في مسألة النضال و التعويضات

تعرض المناضلون والمناضلات طيلة فترة الاستبداد  البورقيبي  والنوفمبري  لأقسى أنواع المعاملات اللاّ إنسانية كالهرسلة والتعذيب والتنكيل  والاغتصاب(يحدث كل ذلك أحيانا أمام الأهل وأقرب الناس) والسجن لفترات طويلة تصل إلى عشرين سنة وأكثر. هذا، علاوة على المراقبة الإدارية، وتفويت الفرصة عليهم في علاقة  بكل من الدراسة و العمل والعناية بالأسرة. وعندما قامت الثورة، ثورة الحرية والكرامة وفرّ المخلوع كنّا نعتقد أن الشعب سيحتضن كل المناضلين والمناضلات ويستقبلهم بالأحضان، بل ويقدّم لهم كل آيات الشكر والعرفان وكل الدعم المعنوي والنفسي والمادي على ما بذلوه من تضحيات جسام لفائدة الشعب ولمصلحة والوطن. لكن بعض الأطراف أبت إلاّ أن تبخس المناضلين والمناضلات حقوقهم وتصفهم بأشنع الصفات وتنعتهم بأقذر النعوت بل لا تستحي من اتّهماهم بالمتاجرة بالنّضال ولا تستحي حتى من التهكّم عليهم في علاقة بهذا النضال، وذلك بطرح السؤال الاستفزازي الساخر  "بكم الكيلو نضال؟"

بداية، لابد من وضع المسألة في إطارها القانوني والمبدئي. فنحن لم نبتدع شيئا في هذا المضمار وإنّما انتهجنا ذات النهج الذي انتهجه غيرنا في هذا المجال وهو ما يتفق مع ما نصّت عليه المواثيق الدولية وميثاق الأمم المتحدة. فقد سبقتنا عديد الدول مثل المغرب وجنوب إفريقيا وغيرهما إلى صرف التعويضات لمستحقّيها بدون ضجيج ولا إثارة للجدل. ثمّ إنّ التعويض المادّي والمعنوي إنما هو في جوهره لا يعدو أن يكون إلّا شكلا من أشكال الاعتراف بالجميل للمناضل الذي ضحّى بأعزّ ما يملك من أجل استئصال الاستبداد وإرساء الحرية والديمقراطية ومن أجل رفع راية الوطن عالية خفّاقة في المحافل الدولية؟. وهنا لا بدّ من  التساؤل لماذا يحتفى باللّاعبين والفنّانين والممثّلين ويتمّ تكريمهم والتعبير لهم  عن آيات العرفان بالجميل والإغداق عليهم بالعطاءات والمنح (التي تصل إلى مئات الملايين) عندما يرفعون راية البلاد في المحافل الدولية، فيما تظنّ بعض الأطراف على المناضلين بالحد الأدنى من الاحتفاء والتكريم المعنوي والمادّي؟ أليست الثورة إفرازا لمراكمة دماء الشهداء وعذابات وآهات المناضلين؟!. ولكن من هي هذه الأطراف يا ترى وما هي انتماءاتها وما هي جذورها ؟ 

لا تعدو هذه الأطراف إلاّ أن تكون متخندقة في خانة الثورة المضادة والدولة العميقة. ولقد بات معلوما اليوم أنّ لكلّ ثورة ثورة مضادّة. وإنّ الثورة المضادّة تستهدف النيل من المناضلين بدرجة أولى  لذلك فانّها تسعى بكلّ الطرق لغاية تشويههم أملا في الإجهاز عليهم وعلى الثورة فيما بعد. إنّ هذه الأطراف هي أبعد ما تكون عن النّضال الحقّ. لأنّ المناضلين الحقيقيين  لا يسعون مطلقا  لهرسلة زملائهم في النضال و لا لتشويههم حتّى ولو أخطأ البعض منهم . في حين أنّ هؤلاء الأطراف لا يتركون فرصة في الإعلام(وخاصّة في إعلام المجاري) و لا في مواقع التواصل الاجتماعي إلاّ واغتنموها  للتنكيل والتشهير وتشويه وهرسلة المناضلين.

وبشيء من التدقيق والتفصيل يتجلّى لنا بكل  وضوح وبما يقطع الشك باليقين أنّ المتحاملين على المناضلين هم إمّا من أتباع/أيتام حزب المخلوع أو أنّهم من المنتمين إلى. اليسار الاستئصالي المتطرّف. وبديهي أنّ المتحاملين على المناضلين من أزلام حزب المخلوع لا يحقّ لهم أن يتحدّثوا عن النّضال ويفصّلوا فيه باعتبارهم كانوا من المناشدين ومن المتمسّحين على عتبة الاستبداد. ويحقّ القول فيهم ما قاله الحطيئة : "دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنّك الطاعم الكاسي".(آش مدخلك في النضال ؟ ) ولكن هذه هي طبيعة المتملّقين والمتمسّحين والمناشدين في كلّ عصر ومصر. ليس لهم وجوه يستقبلون بها الناس ولا عروق تسري فيها الدماء الزكيّة.

وأمّا المتحاملون على المناضلين من بين المنتمين الى اليسار الاستئصالي فهم أيضا لا يمتّون للنضال بصلة حتّى يفتوا فيه. فهم لطالما كانوا العصا الغليظة التي ضرب بها  المخلوع بن علي الإسلاميين وهم أيضا من حرّضوا نظامه على اغتيال العشرات من مناضلي حركة الاتجاه الإسلامي وعلى سجن عشرات الآلاف منهم. كما أنّهم  كانوا ضمن القيادات الأمنية التي أشرفت على تنفيذ المحرقة ضدّ الإسلاميين وهم أيضا من كانوا يفكّرون صلب لجان تفكيك وتجفيف منابع التدين في تونس زمن المخلوع بن علي. وكلّ ما تعرّض له البعض منهم من سجن وهرسلة خفيفة لا يعدو إلاّ  أن يكون من قبيل ذرّ الرماد على العيون ولا يعدو أن يكون إلاّ ضمن فصل من فصول مسرحية سيّئة الإخراج أراد من خلالها النظام التوجّه برسالة للخارج مفادها   أنّ هناك معارضة معتدلة، تنشط في العلن ضمن ما كفله  لها الدستور وهي تتعرّض أحيانا للمضايقات. وهو ما يذكّرنا بالمسرحية الهزلية التي نسج بن علي خيوطها  وكامل فصولها عندما أوعز للبعض من القيادات المعروفة ضمن ما يعرف "بالمناضلين اللاّيت" للتقدم والترشح للانتخابات الرئاسية لكي يضفي على الانتخابات نوعا من الشرعية وأراد الاستئصاليون من وراء المسرحية  الحصول على شهادة "مناضل" أو "مناضل لايت"  حتّى ولو كانت  مزيّفة لكي يتباهوا بها في الصالونات وفي المحافل الدولية. ولنا في اعتصام الروز بالفاكية أكبر دليل على ذلك. فلو كانوا مناضلين حقّا بالأصالة لا بالنيابة  لما اجتمعوا مع جلاّدي الأمس ولما اعتصموا بمعيتهم وأكلوا الرز بالفاكية من أجل الانقلاب على أول حكومة شرعية منذ الاستقلال. وخلاصة القول أن ليس للمرء إلّا أن يقول  "لله في خلقه شؤون".

وسوم: العدد 800