذي قام أحدهم بإخراج خمس دنانير أردنية من جيبه، مدها لي قائلا:

-هذه الدنانير من سامر صنوفه، يبلغك تحياته، ويهنئك بالخلاص والفرج...ثم تابع قائلا:

- إن كتب الله لنا ولك الخلاص...!!

عاودتني أحزاني وأنا أمد يدي لاستلامها، وكدت افترش الأسى لدرجة البكاء من جديد، كنت في غنى عن تذكر أحد ولو في هذه الساعة، غير أن سامر كان مصرا على اقتحام هذه اللحظات، وألفيتني رهن هؤلاء الذين خلفتهم جميعا في شخص سامر، كم فعلت بي دنانيره الخمسة تلك، لقد راحت تكبر الأسفار فيها وتتكاثر، حتى ما عاد باستطاعتي أن اقرأ الرقم، وفجأة بكيت، هكذا اخذنى الحال...واستفقت على الباب يفتح، واطل احدهم بلباسه المدني، ثم نادى علي من دون الأربعة، ليقتادني الى ما يسمونه صالون الحلاقة، هناك على غير العادة، اجلسوني على كرسى الحلاقة، ليبدي الحلاق اهتماماً زئدا، فيقوم بحلق ذقني في لطف متناهي، ويبقى لي على شاربي بعد أن خيرني، ورغم كل حذره إلا انه جرحني، وألفيتها نعمة في طي نقمة، فقد علمت لاحقاً بأنهم كانوا ينوون المضي بي الى الأدوار العليا لمقابلة مدير الفرع، غير أن انتظارهم التئام الجرح، حال دون ذلك، مما ترتب عليه إعادتي الى حيث كان الشباب في انتظاري.

قبيل العصر بقليل سألوني إن كنت أملك ملابساً نظيفة، فأجبت بالنفي، طلبوا الي أن اصطحب أمتعتي لمرافقتهم ثانية من دون البقية، مضيت إلى أن أدخلوني الى حجرة مجاورة، كان قد سبقني إليها لفيف من الأردنيين القادمين بهم من سجن المزه، وبعض الأفرع الأخرى...لم أتعرف الى أي أحد منهم، ولم أتردد في سؤالهم حين خلا بنا المكان:

- الى أين المسير يا خير الوجوه؟؟!!

وفي صوت واحد، كما لو أنهم كانوا في انتظار السؤال أجابوا:

- إلى الأردن، إنه الخلاص، الم يخبروك بذلك؟!

كمن يريد الزيادة، سألت ثانية:

- وما دليلكم؟!

علا صوتهم في نبرة واثقة:

- اكدوا لنا ذلك في المزه، قبل أن يأتوا بنا الى هنا.

ساقونا بعد اكتمال العدد الى حجرة الاستعلامات، ووجه لي سؤال واحد:

- هل بقي لك شئ من الأمانات؟؟

ورحت أعدد كمن صاحبته لحظة ظفر:

- سيارة مرسيدس SEL 280 مع كامل أوراقها، جواز سفر، ساعة يد ماركة سايكو، بطاقة جامعية، ما يزيد على ألفي مارك أخذت منى عند الحدود، بالإضافة الى إجازة سياقه.

طاف السؤال بنا جميعا، حين انتهوا عادوا بنا الى الحجرة التي كنا فيها. عند أصيل ذلك اليوم الخالي حين مالت الشمس الى الجزء الأخر من طبق السماء، دعينا لمقابلة مدير الفرع، جلس خلف مكتبه الوثير، وعلى الجدار خلفه صورة معلقة للدكتاتور، كانت في المقابل لنا تماما، وقفنا وقد شبكنا أيدينا وراء ظهورنا، ولعل أحدنا تركها مسبلة الى جانبيه، ثم بدأ الرجل في استعراضنا واحداً تلو الآخر، راح بعدها يتلو علينا حديث المشفق الحاني المحب، حديث من ظن أن الاسى قد ينتسى، فيه لين من اجتهد في محاولة محو اثار الجريمة، فيه شئ من الاعتذار كما لو انه اعتذار عن زلة جاءت عفو الخاطر عن غير قصد، وسأل سؤاله الأخير إن كان بقي لنا شيئا من الأمانات، أعدت عليه سرد القائمة سالفة الذكر، فوعد ببذل أقصى الجهد لإعادة كل شئ، ولم ينسى أن يسجل هذه المعلومات على ورقة بيضاء كانت ملقاة على المكتب أمامه.

