ليالي الرعب في ماسبيرو

بعد أن قطعت المخابرات الحربية المصرية شوطا بعيدا في الهيمنة المباشرة على القنوات الفضائية الخاصة الأكثر تأثير، وضمتها تحت لواء شركات مدنية تابعة لها مباشرة، بدأت المرحلة الثانية لإعادة رسم الساحة الإعلامية المصرية، عبر الشروع في تنفيذ خطة لإعادة هيكلة التلفزيون الرسمي (ماسبيرو) بقنواته وإذاعاته. وقد يستغرب البعض هذه الخطوة من السلطة القائمة؛ لأن ماسبيرو (بكل قنواته وإذاعاته وإذاعييه وفنييه) كان دوما داعما للحكم العسكري، حتى في أيام حكم الرئيس مرسي، وهو ما تشهد به جدرانه ومراحيضه التي امتلأت كتابات رافضة لحكم مرسي والإخوان. ولكن هذا الاستغراب يزول حين نعرف العبء الضخم الذي يشكله هذا الجهاز على السلطة من الناحية المالية والإدارية، وكذا حين نعرف أنه بلغ مرحلة شيخوخة متأخرة لم تعد تسمح له بخدمة النظام بما يوازي المليارات التي تصرف عليه سنويا، وأخيرا حين نعرف أن هذه السلطة تتحرك حاليا لتشكيل أجهزة دولة ومؤسسات وفقا لرؤية السيسي وطبقا لبصمته، ومن ذلك الإعلام بطبيعة الحال.

انطلق البث التلفزيوني لأول قناة مصرية في الحادي والعشرين من تموز/ يوليو 1960 متأخرا عن موعده المحدد سلفا بأربع سنوات بسبب عدوان 1956 ضد مصر. وعلى مدى عقود منذ إنشائه، تحول ماسبيرو (نسبة إلى شارع ماسبيرو الذي يقع فيه، وهو اسم لعالم آثار فرنسي عاش في مصر واكتشف العديد من آثارها) إلى إمبراطورية ضخمة ضمت 23 قناة و76 محطة إذاعية، بخلاف القطاعات والشركات المتخصصة الأخرى. وضمت هذه الإمبراطورية جيشا من العاملين تجاوز 47 ألف موظف، قبل أن يتقلص العدد تدريجيا بسبب وقف التعيينات الجديدة والخروج على المعاش للكثيرين. وقد تسبب هذا الترهل الإداري والوظيفي في تحمل ماسبيرو لمديونيات بلغت، وفقا لتصريحات هالة السعيد وزيرة التخطيط، 32 مليار جنيه مصري (ملياري دولار تقريبا)، بخلاف تشابكات مالية مع جهات أخرى؛ قدرتها الوزيرة بتسع مليارات جنيه، وهو رقم قابل للزيادة دوما بفضل فوائد الديون، من ناحية والمديونيات الجديدة من ناحية ثانية.

ظلت الأنظمة العسكرية المتعاقبة على حكم مصر منذ تأسيس ماسبيرو مطلع الستينات تعتبره جيشا بجوار الجيشين الثاني والثالث الميدانيين، وتوفر له الرعاية الكاملة، ولا تأبه بما يحققه من خسائر أو تراكم مديونيات، وذلك لأنه كان الصوت الإعلامي للسلطة، الذي ظل يحتكر الساحة الإعلامية ردحا من الزمن (منذ عام 1960 وحتى العام 2001 موعد إنطلاق أول فضائية مصرية خاصة وهي قناة دريم)، وظل محتفظا بمكانته إلى حد كبير لمدة خمس سنوات بعد ظهور القنوات الخاصة التي بدأت تسحب المشاهدين منه تدريجيا. وزاد الأمر حرجا بالنسبة للتلفزيون الرسمي (رغم تعدد وتنوع قنواته انتشار الأطباق اللاقطة للأقمار الصناعية في مصر، ما جعل الكثير من القنوات العربية والعالمية أيضا في متناول المصريين، وبالتالي انتهت اسطورة التلفزيون المصري الذي كان المشاهدون ينتظرون نشرته الإخبارية الساعة التاسعة مساء كل ليلة، كمصدر رسمي وربما وحيد لمعرفة الأحداث، كما كانوا ينتظرون موعد إذاعة المسلسل التلفزيوني اليومي في ساعة معينة كل ليلة.

