عندما تعلّب الوطنية لتبرز، مع وقائع الكأس الإفريقية

أظهر التونسيون بمختلف فئاتهم وأجيالهم تحمّسا ووطنية منقطعتي النظير وهم يتابعون الفريق الوطني لكرة القدم في مختلف أدوار كأس إفريقيا للأمم. وفي تقديري لو استغلّ الشعب التونسي ربع ما يختزنه في داخله من حماسة شديدة  وعاطفة جيّاشة وعزيمة قوية ووطنية صادقة واستثمره في مختلف مناحي الحياة لتحوّل بسرعة إلى صفوف الدول المتقدمة ولأصبح يشار إليه بالبنان ويقرأ له ألف حساب.

فبمناسبة هذه التظاهرة الرياضيّة تجنّدت كل المؤسسات الحكومية المعنيّة وكل وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة الموالية والمعارضة للاحتفال بهذا العرس الإفريقي ولفسح المجال للشعب التونسي ليعبّر عن فرحته وعن رأيه بكل حرية وتلقائية. فالناس قد جبلوا على حب  الذّات وعلى حب الوطن. لا يشكّ أحد في أنّ كلّ واحد منّا يقف، بالتأكيد، على منجم من الوطنية الصرفة الصادقة يكمن بين جنبيه ويستقرّ في أعماق ذاته وكيانه. لذلك لم يفوّت السياسيون الأنانيون وعديمي الذّمّة هذه الفرصة الثمينة، وأطلّوا  برؤوسهم وبرزوا على شاكلة ومعنى قصيدة  "برز الثعلب يوما" لأحمد شوقي، وسارعوا لتقديم أنفسهم على أنّهم خير من يحسن إدارة التصرّف في هذه المناجم الخام. فارضين أنفسهم بتعسّف على المجموعة الوطنية بأشكال عديدة لا تخلو من خبث ومراوغة وقذارة سياسية. .ولمرض في أنفسهم يعلموه قبل غيرهم، نصّبوا أنفسهم وكلاء للتصرّف في هذه المناجم بدءا من استخراج ما في باطنها من كنوز ومن طاقة (الوطنية) ووصولا إلى تعليبها وتوليفها حسب هواهم بما يناسب مصالحهم الضيقة وأنانيتهم المفرطة.

فإذا ما غمرت الأفراح الجماهير وتجلّت الوطنية في شكل أفراح ومسرّات ومهرجانات احتفالية استغلّوا هذه الفرصة النادرة وشغّلوا جميع المولّدات (إعلامية وأمنية وثقافية) للعمل على تقوية منسوب هذه الوطنية بكل السبل الممكنة. وإذا ما ظهرت الوطنية في شكل احتجاجات ضدّ الوضع القائم أو عبر المطالبة باسترداد حقوق  عملوا كل ما في وسعهم لكبح جماح هذه الوطنية "المفرطة"، "العبثية" واللاّمسئولة" عن طريق الدوائر الإعلامية والأمنية و عبر الزجر أحيانا، إن تطلّب الامر ذلك..

ليس هذا فقط، بل إنّهم كثيرا ما تصدّروا  المنابر لإعطائنا دروسا في الوطنية كلما دعت الحاجة إلى ذلك بحسب الزمان والحال والمكان. ففي زمن الاستبداد البورقيبي والنوفمبري اختصروا الوطنية وعلّبوها وسوّقوها في محاربة الهوية العربية الإسلامية والتسويق للحداثة المزيفة وكل مظاهر العري والتعرّي والشذوذ. ونعتوا كلّ من عارضهم وتصدّى لهم بالانقلابيين وباللاّوطنيين.  وبعد الثورة وبعد أن انكشفت ألاعيب الحداثيين المزيّفين وحسمت مسألة الهوية  بالدستور لجأ المتحيّلون إلى تسويق وتعليب جديد للوطنية. واختطفوا الفكرة هذه المرة من رحم الفقر والفقراء. حيث سوّقوا ما يفيد تأمين قفّة المواطن صاحب الدخل المحدود وطفقوا يجوبون القرى والأرياف ويوزّعون الإعانات(دقيق-مقرونة- زيت- طماطم) على المواطنين ويبثون ذلك على الهواء مباشرة في القنوات التلفزية في تعدّ صارخ للكرامة البشرية. ولم يكتفوا بذلك بل حاولوا الرفع من منسوب هذه الوطنية بالزجّ بشركات سبر الآراء في هذه اللعبة القذرة و توظيفها للغرض لتؤكّد أن صاحب هذه الفكرة أو بالأحرى هذه التوليفة  قد تحصّل على نسبة 29 في المائة من مجموع  سبر الآراء.

ومن المتحيّلين من استغلّ الوضع الاقتصادي المتردّي، نظرا لمرور البلد بفترة انتقالية،وصبّ جام غضبه على السياسة والسياسيين والمسؤولين الحاليين. واقترح تعليبا جديدا للوطنية ولخدمة البلاد. حيث اقترح الذهاب مباشرة إلى المواطن لسؤاله وللاصغاء مباشرة إلى الحلول التي يقترحها دون تشريك الأحزاب. لقد رسمت وحدّدت هذه المجموعة "عيش تونسي" 12 إجراء استعجالي وفوري يمكن أن يخرج التونسي ممّا هو فيه من ظروف ضنكة. وهو أمر يصعب تصديقه ولعلّه من قبيل الوهم، لأنّه يتجاوز الخيال. فما كنت أتصوّر أن يصل التعليب والتوليف  إلى هذا الحد من الاستفزاز والاحتقار  لذكاء النّاس : حيث تخرج علينا مواطنة تونسية فرنسية متزوجة بمواطن فرنسي تعيش في الغرب وتستهلك كل ما هو غربي لتصدّر إلينا الوطنية من هناك محشوّة في علب كتب عليها "عيش تونسي".

وسوم: العدد 834