عادت الجرأة لتجتاحني من جديد، ولأبدي رغبة جامحة في أمل أن يطلقوا سراح البقية الباقية من الأردنيين، الذين ما زالوا رهن الاعتقال، فأعلمنا بأن كل شئ سيأتي في أوانه!!

قبل أن نغادر عدت فسألته عن السيارة ثانية!! فأخبرني صعبة امكانية تسليمها لي في الوقت الراهن، فهم يزمعون المضي بنا في وفد رسمي الى الحدود، كي يقوموا بتسليمنا الى سلطات بلادنا في الأردن، ورجانا أن نتحلى ببعض الصبر، ريثما تتم عودة دورية ذهبت الى تدمر لجلب زميل لنا كانوا قد نسوه هناك حسب زعمه، وكم هم المنسيين هناك!! هل لهم بعد الله من ذاكر؟!

عند الغروب عادت الدورية مصحوبة بالبائس، حلقوا له على عجل، قادونا الى الطابق الأرضي، وحين كنا نستقل الميكروباص، بوصول القادم الجديد، جاؤا به على عجل فأركبوه معنا، فالتأم عددنا أحد عشر فرداً بالتمام... دق قلبي حين دارت محركات المركبات، تتقدمنا مركبة فيها مدير الفرع مع بعض معاونيه، ومن خلفنا مركبة عسكرية مسلحة تتبعنا، في الوقت الذي كان الباص يعج بالمسلحين في المقاعد الأمامية والخلفية...

حين راح الباص ينساب بنا في طرقات المدينة الكبيرة، المزدانة بالأضوية، اللاهية في كل متع الحياة، وقبل أن يتوارى مبنى فرع التحقيق العسكري تماماً عن الأنظار، لا ادري على وجه الدقة لماذا أدرت راسي ملتفتا، اهو شئ من الذكرى؟! يعز على المرء أن ينساه، لا اعتقد جازماً بأنها من نوع الذكرى التي يحرص المرء على الاحتفاظ بها، كنت احمل خليطا من المشاعر التي يصعب فرزها، هل أنا سعيد؟ هل أنا حزين؟ هل أنا متفائل؟هل أنا متشائم؟ أسئلة كثيرة، لم يكن بإمكاني أن أجيب عليها بنعم أو لا، كنت احتاج الى مزيد من الوقت كي اختبر قوى الممناعة في حصوني، وحين استجمع كل أحداث هذه التجربة المريرة، أدرك ما كان يعنى احد الصالحين فيما كان يقول: "أن من يأكل وهو يبكى ليس كمن يأكل وهو يضحك"، كنت على يقين أيضا بأن يدا هي اقصر من يد، وأن لقمة لا بدَّ أن تكون اقصر من لقمه، وعلى كل الأحوال كنت اسأل الله السلامة واللطف فيما جرت به المقادير، ولان كانت الحرية شئ ثمين لا يباع ولا يشترى، فلقد بقيت دوماً اردد مستيقناً، بأن اثمن ما في الوجود، وما هو فوق هو مواز للحرية، قبلها وبعدها بقليل، هو الأمن والأمان، وبعدهما رتب ما شئت أن ترتب في سلم الأولويات..

عادت صورة مالك "الجلاد"، فملأت ما بقي من مساحة بهجة ضيقة، أرادت أن تتسرب في لحظة غفلة الى تلك النفس التي ما عادت تعرف للبهجة أي معنى من المعاني، لقد جاءت جلسته أمامي تماماً، كان غائر العينين، بوجه اسمر قد اجتمعت فيه كل جلافة الأرض، وطول قد اجتمعت فيه كل غلظة الجلد والجلاد، لم يتغير، هو هو كما رأيته لأول مرة، في يده السوط، يهوى به من علٍ باجتماع كل ما أوتي من قوة البدن، ابتسم لي وهو يجتهد انتزاع عبارة من المجاملة، لم استطع أن أجد لها أي ارتياح في نفسي:

- دنيا جديدة، ألماضي مثل الوسخ، بيروح مع أول غسله، وكل شئ بينتسى!!!

كدت اصرخ فيه بكل ما في داخلي من نيران أحقاد زرعوها، ورعوها كما تزرع وترعى أشجار الزيتون في بلادنا قائلا:

- " يا أبناء الكلاب، هل يمكن للأسى أن ينتسى!!!"

