السِّيسي: المستبدُّ الخائف!

تتوالى مِن أرض الكِنانة الإشاراتُ التي تؤكِّد التأزُّم في هرم السلطة، رئيسها عبد الفتاح السيسي، في وسط سياسة أمنية تزداد تفردا وقسوة وتوجُّسا، كان من أمثلتها حملة أمنية شملت شخصيَّات معارِضة، أو سياسية حاولت إبداءَ الرأي؛ للخروج من الحالة السياسية والاقتصادية الصعبة التي تعيشها مصر، وشملت الحملة اعتقال صاحب مبادرة الاستفتاء على شعبيَّة السِّيسي، مساعد وزير الخارجية السابق معصوم مرزوق، والاقتصاديّ البارز رائد سلامة، وعضو حركة 9 مارس لاستقلال الجامعات يحيى القزاز، والناشط السياسي سامح سعودي، والصحافية نرمين حسين. 

تبع ذلك إقرار آليَّات لمراقبة الإعلام، أقلُّ ما توصف به، هو سيطرة النظام المركزية على الكلمة. قد يتوهَّم بعضُ الناس، للوهلة الأولى، أنَّ اعتماد هذه القبضة الأمنية هو علامة قوَّةٍ وتمكُّن، ولكنها تنطوي على اليأس والضَّعْف والهَوَس السُّلْطَويّ، مِن أيّ معارض، أو مِن أيّ مبادرة تمسُّ «استقرار» السلطة.

وحين يضيق صدرُ أيِّ سلطة بالآراء المعارِضة، على الرغم من أنها لا تعتمد إلا الرأي، في وجه سلطة تحتكر القوَّة، وتتفوَّق تفوُّقا كبيرا بامتلاك الأجهزة السُّلْطويَّة، مِن إعلام وأمْنٍ، وتعليم واقتصاد وغيرها، فهذا يَشِي بمقدار الاهتزاز في شخصيَّة الحُكَّام، ومدى الفقر الفكريّ، في مواجهة الرأي بالرأي. ومقارنة سريعة بين الرئيس المخلوع حسني مبارك، والرئيس بالانقلاب عبد الفتاح السِّيسي، تُرِي مقدارَ الفارق؛ فلم يكن مبارك، على عِلَّاته، يضيق بهذا المقدار، بالخصوم والمعارضين. ولو كان السِّيسي يحقِّق للمواطن العاديِّ فروقا إيجابيَّة ملموسة في حياته اليومية، وفي قُوته، وقُوت عياله، لكان بإمكانه أن يتقوّى بتلك الحالة الشعبيَّة المسانِدة، ولكنه لا يفعل، بل إنه يفاقم من أعباء الحياة على المواطن البسيط، ويفاقِم الفجوة الاقتصادية المعيشية بين الأغنياء الذين يزدادون غنى فاحشا، والفقراء الذين لا يجدون الكَفاف. 

هذه الحالة الاستبداديَّة التي تكاد تدعِّي الإلهامَ الإلهي، ما كان لها أن تستمرّ، وتتجرَّأ لولا ارتكانُها على دعمٍ خارجيّ تُؤمِّنه من أمريكا/ ترامب، ومن دولة الاحتلال؛ فهل يدوم للسِّيسي ترامب؟ ماذا لو تفاقمت أزماتُه وأفضت إلى عَزْلِه؟ وهل يدوم له دعمُ دولة الاحتلال التي يزداد فيها النزوعُ الدينيُّ العنصريُّ والمتطرِّف، المنغلق على اليهود واليهوديَّة؟ ولا سيِّما بعد أن تَبلور ذلك في ما يُسمَّى بـ»قانون القومية» الذي لا يرى في فلسطين، وربما غيرها؛ إلا «أرضَ إسرائيل» التي لم تُحَدَّد حدودُها، ولا يرى شعبا في فلسطين يستحقُّ حقّ تقرير المصير غير الشعب اليهودي. فهي بهذه (الطموحات) خطرٌ موشِك على أمن مصر القوميّ، وهي فعلا، وراهنا، كذلك، من خلال ابتزاز غير مباشر لمصر على مياه النيل، بالتعاون مع إثيوبيا! 

