الدكتاتورية في مواجهة الإسلام

الدكتاتورية في مواجهة الإسلام

عبد العزيز كحيل

[email protected]

هذه هي الوصفة التي يتشبّث بها العسكر والنُخب العلمانية التغريبية في البلاد العربية ، وهي أيضا الورقة التي طالما لعبتها الأنظمة الشمولية لتبرير بقائها في السلطة رغم أنف  الشعوب والتي كانت تساوم بها الغرب " الحريص على الديمقراطية " ، هذا الغرب الذي اقتنع بها أخيرا وأصبح يوظّفها إلى أبعد حدّ لقطع الطريق على المشروع الاسلامي والبديل الديمقراطي معًا من المحيط إلى الخليج ، وها هم جميعا يلخّصون مشاكل المنطقة في " النازية الجديدة " والخطر الأخضر" ، ويصرخون في كلّ الاتجاهات أن هتلر وصل إلى سدّة الحكم عبر الانتخابات ، والحلّ إذن ؟ إنه الديمقراطية بلا انتخابات... حلّ  أصبح عقيدة راسخة لدى دعاة الديمقراطية المزيّفين من يساريين وقوميين وليبراليين ومناضلي حقوق الانسان ، وانخرط فيه مع الأسف مفكّرون وكتّاب وإعلاميّون  تركوا مهمة تنوير العقل وإرشاد المجتمع لمهمة أخرى غدت مقدّسة هي محاربة المشروع الإسلامي بلا هوادة ولو بالتضحية بالديمقراطية وحقوق الانسان ، ويُلاحَظ بكلّ غرابة أنه كلّما أخذت الأمور هذا المنحى في بلد عربي هبّ الفيمينيست من أنصار تحرير المرأة هبّة قوية لتأييد الانقلاب والدكتاتورية بذريعة درء الخطر عن النساء المهدّدات بالسحق ، ويقف خلف هؤلاء دائما أوساط وأطراف في الغرب – فرنسيون بالتحديد بالنسبة للمغرب العربي – يبرّرون وأد الديمقراطية ولا يقبلون بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع إلاّ إذا استُبعد الإسلاميون من الاقتراع ، وقد لخّص السياسي المحنّك الأستاذ عبد الحميد مهري المعادلة  - حين دعا النظام العسكري في الجزائر إلى انتخابات عامة بعد انقلاب 1992 بخمس سنوات – بقوله " لقد قرّر الجيش الجزائري ألاّ يخسر الانتخابات بعد اليوم " ، وصدّقت الأيام مقولته ، وأصبحت مختلف الاقتراعات بعد ذلك مجرّد روتين محسوم النتائج قبل التصويت ، ولم يخسر الجيش إلى اليوم أي جولة ، ممّا حدا بالشعب أن يدير ظهره للعملية السياسية الصورية ويتجاهل كلّ أشكالها ، وهذا ما سيحدث في مصر بالتأكيد مع الأسف ، وبماركة رافعي لواء الديمقراطية.