قابلتنا عشرات الحواجز والدوريات، وأجبرنا على التوقف لأكثر من مرة، وحين راح الظلام يملا بطون الأودية والروابي من حولنا، كان الوقت قد جاوز الثامنة مساءاً، وصلنا الحدود، تجاوزنا مبنى الجمارك، عند آخر نقطة للسلطات السورية توقف هدير محركات المركبات، أصبحت نقطة الحدود الأردنية على مرمى حجر، أمتار تفصلنا عن الجندي الأردني، حارس الحدود الأسمر الواقف هناك.

ترجل مدير الفرع من السيارة... راح يطوى المسافة الفاصلة بين النقطتين السورية والأردنية... بعد جدال لم أتبين كنهه، وإن كنت أرى ما يدور، عاد الرجل خالي الوفاض بانتظار شئ ما بدا انه سيأتي لاحقاً...

تجملنا بالصبر، كنت امسك أنفاسي، وقد راحت تتسارع دقات قلبي ثانية، وأنا أردد:

- رب سلم، رب يسر ولا تعسر!!

 ورحت أتابع مكرراً كمن يدفع مكروها سيحل:

- أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق!!

فجأة اقبل ضابط أردني برتبة ملازم، توقف قليلاً مع مدير فرع التحقيق العسكري السوري المرافق لنا، ثم أرسل "مالك" ليسألنا إبراز جوازات سفرنا، قام من يملك جواز سفر بتقديمه، ومن كان يومها لا يملك قاموا بتدوين اسمه في قائمة خاصة. ثم أذن الملازم لبعض أفراد الدورية مرافقتنا داخل الباص الى مبنى الجمارك الأردنية، شريطة أن يتخلوا عن أسلحتهم عند من يتخلف من أفراد الدورية.

مرة أخرى كنت التفت لألقي النظرة الأخيرة على الحدود مشفوعة هذه المرة بدمعة حرى أخذتها بطرف منديلي خشية أن يراني احد، كانت نظرة تشبه الوداع الأخير، وداعاً لا لقاء بعده...و تنفس الجمع الصعداء..

حين اذن لنا، تدافعنا على عجل،تاركين المركبة، كما لو كنا نخشى أن يغيروا رايهم، فتغلق الابوب على من لم يهبط فيعودوا به ثانية إلى الجحيم..

التهمنا مكتب الجمارك الأردنية على الحدود، انهوا لنا الإجراءات على عجل، حين أطل مدير مخابرات منطقة الحدود الأردنية بالرمثا، من بوابة مكتبه مبتسماً مهنئاً:

- حمداً لله على سلامتكم يا شباب!!

بهذه الإطلالة، لم يتمالك بعض الشباب أنفسهم، فراحوا يبكون فرحاً، كما لو أنهم لا يصدقون، وارتفع صوت أحدهم:

- انحن في حلم أم حقيقة!!

واخذ آخر الحال فقال من خلال دموعه:

- يا لرائحة الوطن التي لا تثمن، ما أجمل أن تكون حراً آمناً في وطنك!!

التفت الي مدير المخابرات الأردني مستغرباً ما رآه من ثيابي الرثة، سائلا في دهشة:

- يبدوا انك لست واحداً من البقية، هل جاؤا بك من تدمر؟

قلت في حسرة:

- لسان حالي يغنيك عن جوابي، أنا واحد من ثمانية جاؤا بنا من تدمر، لا أرى منهم أحدا... يبدوا أنهم أرسلوني كعينة.....

كنت اعتقد أن الأخير الذي أتموا به العدد، هو من بؤساء تدمر، لكنني تفاجأت بأنهم أتوا به أيضاً من المزه، لهذا لم يكن بينهم لي شبيها في المأساة أو المظهر، وعاد الرجل ليسألني بشيء من المزاح:

- هل كانوا يحبسونك في قفص الدجاج!!

و أجبت جاداً، وإن كان يظنني أمزح:

- ليتهم رضوا أن يرتفعوا بنا إلى مستوى الدجاج!!

