دولة الاحتلال تفقد عقلها الناظم

دولة الاحتلال فقدت رشدها وما عادت قادرة على التفكير بمنطق قادتها الآبائيين الذين سهروا وأشرفوا على إتمام مشروعها مستغلين الظروف السياسية والبيئة الدولية، واستمروا في الحفاظ عليها مناورين بين كونها دولة قبول دولي شهادة ميلادها كُتبت في الأمم المتحدة عام 1947، وما بين ترجمة هذا الميلاد بهزيمة العرب والفلسطينيين في 1948 بقوة السلاح والمجازر والقتل والتدمير .

الأمر الذي جعلها توازن بين كونها تصغي لما يقال عنها في المحافل الدولية، وما بين تفوقها العسكري على كل العرب ، وتحافظ عليه باحتكار الردع والمبادرة والاستباق .

وما بين الإصغاء والاحتكار ساد سمت في سياستها ودعايتها وخطابها الإعلامي وعلاقتها الخارجية .

لكن ما يشاهد هذه الأيام انقلاب تام في السياسة الداخلية على قيم رسخها حزب العمل في حقبة حكمه الطويلة في العقود الأولى لقيام دولة الاحتلال، ورسخ ربط وثيق بين هذه القيم والسياسة الخارجية المتأثرة فيها مباشرة حيث تم الانقلاب على مؤسسة المحكمة العليا ومؤسسة الصحافة والإعلام والجامعات وأمنائها والثقافة والفنون، والديمقراطية وقيمها المتسامحة مع الأقليات في الإطار الصهيوني اليهودي عبر التحريض على اليسار بشكل سافر ، وعدم التسامح مع المؤسسات والجمعيات والحركات المنبثقة عنه مثل كسر الصمت ورفض الخدمة في الضفة والقطاع.

وفي إطار الأقلية العربية السكان الأصليين من خلال التحريض والتضييق المستمر ومنع المظاهرات كما حدث في حيفا والقدس مؤخراً ، وفي السياسة الخارجية صم آذان لتوصيات وتقديرات الجيش والمؤسسات الأمنية ، بحيث أصبحت سياسة الحكومة اليمينية تدفع الجيش دفعاً لسياسات مضطر لتنفيذها كان بالإمكان عدم الوصول إليها لو طُبقت التوصيات وسُمعت الملاحظات والتقديرات التي قُدمت من المؤسسة الأمنية والعسكرية كما يحدث الآن في غزة على وجه التحديد، حيث يتجاهل المستوى السياسي توصيات الجيش والمؤسسة الأمنية بالتخفيف عن القطاع، والفصل ما بين المسار السياسي والإنساني، إلا أن هذا التجاهل دفع الأمور إلى حد الانفجار في وجه الجيش في معركة لا يملك معها الجيش خيارات أخرى إلا تنفيذ ما كان قد حذّر منه وحاول تجنبه، فمواجهة الحراك التي يؤكد الجيش أنها نتاج سياسة الحكومة وتغاضيها عن الوضع الإنساني المتدهور لا تحتمل أكثر من سيناريوهين في المواجهة ، إما أن يتجاوز المتظاهرون السلك الزائل فيقتحمون المستوطنات فيضطر الجيش لإجراءات دموية أكبر مما حصل بكثير، أو يضطر لإطلاق النار على من يحاول الاجتياز فيقع عشرات القتلى كما حصل في 5/14 

كما أن الجيش وجد نفسه أمام معضلة مشابهة في مواجهة انتفاضة القدس حيث اضطر السياسيون في الإعلام لفرض توجيهات هدفها إلزام الجيش بمعايير إطلاق النار بخطاب  يخدم السياسيين باسترضاء ودغدغة عواطف المشاهدين الصهاينة، والأمر ذاته يحدث في مديرية السجون التي ما عادت تلتزم بالقانون الصهيوني المجحف بحق الفلسطينيين أصلاً إنما التزام بشريعة الغاب ، حيث ارتفع عدد الشهداء في داخل السجون في الآونة الأخيرة بشكل كبير أشر على أن العقل الضابط للسياسة في دولة الاحتلال فقد منطق لطالما التزم به المؤسسون ، ولم يتبق في هذا الكيان إلا مؤسسة الجيش تنافح عن المفاهيم التي آمنت بها دون قدرة على سريانها في روح القرارات التي تصدر عن المستوى السياسي التي قضت على مفهوم حل الدولتين من خلال الاستيطان بدافع الأيديولوجيا وليس الأمن والسياسة ، الأمر الذي أغلق الأبواب تماماً في وجه التسوية وجعل منطق الدولة الواحدة حاضراً في ظل ادارة الظهر للمنظومة الدولية التي تمر في حالة بائسة في ظل حكم ترمب وتعاني من عطب في وظيفتها ، الأمر الذي لا يدوم ولن يستمر طويلا والى الابد .

دولة الاحتلال ستجد نفسها داخليا أمام غياب نظام ديمقراطي متسامح ، ومحكمة عليا تراقب اداء الحكومة والكنيست  ، ومؤسسات أكاديمية يمينية عرجاء ومنظومة حزبية عاجزة أن تؤطر وتصهر الفوارق الطائفية وتبني التوازنات الحزبية ما بين العلمانية والدينية اليسارية واليمينية، والعربية واليهودية

وخارجيا إقليم متأذٍّ من سياستها ، ونظام دولي غير قادر على تبرير تصرفاتها واستيعاب مواقفها.

وتكون بذلك قد فقدت عقلها الناظم بين كل هذه التناقضات الداخلية والخارجية لصالح دعم المشروع الصهيوني واستمرار دوامه على حساب الفلسطينيين، والانصياع إلى شهوة الأيديولوجيا اليمينية وخدمة مصالح الليكود والمتدينين على حساب مشروع الدولة الصهيونية بمفهوم ومبادئ ماباي (حزب العمل سابقاً).

وسوم: العدد 773