بدأ المشوار المأسوي من الجزائر لحماية مصادر الطاقة لصالح الأطراف المحلية والخارجية المعنية بالثروة ، ولحماية الفرنكوفونية التي تتفانى لأجلها النخب العلمانية والدولة الفرنسية ، وخاصة لتفادي وصول ممثلي الشعب الحقيقيّين إلى السلطة ، وهذا سبب عرقلة الثورات العربية حتى تبقى هذه البلاد كلّها تحت حكم النظام البوليسي بغطاء ديمقراطي زائف ،  هذه خارطة طريق الاستئصاليّين العرب هنا وهناك وهنالك بمباركة غربية منافقة تزعم أنها تتصدّى لمن " سيفوز بالانتخابات لينقلب على الديمقراطية " ، أي أنهم يئدون الديمقراطية حالاً خشية واقعة محتملة لا تلوح أي أمارة في الأفق أنها ستحدث ، وهم يبشّرون في كلّ مرة بترقية ديمقراطية حقيقية لن تزدهر إلاّ في غياب القوة الاسلامية الفاعلة ، هذا ما أعلنه بوضياف بعد انقلاب الجزائر وكرّره السيسي بهد انقلاب مصر ، في ظلّ شيطنة متواصلة للخصوم الذين لا يُعطى لهم حقّ الردّ فضلا عن تمكينهم من  بسط حججهم وكشف الحقائق والخبايا المحيطة بالانقلاب ، وليس ما حدث في اليمن ومصر وسورية وحاولوا تنفيذه في تونس سوى إجهاض كامل للثورة ليعود النظام القديم بأركانه ومؤسساته وربما برموزه المعروفة أيضا ، وهي عملية قذرة ينخرط فيها بدون خجل - إلى جانب السياسيين المتعفّنين - صحفيون ومثقفون ورجل دين منهزمون وأصحاب أطماع من اتجاهات إيديولوجية متناقضة جمعتها أغراض مصلحية و انتقامية خسيسة ، يزيّنون الباطل الصريح ويبرّرون البغي وينصّبون أنفسهم مدّعين وقضاةً يصدرون أحكام إدانة بشعة على أفراد وجماعات وأحزاب ليس لهم من ذنب سوى فوزهم في الانتخابات الحرّة النزيهة وانحياز أغلبية الشعب لطروحاتهم ورفضها النهائي للعلمانية البوليسية التي جرّبت حكمها منذ الاستقلال  ، فمن هو الطرف الذي يجسّد الفاشية في أبشع صورها إذَا ؟ ومن يصدّق غلاة العلمانيّين الذين يتبنّون ديمقراطية حكم  الأقلية ويتحالفون مع الأنظمة " الإسلامية " في الخليج للتصدّي للمشروع الشعبي التحرّري الإسلامي الذي يهدّد الأسر الحاكمة بغير شرعية والطغم العسكرية الانقلابية ؟

لا بدّ من الاعتراف بأنّ جزءا من المشكلة يكمن في قطاع من الشعب نجح معه غسيل المخّ الذي مارسته الأنظمة الحاكمة عبر وسائطها الصحفية والثقافية وبقصف إعلامي متواصل يلخّص الحياة الكريمة والتحضّر في التحلّل من أحكام الاسلام واستحلال الخمر والزنا باسم الحرية الشخصية ، والانحلال الخلقي باسم الفنّ ( التمثيل والغناء والرقص ) ، والربا  باسم المصلحة الاقتصادية وحتى اختلاس الأموال العامة ونشر جميع أشكال الفساد ، وبهذا يصنعون من الاسلاميّين العدوّ اللدود الذي سيتصدّى للشهوات والفساد ، ويقع بعض الناس فريسة لهذه الدعاية المتواصلة بالتصريح والتلميح فينحازون للأنظمة العلمانية الحاكمة حفاظا على " حقّهم " في الحياة الفاسدة دينيا و خُلقيا ، وهم وقود الحرب الظالمة على الدعاة والعلماء الربانيين وغالبية الأمة المؤمنة بالمشروع الإسلامي ، ومن الملاحظ أن بعض البلاد و المدن العربية أصبحت تُصنّف كعواصم للبغاء والانحراف تنازع تايلند ولاس فيغاس، وممّا يشبه النكتة أن أوّل مشروع " اقتصادي " أقامته سلطة رام الله بعد أوسلو هو مجمّع للترفيه ( أي القمار وما يلازمه من فساد)...

وهذا القطاع من الشعب المنحاز للدكتاتورية والعلمانية إنما هو إلى حدّ كبير ضحية ما سارت عليه الأنظمة العربية منذ عبد الناصر من تجفيف لمنابع التديّن عبر تغيير البرامج التربوية والدراسية لتبثّ القيم  " الانسانية " ( أي العلمانية ) بدل القيم الاسلامية وتقرن الدين بالتخلّف والرقي بالتحّلل الديني والخلقي ، وعبر تأميم المساجد وتحييدها وتوظيف شبه أمّيين يحوّلونها إلى منابر للخطاب الرديء المرادف للموت و عدم الفاعلية  ، لكن تبقى الأغلبية متشبّثة بمبادئها رافضة للاستبداد والعلمانية ثائرة على الظلم والفساد حتى تسترجع حقها في حياة سياسية طبيعية يكون فيها العسكر تحت السلطة المدنية والكلمة الفصل لصندوق الانتخاب.