أوشك الليل أن ينتصف، وطلب السيد رئيس المخابرات إلى بعض عناصره، البحث لنا عن مركبة تقلنا إلى بيوتنا، كان صاحب إحدى المراكب في الخارج، من أصحاب محلات الصياغة عائداً من دمشق في طريقه الى إربد يشتهر باسم الملكاوي، قد نبا إليه خبر إطلاق صراح احد اقرباءه، فبقي الرجل في الانتظار حتى انتهينا من إتمام الإجراءات. حين استقلينا المركبة، راح يجرى بنا باتجاه مدينة إربد، تلك العروس التي درجت في طرقاتها غلاماً يافعا ثم صبيا قد شبيت عن الطوق، تركتها مغتربا ابحث عن العلم وأهله، بالكاد أن أخطو الى عقدي الثاني، وها أنا اليوم أعود إليها وقد صرت الى الثلاثين وزيادة، يمر بي سائق المركبة في طرقاتها، كل شئ قد تبدل وتغير، لا الدار هي الدار التي عهدي بها ولا الناس هم الناس الذين خلفتهم يوم رحيلي، وراح الرجل يتعهدني بلطف، يطلب الي أن أجمع شتات أفكاري، كي نعثر على من يدلنا الى أهل دار كانت تقوم هنا أو هناك يوماً من الايام، الناس كل الناس يغطون في نوم عميق، الى من نتجه؟ ومن نسأل؟

أعياني العثور على البيت، واستأذنت الرجل في أن أترجل بصحبة شاب يقطن أهله ديرابوسعيد، إحدى قرى محافظة إربد، أعلنت استعدادي استضافته حتى الصباح، وسأتدبر أنا الأمر، بعد إلحاح وافق مجزياً بالخير، رحنا نذرع الطريق ذهاباً وإياباً بانتظار أن يسوق الله لنا من يدلنا على الطريق، أو أن يبزغ الفجر، عل فيه الفرج، واجتهدت التخمين، فطرقت باب بيت قيد الإنشاء، يقوم في المكان الذي ظننت أن بيتنا كان يقوم فيه، ليطل علي من خلف الباب شاباً بالكاد أن أتعرف إليه تحت بصيص نور المصباح المدلى على قارعة الطريق، لم اعرفه، مع انه نادني باسمي، لأوجه له سؤالا محدداً بعد أن أبديت اعتذاري الشديد لطرق الباب في هذا الوقت المتأخر:

- هل تستطيع أن تدلني مشكورا على بيت أبو سليمان؟!

و يجيبني الشاب كث اللحية وقد راح يبكى بعد أن ضمني:

- الم تتعرف الي؟!

قلت وقد أخذ الجهد مني كل مأخذ:

- لا تؤاخذني، إن أجبتك بالنفي!!

زاد بكاؤه وهو يضمني، كمن عثر على ضالته بعد طول انتظار:

- إني أنا أخوك، فلا تبتئس بما فعل الظالمون!

كنت قد تركته صغيراً لم يتجاوز الثالثة عشر من عمره، لم يعرف الشعر طريقه الى وجهه، أعود إليه اليوم وقد وقف بباب العقد الثاني من عمره، سألته عن أبى، فأخبرني أنه بخير، طلبت إليه ألا يوقظ أي من أهل البيت، غير أن جلبة سرت في صحن الدار، فرجوته ألا يخبر أحداً، كيلا تأخذهم المفاجأة، وقلت أتوارى عن الأعين قليلا، فإذا ما سألوا فقل:

"أحدهم بالباب يعلمني أن سليمان ربما يأتي الليلة أو في صباح الغد"، وحين هميت بالانصراف سمعت صوت والدي يسأل من خلف الجدار:

- من هناك؟

رد أخي في صوت حاول أن يبدو فيه طبيعياً:

- شخص يزعم أن سليمان ما زال حياً يرزق، وقد يطلق سراحه الليلة، أو في الغد!!

كان الخبر مفاجئاً لأهل الدار جميعاً، كيف لا يكون كذلك وقد احتسبوني -كما علمت لاحقاً- عند الله، ولم يتمالك والدي نفسه حين دلف عليه الضيف برفقة أخي الحجرة فبكى، ثم راح يرجو الضيف المكث بالباب حتى يعود بي إليه!! وما هي إلا برهة من زمن حتى طرقت الباب ليفتح لي، لم يقوى والدي على القيام، فانكببت عليه اقبل يديه، في الوقت الذي أطلقت احدي شقيقاتي رنة زغاريد، راح البيت يضيق على من فيه، وراح الناس ينحدرون من كل حدب وصوب، انحدار سيل عارم من إحدى الهضاب، حتى كادت تدوسني الإقدام، كلهم بين باك وسائل من خلف الجموع:

- أحقا هو؟ أما زال بين الإحياء؟

وردد البعض:

- سبحان من يحيي العظام وهي رميم!!