لم تعد السلطة الحالية بحاجة لماسبيرو بوضعه الحالي وبقنواته المتعددة وغير الضرورية، وبديونه التي لا أمل في الخلاص منها سريعا. ومن هنا بدأت التحرك لإعادة هيكلته، وهو ما يعني مباشرة تخفيضا كبيرا في أعداد العاملين به، مع خفض عدد القنوات لتصل إلى أربع أو خمس قنوات وخفض الإذاعات إلى عدد مماثل. وهناك حالة من الهلع تسود المبنى العتيق (ماسبيرو) حاليا؛ حولت لياليه الساهرة إلى ليالي رعب خوفا من هذه الإجراءات، ويضاعف الخوف أن الجهة المشرفة على هذه الخطة هي المخابرات الحربية، ما يعني أن من يعارضها سيكون مصيره السجن أو الفصل، أو التصنيف الإرهابي المعتاد.

الصدمة الكبرى التي أصابت أبناء ماسبيرو هي لكون غالبيتهم الكاسحة من داعمي النظام؛ الذين رقصوا له وهللوا لبطشه ولقتله الآلاف المصريين المعارضين، وكانوا ينتظرون تقديرا إضافيا لهم على الأدوار التي لعبوها في معارضة حكم الرئيس مرسي، والتي وصلت إلى حدود غير مسبوقة في الخروج على القيم المهنية رغم وجود وزير إخواني على رأس ذلك الجهاز (كان إعلاميو ماسبيرو يتلقون دعما معنويا غير معلن من رجال المخابرات الحربية والشؤون المعنوية في مواجهة الوزير).

يتكلف الجيش الإعلامي في ماسبيرو 250 مليون جنيه شهريا، في الوقت الذي تراجعت فيه إيرادات ماسبيرو بسبب تراجع حصيلة الإعلانات التي ذهب أغلبها للقنوات الخاصة، وكذا تراجع عائدات بيع المسلسلات والأفلام، والمواد التراثية التي تحتفظ بها مكتبتة الضخمة، وجزء كبير من هذه الرواتب يدفع مباشرة من القوات المسلحة مع عجز الميزانية الرسمية للدولة عن الوفاء بالمبلغ كاملا، وربما كان ذلك سببا إضافيا لإعادة الهيكلة والتخلص من العمالة الزائدة والقنوات والإذاعات الزائدة أيضا.

عقب ثورة يناير التي انحاز فيها ماسبيرو لنظام مبارك وتجاهل وجود الثوار المعتصمين على بعد أمتار قليلة منه، جرى نقاش واسع للطريقة المثلى لتحويل قنواته وإذاعاته لقنوات ومحطات خدمة عامة، وكانت الأنظار تتجه إلى نموزج هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، وكثيرا ما ردد وزير الإعلام الإخواني صلاح عبد المقصود أنه سيكون آخر وزير للإعلام، حيث أن وجود وزارة للإعلام تشرف مباشرة على القنوات الرسمية يجعل هذه القنوات في خدمة السلطة وليس في خدمة الشعب، لكن إرادة العسكر التي كانت لا تزال تمسك بالعديد من الملفات الاستراتيجية، ومنها الملف الإعلامي، لم تسمح لذاك التحول أن يتم، فقد كانت ولا تزال تؤمن بضرورة الهيمنة التامة على الإعلام حتى تظل قادرة على تشكيل الوعي العام وفقا لرؤيتها، وحتى لا ينقلب الإعلام ضدها في أي لحظة.

وسوم: العدد 763