نادَى بعضُ الناس، بـ»المستبدِّ العادل»، وصفةً للعالم العربيّ، حديثا، مع أنه مفهوم مشوَّش، يَحتمِل أنه عنى القوة والحزم والضبط، بعيدا عن الظلم والتحيُّزات، ويحتمل المفهوم أنّ الحاكم الذي يشوب وصولَه إلى الحكم شوائب، تشكِّك في نيله رضا شعبه، قد ينجح في اجتراح سياسات عادلة تُرضي عنه الشعب، بعد أن لم يكن راضيا، وهذا قريب مما قاله فقهاء قدامى، من التعايش مع «السلطان المتغلِّب»، إذا رأى عامة الناس المصلحة في بقائه؛ فالركيزة الواقعية هنا هي النتائج العملية الإيجابية التي قد تدعو الشعب، أو الأمة إلى منح ذاك الحاكم الثقةَ والرضا. أما في ضوء مفهوم الاستبداد حديثا فهذه الدعوة إلى مستبدٍّ عادل تقوم على نوع من المفاضلة بين خيارين سيِّئين، المشترَكُ بينهما هو الاستبداد، مع أن الحالة الطبيعية التي تستحقُّها الشعوب تخلو من الاستبداد الذي يقوم على الانفراد بالحكم، السلطة المطلقة، بنزعة أبويَّة متعالية، من دون مؤسسات حاكمة للدولة، ومن دون مساءلة، وغير ذلك من سماته التي أسهب في تفصيلها المفكّر عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الشهير:» طبائع الاستبداد» فهذا الاستبداد ينبغي أن لا تخضع أنواعه، أو أشكاله للمفاضلة. 

ومع أنّ الاستبداد في الحكم يترك آثارا سلبية خطيرة على الشعوب، حين يخرِّب طبيعتَها إلى الخوف والنفاق والخضوع، ثم الانقسامات العميقة بين فئات منتفعة تستأثر بالثروات والمنافع، وفئات واسعة تَشعُر بالحرمان والتهميش والازدراء؛ الأمر الذي يفضي إلى نتائج عامَّة ضارَّة، ما بين ضعف في الانتماء، وجنوح نحو حالات هروبية، بالارتماء في أحضان الإدمان، مثلا، بأنواعه، أو بالجنوح إلى التبرُّؤ من الدولة، وقد يكون لدى ضعاف النفوس، التبرُّؤ من الوطن، إلى أحضان الأعداء، أو بالانسلاخ، والهجرة التامَّة والقاطعة، أو أنَّ الاستبداد قد يُفضِي إلى التطرُّف، كردَّة فعل، عنيفة، وإلى استباحة دماء الناس، وأموالهم، وهذا ينذر باقتتال داخلي يُنهِك الشعب والدولة. فماذا عن استبداد السِّيسي؟ (وليس وحدَه عربيا) فما هو بالاستبداد العادل، اقتصاديا، واجتماعيا؛ حتى يضمن سكوت عامة الناس، من غير السياسيين، ولا هو بالعاقل، أو الرشيد، في استخدام السلطات والمقدَّرات التي يجثم عليها، حتى يضمن (احتواء) المعارضين، بالحوار، وقبول المساءلة. والواقع أنه لا تقوم الدول الطبيعية، بالتضليل الإعلامي الذي لن يقوى على تكذيب الناس في ما يحيَوْنَ ويُحسُّون، كما لا تدوم الدول بالدعم الخارجي الذي لن يكون مطلقا، ولا مجانيًّا. 

قد تكون تقديرات المحيطين بالسِّيسي ومُمَالئيه، أنّ الشعب قد استُنفِدتْ طاقتُه على الثورة، بعد أن جرى تنفيسُها وتبديدُها، بخبثٍ إستراتيجي، يقوم على تراجُعات مستمرَّة، حتى الانتكاس إلى ما قبل مبارك، وإلى عوامل ظلم وقمع أشدّ، كأنه بذلك ينتقم من الشعب وقواه التي طمحت في التغيير للأفضل، لكن دروس التاريخ تثبت أن الشعوب لا تستنيم طويلا لظالم، وأن أساليب الخداع وتزييف الوعي لا يمكن أن يستمرا، ويصبحا أصعبَ وأبْعَدَ في عالم اليوم العَصِيِّ على احتكار المعلومة، والعَصِيِّ على قولبة الوعي، وتدجينه. ولا يزال العالم العربيُّ ينظر إلى مصر على أنها المؤشِّر الأهمُّ في إشراقة الأمل، نحو استعادة زمامها، وبناء نفسها؛ من أجلها، ومن أجله. 

وسوم: العدد 792